القانون الواجب التطبيق بالنسبة للأموال العقارية

تلعب قاعدة الإسناد دورا مهما لارتباطها الوثيق بتنازع القوانين ، وتعتبر هذه القاعدة بمثابة قنطرة يمر منها النزاع ذو العنصر الأجنبي حتى يجد مخرجا له، بمعنى أن قاعدة الإسناد هي التي تتولى الإشارة إلى القانون الذي سيتولى حل النزاع في العلاقات ذات الطابع الدولي، وهي العلاقات التي تشتمل على عنصر أجنبي أو أكثر. لذلك نجد أن هذه القاعدة قد استقرت في تنازع القوانين بشأن الأموال العقارية، وحددتها في أن القانون الواجب التطبيق هو قانون موقع العقار، إذ أن هذه القاعدة وجدت سندها في التطور الذي عرفته عبر مراحل عدة مستندة في ذالك على مجموعة من المبررات. ولذلك ارتأينا تقسيم هذا المطلب إلى فقرتين: نخصص (الفقرة الأولى) منه لدراسة التطور التاريخي لقاعدة تطبيق قانون موقع العقار، على أن نتناول في (الفقرة الثانية) للمبررات التي استند عليها القائلون بوجوب تطبيق قانون موقع العقار بشأن المنازعات العقارية ذات العنصر الأجنبي.

الفقرة الأولى: التطور التاريخي لقاعدة تطبيق قانون موقع العقار

لا توجد صعوبة في تحديد القانون الذي يطبق على العقارات لأنها ثابتة في مكانها إذ يسهل التعرف عليها و على القانون الذي يحكمها عملا بالقاعدة الذكر التي تقضي بضرورة خضوع العقار إلى قانون موقعه. بمعنى أن العقار يخضع في كافة ما يرد عليه من معاملات لقانون موقع العقار بدون جدال منذ القرن الحادي عشر أي منذ المدرسة الإيطالية، بل ازدادت ترسيخا في القرون الوسطى في نظام الإقطاع، الذي يقوم على نظام الإقطاعيات، والتي كان لها مفهوم ترابي باعتبار الأرض أكثر قيمة من أي شيء كان، واعتبار الأرض هي عصب الحياة، فالمنقولات تستمد القوة من العقار، وباعتبارها أيضا منبع كل الخيرات، وكان هذا المفهوم مترسخا لدى سنيور الإقطاع، لذلك كانوا يركزون على الأموال العقارية، ونجد أن قاعدة موقع العقار قد ترسخت وتمكنت عبر مرور الأجيال من الاستقرار وتطورت بتطور القانون الدولي الخاص.

وللمزيد من التوضيح حول هذه النقطة المتعلقة بالتطور التاريخي لقاعدة قانون موقع العقار هو الواجب التطبيق، فإنه برجوعنا إلى تاريخ تنازع القوانين لوجدنا أن قاعدة خضوع المال لقانون موقعه كانت من أولى القواعد التي ظهرت في العالم، فلقد وجدت جذورها الحقيقية في ظل إقليمية القوانين التي سادت في عصر الإقطاع. ثم أخد بها فقهاء المدرسة الايطالية القديمة دون تردد. وفي القرن السادس عشر برزت قاعدة خضوع العقار لقانون موقعه عند دار جنتريه بشكل مستقل. فلقد كانت الأحوال العينية عنده، وهي الأحوال المتعلقة بالعقارات وحدها، تطبق تطبيقا إقليميا، وأكدها الفقهاء الفرنسيون وغيرهم. وأخذ بها الفقيه الالماني سافيني على إطلاقها وفقا لنظريته في التركيز المكاني للعلاقات القانونية. ولم يستطع الفقيه الإيطالي مانشيني، الذي نادى بمبدأ شخصية القوانين، تجاهلها فسلم بها كاستثناء على هذا المبدأ.

على اعتبار القوانين المتعلقة بالملكية العقارية تتعلق بالنظام العام وتطبق تطبيقا إقليميا. ودخلت هذه القاعدة بعد ذلك في قوانين كثيرة من دول العالم، إذ نجد المشرع المغربي قد أخذ بهذه القاعدة من خلال الفصل 17 من الظهير المتعلق بوضعية الأجانب المدنية. كما نجد أن المشرع الجزائري قد أخذ بهذه القاعدة من خلال المادة 17 من القانون المدني الجزائري في فقرتها الثانية على أنه يسري على الحيازة والملكية و الحقوق العينية الأخرى قانون موقع العقار. وعليه فالمشرع الجزائري وعلى غرار الكثير من التشريعات كالمشرع السوري والليبي والعراقي والسوداني والكويتي والأردني أخذ بقاعدة خضوع المال لقانون موقعه. وبالرغم من أنه لا توجد صعوبة في تحديد موقع العقار لأنه حسب التعريف الذي أعطاه له المشرع الجزائري في المادة 683 من القانون المدني بأنه: ” كل شيء مستقر بحيزه و ثابت فيه و لا يمكن نقله منه دون تلف فهو عقار”. وتثار بعض الصعوبات على المستوى العملي إذ تظهر حالات تجعل من هذه القاعدة غير قادرة على حل النزاعات ذات العنصر الأجنبي، التي قد تنشأ في مجال العقار.وكمثال على ذلك كأن يكون عقار واقع على حدود دولتين جزء منه في دولة والجزء الآخر في دولة أخرى، في هذه الحالة ذهب الفقه إلى إخضاع كل جزء منه لقانون الدولة التي يقع فيها، وهذا يشكل استثناءا من هذه القاعدة.

