الخبرة الفنية أمام القضاء .. وقفات وملاحظات
محمد بن سعود الجذلاني
من المعلوم أن الخبرة الفنية تعتبر من أبرز أدلة الإثبات أمام القضاء في الشريعة الإسلامية أو القوانين الوضعية. كما أن اللجوء إلى الخبرة الفنية إنما يكون في المسائل ذات الطبيعة الفنية التي تتطلب للحكم فيها معارف فنية خارج اختصاص القاضي. إلا أنه من واقع ما مر بي في العمل القضائي من تجارب فإن هناك عدة إشكالات تكتنف عمل الخبير الذي يندبه القضاء وهذه الإشكالات ينشأ عنها غالباً آثارٌ سيئةٌ في نتائج الأحكام القضائية إذا لم يكن القاضي متنبهاً لها ومؤهلاً لمواجهتها والتعامل معها وفقاً لما تفرضه القواعد والأصول الشرعية والقضائية.

وفي هذه العجالة أستعرض بعض الإشكالات أو الملاحظات راجياً أن يكون فيها نفع لي ولمن يقرأها من المهتمين وذلك في عدة نقاط:

أولاً: من أهم المسائل التي مع كونها بدهية ولا تخفى على قاض إلا أنه سبق وحصلت وقائع من بعض القضاة أخطأوا في هذه المسألة، وهي أنه يجب على القاضي أن يتحقق أولاً وقبل كل شيء من اختصاصه بنظر القضية قبل أن يندب لها خبيراً، خاصة الاختصاص النوعي.

ثانياً: كما أن على القاضي أن يتحقق من طبيعة المهمة التي يريد ندب الخبير لها وهل هذه المسألة داخلة فعلاً ضمن الجوانب الفنية التي لا يمكن للقاضي أن يدركها أم أنها أو جزءاً منها ليست ذات طبيعة فنية بحتة، حيث إن بعض قرارات ندب الخبراء تتضمن جوانب مما لا تعلق للخبرة به بل هو من صميم عمل القضاء.

ثالثاً: إن من الأخطاء الشائعة في القضاء عدم التفريق بين ما يتطلب ندب خبير ليبدي فيه رأياً استشارياً فنياً متخصصاً وما يكون داخلاً في المسائل التي يمكن إدراكها بالمعاينة، حيث يتساهل بعض القضاة في ندب خبير أو حتى الاستعانة بهيئة النظر لمعاينة موضع النزاع والاطلاع عليه، بينما كان الواجب على القاضي أن يخرج بنفسه لمعاينة ذلك لأنه أدعى إلى تصور المسألة والوصول للحق فيها وفهمها بشكل أفضل، وقد نص نظام المرافعات الشرعية على المعاينة والخبرة ضمن أدلة الإثبات ففرق بينهما وجعل لكل منهما أحكاماً خاصة بها. وفي المعاينة تضمن النظام ثلاث طرق لها:

1- إما أن تخرج المحكمة بكامل تشكيل قضاتها لمعاينة موضع النزاع – وذلك في التشكيل الثلاثي للدوائر.

2- وإما أن تندب أحد أعضائها يعني واحداً من القضاة الثلاثة ناظري القضية لمعاينة الموضع المتنازع عليه.

3- وإما أن ترى المحكمة حاجتها إلى الاستعانة بخبير يشارك في معاينة محل النزاع وإبداء رأيه حوله وذلك في وجود قضاة الدائرة أو أحدهم. وبهذا يتبين أن من الخطأ الاكتفاء بالخبير أو بهيئة النظر لمعاينة موضع النزاع دون وجود القاضي.

رابعاً: يجب أن يُنظر للخبير المعين من القضاء على أنه من أعوان القاضي وأنه يُمثّل المحكمة وهذا النظر يقتضي عدة واجبات منوط بالقاضي متابعتها والتحقق من صيانتها ومنها:

1- يجب التأكيد على الخبير بأن يلتزم الحياد في تعامله مع الخصوم وأن لا ينساق وراء عاطفته أو يحمله حُسن تعامل أحدهم وسوء تعامل الآخر على أن يفقد حياده والتزامه بقول الحق، فقد يكون أحد الخصمين محقاً وعنده من أدلة إثبات حقه ما يقوي جانبه إلا أنه يبتلى بسوء الخلق أو حتى سوء الظن بالخبير فيتعامل مع الخبير بطريقة غير لبقة أو فيها شيء من الفظاظة، بينما يكون الطرف الآخر ظالماً جائراً لكنه يلوذ بجانب الدبلوماسية أو حتى يكون من طبعه اللطافة ودماثة الخلق فيجتذب الخبير لجانبه ويأتي تقرير الخبير منحازاً له.

وإني أنبه أصحاب الفضيلة القضاة إلى أهمية الحذر من الانسياق وراء ميول الخبير لأحد الخصمين ضد الآخر لأن الخبير وإن كان مفترضاً به النزاهة والحياد إلا أنه بشر يعتريه ما يعتري البشر، فيجب على القاضي أن يتحرى في أخذه برأي الخبير وأن يتحقق من التزام الخبير جانب الحياد، وأن يكون القاضي فطناً لمثل هذه الأمور التي قد يغفل عنها الخصم المظلوم.

2- وفي جانب آخر يجب على القاضي ألا يتهاون في حفظ هيبة الخبير المعين من المحكمة، وألا يقبل بالتعدي عليها باللفظ أو السلوك، وأن يردع من يبدر منه شيء من ذلك من الخصوم، فإن بعض القضاة هداهم الله قد يتهاون في هذه المسألة فيترك الخصوم يفترسون الخبير افتراساً ويتعرضون له بالأذى أو التهديد أو التوبيخ أو الطعن في عدالته ونزاهته دون أن يردعوهم. وهذا بلا شك مما يؤثر سلباً في العدالة ويحمل الخبير على الإخلال بواجبه.

خامساً: إنه وإن كان من المتقرر أن القاضي لا يندب الخبير إلا في المسائل التي لا يستطيع القاضي إدراكها لكونها داخلة في اختصاص فني خارج اختصاص القاضي، إلا أن من المسائل التي أوصي أصحاب الفضيلة القضاة بالحرص عليها وعدم التساهل فيها وبذل كامل عنايتهم لتحقيقها، إبراء للذمة أمام الله عز وجل أن يحرص القاضي على دراسة تقرير الخبير بعد أن يقدمه إليه، وأن يحاول التمعن فيه ومطالعته مرة بعد مرة، بحيث يحقق القاضي من هذه المطالعة والتأمل ثلاث نواحٍ إيجابية جداً هي:

1- أن يتحقق القاضي من عدم تجاوز الخبير حدود مهمته وخوضه في مسائل هي من صميم اختصاص القاضي، وهذا الأمر للأسف يحدث كثيراً بسبب جهل كثير من الخبراء بالحد الفاصل بين اختصاصهم واختصاص القضاء.

2- أن يحاول القاضي إدراك ما يستطيع إدراك ما يمكنه إدراكه من جوانب النزاع الفنية لأن بعض المسائل وإن كانت فنية في الأصل إلا أنها قد تكون مما يدرك بالشرح والتوضيح وإذا كان الأمر كذلك فإن من واجب القاضي أن يبذل وسعه في فهم ما يمكنه فهمه وصولاً للحكم بالحق. أما إذا أخذ القاضي رأي الخبير وحكم بموجبه على علاته فإن القاضي الحقيقي في هذه الحالة إنما هو الخبير ولم يكن لقاضي المحكمة من دور سوى الحكم برأي غيره والتوقيع على ما قرره سواه، وهذه إشكالية حقيقية تتعارض مع القاعدة القضائية من أن: ( القاضي هو الخبير الأول).

