العلائق التغييرية بين المجلس النيابي (البرلمان) وبين مفردات الواقع تتسم بالتفصيل والتنوع وتقوم على منهجية تعبر عن حاكمية النص التشريعي وتشير الى دوره في التأسيس لآليات البناء والتنمية على الاصعدة المتعددة،

ويلاحظ ان هذه المهام كشفت عن تحولات جوهرية نهض بأعبائها النظام السياسي ممثلا بـ (البرلمان) وأشر لجانب اساسي ومهم في مسار التجربة الانسانية فقد أوجد هذا النظام فضاء واسعا للحرية والتنمية وحماية حقوق الانسان في الدول المتقدمة ذات النظم الديمقراطية منجزا بذلك العديد من التحولات الاستراتيجية التي يعود فضلها الى السلطة التشريعية باعتبارها الجهة المعنية باستطلاع حاجة المجتمع والعمل على تشريع القرارات والبت بالخطط والمشاريع، وفي (جدول عمل التحول الديمقراطي)

المحرر من قبل الامين العام السابق للامم المتحدة (بطرس بطرس غالي) نجد اشارة واضحة الى دور المشاركة السياسية التي يجسد مصداقيتها وعمليتها كما هو معروف (البرلمان) في منح المعنى التقدمي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية فهي (تؤسس جذورا اعمق لان بناء مؤسسات ديمقراطية على مستوى الدولة يساعد على اخذ اولويات مختلف الفئات الاجتماعية في الاعتبار عند صياغة ستراتيجيات للتنمية) وفي فقرة لاحقة يؤكد الامين العام السابق على ان الديمقراطية تعني في النظام الاقتصادي الدولي ان العلاقة بين الدول الآخذة في النمو والدول المتقدمة.

ليست علاقة مساعدة وانما علاقة تعاون وبدلا من الاعتماد المزمن على جهود الاغاثة العاجلة يمكن التوفيق بين هواجس الدولة الآخذة في النمو والدول المتقدمة.

وفي سبتمبر ايلول عام 1997 جاء في الاعلان العالمي بشأن الديمقراطية الذي أقره مجلس الاتحاد البرلماني الدولي في دورته الحادية والستين بعد المائة (يمثل السلام والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية شرطا للديمقراطية وثمرة من ثمارها ومن ثم فان الترابط الوثيق بين السلام والتنمية واحترام سيادة القانون وحقوق الانسان).

وفي واقع الامر ان هذه الاستنتاجات تمثل رؤية استقرائية للتجربة النيابية والبرلمانية التي افرزت تراثا طويلا ومتراكما يصب في خانة الاثراء السياسي ويؤدي الى توفير عناصر التوازن للقرار السياسي عبر البحث والتداول والتصويب الامر الذي يأخذ اتجاها نقيضا في الانظمة الدكتاتورية والشمولية حيث ادى هذا الاتجاه الى اعتماد الديمقراطية منهجية بديلة توفر الحصانة المطلوبة للعقل السياسي وتمنحه مقومات التصويب والتصحيح بما يؤدي الى موازنة القرار وتضمينه عناصر النجاح المطلوبة.

وعلى سبيل المثال كشفت عملية التحول من الفردية الى التعددية عن استنهاض معاكس لعقلية النهوض بين الشرق والغرب مؤسسة لمعالم حضارية استأثرت بمقومات البناء والاصلاح واستورثت تركة العقل المتقادمة في الشرق لتؤسس على انقاضها المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي العملاق الماثل اليوم في الغرب، وفي خضم هذه العملية نلحظ الدور المحوري لحضور (البرلمان) وارجحيته في ايجاد التيار الفاصل بين عهدي الاسطورة السياسية المتوارثة في الشرق والحقيقة العملية الوليدة القائمة في الغرب.

ففي الوقت الذي ما برح المفهوم الشمولي لسلطة الحاكم يؤكد اختزالا خطيرا لمفهوم الدولة لدى الاول (الشرق) ليصبح بامكان (الحاكم) الدوران والحركة في فضاء غير متناه من الصلاحيات والمباحات نجد ان مفهوم السلطة لدى الثاني (الغرب) تحولت الى رؤية فلسفية وقانونية تبحث في احقية الدور والمسؤولية وتطبق لتنظيرات تؤكد افضلية الاكثرية وتؤسس لآليات تحدد العلاقة بين اطراف المعادلة السياسية الدولة، الحكومة، المجتمع وبين القانون ووفقا لهذا الآليات يجري تكريس مبدأ فوقية القانون وتأصيل قناعة الواقع والمنطق في الوعي الانساني حتى يخرج الجميع طواعية من شرنقة الوهم والاسطورة ويرتضي التعامل مع المصلحة العامة بدلا من المصلحة الذاتية والخاصة.

وهكذا فقد أفرزت هذه الحقائق ضوابط تربوية لترشيد حالات السلوك الاجتماعي والسياسي والجمع بين المدى التحرري لذلك السلوك والانتظام في سلك قيم الواقع والنظام والقانون واصبح الافق البيئي والتربوي مواتيا لتنمية ملكة الانتقاء والتمييز وتمكين الذات من الالتحاق بركب قيم التطور ولا شك ان المقاربة بين النص والواقع التي تتصل اتصالا وثيقا بمهام المجلس النيابي كونه السلطة المشرعة والمقومة تمثل حجر الزاوية في فلسفة التحول التي انتهجتها العملية السياسية وهي تؤرخ لعهد انساني جديد ينتصف فيه التأريخ للعقل بعد عصور طويلة من الاستبداد والمصادرة.