الفقرة الثانية: مبررات وجوب تطبيق قانون موقع العقار
مما لاشك فيه أن استقرار هذه القاعدة واستمرارها وانتشارها الواسع يعبر عن سلامة الاعتبارات وقوة الأسباب التي تبرز بها من قبل جميع الدول. لذلك تجد هذه القاعدة عدة مبررات منها، المبررات السياسية والاقتصادية وكذا المبررات المنطقية والاقتصادية والقانونية، دون أن نغفل تلك المبررات الفنية، وهذا ما سنحاول التفصيل فيه على الشكل التالي: بالنسبة للمبررات السياسية: فإن العقار هو الجزء المجسد للسيادة التي تمارس على إقليم الدولة، والذي يجسد الإقليم هو العقار، والأصل هنا هو العقار، إذ على أساسه تحدد باقي حدود الدولة سواء الجغرافية منها و المائية والبحرية والجوية. إذن يمكن القول بأن العقار هو عنصر من عناصر سيادة الدولة. إذ تتطلب اعتبارات السيادة الوطنية الإقليمية عدم السماح للقوانين الأجنبية بالتدخل لتحديد نظام الأموال الموجودة على إقليمها.

لذلك تتجلى لنا مظاهر السيادة بإخضاع الإقليم لقانون الدولة، وأن لا يخضع قانون إقليم دولة إلى قانون دولة أخرى، لأن الإقليم هو وعاء للسيادة بامتياز، وبالتالي لا يجب التفريط في قواعد السيادة. أما بالنسبة للمبررات المنطقية لهذه القاعدة فتجد أساسها في أن المال الذي يتصل اتصالا وثيقا بموقعه، فالمال المادي لابد أن يكون له حيز، والحيز هنا هو العقار مما يفترض معه أن يخضع المال لقانون موقعه. فأما بالنسبة للمبررات الاقتصادية فلها اتصال وثيق بالثروات، كما أن لها اتصالا وثيقا بالاقتصاد، وهي تشكل ما يسمى بالثروة الفلاحية، ومركزا للإنتاج المعدني، وهذا ملاذ للاستقلال.

كما أن العقار يشكل جزءا من إقليم الدولة كما سبق وذكرنا، إذ تحدد كل دولة نظام الحقوق العينية التي تلحق به وكيفية استثمارها بما يتلاءم مع مصالحها الوطنية وفلسفتها الاقتصادية. ويضاف إلى هذه المبررات السابق ذكرها مبررات فنية تتعلق بتركيز العقارات، فالعلاقات القانونية التي يكون موضوعها المال بصورة عامة، والعقارات بصورة خاصة، لا يمكن تركيزها بالاستناد إلى موضوعها وهو المال، باعتباره مركز الثقل الأساسي والهام فيها. وبالتالي يجب إسنادها إلى قانون موضعها أي لقانون موقع المال. علاوة على أن تعيين قانون موقع العقار لا يثير صعوبات تذكر في الوقت الحاضر، فليس هناك من بقعة في الأرض إلا وتؤلف جزءا من إقليم دولة معينة وتخضع لسيادتها وبالتالي لقوانينها. فأما بالنسبة للمبرر القانوني لهذه القاعدة فإنه يتجلى في المحافظة على تحقيق التلازم بين الاختصاص التشريعي والاختصاص القضائي، ففي كل التشريعات المقارنة فالاختصاص القضائي يكون لمحكمة موقع العقار. وذلك بناءا على عامل القرب وهي الأجدر على معاينة النزاع، إذ لا يتصور تنفيذ الحكم خارج موقع العقار فالأجدر ألا يستند الاختصاص بين ما هو تشريعي وبين ما هو قضائي.

ويقوم القانون الدولي الخاص على أنه لا تلازم بين الاختصاص التشريعي والقضائي، ويقوم على أن القاضي يطبق قانون موقع العقار. غير أن الدول التي تأخذ بقانون موقع العقار تختلف قوانينها في تحديد نطاق تطبيقه.ويمكن في هذا الاتجاه التمييز بين ثلاثة اتجاهات رئيسية:

الاتجاه الأول: يعطي قانون موقع العقار اختصاصا شاملا يحكم الحقوق والعلاقات المتعلقة بالعقار بعناصرها وجوانبها المختلفة بما في ذلك شروط تكوينها وأهلية المتعاقدين. وهذا الاتجاه متبع في انكلترا وغيرها من الدول الأنكلوسكسونية.

والاتجاه الثاني: أخدت به بعض قوانين الدولة الاوربية، يميل إلى قصر نطاق تطبيق قانون موقع العقار على النظام القانوني للعقار بحد ذاته أي على تحديد الحقوق العينية التي تترتب على العقار بحد ذااته أي على تحديد الحقوق العينية التي تترتب على العقار ونظامها دون أن يشمل أهلية المتعاقدين وأسباب كسبها مثل العقد وغيره.

أما الاتجاه الثالث فهو اتجاه وسط بين الاتجاهين السابقين، وبموجبه يسري قانون موقع العقار على الحيازة والملكية والحقوق العينية الأخرى كما يسري على العقود المتعلقة بالعقار ولكن دون أن يتناول أهلية المتعاقدين وشكل العقد.