3- ومن أبرز فوائد دراسة القاضي لتقرير الخبير ومطالعته له وتأمله أن ينظر القاضي في الجوانب التي تستحق تدخلاً قضائياً لتطبيق أحكام الشرع والقانون عليها قبل الأخذ بها ومن ذلك أن ينظر القاضي في المواضع التي تتطلب توجيه اليمين على أحد الطرفين للحكم له بما طلب، فكم من أحكام قضائية صدرت بموجب تقرير الخبير دون توجيه اليمين في مواضع كانت اليمين مستحقة لأحد الطرفين على الآخر فيها. سادساً: كما أن من الأمور المهمة جداً أنه ينبغي للقاضي أن يبذل وسعه في استيعاب ما يقدمه الخصوم من اعتراضات وملاحظات على تقرير الخبير، وألا يكتفي بترك تقرير هذه المسألة للخبير وحده، ذلك أن بعض القضاة يكتفي بترك الخبير والخصوم يتبادلون بينهم المذكرات بحيث يقدم الخصم اعتراضاته وملاحظاته على تقرير الخبير، ثم يقدم الخبير رده ومناقشته لتلك الاعتراضات دون أدنى تدخل من القاضي، وبعد ذلك يكتفي القاضي بالحكم بما تضمنه تقرير الخبير النهائي.

وهذا بلا شك مما يوقع في الظلم، فالواجب على القاضي أن يعقد لكل من الخبير والخصوم جلسة يدعهم فيها يتناقشون ويقدمون أمامه ما لديهم من اعتراضات ويجيب عنها الخبير إما في الجلسة نفسها أو في جلسة أخرى ويكون ذلك على مرأى ومسمع من القاضي بحيث يحرص القاضي على توفير جو من الطمأنينة لكل أطراف الدعوى ويوحي إليهم أنه مطلع على نزاعهم وما فيه من تفاصيل ومستوعب لها وأن حكمه صدر بعد فهم وتدبر لا مجرد اعتماد لرأي الخبير دون تبصر ولا نظر. ولا بأس أن يعرض القاضي تقرير الخبير على خبير آخر إذا شك في صحته بحيث يطمئن – على الأقل – إلى التزام الخبير بالعمل وفقاً لما تقتضيه أصول مهنته وقواعدها. وهذا ليس تفضلاً من القاضي وإحساناً بل هو ما يوجبه عليه الاحتياط لحقوق المتقاضين والحذر من الظلم، وإلا كان كمن يقضي بجهل وهذا ما يوقع في المحذور.

سابعاً: إن الواقع الحالي وما يجري عليه العمل في المحاكم وديوان المظالم حالياً أن القاضي أو الدائرة حين تقرر ندب خبير في الدعوى سواء من تلقاء نفسها أو بموجب طلب أحد الخصوم، أنه يترك للخصوم اختيار الخبير وغالباً ما يختلفون في ذلك مما يطيل أمد الدعوى أحياناً ثم ينتهي الأمر إلى أن تتولى الدائرة اختيار الخبير بنفسها. وهذه المسألة مما يحتاج إلى إعادة نظر وتنظيم وضبط دقيق بحيث أقترح تحديد إدارة متخصصة في كل محكمة تتولى تسجيل الخبراء الراغبين التعاون مع القضاء بتقديم خدماتهم الاستشارية، ويكون دور هذه الإدارة أن تُعد سجلاً للخبراء حسب مجالاتهم وتخصصاتهم وتقيد فيه معلومات كل متقدم لها من مكاتب هندسية أو محاسبية أو نحو ذلك وتحتفظ بملف لكل خبير فيه صورة ٌ من مؤهله العلمي وترخيصه وعنوانه وتوضيح للمجالات التي يمكنه تقديم الرأي فيها.

بحيث يكون لكل مدينة خبراؤها، وتتولى هذه الإدارة مخاطبة الخبراء ودعوتهم لتقديم عروضهم عند ورود أي قضية من أحد القضاة يطلب فيها تعيين خبير، كما تتولى تلك الإدارة متابعة تنفيذ الخبير مهمته من حيث التزامه بالمدة المحددة له من القاضي، وتتولى أيضاً تقييم أداء الخبراء وتسجيل الملاحظات الإيجابية أو السلبية عليهم، بحيث يكون للمحسن منهم مزايا، أما المسيء فقد يشطب من هذا السجل ويحرم من التعامل مع القضاء… إلى غير ذلك من خطواتٍ تنظيمية من شأنها ضبط الأداء والتخفيف عن القاضي وسرعة البت في القضايا. هذه بعض الملاحظات على عجالة وأرجو الله أن ينفع بها وختاماً أسأل الله لأصحاب الفضيلة القضاة التوفيق والسداد وما توفيقي إلا بالله.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت