الحماية القانونية للممتلكات الثقافية وقت الحرب وفقاً للقانون الدولي الانساني

المحامية: منال داود العكيدي
غالبا ما يبرر بعض الاطراف المتحاربة تدمير الممتلكات الثقافية بحجة الضرورات العسكرية، غير أن أعمال الدمار تكون متعمدة في معظم الحالات. فتدمير الآثار و أماكن العبادة أو الأعمال الفنية بقصد القضاء على هوية الخصم وتاريخه وثقافته وإيمانه، بغية محو كل أثر لوجوده وحتى لكينونته.

كان كاتون القديم يكرر دائما قوله: يجب تدمير قرطاجة فدمرت هذه المدينة الفخورة ولم ينج لا أثر تذكاري ولا معبد ولا ضريح. وجرت العادة على ذرِّ الملح على الأطلال حتى أن العشب لم ينبت فيها من جديد. وحتى اليوم عندما يتفقد المرء أطلال هذه المدينة العتيقة التي حكمت نصف حوض البحر الأبيض المتوسط وكانت منافسة لروما، يصاب بالذهول لبساطة الأطلال التي تشهد على وحشية الدمار ، وقد لاقت مدينة وارسو نفس المصير في نهاية الحرب العالمية الثانية.

وفي حقيقة الأمر، فإن التدمير المتعمد للآثار وأماكن العبادة أو الأعمال الفنية هو مظهر من مظاهر الانزلاق إلى هاوية الحرب الشاملة، وهو في بعض الأحيان يمثل الوجه الآخر للإبادة الجماعية.

ولم تغفل التشريعات القديمة في اتخاذ تدابير منذ الحقب الغابرة لضمان عدم الاعتداء على أماكن العبادة والأعمال الفنية وفي بلاد الإغريق القديمة كان يعترف بالمعابد الإغريقية الكبرى مثل الأولمبي و ديلوس و ديلفيس و دودون بوصفها اماكن مقدسة ولا ينبغي الاعتداء على حرمتها. فكان من المحرم ارتكاب أعمال عنف بداخلها كما كان يجوز للأعداء المهزومين أن يلجئوا إليها طلباً للملاذ الامن ومن هنا نشأ قانون اللجوء وفي أوروبا خلال القرون الوسطى كانت قواعد ا لفروسية تحمي الكنائس والأديرة.

كما أن الدين الإسلام يتضمن الكثير من المبادئ والتعاليم التي تحمي أماكن العبادة المسيحية واليهودية وتحمي الأديرة توصيات أول الخلفاء والصحابة وصهر الرسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ( رض ) الذي خاطب جنوده عند فتح سوريا والعراق قائلاً: كلما تقدمتم ستجدون أناساً تفرغوا للعبادة في أديرتهم. اتركوهم وشأنهم ، لا تقتلوهم ولا تدمروا أديرتهم .. ) غير أن هذه القواعد القديمة المستوحاة من الدين عموماً كانت تحظى باحترام الشعوب التي كانت تشترك في الثقافة نفسها وكانت تعبد الآلهة نفسها وفي حالة الحرب بين شعوب تنتمي إلى ثقافات مختلفة فانها غالباً لم تكن تعترف بهذه القواعد والمثال الصارخ على ذلك الدمار الذي خلفته الحروب الصليبية وحروب الأديان.

والحقيقة أن الاهتمام لم ينصب على تبني قواعد تحمي الممتلكات الثقافية في حالة الحرب إلا في حقبة حديثة العهد نسبياً ، ففي البداية تم ذلك من خلال المبدأ الأساسي القائل بالتمييز بين الأهداف العسكرية والممتلكات المدنية. ويرجع الفضل في ذلك إلى جان جاك روسو الذي كان له السبق في طرح مبدأ هذا التمييز بوضوح، حيث قال: إن الحرب ليست علاقة بين شخص وآخر وإنما بين دولة وأخرى، يكون فيها الأفراد أعداءً بالصدفة، ليس كأشخاص أو مواطنين وإنما كجنود، ليس كأفراد الوطن وإنما كمدافعين عنه ) ومن هنا لد من التمييز بين الأهداف العسكرية والممتلكات المدنية يشمل جميع قوانين الحرب وأعرافها، لا سيما القواعد المتعلقة بسير العمليات العدائية .

وكان ” إيمير دي فاتيل “ هو من طرح في القرن الثامن عشر أول مبدأ لاحترام المقدسات والقبور والأبنية الثقافية الأخرى. وبالفعل جاء في معاهدته الكبرى بعنوان قانون الشعوب أو مبادئ القانون الطبيعي المنطبقة على الحكم وشؤون الدول والملوك (.. مهما كان السبب في تخريب بلد ما يجب عدم الاعتداء على معالم العمارة التي هي شرف الإنسانية والتي لا تسهم قط في جعل العدو أكثر قوة : المعابد والقبور والمباني العمومية وجميع الأعمال التي تحظى بالاحترام بجمالها.

فماذا نجني من تدميرها ؟ إذ يغدو عدواً للبشرية ذلك الشخص الذي يحرمها بطيبة خاطر من هذه الآثار الفنية وهذه النماذج من الذوق) وفي نهاية الحروب النابليونية، طالب الحلفاء بإعادة عدد لا يحصى من الأعمال الفنية التي نهبتها جيوش نابليون أثناء غزوها لمختلف البلدان، وبذلك أُقر مبدأ حصانة الأعمال الفنية من المصادرة والنهب ، وتنص المادة 17 من إعلان بروكسل في 27آب 1874 على أنه (في حالة قصف مدينة أو مكان محصن أو قرية يجري الدفاع عنها يجب اتخاذ جميع التدابير اللازمة لعدم الاعتداء قدر الإمكان على الأماكن المخصصة للعبادة والفنون والعلوم ) وهكذا تم عقد اتفاقيتي لاهاي لعام 1899 و1907 التي تحرمان تدمير ملكية العدو أو حجزها، ما عدا في الحالات التي تدعو ضرورات الحرب إلى ذلك ، اذ نصت المادة 28 من اتفاقية لاهاي على انه (يحظر نهب مدينة أو بلدة حتى وإن كانت محط هجوم ) .

كما طرحت اتفاقية لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية في 18 تشرين الأول 1907 مبدأ حصانة الممتلكات الثقافية، حتى في حالة الحصار أو القصف ، وتنص المادة 27 على انه (في حالات الحصار أو القصف يجب اتخاذ كل التدابير اللازمة لتفادي الهجوم، قدر المستطاع، على المباني المخصصة للعبادة والفنون والعلوم والأعمال الخيرية، والآثار التاريخية والمستشفيات والمواقع التي يتم فيها جمع المرضى والجرحى، شريطة ألا تستخدم في الظروف السائدة آنذاك لأغراض عسكرية).

وقد تم التأكيد على هذه القواعد وتطويرها مجدداً بسن قواعد الحرب الجوية في 19شباط عام 1923التي حددتها لجنة من القانونيين مكلفة ببحث مسألة تنقيح قوانين الحرب ووضع تقرير عن ذلك، أثناء اجتماعها في لاهاي في الفترة من كانون الأول 1922 شباط 1923، وتم التأكيد مجدداً على القواعد التي تنظم سير العمليات الحربية وحماية الأشخاص والممتلكات المدنية من آثار هذه العمليات وطورت خاصة باعتماد البروتوكولين الإضافيين إلى اتفاقيات جنيف في 8 حزيران عام 1977.

المواد 35-67 من البروتوكول الأول، والمواد 13-17 من البروتوكول الثاني وهذه القواعد ماهي الا قواعد عرفية تنطبق بهذه الصفة على جميع المتحاربين سواء كانوا ملتزمين بهذا البروتوكول أم لا. ومن المسلم به أيضاً أن هذه القواعد تسري على جميع النزاعات المسلحة سواء الدولية ام غير الدولية. والممتلكات الثقافية بصفتها ممتلكات مدنية هي محمية بموجب جميع هذه الأحكام بوضوح ويحظر استخدامها لأغراض عسكرية كما يحظر مهاجمتها عن قصد. وينبغي توخي الحيطة أثناء الهجوم والدفاع لتفادي تعريضها للخطر. وأخيراً يحظر نهبها.

غير أن هذه الحماية العامة التي تسري على جميع الممتلكات المدنية لا تكفي اليوم لضمان حماية الممتلكات الثقافية التي هي جزء من تراث البشرية. وبحكم طبيعتها الخاصة وما تمثله بالنسبة للإنسانية فقد تقرر منحها حماية خاصة .

إلا أن هذه الأحكام لم تمنع للأسف الكثير من أعمال التدمير التي تعرضت لها الممتلكات الثقافية أثناء الحرب العالمية الأولى و على نطاق أوسع بكثير في الحرب العالمية الثانية.

ولذلك رأت الدول أنه من الضروري اعتماد اتفاقية خاصة لحماية الممتلكات الثقافية. ومن هنا جاءت نشأة اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حال النزاع المسلح في 14 أيار 1954 .

أخيرا وحيث أن جميع الدول ليست ملتزمة بهذه الاتفاقية فقد أدرج المؤتمر الدبلوماسي حول إعادة تأكيد وتطوير القانون الدولي الإنساني الذي يطبق على النزاعات المسلحة الذي عقد في جنيف من عام 1974 إلى عام 1977، في البروتوكولين الإضافيين مادة تتعلق بحماية الممتلكات الثقافية وهي المادة 53 من البروتوكول الأول ، والتي تنص على انه ( تحظر الأعمال التالية، وذلك من دون الإخلال بأحكام اتفاقية لاهاي المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح المبرمة في 14ايار 1954 وأحكام المواثيق الدولية الأخرى الخاصة بالموضوع: ارتكاب أي من الأعمال العدائية الموجهة ضد الآثار التاريخية أو الأعمال الفنية أو أماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب ، استخدام مثل هذه الممتلكات في دعم المجهود الحربي، اتخاذ مثل هذه الممتلكات محلا للهجمات الانتقامية ) .

كما أن المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة تنص على حظر النهب. وينطبق هذا الحكم على جميع الممتلكات المدنية، بما فيها الممتلكات الثقافية. وبالمثل فان المادة 16 من البروتوكول الثاني أيضاً على حظر ارتكاب أي عمل عدائي موجه ضد الممتلكات الثقافية واستخدامها لدعم المجهود الحربي.

و من المسلم به عموماً أن هذه الأحكام تعكس القانون العرفي وأنها واجبة بهذه الصفة على جميع المتحاربين سواء كانوا ملتزمين بالبروتوكولين الإضافيين أم لا.