تتمتع المحكمة بسلطة تقديرية واسعة في إلزام التاجر بتقديم الدفاتر التجارية، ويتم تقديم الدفاتر التجارية بأمر من المحكمة التي تنظر في الدعوى من تلقاء ذاتها أو بناء على طلب أحد طرفي الدعوى، وعادة ما تدقق المحكمة في طلب تقديم الدفاتر التجارية للتحقق من جدية المصلحة التي يروم طالب التقديم تحقيقها فإذا تبين عدم وجود مصلحة من التقديم أو أن الغرض منه مجرد تعطيل الدعوى أو أن المحكمة قد كونت عقيدتها من الأدلة الأخرى في الدعوى فلا حاجة لهذا التقديم (1)، لأن الأمر بإلزام التاجر بتقديم دفاتره التجارية ليس واجباً على المحكمة بل هو جوازي لها ولا معقب عليها فيما تراه(2)، ويجب أن يقدم طلب تقديم الدفاتر التجارية إلى المحكمة بصورة صريحة جازمة تدل على تصميم طالب التقديم أما مجرد الإشارة إلى أن المدعى عليه تاجر ويمسك دفاتر تجارية لا يُعتبر طلباً يلزم المحكمة بالرد عليه (3)،

ويتم طلب التقديم بصيغة كتابية إلى المحكمة التي تنظر الدعوى أو بصيغة شفوية وإثباته في محضر الجلسة في أي مرحلة تكون عليها الدعوى(4) ولكنه لا يجوز أن يقدم لأول مرة أمام محكمة التمييز(5)، ويعود للمحكمة قبول أو ردْ الطلب بإعتباره متعلقاً بإجراءات الإثبات التي يجوز للمحكمة العدول عنها بشرط بيان أسباب العدول(6)، ولكن قد يثار التساؤل التالي هل يجوز تقديم طلب تقديم الدفاتر التجارية كدعوى أصلية أمام القضاء أي قبل حصول نزاع أمام القضاء؟ أجاب البعض عن هذا التساؤل بالإيجاب فأجاز أن يقدم طلب التقديم كدعوى أصلية أمام المحكمة على أساس وجود المصلحة المحتملة فقد تقبل هذه الدعوى إذا كان الغرض منها الاحتياط لدفع ضرر محدق أو الاستيثاق لحق يخشى زوال دليله (7)، ولكن هذا الرأي لا يمكن قبوله على إطلاقه لأن الفقرة (1) من المادة (53) من قانون الإثبات العراقي والخاصة بطريقة التقديم الجزئي للدفاتر التجارية قد وضعت معياراً لقبول طلب التقديم الجزئي للدفاتر التجارية هو تعلق الدفتر التجاري بموضوع الدعوى وضرورته لضمان صحة الفصل فيها، لذلك لا يجوز تقديم طلب تقديم الدفاتر التجارية جزئياً كدعوى مستقلة أمام المحكمة، أما طلب تقديم الدفاتر التجارية كلياً فيجوز تقديمه كدعوى مستقلة أمام المحكمة.

إن سلطة المحكمة بتقديم الدفاتر التجارية لا تقتصر على طرفي الدعوى بل تمتد إلى الغير فللمحكمة سلطة إلزام الغير بتقديم دفاتره التجارية (8) في أي مرحلة تكون عليها الدعوى ولو كان ذلك أمام محكمة الاستئناف (9)ولكن لا يجوز ذلك أمام محكمة التمييز، ويخضع طلب إلزام الغير بتقديم الدفاتر التجارية للإجراءات ذاتها المتبعة في طلب إلزام أحد طرفي الدعوى بتقديم دفاتره التجارية (10)، أما بالنسبة لأنواع الدفاتر التجارية التي يجوز للمحكمة أن تأمر بتقديمها فقد اختلف الفقه فيها، فذهب البعض إلى أن سلطة المحكمة بتقديم الدفاتر التجارية لا تقتصر على الدفاتر الإلزامية بل تمتد إلى إلزام التاجر بتقديم الدفاتر غير الإلزامية وسائر المستندات المؤيدة للقيود الواردة فيها إذا ثبت وجودها لديه(11)، في حين ذهب البعض الآخر إلى أنه لا يجوز للمحكمة أن تلزم التاجر بتقديم دفاتره غير الإلزامية لأنه لا يجوز أن يضار التاجر من دقته في تنظيم حساباته ومسكه دفاتر لم يلزمه القانون بها قياساً على عدم جواز استفادته من إهماله في تنظيم حساباته على النحو القانوني، كما أن مبدأ إلزام التاجر بتقديم دفاتره التجارية يعتبر استثناءاً من القاعدة العامة التي تقضي بأنه لا يجوز إجبار الشخص على تقديم الدليل ضد نفسه ولا يجوز التوسع في هذا الاستثناء إلا بنص قانوني(12)، وبالرغم من المبررات التي نادى بها أصحاب الرأي الأخير فإن الرأي الأول هو الأكثر قبولاً في ظل القانون العراقي لعموم النصوص القانونية التي أجازت تقديم الدفاتر التجارية دون تحديد، واستناداً إلى المادة (1) من قانون الإثبات العراقي التي تنص على ((توسيع سلطة القاضي في توجيه الدعوى وما يتعلق بها من أدلة بما يكفل التطبيق السليم لأحكام القانون وصولاً إلى الحكم العادل في القضية المنظورة)) والمادة (2) من القانون ذاته التي تنص على ((إلزام القاضي بتحري الوقائع لاستكمال قناعته)).

إن طالب التقديم يقع عليه عبء إثبات أن الدفاتر التجارية موجودة في حيازة خصمه أو تحت تصرفه، فإذا أثبت ذلك أو أقر خصمه بأن الدفتر التجاري في حيازته أو سكت أمرت المحكمة بتقديم الدفتر في الحال أو في أقرب موعد تحدده لذلك (13)، وبالرغم من الصياغة التي جاءت بها المادة (54) من قانون الإثبات العراقي والتي أوردت عبارة (أمرت المحكمة) وهي عبارة توحي بأن المحكمة ملزمة بإصدار أمر التقديم إلا أن هذا الأمر يخضع للسلطة التقديرية للمحكمة فقد تجد هذه الأخيرة في أوراق الدعوى وأدلتها ما يكفي لتكوين قناعتها(14). أما إذا عجز طالب التقديم عن إثبات وجود الدفتر لدى خصمه وأنكر الأخير وجود الدفتر في حيازته أو تحت تصرفه إعتبر طالب التقديم على وفق القواعد العامة في الإثبات عاجزاً عن إثبات دعواه ومن ثم يتعين على المحكمة رد طلبه، ولكن المشرع العراقي إيماناً منه بصعوبة الإثبات حاول أن يخفف من عبء الإثبات فأورد حكماً استثنائياً (15) يقضي بإلزام المحكمة بتحليف الخصم المنكر يميناً بأن الدفتر المطلوب تقديمه لا وجود له أو أن الدفتر المطلوب تقديمه لا يعلم بوجوده وأنه لم يخفه ولم يهمل بالبحث عنه ليحرم خصمه من الاستدلال به(16)، ويكون للمحكمة الخيار بتحليف الخصم المنكر اليمين بإحدى الصيغتين،

ولكن ما الحكم إذا امتنع التاجر عن تنفيذ أمر المحكمة بتقديم الدفاتر التجارية أو أنكر وجودها وامتنع عن حلف اليمين؟

اختلف الفقه في الإجابة عن هذا التساؤل، فذهب البعض إلى جواز اللجوء إلى الغرامة التهديدية في سبيل حمل التاجر الممتنع على تنفيذ أمر المحكمة بتقديم الدفاتر التجارية(17) تطبيقاً للقواعد العامة (18)،

في حين ذهب البعض الآخر إلى أنه لا يجوز اللجوء إلى الغرامة التهديدية كإجراء لإجبار التاجر على تقديم دفاتره التجارية لأن الدفاتر التجارية ليست لها حجية مطلقة في الإثبات والمحكمة غير ملزمة بالأخذ بها، كما أن القانون لم يتعرض إلى هذه الوسيلة لإجبار التاجر على تقديم دفاتره التجارية بأي شكل من الأشكال فيكون اللجوء إلى الغرامة التهديدية أمراً ضئيل الأهمية (19)،

والرأي الأخير هو الأكثر قبولاً في ظل القانون العراقي لأن المادة (56) من قانون الإثبات العراقي قد حددت حكم امتناع التاجر عن تقديم دفاتره التجارية إلى القضاء أو امتناعه عن أداء اليمين وهو السماح لطالب التقديم بإثبات مضمون الدفتر المراد تقديمه بأية طريقة من طرق الإثبات، ويجوز للمحكمة أن تحمل الخصم الممتنع مصروفات ذلك الإثبات مهما كانت نتيجة الفصل في الدعوى، ولهذا لا يجوز اعمال النص العام الذي يقرر اللجوء إلى الغرامة التهديدية في حالة وجود النص الخاص، وكذلك لا يجوز للمحكمة أن تأمر بإجراء التحري والتفتيش في مسكن التاجر لضبط الدفاتر التجارية وإحضارها عنوة أمام المحكمة التي تنظر الدعوى في حالة امتناع التاجر عن تقديمها(20).

أما التشريعات الأخرى فقد اختلفت في حكم امتناع التاجر عن تقديم الدفاتر التجارية، فَأعتبر قسم من التشريعات هذا الامتناع قرينة قانونية على صحة دعوى خصمه وللمحكمة أن توجه اليمين المتممة لخصم التاجر الممتنع فإذا أداها كسب الدعوى(21)، أما القسم الآخر من التشريعات فقد تبنى موقفاً آخر من امتناع التاجر عن تقديم دفاتره التجارية، فإذا قدم طالب التقديم صورة من الدفتر المراد تقديمه إعتبرت المحكمة هذه الصورة صحيحة مطابقة للأصل، وفي حالة عدم تقديم طالب التقديم لصورة من الدفتر بل اكتفى بالإدلاء ببعض البيانات المتعلقة بالدفتر فللمحكمة أن تأخذ بهذه البيانات وتحكم له في الدعوى ويخضع ذلك لسلطتها التقديرية(22).

______________

1- د. آدم وهيب الندواي، شرح قانون البينات والإجراء، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 1998، ص136 .

2- قرار محكمة التمييز المرقم (168/هيئة عامة أولى/1973) الصادر في 26/1/1974، النشرة القضائية، العدد الأول، السنة الخامسة، ص224.

3- قرار محكمة النقض المصرية الصادر بتاريخ 20/5/1971، عز الدين الدناصوري – حامد عبد الحميد عكاز، التعليق على قانون الإثبات، علم الكتب، القاهرة، 1977، ص47 .

4- د. آدم وهيب النداوي، نطاق إلزام الخصم بتقديم الدليل ضد نفسه، مجلة القانون المقارن، العدد الثاني عشر، السنة التاسعة، 1981، ص246 .

5- محمد علي الصوري، التعليق المقارن على مواد قانون الإثبات، الجزء الثاني، مطبعة شفيق، بغداد، 1983، ص96 .

6- قرار محكمة النقض المصرية المرقم (244) الصادر بتاريخ 20/2/1964، أنس كيلاني، المرجع السابق، ص295 .

7- د. آدم وهيب النداوي، المرجع السابق، ص247 .

8- المادة (57) من قانون الإثبات رقم (107) لسنة 1979 .

9- د. مفلح عواد القضاة، البينات في المواد المدنية والتجارية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 1990، ص108 .

10- محمد علي الصوري، المرجع السابق، ص513 .

11- د. فوزي محمد سامي، شرح القانون التجاري الأردني، الجزء الأول، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 1993، ص129، وكذلك د. رزق الله أنطاكي – د. رزق الله انطاكي – د. نهاد السباعي، الوسيط في الحقوق التجارية البرية، الجزء الأول، مطبعة جامعة دمشق، دمشق، 1961، ص202.

12- د. أكثم أمين الخولي، قانون التجارة اللبناني المقارن، الجزء الأول، الطبعة الثانية، دار النهضة العربية، بيروت، 1967 ،ص304، وكذلك د. محمود سمير الشرقاوي، القانون التجاري، الجزء الأول، دار النهضة العربية، القاهرة، 1982. ص138 .

13- المادة (54) من قانون الإثبات رقم (107) لسنة 1979 .

14- د. آدم وهيب النداوي، المرجع السابق، ص251-252 .

15- محمد علي الصوري، المرجع السابق، ص504

16- المادة (55) من قانون الإثبات رقم (107) لسنة 1979.

17- د. سميحة القليوبي، الموجز في القانون التجداري، مكتبة القاهرة الحديثة، القاهرة، 1978، ص145، وكذلك د. السيد محمد اليماني، القانون التجاري، الجزء الأول، مطبعة عابدين، القاهرة، 1984ص170 .

18- المادة (253) من القانون المدني العراقي.

19- د. باسم محمد صالح، القانون التجاري، القسم الأول، الطبعة الثانية، مطبعة جامعة بغداد، بغداد، 1992، ص162، وكذلك د. عباس زبون العبودي، السندات العادية ودورها في الإثبات المدني، الطبعةالأولى، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2001، ص195 .

20- قرار محكمة التمييز المرقم (60) مستعجل الصادر بتاريخ 5/7/1959، مجلة القضاء، العدد الخامس، كانون الأول، 1959، ص760-761 .

21- كالمادة (17) من قانون التجارة الفرنسي، والمادة (13) من القانون التجاري التونسي، والمادة (20) من قانون التجارة اللبناني، والمادة (28/4) من قانون التجارة المصري، والمادة (10) من نظام الدفاتر التجارية السعودي، والمادة (41) من قانون التجارة العراقي رقم (149) لسنة 1970 الملغي.

22- كالمادة (23) من قانون البينات السوري والمادة (22) من قانون البينات الأردني.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .