التستر .. إعادة فهم مشكلة العامل الأجنبي
د. محمد آل عباس
علاقة الاقتصاد السعودي بالعامل الأجنبي علاقة ناجحة حتى اليوم، لا أحد ينكر ما بذله العمال الأجانب في تنمية البلاد، فعندما ظهرت في المملكة ثروة النفط الهائلة، في وسط صحراء قاحلة، وفي دولة كالقارة كان تدفقها من باطن الأرض إلى ظاهرها يحتاج إلى أن تتكاتف عوامل الإنتاج كافة، أولها وأهمها الأيدي العاملة، ولأن الدولة العثمانية قامت بجرم عظيم بحق عديد من الشعوب العربية وعملت على تفشي الجهل بينها وجعل التعليم حصرا على الأتراك دون غيرهم واليوم تتجاهل تركيا هذه الأفعال الشنيعة وكأنها لم تفعل ذلك الجرم العظيم بأبناء الجزيرة العربية، ولأن معظم الشعب السعودي في ذلك العهد كان بالكاد قد خرج من تحت أنقاض مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية ودينية حتى قيض الله لهذه البلاد الملك عبدالعزيز، وقد أيده الله بتوفيقه، فجمع به الكلمة وعاد الشعب وحدة واحدة ينهض ليحمل همه بنفسه، لكن في ذلك الحين بالكاد وصل التعداد إلى حد يفي بأغراض التنمية الجديدة، وبالكاد كان العلم يخطو خطواته الأولى ويتعثر، وكان لابد من إشراك العالم معنا في التنمية والتحديث، وهكذا تدفق العمال والعلماء والمهنيين في سيل منتظم من دول العالم كافة يريدون مشاركة هذا الشعب في ثرواته الجديدة ومساعدته في تنمية بلاده.

ملايين من العمال جاءوا إلى المملكة، بلغات شتى، وثقافات مختلفة، والسبب في هذا التدفق الضخم يأتي أساسا من باب فتح الفرص الذي انتهجته حكومة المملكة في ذلك، فالوصول إلى تأشيرة دخول للمملكة لم يكن صعبا، ولم يتحمل العامل نفسه جهدا في إثبات الكثير كي يحصل على التأشيرة، بالطبع ظهرت ممارسات سيئة مثل السوق السوداء للتأشيرات، لكنها جاءت متأخرة على كل حال وظل تأثيرها في النمو والاقتصاد محدودا، كما أن البقاء في المملكة لم يكن مكلفا على العمال بأي صورة. لا يوجد أي مراقبة للحياة الاجتماعية، وهنا حرية واسعة لاختيارات المعيشة.

لم يكن هناك كثير من التدقيق على التحويلات الأجنبية، وللعامل الحق في عمل ما يشاء، حتى خارج إطار التأشيرة الممنوحة له، بالطبع كانت هناك تساؤلات إذا وجب الأمر، لكن الحكومة انتهجت التساهل في التعاطي مع الأمر، كان يمكن أن تشاهد العامل في أكثر من مناسبة في اليوم الواحد وفي أكثر من مكان وبأكثر من عمل، حتى في مسألة مهمة مثل الضرائب لم تمارس الحكومة السعودية أي تشدد في هذا الشأن، وبحق فإن المملكة جنة العمال الأجانب وهذا بشهادة كثير منهم، وكان معظم الشعب منشغلا بالعمل في الوظائف الحكومية التي كانت في حاجة إليهم أكثر. والصورة الشاملة كانت كالآتي:

نحن والعالم نتقاسم ثروة النفط، والهدف تنمية المملكة، كان هذا العقد الاجتماعي فعالا ومنتجا. إذا تغيرت الوقائع الاقتصادية يجب حتما تغيير العقد الاجتماعي، واليوم لم تعد ثروة النفط “وحدها” كافية لتمويل أحلامنا وأحلام ملايين العمال من أنحاء العالم كافة، فمنذ التسعينيات في القرن الماضي عندما بدأت آثار طفرة النفط تتلاشى، بدأت العلاقات مع العمال الأجانب تتغير، لقد شهدنا كثيرا من التنافسية بين العمال السعوديين والعمال الأجانب، خاصة في قطاع الأعمال، والسعوديون يرون الأجانب تهديدا، ووفقا لنظرية الصراع، ونظرية التهديدات المتكاملة ITT التي تضع التهديدات التي يشعر بها المواطن مثل ضياع الفرص الوظيفية والمنافسة على التجارة والأعمال، كأحد أهم نقاط التعصب ضد الأجانب، هذا جعل كثيرا من العمال يدركون التعصب مبكرا، ولتجنب الصراع والتهديدات الناشئة وللمحافظة على الامتيازات التي منحت لهم، ظهرت عقود جديدة بين العمال الأجانب والموطنين السعوديين، وهي عقود تأجير المحل التجاري، أو تأجير حرية العمل “الكفالة”، التي تراها الدولة من جانبها عقودا مجرمة “تستر”، هنا نلاحظ أن الحكومة دخلت في العلاقات الجديدة من حيث إنها ترى المحافظة على حقوقها “الضرائب”، وهو حق كانت الدولة متساهلة بشأنه في بداية تدفق العمال إلى المملكة.

ما زلت أتحدث هنا عن فترة التسعينيات، فترة لم تصل فيها مشكلة العقد الاجتماعي إلى حدودها القصوى بعد. يمكنني أن أصف هذه الفترة بإدراك العلاقات الجديدة ومحاولة ترتيب الأوضاع دون الرغبة في إيجاد عقد اجتماعي جديد، فالدولة التي كانت تحاول أن تنأى بنفسها عن حرية الفرد الشخصية في العمل والتجارة، والعامل الأجنبي الذي وجد أرضا خصبة للعمل الحر، كل ذلك تغير الآن، وأصبح المواطن والعامل لديهما رغبة في نوع جديد من الشراكة، وأصبحت الدولة تريد نصيبها من تلك الشراكة الجديدة، لكن أي طرف لم يقدم حلا لعقد جديد، بل كافة الأطراف تريد العمل على العقود القديمة.

وهكذا تركت المشكلة الشائكة تنمو. خلال الفترة من نهاية القرن الـ20 وبداية القرن الحالي، انتشرت ظاهرة تأجير المحل التجاري للعامل الأجنبي وتوسعت بشكل غير مسبوق، ومع ذلك نجهل اليوم أشكال العقود التي نشأت بين الأطراف كافة، وأشكال الأعمال التي ظهرت بعد ذلك، “الاقتصاد الخفي”، ومع ذلك فإن الحكومة لم تعترف بأي نوع من هذه العقود، بل فقط أوضحت ضمن أنظمة وزارة التجارة عقد الشراكة مع الأجنبي، وهو عقد ربح وخسارة لا يريده الموطن السعودي، بينما عقد التأجير هذا لا تريده الحكومة “بل تعده جريمة التستر”، ولهذا قامت بمحاربته بشدة، لكنها لم تقدم حلا بديلا له، “أو لنقل أن وزارة التجارة لم تعترف بالعقود الاجتماعية الجديدة وتعالجها نظاميا لحفظ حقوق الأطراف كافة”، ولهذا ظلت المشكلة تتعاظم حتى وصلنا اليوم إلى مشكلة معقدة وهي أن نظرة المجتمع لتهديد العامل الأجنبي لم تعد فقط في المنافسة التجارية، بل أصبحت في الوظائف، فأرقام البطالة تتصاعد، ولم تعد رغبة المواطن في الفوز بعمل تجاري خاص، بل الفوز بوظيفة في القطاع الخاص الذي نراه متركزا في يد العمالة الأجنبية. وأصبحنا بدلا من أن نعالج مشكلة عقد وتهرب من الضرائب، نعالج معها ومن ضمنها مشكلة البطالة بكل تعقيداتها…

أشرت في المقال السابق إلى علاقة الاقتصاد السعودي بالعامل الأجنبي، وأنها علاقة ناجحة حتى اليوم، والتحديات الجديدة لا تغير من هذا الواقع شيئا، العمال الأجانب كشركاء، ولكن يجب علينا جميعا إدراك نوعية الشراكة المطلوبة اليوم التي حتما قد اختلفت عن الشراكة القديمة، يجب على العمال الأجانب تحمل تبعات أكثر اليوم، لكن هذه التبعات لا تعني الاستغناء أبدا، بل تعني وضوحا وشفافية، تعني مصداقية، تعني احتراما متبادلا، وتعني التعاون لتحقيق نمو اقتصادي يستوعب الجميع، فالمملكة ما زالت تزخر بالخيرات، وهناك كثير مما ينتظر العمل للفوز به، “رؤية المملكة” تحمل كثيرا من النفحات الجميلة، ومشاريع جبارة تتطلب لنجاحها توافر تعداد بشري مع قدرة شرائية حقيقية.

العلاقات الجديدة -كما أراها- تتداخل بين حكومة ترغب اليوم في عدم التغاضي عن كثير من الحقوق الواجبة لها، فلقد تغير كثير من الوقائع الاقتصادية، والنفط لم يعد الممول الوحيد للمالية العامة، وهناك رسوم وضرائب واستثمارات لم تكن موجودة من قبل، فكر تمويل المالية العامة تغير بلا عودة، الحكومة شريك تنموي، ولكن هذه الشراكة ليست بلا استحقاقات، بمعنى أن الحكومة لم تعد عنصرا محايدا يتحمل التكاليف، والأصعب من المشاريع، بينما تترك المنافسة على الأرباح، عنترة لم يعد موجودا في الفكر الحكومي الحديث، الاستدامة الاقتصادية تتطلب تجديد الموارد التي لم تعد تعتمد على الخامات الطبيعية، بل هناك اقتصاد المعرفة الذي يتطلب منتجات مربحة ذات عائد، هنا يجب فهم الحكومة، وماذا تريد بالضبط، الاقتصاد المعرفي الحديث المستدام يحتاج إلى الدعم الحكومي الذي لم يعد مجانا.

المواطن السعودي يطلب حياة عصرية كريمة، ومحطات عمل تناسب هذا، مع ما يتطلبه هذا من السكن في المدن العصرية، واستدامة الدخول عند مستويات أعلى، تحافظ على القدرة الشرائية التي تمتع بها لسنوات، مع توفير وظائف وتأمينات ضد التعطل عن العمل أو التقاعد، تكون متناسبة مع تكلفة الحياة عند المستوى المتوسط، “وهو مستوى متغير”، كما أن المواطن يدرك أنه في حاجة إلى مهارات أفضل بشرط أن تتيح له الفوز بفرص في العوائد التي يراها تتوزع وفقا لقواعد اقتصاد المعرفة الجديدة، وهو في هذا مستعد لتقديم تنازلات تتعلق بالوقت والمكان والشروط. العمال الأجانب يريدون حياة آمنة، مع دخول تتناسب مع الضرائب المتصاعدة، وتحقيق عائد يغطي تكلفة العقود التي أبرموها للعمل في المملكة، مع ضمان تدفق التحويلات التي تحقق متطلبات حياة مختلفة عن الواقع السعودي، وبغض النظر عن نوعية العمل “مسمى كان أو حقيقة” طالما تتحقق هذه الشروط، المواطن السعودي والعامل الأجنبي يقومان بعقود ضمنية تضمن لكل منهما تحقيق الشروط السابقة، وهذه العقود تضمن دخولا مستدامة للمواطن، وأيضا عوائد تضمن تحويلات مستدامة للعامل الأجنبي، وكما أشرت في المقال السابق إذا توافرت هذه الشروط بعقود نظامية، تقبلها الحكومة وتحقق شروطها المتعلقة بالمالية العامة، فإننا سنقدم حلا جذريا لمشكلة التستر، وهي تتضمن تشجيع المواطنين “بغض النظر عن كونهم على وظائف أو لا، تجارا أو حكوميين” على أن يصبحوا ملاكا حقيقيين، يتمتعون بالعوائد، وتحويل الأجانب أكثر إلى عمال حقيقيين يتمتعون بالعمل وعوائده فقط، وهذا -في نظري- يحتاج منا إلى قبول عقود تأجير المحال للعمال الأجانب “بصفتهم”، مع إعادة تقييم الرسوم، والاكتفاء بضريبة القيمة المضافة، وتغيير مستوياتها فقط لتشمل شريحة أكثر.

هذا التعديل سيحقق كثيرا، ومن ذلك زيادة الدخل الحكومي جراء زيادة الضرائب الناتجة عن دخول هذه الشرائح الجديدة، وأيضا تحقيق دخول مستدامة للمواطنين، مع تقليص مستويات المخاطرة، وكذلك تقليل تكلفة مكافحة التستر والغش التجاري بكشف العقود الجديدة، مع إمكانية فرض شروط أشد في التوطين، كما أن المتطلبات الضريبية تفرض كثيرا من الإجراءات، مثل الفوترة والمحاسبة والتدقيق الضريبي وغيرها ما يوفر فرصا وظيفية كثيرة للمواطنين. تبقى مشكلة عقود الكفالة، وهي عقود ضمنية أيضا، يحصل من خلالها العامل على حرية العمل، مع ضمان دخل الكفالة للمواطن، وهي عقود أراها سيئة جدا، وتقتضي محاربتها لإنهاء موضوع الكفالة نهائيا؛ حيث إن عقود التأجير تمنح العامل هذه الحرية المطلوبة، مع دفع الرسوم للدولة، وزيادة الضرائب، وأيضا يتم كشف الغش، وتحميل المسؤوليات بدقة.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت