الجرائم الواقعة على أمن الدولة

الاستاذ سامي البلطي

توجد للدولة كشخصية قانونية مصالح وحقوق عامة تعمد إلى حمايتها عن طريق تجريم الأفعال التي تضر بها أو تعرضها للخطر، ووضع الجزاء الرادع لها.

والمصالح والحقوق التي ترغب الدولة في حمايتها على صعيد أمنها هي تلك المتعلقة بكيانها في وجهيه الخارجي والداخلي، ففي حين أن الفئة الأولى من هذه المصالح والحقوق تتعلق بسيادة الدولة على الصعيد الخارجي واستقلالها وسلامتها وهيبتها في المحيط الدولي، فان الفئة الثانية منها تتعلق بنظام الحكم الداخلي ومؤسساته وأمن الشعب ووحدته [1] .

ولقد عرفت البشرية هذه الفئة من الجرائم الماسة بالدولة تحت تسميات عديدة منذ أن وجدت الدولة كفكرة إجتماعية.فهذه الجرائم قديمة قدم السلطان والسلطة، فقد عرفت البشرية الجرائم الماسة بأمن الدولة منذ مراحلها الأولى، عندما شعرت المجموعات البشرية بضرورة الدفاع عن وجودها من خطر بعض الأفراد ممن لهم نوازع ترمي إلى تفكيك الكيان الإجتماعي فكانت في هذه المرحلة المسماة بمرحلة البربرية (la phase barbare) تسود المعتقدات الدينية الخرافية (fétichiste ) فكان الإعتداء على أمن القبيلة أو مقدساتها الدينية، يكوّن جريمة بالغة الخطورة يعاقب عليها بالنفي أو الإعدام [2].

ففي العراق القديمة تعددت الأفعال الإجرامية التي ترتكب ضد الدولة فقد وضع قانون حامورابي عقوبة الموت لمن يقوم بإيواء المعادين للدولة ويساعدهم، كما كان عقاب الخيانة في أثينا الإعدام مع تجريد مرتكبها من أمواله ومصادرتها ووصم أفراد أسرته بالعار وكانت الشبهة وحدها تكفي لإنزال أشد العقاب بالمشتبه به[3].

وقد كان هذا العقاب في روما في البداية الحرمان من الماء والنار ثم أصبح حرق الجاني بالنار أو رميه بين الحيوانات المفترسة فضلا عن مصادرة أمواله وحرمانه من أهلية تلقي الميراث أو قبول وصية أو هبة حتى إنّه إذا مات الجاني أثناء محاكمته فلا تتوقف الدعوى وإنما تحاكم ذكرى جريمته[4]، كل هذه العقوبات الرهيبة تسلط على كل من يمس بصفة مباشرة أو غير مباشرة بشخص الحاكم لذلك أطلق على هذه المرحلة مرحلة الحكم الاستبدادي[5].

وقد كان للرومان الاه اسمه “جانوس” Janus يمثل الحرب ذو وجهين وجه ينظر إلى حدود الدولة متحديا العدو الخارجي “l’hostis” ووجه ينظر إلى الداخل متحديا العدو المواطن “perduellis ” مما يعني أن الرومان كانوا يخشون أعداء الخارج خشيتهم أعداء الداخل [6].

كما إبتكر الرومان محكمة خاصة لمحاكمة العدو الخارجي أسموها “dooviri perduellioniss”[7] ولقد كانت كلمة ” perduellio” تشمل قائمة من الجرائم الخطيرة كالتآمر على سلامة الدولة وإثارة العدو ضد الوطن وإهانة الشعب الروماني وغير ذلك، وقبل نهاية الجمهورية الرومانية أخذت فكرة “perdiellio” بالإنحصار لتفسح المجال أمام فكرة الجريمة ضدّ صاحب الجلالة أو جريمة المساس بالعظمة “crimes majistratis” حيث ورد النص عليها في قانون الألواح الإثنتي عشر [8]

وهكذا حل مفهوم “عظمة السلطان” محل مفهوم “عظمة الشعب” وإقترن بها إقترانا قويا فلم يعد هذا السلاح الخطير يتيح للإمبراطور أن يعاقب على كل ما يمس أمن الدولة الداخلي أو الخارجي فحسب وإنما أتاح له أيضا أن يقضي على كل ما يهدد من قريب أو من بعيد مركزه الشخصي ومجده الخاص[9].

أما في الشريعة الإسلامية والتي تعد من أول الشرائع التي واجهت جرائم أمن الدولة حفاظا على كيان الدولة الإسلامية سواء من جهة الداخل أو الخارج.

فقد جرّمت الحرابة وهي قطع الطريق أو هي السرقة الكبرى[10] لما فيها من خروج على سلطان الحاكم وترويع الناس والإعتداء على أموالهم ولذلك توصف الحرابة بالبشاعة سواء من حيث أغراضها الخبيثة أو من حيث مضاعفاتها الخطيرة فقد جعل الإسلام الحرابة من الكبائر وشرّع لها أشدّ العقاب من قتل أو صلب أو تقطيع الأرجل والأيدي من خلاف أو نفي في الأرض فقد قال تعالى:” إنَّمَا جَزَاءُ الذِينَ يُحَاِربُونَ الله وَرَسُولَََََََهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقََتَّلُوا أَو يُصَلَّبُوا أَو تُقَطَّعَ أَيدِيهِم َوأَرجُلُهُم مِن خِلاَفٍ أو يُنفُوا مِنَ الأَرضِ ذَلِكَ لَهُم خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُم فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم “[11]

كذلك جرّم التشريع الإسلامي البغي وهو الخروج عن طاعة إمام الحقّ بغير حق[12] في قوله تعالى ” وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ إقتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله “[13].

كما نجد التشريع الإسلامي يوجّه نظره إلى الإعتداء الواقع من جهة الخارج فيجرّم التجسس حيث يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِ إِثْمٌ َولَا تَجَسَّسُوا [14].

ومن هذا التجسّس المنهي عنه العمل ضدّ الدولة ومصالحها لحساب العدو، ويأتي ذلك بصور متعددة تخدم أعداء الدولة الإسلامية، لأن الأثر المترتّب على هذا العمل يعرّض الأمة الإسلامية لمخاطر عديدة أما التجسس في صالح الدولة فهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جابر “من يأتيني بخبر القوم يوم الأحزاب ؟ فقال الزبير أنا” [15].

وقد اختلف الفقهاء في عقوبة التجسّس فمنهم من رأى قتل الجاسوس تعزيرا وهو الراجح ومنهم من رأى عدم جواز ذلك.

كذلك اعتنت الثورة الفرنسية بجرائم أمن الدولة حيث جعلت مبادئ الثورة من الدولة شخصية معنوية مستقلة عن أشخاص الحاكمين حيث يتبدلون وتبقى الدولة أبدا وغدا المقصود بالحماية في النصوص الجزائية التي تعاقب على جرائم الإعتداء على الدولة وهكذا حل مفهوم الجرائم الماسة بأمن الدولة محل جرائم “المساس بالعظمة” كما برز التطور في إلغاء تلك المسحة القدسية التي أرستها عهود الملكية المطلقة ولم يعد لشكل الحكم قيمة مطلقة بل أصبحت أهميته نسبية ظرفية [16] .

وفي عام 1789 وضعت القوانين الفرنسية حدّا فاصلا بين الجرائم الموجّهة إلى سلامة الدولة الخارجية وبين الجرائم التي لا هدف لها إلاّ سلامة الدولة الداخلية أو بين الجرائم الموجهة ضد الحكومة ” les crimes de lèse gouvernement” والجرائم الموجهة ضدّ الأمّة ” les crimes de lèse nation” فالأولى لا تمس سوى أجهزة الدولة أي شكل حكومتها والمؤسسات التي خلقتها للقيام بأعباء السلطة أما الثانية فهي التي تهدد الدولة نفسها مباشرة في وجودها وفي كيانها وفي بقائها[17]

ولقد بقي هذا التقسيم معمولا به منذ ذلك الحين في العديد من التشريعات حتى الآن ومن جملة هذه التشريعات التي أخذت به التشريع الجزائي التونسي حيث قسّم المشرع ضمن المجلة الجزائية الجزء الأول من الكتاب الثاني المتعلق بالإعتداءات على النظام العام إلى قسمين خصّص الباب الأول للحديث عن الإعتداءات على أمن الدولة الخارجي أما الباب الثاني منه فقد تعرض فيه إلى الإعتداءات على أمن الدولة الداخلي والفارق الأساسي بين هذين الصنفين خلاصته أن الجرائم المضرة بأمن الدولة الخارجي تقع على الدولة في حقوقها التي تمثل وجودها وكيانها كوحدة دولية مثل حقها في السيادة والأمن، أمّا جرائم الإخلال بالأمن الداخلي فإنّها تقع على الدولة في نظامها السياسي الداخلي وإن كانت تبدو لأول نظرة موجّهة إلى “الحكام” أنفسهم أو نظامهم السياسي أو الإجتماعي بقصد تغليب أشخاص آخرين أو قلب نظام الحكم[18].

لكن رغم محافظة التشريع الجزائي التونسي على التمييز بين ما يمس أمن الدولة الداخلي وما يهدّد أو ينال من أمنها الخارجي فإن هذا التمييز يكاد يكون الآن ضعيفا إلى حدّ ما ذلك أنّه لم يعد يمكن الفصل في العصر الحاضر بين ما يؤذي سلامة الدولة من الخارج وما يخل بسلامتها من الداخل وإنما أصبحت كل فصيلة من هاتين الفصيلتين مرتبطة إحداهما بالأخرى ارتباطا وثيقا لتشابك المصالح الدولية وتعقدها هذا بالإضافة إلى أن العدو إن لم يهدد الدّولة من الداخل فإنّه سيهدّدها من الخارج وهو في جميع الظروف يحاول أن يحقق أقصى درجة ممكنة من التضافر بين هذين النوعين من التهديدات وصولا إلى زعزعة الإستقلال وإضعاف الإطمئنان [19].

فالدولة المعتدية لم تعد تباشر عدوانها بعدوان مسلّح ولكنّها تعد لذلك إعدادا طويلا كالحصول على أسرار الدولة الأخرى العسكرية والاقتصادية وتبعا لذلك تنتهي الأعمال الموجّهة ضدّ أمن الدولة الداخلي إلى ضرب سلامتها الخارجية[20].

إنّ هذا التطور الجديد في الوسائل والأساليب التخريبية دفع بعض الدول إلى التفكير في إعادة النظر في تشريعاتها الجنائية ، حيث تشترك قوانين الدول الاشتراكية في كونها لا تفرق بين ما يمس بأمن الدولة الخارجي وما هو موجه إلى أمنها الداخلي وذلك على أساس إنها موجهة بأكملها إلى شخص الدولة كذلك فعل المشرع الجزائري[21] الذي وحّد بين جرائم الإعتداء على أمن الدولة الداخلي والخارجي وأطلق عليها تسمية موحدة “الجنايات والجنح ضد أمن الدولة”.

أمّا المشرع الفرنسي فقد ألغى هو الأخر هذا التمييز بين الإعتداءات على أمن الدولة الداخلي والإعتداءات على أمن الدولة الخارجي منذ صدور القانون المؤرخ في 4 جوان 1960 وأطلق عليها تسمية عامة وهي “الإعتداءات ضد أمن الدولة” وبصدور المجلّة الجنائيّة الفرنسية الجديدة سنة 1992 ألغيت عبارة أمن الدولة بصفة نهائية من عداد المصطلحات القانونية الواردة بالمجلة وعوضت بعبارة أخرى أكثر شمولية تستجيب لتطور العصر وهي “المصالح الأساسية للأمّة”[22].

وممّا لا ريب فيه أنه أيّا كانت التسمية فإن الجرائم الواقعة على أمن الدولة تشكل فصيلة خاصة مستقلة عن غيرها من فصائل الجرائم الأخرى لما تحمله من خطورة بالغة على الدولة لذلك حرص المشرع على الخروج بها في بعض أحكامها عن القواعد العامة للتجريم راسما لها بذلك خصوصية سواء في مستوى التجريم أو العقاب.

وإن لدراسة جرائم الإعتداء على أمن الدولة أهمية نظرية وأخرى عملية تتمثل الأولى في أنّه نظرا للتقدّم العلمي الذي جعل العالم أشبه بقرية فإن مصالح الدول أصبحت قاصرة عن ملاحقة هذا التطور لسهولة وسرعة الإتصالات والإنتقالات وسهولة الحصول على المعلومات اللازمة عن أي دولة بوسائل تكنولوجية متعددة كالأقمار الصناعية والإنترنات وبالتالي كان لا بد أن يستجيب التشريع الجزائي لهذا التطور بوضعه من النصوص ما يتلاءم والتصدي للمخاطر التي تحدثها أفعال المعتدين وذلك عبر تناوله بالتجريم والعقاب جميع أنواع الإعتداء وأشكاله إلا أن جريمة الإعتداء على أمن الدولة لا زالت إلى اليوم تبحث لها عن مفهوم حتى تحدد طبيعتها القانونية.

أمّا عن الأهميّة العملية فإنّها تكمن في كون الإعتداء على أمن الدولة من أهمّ الظواهر التي تشهد تطورا وتجددا مطرّدا هذا الإعتداء الذي تجاوز مرحلة الهمجية والعقلية الإستعمارية المباشرة ليتحول اليوم إلى نوع من أساليب السيطرة المقننة على الشعوب تحت تسميات متعددة ورايات مختلفة ليختفي لفظ الإعتداء ويظهر ألفاظ مثل نشر الحرية ، نشر الديمقراطية، فالدول اليوم تبحث عن أمنها إعتمادا على نظرية الخطر بعيد المدى ولعل الخطر الذي تحاول الدول الكبرى أن تحمي نفسها منه يمثل بدوره خطرا بالنسبة للدول الصغرى إذ وقع اتهامها بأنها تمثل تهديدا لمصالح الدول الكبرى وهنا تبرز العقلية الإستعمارية الجديدة الأكثر تطورا والأكثر شدّة لذلك فإن التطرق لمختلف التطورات التي تشهدها الإعتداءات على أمن الدولة سواء على مستوى الأساليب أو النطاق من شأنه أن يؤكد على ضرورة مسايرة هذه التغيرات من أجل توفير حماية أنجع لأمن الدولة.

وممّا لاشك فيه أنّه لكلّ دولة الحق في الدّفاع عن وجودها وإستقلالها وسيادتها من خلال القوانين التي تسنها لحماية أمنها الداخلي والخارجي.

كل ذلك في نطاق احترامها للقواعد العامة للتجريم والمؤاخذة أي دون إخلال بالمبادئ القانونية أو خرق لحقوق الأفراد وحرياتهم وللضمانات التي منحهم إياها دستور الدولة.

لكن في بعض الأحيان يمكن للمشرع نظرا للخطورة البالغة لبعض الجرائم أن يخرج بها عن القواعد العامة للتجريم والعقاب ليدخلها في زمرة الجرائم التي تتطلب بعض الخصوصية حتى تتم الحماية الكافية والناجعة، سواء باعتماد التجريم المفتوح الذي فيه إهدار واضح لمبدأ الشرعية لما يحتويه من عدم التقيد بالتعاريف وعدم الإلتزام بالدقة في صياغة النصوص الجزائية التي يمكن من خلالها تبيّن معالم وحدود الجريمة وما يطرحه ذلك من توسيع في مجال التجريم حيث يستعمل المشرع عبارات فضفاضة ومتموجة يمكنها أن تستوعب كمّا هائلا من الأفعال الإجرامية التي يمكن أن تصل حدّ تجريم المرحلة النفسية.

أو عن طريق إخضاعها لإجراءات خاصّة تشدّد الخناق على الجناة وتحقّق الحماية المطلوبة سواء على مستوى الإختصاص من خلال شموله للجرائم المرتكبة بالخارج أو على مستوى إخضاعها لمحاكم استثنائية تضبط أصولها وإجراءاتها بقوانين خاصّة تنتهك مبدأ المساواة الذي يقضي بأن يكون القاضي الذي يتقاضى أمامه الجميع واحدا وأن تكون إجراءات التقاضي التي يسير عليها المتقاضون واحدة فلا يحدّ أمام المحكمة من الضمانات المشروعة الممنوحة أمام محكمة أخرى.

كذلك من خلال غض الطرف عن التجاوزات التي يمكن أن تحدث في مرحلة التتبع وما فيها من إهدار للضمانات المكفولة قانونا للمتهمين والقائمة على مبدأ الشرعية والنزاهة في البحث عن الأدلة وحتى على مستوى العقوبات المقررة التي يستعملها المشرع كأسلوب للترهيب لما تميّزت به من شدّة أو للترغيب لما يطرحه من إمكانية الإعفاء منها في حالة التبليغ من قبل الجاني.

كلّ هذه الأساليب يمكن للمشرّع أن يستعملها أو يسمح باستعمالها لفرض سيطرته وحمايته على المصلحة التي تشكّل عنده أهميّة خاصّة.

فما هي خصائص التوجه الذي اتخذه المشرع في تجريم الإعتداء الواقع على أمن الدولة ؟ وبما تميزت وسائل التصدي لهاته الجريمة ؟

إنّ الإجابة عن هذه الإشكالية تحتم علينا الوقوف أولا على القواعد المتبعة في تجريم الإعتداءات الواقعة على أمن الدولة لنصل إلى القواعد المتخذة لزجر هذه الجرائم لذا سنتناول في الجزء الأول من هذه المذكرة خصائص تجريم الإعتداء على أمن الدولة ونتعرض في جزئها الثاني إلى خصائص زجرها حتى نتبين معالم الخصوصية التي ميز بها المشرع هذه الجريمة.

الجزء الأول: خصوصية تجريم الإعتداء على أمن الدولة

لا شكّ أن مصالح الدولة الأساسية هي محط أنظار المشرع وهدفه ولأن حماية هذه المصالح تهدف إلى تحقيق التقدّم والرّقي من ناحية وتأمين هذه المصالح من ناحية أخرى يسعى المشرع إلى حمايتها من مصادر الإعتداء المختلفة سواء كانت داخلية أو خارجية عن طريق تجريم هذه الإعتداءات ليخرج بها في كثير من أحكامه عن القواعد العامة للتجريم، سواء فيما يتعلق بماهية الجريمة (الفصل الأوّل) التي تميّزت بعدم الوضوح لصعوبة تحديد مفهومها وغموض طبيعتها القانونية أو حتّى فيما يتعلق بمضمونها (الفصل الثاني) المتميّز بالإتساع في مستوى مجال التجريم نظرا للتوسع الذي إعتمده المشرع في صياغة النصوص الجزائية المجرمة لها ليحيد بذلك بها عن الطريق التقليدية المألوفة والمتبعة في أنواع الجرائم الأخرى.

الفصل الأول: ماهية جرائم الإعتداء على أمن الدولة

تعتبر الجرائم الواقعة على أمن الدولة بلا ريب من أعظم الجرائم خطورة نظرا لمساسها بإستقلال الدولة وسيادتها وهو ما يفسّر الإهتمام المتزايد بها خصوصا وأن مفهومها يكتنفه بعض الغموض رغم محاولة التدقيق من قبل المشرع بخصوص ضبط معالمها من حيث نظامها القانوني ومستلزماته على غرار ما دأبت عليه التشاريع عند سنها لقواعد مختلف الجرائم المتعلقة بالأموال والأشخاص وضبطها لخصائصها، وهو ما يقتضي الخوض في مسألة صعوبة تحديد المفهوم (مبحث 1) والغوص في مسألة الطبيعة القانونية لهذه الجريمة لما يثيره من إختلاف وجدل فقهي (مبحث 2).

مبحث 1: صعوبة تحديد مفهوم الإعتداء على أمن الدولة

إن الحاجة لمعرفة كنه جريمة الإعتداء على أمن الدولة ومعناها الدّقيق تعدّ من المسائل الأولية التي تقتضيها الطبيعة المعقدة والدّقيقة لهذه الجريمة، وكما هو معلوم لمعرفة حقيقة أمر ما يلزم الوقوف على حدوده من خلال تعريفه، ولئن لم تكتسي – قديما – مسألة تعريف جريمة أمن الدّولة أهمية خاصّة فإن التطورات التي مرّت بها هذه الجريمة ومدى خطورتها وإحتراما لمبدأ الشرعية وتجنبا للتعسف في إصدار الأحكام كلّها عوامل أكّدت على ضرورة البحث عن تعريف واضح وشامل لهذه الجريمة (فقرة 1) بالإضافة إلى مزيد التعمّق في مسألة التمييز بينها وبين المفاهيم المشابهة لها (فقرة 2).

فقرة 1: غياب تعريف دقيق

إن البحث عن تعريف دقيق لجرائم الإعتداء على أمن الدولة شكّل أحد الصعوبات التي إعترضت كل متناول لهذه الجريمة لذلك إختلفت المواقف على الصعيد الفقهي (II) أو التشريعي (I)

I.غياب التعريف التشريعي

على غرار التشريع الإنقليزي والإيطالي والفرنسي والمصري لم يضع المشرع التونسي تعريفا جامعا مانعا لجرائم الإعتداء على أمن الدولة نظرا لسرعة تطور هذه الجريمة، ممّا يجعل دائرة التجريم تضيق وتتّسع متأثرة بعديد العوامل المحيطة بها، خاصّة وأن تعريفها ليس بالأمر الهيّن، فالتعريف المنشود هو ذلك الذي يشمل كلّ خطر أو تهديد بالخطر داخليا وخارجيا لأركان الدولة أو مصالحها الأساسية ويحقّق المرونة من ناحية ثانية بأن يشمل ما يستجد من هذه الجرائم[1] ورغم أن المشرع التونسي لم يأتي بمثل هذا التعريف كان من الممكن أن نستخلصه من فصول المجلة المتعلقة بهذه الجرائم، خاصة وأن أسلوب تحديد الأفعال حصرا فيما يسمّى بأسلوب القائمة يمكن أن يعطي صورة واضحة وجلية لهذه الجرائم تتناغم مع مبدأ الشرعية مما لا يترك حاجة للبحث عن تعريف عام للجريمة.

لكن بالعودة لهذه الفصول المحدّدة للأفعال وأركان وعناصر جريمة الإعتداء على أمن الدولة نجد أن الصياغة الفنية تختلف عن نظيرتها من الجرائم الأخرى التي وردت بها التشريعات الجزائية، فلئن كانت الصفة الأساسية التي تتحلى بها نصوص التشريع الجزائي هي دقّة التعبير ووضوح الألفاظ حرصا على سلامة تطبيق مبدأ الشرعية فإن هذا ليس بنفس الدقّة والوضوح في النصوص التي تجرّم الإعتداء على أمن الدولة لذلك نجدها تتسم بمرونة تجعلها تستوعب عديد الأفعال التي يسهل حشرها في ظرفيات معينة والزّج بها في زمرة هذه الجرائم، وأمام هذه الوضعية لا يمكن أن نستخلص تعريفا دقيقا لجرائم الإعتداء على أمن الدولة.

ولعلّ المشرع يبدو معذورا في ذلك فدائرة الخطر التي تحيط بالدولة أكبر من دائرة التجريم ولا يمكن لأي تعريف أن يكون جامعا مانعا، وأمام هذا الغياب للتعريف التشريعي إختلف الفقه في تحديد التعريف.

II. الإختلاف الفقهي في التعريف
إختلف الفقه في إيجاد التعريف المنشود فمنهم من خضع لإزدواجية مفهوم جرائم الإعتداء على أمن الدولة فكان تعريفه مقسما إلى جرائم الإعتداء على أمن الدولة داخليا وخارجيا ومنهم من قدم تعريفا شاملا موحدا.

أمّا المعتمد على الإزدواجية في المفهوم فقد ركّز في تعريفه على معايير التمييز بين فرعي هذه الجرائم، من ذلك أن الدكتور فتحي سرور[2] والدكتور محمد فاضل[3] والدكتور عبد المهيمن بكر[4] وغيرهم[5] قد أشاروا إلى أن جرائم الإعتداء على أمن الدولة من جهة الداخل هي تلك التي تنطوي على الإعتداء على النظام الداخلي للدولة والمساس بالأمن والإستقرار الذي يتمتع به الناس بقصد الإطاحة بالسلطة القائمة وإستبدالها وإستبدال النظام السياسي والإجتماعي بنظام آخر، أما جرائم أمن الدولة الخارجي فهي الأفعال التي تقع على الدولة في علاقتها بالدّول الأخرى، ويراد بها الإعتداء على استقلالها وزعزعة كيانها وإعانة عدوها على غزو البلاد.

وهنا نلاحظ التركيز الواضح على محلّ الجريمة كمعيار تعريف وتمييز بين فرعي الجريمة ولعلّ هذا ما جعل Garraud[6] يذهب إلى أنّ جرائم الإخلال بالأمن الداخلي تقع على الحكومة (crimes de lèse-gouvernement) في حين ان جرائم الإعتداء على الأمن الخارجي تقع على الدولة أو الأمّة بأسرها (crimes de lèse nation).

لكن الواقع يشير إلى أن كلا النوعين يقع على الدولة ذاتها وبالأدقّ على مصالحها وحقوقها، أحدهما على مصلحتها في صيانة إستقلالها وسيادتها وفي المحافظة على مكانتها وإحترامها بين الدّول والثاني على مصلحتها في حماية قانونها “الأساسي” وتنظيماته الحاكمة أو في تنفيذ قوانينها “العادية” ومن الطبيعي أن يكون الجرم من النوع الأول أشدّ جسامة لأن ضرره المادي أو خطره أبلغ أثرا[7].

ومما تجدر ملاحظته أن إختلاف هذين النوعين من الجرائم من حيث الحق المعتدى عليه ومن حيث درجة الجسامة لا يعني فقدان الصلة بينهما إذ الحقيقة أن بينهما رابطة قويّة وتأثير متبادل فصاحب الحق المعتدى عليه هو الدولة في الحالتين هذا إضافة إلى التفاعل بين الجريمتين[8]

لذلك نجد A.vitu يطرح تعريفا موحّدا لهما فيعرّفها بكونها تلك المخالفات التّي تهدف أو تؤثّر إلى وضع الدولة موضع الخطر والتهديد في وجودها أو إحداث البلبلة والإضطراب بالنظام القائم بالقوّة[9] ويضيف A. Vitu بأن هذا التعريف يغض النظر عن الأسباب التي دعت الجناة إلى إرتكاب هذه الأفعال إذ قد تكون هذه الأسباب نبيلة وغير منازع في نبلها ويذكر أن هذا التعريف لا يراعي مثل هذه الإعتبارات قصدا لأن ذلك يتماشى مع غاية المشرع ومقصده الواضح في ردع كل من تخامره نفسه القيام بمثل هاته الأفعال كما يستجيب للسرعة المرجوّة التي يستوجبها ذلك الخطر والتهديد الذي أحدثه الفعل فضلا على تأثيره غير المباشر على النظام العام للدولة.

وكأن A.vitu شعر بالإنتقادات الموجّهة لهذا التعريف وأدرك الصعوبات التي تحف به حيث تكون حتما متماشية مع مقصد المشرع في التجريم والتي تظهر بوضوح في هذا النوع من الجرائم لذلك نساير A.vitu في تحليله ونرى أن هذه الصعوبة والتشديد المتوخاة عرفت ولا تزال عبر الأزمان وهي تتجلّى بوضوح في عصرنا الحاضر.

فقرة 2: تداخل مفهوم الإعتداء على أمن الدولة والمفاهيم المشابهة

إن عدم إعتناء المشرع بتحديد مفهوم جريمة الإعتداء على أمن الدولة يجعل منه أكثر شمولا وإتساعا في مستوى مجالها لتطال جرائم أخرى تعاني المشكلة ذاتها منها جريمة الخيانة العظمى (I) والجريمة الإرهابية (II) لذلك وجب البحث في هذه الجرائم حتى يتمّ تمييز جريمة الإعتداء على أمن الدولة.

I. جرائم الإعتداء على أمن الدولة والخيانة العظمى:
لئن كان الإعتماد على صفة الشخص معيارا يمكن الإعتماد عليه في تمييز الخيانة العظمى عن جرائم الإعتداء على أمن الدولة ذلك أنه لا يمكن الحديث عن الخيانة العظمى إلا متى كان مرتكبها عضوا من أعضاء الحكومة.

إلاّ أن الأمر ليس بهذه البساطة ذلك أنه بمجرد إلقاء نظرة عابرة في تشريعنا التونسي على القانون عدد 10 لسنة 1970 المؤرخ في 1 أفريل 1970 المنظم للمحكمة العليا، هناك عدّة تساؤلات تطرح نفسها، أهمّها تتعلّق بالذي تنطبق عليه صفة عضو الحكومة، بعبارة أخرى هل تمتدّ هذه الصفة إلى الولاّت ورؤساء الدواوين الوزارية وكتّاب الدولة ورؤساء الإدارات المركزية…؟ كما تتعلّق بمسألة الغاية من إكساء وصف الخيانة العظمى على الإعتداء على أمن الدولة بإعتبارها حالة من الحالات الأربعة[10] التي تمثل عند إرتكابها من طرف عضو الحكومة جريمة خيانة عظمى؟

في حقيقة الأمر وكما جرت العادة تصطدم بغياب الحلول التشريعية للإجابة على هذه الأسئلة لذلك سنحاول الإستنجاد بفقه قضاء المحكمة العليا لمحاولة الإجابة.

وبالعودة إلى ما أصدرته هذه المحكمة نجد أنه لم تتسم أعمالها بالكثرة ذلك أنها لم تتشكل منذ ذلك التاريخ إلى حدّ اليوم أكثر من مرتين إثنتين[11] وحتى هاتين المرّتين لم تكونا كافيتين لإشفاء الغليل في الإجابة عن هذه الأسئلة.

فكما يبدو من خلال المداولات والأحكام التي أصدرتها المحكمة العليا في قضية “أحمد بن صالح” وفي قضية “إدريس قيقة” أن هذين الوزيرين قد حوكما بوصفهما فاعلين أصليّين بينما حوكم معأونوهم من ولاة ورؤساء دواوين ومديري إدارة مركزية بوصفهم شركاء رغم عدم ذكر المشاركة في هذا القانون إلا في الجزء الإجرائي المتعلق بالتتبع والتحقيق[12]،

وتكون بذلك المحكمة قد وجدت مخرجا قانونيا سليما يجنبها البت في التساؤل المطروح صراحة بما أن الشريك يعاقب بنفس ما يعاقب به الفاعل الأصلي وفق القواعد العامة المقرّرة بالقانون الجزائي وهو ما أوردته المحكمة في محاكمة إدريس قيقة بقولها “إنّ الجميع (فاعلون أصليون وشركاء) خاضعون لنفس المصير” وبذلك لم يعطنا فقه القضاء الصادر عن هذه المحكمة الإجابة الشافية بل زادها تعقيدا بالتوسّع في معنى المشاركة[13] في الخيانة العظمى.

أمّا عن التساؤل الثاني فإذا تصورنا أن أحد أعضاء الحكومة قد إعتدى على أمن الدولة على المعنى المقرر بفصول المجلّة الجزائيّة فلماذا توصف أعماله بالخيانة العظمى؟ نقول أنه ربما يكون الغرض من ذلك لدى المشرّع التشديد في وصف الفعلة بالنظر إلى صفة مرتكبها لكن ما الغاية من هذا التشديد إذا علمنا أن العقوبة هي نفسها فماذا يضيف وصف الخيانة العظمى للأفعال الواردة بالمجلة الجزائية؟

وهو ما يجعلنا نضع إقحام جرائم الإعتداء على أمن الدولة صلب جريمة الخيانة العظمى إن لم نقل الخلط بين المفهومين موضع شك وتساؤل.

وإنطلاقا مما تقدم وبإعتبار أن المعيار المعتمد ثابت في تشريعنا، لا يسعنا إلا تطبيقه للتمييز بين جريمة الإعتداء على أمن الدولة والخيانة العظمى لكن مع الإشارة إلى ضرورة الإعتناء بالمصطلحات وتعريفها حتى نتجنب ما يمكن أن يطرح في التطبيق من إشكاليات.

II. جرائم الإعتداء على أمن الدولة والإرهاب:
الإرهاب هو أحد الجرائم الخطيرة الموجهة ضد النظام العام علاوة على أنه ضرب من الحرب المدمّرة غير المعلنة بين الإنسان وأخيه الإنسان وبين الفرد والدولة من شأنه تهديد السلام وتقويض دعائمه.

وينصرف مدلول الإرهاب إلى كافة الأفعال التخريبية التي تقع على المرافق العامة وكذلك القتل الجماعي الذي يقع على الأشخاص.

فالإرهاب يتميّز بما ينطوي عليه من إشاعة للفزع والرّعب في المجتمع بإستخدام وسائل إجرامية متعددة ومتطورة من أبرزها التفجير والتدمير والتخريب للأموال والمرافق العامة والخاصة علاوة على الأفعال الإغتيالية وإحتجاز الرهائن والإعتداء على وسائل المواصلات والإتصالات[14].

وإن من أصعب جوانب دراسة الإرهاب هو محاولة الوصول إلى تعريف محدد له فهناك مشاكل كثيرة ومتنوعة تحول دون التوصّل بمثل هذا التعريف ومن أهم هذه المشاكل أنه ليس لهذا الإصطلاح معنى قانوني محدّد[15] لذلك باتت كلمة إرهاب رغم محأولات تعريفها من قبل التشريعات[16] والمؤتمرات الدولية[17]، بلا معنى واضح ويكاد المرء ألا يفهم ما ترمي إليه بالتحديد خاصّة بعد إرتباطها حديثا بالجانب السياسي[18] فقد أصبحت مظهرا من مظاهر العنف السياسي هذا بالإضافة إلى ارتباطها بعدّة جوانب نظرية كالإديولوجيا الإجتماعية والثورية بل أكثر من ذلك أصبح إستخدام الإرهاب بين الحاكم والمحكوم وبين المجموعة الدولية بديلا لأعمال التعبير عن الإرادة والمواقف.

وغياب المفهوم القانوني الدقيق للجريمة الإرهابية وتحوله إلى صفة يمكن أن تعطى للفعل بعد وقوعه جعل مجال التجريم يتسع أكثر فأكثر ليتداخل مع جرائم الإعتداء على أمن الدولة ومردّ الإهتمام بهذا التداخل في تشريعنا كون المشرع التونسي ما يزال يميّز بين هاتين الجريمتين على أساس مميزات الجريمة الإرهابية لما فيها من إعتماد للعنف والقوة لإشاعة الرعب في المجتمع في حين أن هذه المميزات وبتطور الوسائل المعتمدة في كلتا الجريمتين والتقارب بين الأهداف فقدت فعاليتها لتفقد بذلك الجريمة الإرهابية معالمها المميزة، ونتيجة لذلك قام جانب من الفقه بالبحث عن معايير جديدة للتمييز ومن ذلك محاولة إعتماد معايير الجريمة السياسية لتمييز جريمة الإعتداء على أمن الدولة الداخلي والتي أُتفق على أنها جريمة سياسية عن الجريمة الإرهابية وقد أسفر ذلك على بروز إتجاهين.

* إتجاه أول: ذهب إلى إعتبار الإرهاب من جرائم أمن الدولة الداخلي ويستند إلى أن بعض التشريعات المقارنة أوردت الجرائم الإرهابية بين نصوص تجريم الإعتداء على أمن الدولة الداخلي مثل التشريع الإسباني والإيطالي[19] والفرنسي[20] وهذه الطائفة وفقا للمعايير الموضوعية والشخصية تعدّ من قبيل الجرائم السياسية كما يستند إلى تطور المعنى اللغوي للإرهاب فمفهومه الحديث مرتبط بأعمال العنف التي تستهدف إحداث تغيرات سياسية.

* إتجاه ثاني: ذهب إلى إنكار إلحاق الإرهاب بجرائم الإعتداء على أمن الدولة الداخلي،

ويستند في ذلك على أن المؤتمرات الدولية لقانون العقوبات إستبعدت الصفة السياسية عن جرائم الإرهاب[21]، كما يستند إلى أن الإرهاب ليس إجراما نسبيا كالجريمة السياسية ولكنه فطري عنيف لذلك شدّد المشرع العقاب عليه وميزه عن بقية الجرائم بقواعد خاصة.

وفي هذا الإطار من محأولات التمييز، يمكن أن ننظر فيما إعتمده فقه القضاء في تنأوله للجريمة الإرهابية من معايير تمييز في إطار هذا التداخل الكبير بين الجريمتين والذي نتبينه من جملة الأفعال المعتبرة إرهابية من ذلك القيام بعمليات سطو مسلح على البنوك والمحلات التجارية والقيام بعمليات تخريبية مسلحة بواسطة أحزمة ناسفة والإعتداء على بعض المؤسسات الحيوية للإطاحة بالنظام وإقامة دولة الخلافة، أفلا يمكن أن تكون هذه الأفعال موضوع الفصول 72 – 74 – 76 م ج ؟

في الحقيقة يمكن أن نقول أن فقه القضاء أعطى الصفة الإرهابية لهذه الأفعال نظرا لكونها قد صدرت عن تنظيم له علاقة بالجرائم الإرهابية وكأن فقه القضاء هنا يوجد لنفسه معيارا جديدا أكثر حسما وفعالية في التمييز بين الجريمتين حيث يمكن أن نستنتج من القرارات الصادرة في الجرائم الإرهابية تتعلق بالأساس بمنظمات إرهابية والإنتماء إليها أكثر منه متعلقة بأفعال إرهابية، منها الجماعة السلفية للدعوة والقتال بالجزائر[22] الجبهة الإسلامية[23] وحركة النهضة بتونس[24] وكأن فقه القضاء يقول بأن كل عمل تقوم به هذه المنظمات هو عمل إرهابي دون لزوم الرجوع إلى معيار الرعب والفزع الذي يمكن أن ينتج عن الفعل.

لكن هذا التوجه الذي إتخذه فقه القضاء التونسي وإن كان فعّالا بالنسبة للأفعال الصادرة عن منظمات إرهابية معروفة إلا أنه لا يكون كذلك إذا كانت المنظمة غير معروفة سابقا فكما هو معلوم ليس للإٍٍرهاب اليوم شكل حتى يتم التعرّف عليه وليس له موقع معيّن يمكن مداهمته وليس له وقت محدد بحيث تعد له العدة، علاوة على أنه سريع النمو، فالخطر في الإرهاب في تغيير، ففي العقود الماضية كان يأتي الخطر من جماعات معروفة لديها هدف سامي واضح وكثيرا ما كانت ترعاها دولة من الدول وأما الآن فإن حافز الإرهاب هو أكثر إنتشارا[25].

ومن هذه المنطلقات وبإعتبار أن البحث متواصل عن مدلول للجريمة الإرهابية لما تتميّز به هذه الجريمة من توسّع في مستوى مجالها، وتطور في مستوى أساليبها، وتسارع في مستوى نموّها، ممّا خلق تقارب بينها وبين جرائم الإعتداء على أمن الدولة سواء في مستوى الوسائل والغايات أو حتى موضوع الجريمة وجب على المشرع وتجنبا لهذا التداخل أن يدرج الجريمة الإرهابية ضمن جرائم الإعتداء على أمن الدولة الداخلي كما فعل المشرع المصري والإيطالي والإسباني والفرنسي ويريح الفقه وفقه القضاء من البحث المضني والشاق عن معايير تمييز واضحة لمفاهيم غير واضح.

مبحث 2: غموض الطبيعة القانونية:

إختلفت الآراء حول الطبيعة القانونية لجرائم أمن الدولة فالبعض يرى أنها جرائم سياسية سواء من جهة الداخل أو من جهة الخارج والبعض الآخر ينكر وصف الجريمة السياسية عن جرائم أمن الدولة من جهة الخارج في الوقت الذي يعترف فيه بهذه الصفة لجرائم أمن الدولة من جهة الداخل، وإنطلاقا من هذه الإعتبارات يمكن أن يثار تساؤل حول حقيقة الجريمة السياسية وطبيعتها (فقرة 1) حتى يمكننا أن نحدّد بصفة جلية موقع جريمة أمن الدولة من الجريمة السياسية (فقرة 2)

فقرة 1: الجريمة السياسية والجريمة العادية:

إن فلسفة الجريمة السياسية قد تبلورت في إتجاه التسامح نحو المجرم السياسي لما تعتبر في هذا الإجرام من الخطورة النسبيّة وقد جاءت المدرسة الوضعية لتؤكّد هذا الإتجاه وتفرّق بين الإجرام الصادر عن أنانية وإثارة وبين الإجرام الصادر عن غيرة وإيثار ومن هنا جاء الإختلاف بين الجريمة العادية والجريمة السياسية[26].

I. تعريف الجريمة السياسية:
هناك من التشريعات من حاول تعريف الجريمة السياسية مثل التشريع الإيطالي في قانون العقوبات الصادر في 1930 حيث عرّفها بأنها “كل جرم يتّصل بمصلحة سياسية للدولة أو بحق سياسي من حقوق المواطنين وكذلك الجرائم العادية إذا كانت بدافع سياسي”[27]. كذلك التشريعين السوري واللبناني اللّذان ذهبا إلى تعريف الجريمة السياسية بأنّها “الجريمة المقصودة التي أقدم عليها الفاعل بدافع سياسي وهي كذلك الجريمة الواقعة على الحقوق السياسية العامة والفردية ما لم يكن الفاعل قد انقاد لدافع أناني دنيء”[28].

كما تصدّى المؤتمر الدولي السادس لتوحيد القوانين الجنائية المنعقد في كوبنهاقن سنة 1935 للجريمة السياسية وعرّفها بأنّها “جرائم موجهة ضدّ تنظيم الدولة أو سير أجهزتها وضد حقوق المواطنين”[29].

لكن أغلب التشريعات لم تضع تعريفا واضحا للجريمة السياسية ومنها تونس إذ لم يتعرَّض المشرع التونسي إليها إلاّ في مناسبة وحيدة وذلك ضمن أحكام الفصل 313 من مجلة الإجراءات الجزائية عند تعرّضه لشروط تسليم المجرمين حيث أقصى الجريمة ذات الصبغة السياسية من نظام التسليم والواقع أن المشرع التونسي يتجنب مسألة التعريف في مختلف الجرائم المنصوص عليها بالقانون الجزائي إلاّ أن ذلك لا يطرح إشكالية في الجرائم العادية بقدر ما يطرحه في الجرائم السياسية.

فإنعدام هذا التعريف قد يؤدي إلى خلق مقتضيات جديدة ومفاهيم ظرفية للجرائم السياسية لم تكن لتظهر لو كان تعريف الجرائم السياسية على غرار الجرائم العادية قادرا على إستيعاب أفعال محدّدة مسبقا لا بصورة لاحقة[30].

ويمكن إرجاع عدم وضع المشرع لتعريف واضح وصريح للجريمة السياسية إلى عدم وضوح وصعوبة تحديد معنى سياسي أو سياسية[31] وغياب هذا التعريف ألقى بضلاله على الفقه حيث أن الجهود الفقهية الضخمة التي بذلت سعيا وراء مفهوم قانوني حاسم للجريمة السياسية كانت في الغالب جهودا فاشلة حتى ليكاد الباحث المدقق يؤمن بأنه من الخطأ إذا لم نقل من العبث أن نحاول إدخال مفهوم نسبي مضطرب متموج ومتناقض كمفهوم الجريمة السياسية في نطاق القواعد القانونية لكن الفقه حاول الخروج من هذا المأزق ببحثه عن معايير لتحديد الجريمة السياسية.

II. معايير التمييز:
نتيجة غياب المعيار القانوني للجريمة السياسية[32] لسكوت المشرع عن تعريف هذه الجريمة وقصور المؤشرات التشريعية من عقوبة وإختصاص قضائي عن تعريفها أوجد الفقه معايير إختلفت بين الجريمة السياسية الصرفة (أ) والجريمة السياسية النسبية (ب).

أ.معايير تمييز الجريمة السياسية الصرفة:

هي الجريمة التي ترتكب ضد الدولة بإعتبارها هيئة سياسية لا بإعتبارها متكونة من أشخاص بذواتهم الفكرية[33] ولقد إنقسم الفقه إلى ثلاث إتجاهات:

* المذهب الموضوعي: هي نظرية ألمانية يرى أنصارها أن الإجرام السياسي يهدف إلى المساس بالنظام السياسي وتعريضه للخطر[34] كما يرى أنصار هذا الإتجاه أن التمييز بين الجرائم يجب أن يقوم على أساس أنواع من المصالح ودرجة الإعتداء عليها لا على أساس الباعث لأنه لا قيمة للباعث إلا حيث يعتدّ به المشرع[35]،

وبالتالي يعتبر أنّ الجرائم المختلطة أو المرتبطة بالجريمة السياسية تعتبر جرائم عادية على عكس ما تقول به النظرية الشخصية، لكن الفقه ورغم إعتماد هذا المذهب على الركن المادي فقط كان أكثر تأييدا لهذا الإتجاه[36] سواء على المستوى الدّولي أو الداخلي[37] وقد تجلى أثر هذا المعيار في مقررات المؤتمر الدولي السادس لتوحيد القانون الجزائي الذي انعقد بكوبنهاقن سنة 1935[38].

* المذهب الشخصي: هذا المذهب هو المذهب الأقدم وهو يعتمد على الباعث[39]، ويعتبر الفقهاء المدافعين عن هذه النظرية أن الجريمة تكون سياسية متى كان الباعث على إرتكابها سياسيا وقد تزعّم هذا الرأي كل من روسل وكلارك وعلى ذلك فإن إرتكاب الجرائم العادية بدافع سياسي يجعلها من الجرائم السياسية ويستمدّ هذا المعيار أساسه من قصد المجرم، وعلى ذلك فقتل رئيس الدولة أو أحد وزرائه بدافع سياسي يعد جريمة سياسية كذلك قتل أحد المعارضين إذا كان الغرض منه سياسيا وهو تغيير النظام القائم[40] .

وينتقد هذا المعيار لأنه من ناحية يؤدي إلى التوسّع في الجريمة السياسية ومفهومها، ويؤدي إلى إدخال الكثير من الجرائم العادية في نطاقها، ومن ناحية ثانية أنّ الباعث لا يصلح أن يكون ركنا من الجريمة وبالتالي لا يصلح معيارا لتمييز الجرائم[41] ومن ناحية ثالثة أن تقصي البواعث أمر من الصعب تحقيقه لذلك رفض القضاء الفرنسي الأخذ به في قضية مقتل الرئيسPaul Doumer M. وعوقب بالإعدام بالرغم من سبق إلغاء هذه العقوبة[42] وإلتزم بتطبيق النظرية الموضوعية[43].

* النظرية الخاصة: هي نظرية قامت لتدارك النقائص التي إعترت النظريتين السابقتين وذلك أمام ضعف مقومات النظرية الشخصية المبنية على الباعث والنظرية الموضوعية التي تعتمد الركن المادي للجريمة[44].

ب. معايير تمييز الجريمة السياسية النسبية:

الجريمة السياسية النسبية هي في الأصل جرائم عادية مرتبطة بالجريمة السياسية بحيث يتكوّن من هذا الإرتباط إمّا توارد مادّي (concours réel) فيطلق على الجريمة إصطلاح الجريمة المرتبطة (connex) أو توارد معنوي أو صوري (concours idéal) فيطلق عليها تعبير الجريمة المختلطة أو المركبة (complexe).

* الجريمة السياسية المرتبطة: إن ما يضفي عبارة النسبية على هذا النوع من الجرائم هو مساسها في آن واحد بمصالح الدولة وأفرادها، فبالرغم من كونها جرائم عادية إلاّ أنّها إرتبطت بجرائم ذات صبغة سياسية إرتباطا وثيقا، ومن أهمّ هذه الجرائم نذكر تلك المتعلقة بالإعتداء على شخص رئيس الدولة بالضرب أو الجرح أو القتل فهذه الجرائم هي في الواقع جرائم عادية إذا ما أرتكبت ضدّ أي شخص عادي إلا أن إستهداف شخص رئيس الدولة لمثل هذه الجرائم جعلها عند البعض من التشريعات جرائم سياسية مختلطة، إذ يعتبرون أن ذلك لا يكون إلا بدافع سياسي،

وتذهب إلى إعتبار هذا النوع من الجرائم، من قبيل الإعتداء على أمن الدولة الداخلي وتدرجها في الباب الخاص بهذا النوع من الجرائم، منها التشريع التونسي الذي نصّ على هذه الجريمة ضمن أحكام الفصل 63 من المجلة الجزائية في الباب المتعلق بالإعتداء على أمن الدولة الداخلي وفي هذا تأثّر واضح من المشرع بالنظرة التي كانت سائدة ضمن أحكام القانون الروماني الذي كان يخلط خلطا واضحا بين الإعتداء على الدولة وعلى شخص الحاكم وحريّ بالمشرّع التونسي أن ينظر إلى طبيعة الحق الذي حلّ به الإعتداء وهو حق الحياة وبالتالي البعد عن الصبغة السياسية لهذه الجريمة وهو ما أقرّه المؤتمر أكسفورد الدولي الذي جاء في البند 14 منه أن الجرائم التي تتوفر فيها جميع أركان الجرائم العادية كالنهب والقتل والسرقة يجب ألا يحول ذلك دون تسليم فاعلها مهما كانت مقاصدها السياسية وهو ما عرف فيما بعد بالبند البلجيكي ومؤداه ضرورة تسليم المعتدين على حياة رئيس الدولة[45] وما أكّده المشرع التونسي في الفصل 313 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي أقصى جريمة الإعتداء على رئيس الدولة من إطار الجريمة السياسية.

* الجريمة السياسية المختلطة :

قد تتعدّد الأفعال المكوّنة للجرائم وتتصل تبعا لذلك الجريمة العادية بالجريمة السياسية عن طريق رابطة السببية فهل تستغرق الجريمة العادية الجريمة السياسية فيطغى عليها الجانب العادي أم العكس هو الأسلم؟

يرى جانب من الفقه ضرورة تفكيك الجرائم عندما تقع في ظرفيات معيّنة كالإضطرابات والعصيان فيبقى ما هو عادي منها كذلك وما هو سياسي يفرز بمفرده، فإذا وقع تسليم المجرم فلا يعاقب إلا على الجرائم العادية، وهو رأي قابل للنقد لعدم إحترامه لأهمّ القواعد المبدئية في المادة الجزائية خاصة في الجرائم التي لا تقبل التجزئة كالعصيان المسلح مثلا ضد النظام العام فهو من قبيل جرائم الإعتداء على أمن الدولة الداخلي ولا يقع إلا مرتبطا بجرائم أخرى عادية كالإعتداء على الأموال والأرواح والمباني. عامة كانت أم خاصة وبالتالي لا يمكن التفرقة بين الغرض السياسي والأفعال المرتكبة كما في ذلك الجرائم التي تضرّ بالأفراد[46].

فقرة 2: موقع جريمة الإعتداء على أمن الدولة من الجريمة السياسية:

يكتسي البحث عن موقع جريمة أمن الدولة من الجريمة السياسية أهمية تطبيقية بالغة تؤكّدها النتائج المنجرة من الأخذ بالتفرقة بين الجريمة السياسية والجريمة العادية سواء على صعيد القانون الداخلي حيث نجد الكثير من الدول قد أفردت الجريمة السياسية بنظام خاص في مستوى التحقيق والمحاكمة[47] وحتى العقوبة بإستبعادها عقوبة الإعدام والإكراه البدني[48] وإنشاء ما يسمى بنظام المساجين السياسيين الذي يقر لهم مزايا معينة مثل إعفائهم من الإلتزام بالعمل أثناء تنفيذهم لمدّة العقوبة أو على الصعيد القانوني الدولي من خلال تكريس قاعدة عدم التسليم للمجريمين السياسيين[49]

ولقد نص المشرع التونسي على هذه القاعدة صلب الفصل 313 من مجلة الإجراءات الجزائية كما أكدت على هذا الشرط جميع الإتفاقيات المبرمة بين الحكومة التونسية وحكومات الدول الأجنبية ولأهمية هذه الإمتيازات وإنطلاقا من غياب المعيار القانوني للجريمة السياسية وإختلاف المعايير الفقهية وجب البحث عن موقع جريمة الإعتداء على أمن الدولة من الجريمة السياسية سواء من جهة الداخل (I) أو الخارج (II).

I. الطبيعة القانونية لجرائم الإعتداء على أمن الدولة الداخلي:
لا شكّ أن طبيعة جرائم الإعتداء على أمن الدولة بصفة عامة محل إختلاف عام في الفقه والتشريعات، وبالرغم من أن غالبية الفقه والتشريعات تقرّ وصف الجريمة السياسية لجرائم أمن الدولة الداخلي ومنها التشريع الفرنسي وبعض التشريعات العربية منها سوريا والمغرب ولبنان والكويت وليبيا[50]

إلا أنها إختلفت حول المعيار، حيث يستند البعض إلى الدّافع على إرتكاب هذه الجرائم لتحديد طبيعتها، فيرى أن الدافع في جرائم الإعتداء على أمن الدولة نزيه وشريف، إلا أن هناك من لا يقر بذلك معتبرا أن تبرير معاملة مرتكبي جرائم الإعتداء على أمن الدولة من جهة الدخل وفقا لقواعد الرفق والتسامح لنبل وسمو البواعث والأهداف التي يسعى إليها الجاني لا يقطع بوصفها من قبيل الجرائم السياسية لذلك تم البحث في الطبيعة القانونية لهذه الجرائم إنطلاقا من المعيار الموضوعي القائم على أساس الحق المعتدى عليه، لذا فجرائم الإعتداء على أمن الدولة الداخلي هي تلك التي تقع إعتداءا على النظام العام في المجتمع لذلك فإن هذه الجرائم من قبيل الجرائم السياسية وهذا ما إنتهى إليه الرأي الغالب في الفقه[51].

أمّا ما يخصّ تشريعنا وإنطلاقا من الفصل 313 م ا ج بإخراجه الإعتداء على حياة رئيس الجمهورية موضوع الفصل 63 م ج من نطاق الجرائم السياسية تتأكّد الصفة السياسية لجرائم الإعتداء على أمن الدولة الداخلي فلو كان المشرع يعتبرها غير سياسية لما أضطرّ لوضع هذا الإستثناء.

II. الطبيعة القانونية لجرائم الإعتداء على أمن الدولة الخارجي:
رغم شبه الإتفاق على أن جرائم الإعتداء على أمن الدولة من جهة الداخل تتصف بالصفة السياسية فإن هناك خلاف شديد في الفقه حول جرائم الإعتداء على أمن الدولة من جهة الخارج وذلك بالنظر إلى النتائج المترتبة على إعتبارها جريمة سياسية وقد إختلف الفقه (أ) والتشريعات (ب) في تحديد طبيعة هذه الجرائم.

* أ. الفقه:

غالبية الفقه المقارن يقصر وصف الجريمة السياسية على جرائم أمن الدولة من جهة الداخل لأنها إعتداء على دستور الدولة وسلطتها وينفي هذا الوصف عن جرائم أمن الدولة من جهة الخارج التي يراها من قبيل الجرائم العامة ونظر لكون الدافع في هذه الجرائم منفعي فإن المعيار الشخصي ينفي عنها الصفة السياسية[52].

ب. التشريعات:

إختلفت التشريعات في تحديد طبيعة جرائم أمن الدولة من جهة الخارج بصفة خاصّة يرجع هذا الإختلاف إلى المعيار الذي يتخذه كلّ تشريع لتحديد الجريمة السياسية وتمييزها عن الجرائم الأخرى.

* التشريع الفرنسي : كانت جرائم الإعتداء على أمن الدولة منذ عام 1810 توصف بالصفة السياسية ولقد تصدى المشرع الفرنسي لذلك في المرسوم الصادر في 1939 وقصر وصف الجريمة السياسية على جرائم الإعتداء على أمن الدولة من جهة الداخل فقط[53] لكن مع تشريع 1960 أقرّت هذه الصفة لجرائم الإعتداء على أمن الدولة بصفة عامّة[54]

* التشريع الإنقليزي: لم يعرّف الجريمة السياسية إلا أنه نص على مبدأ عدم التسليم في الجرائم ذات الطبيعة السياسية وقد حدّد هذا القانون الجرائم غير القابلة للتسليم ومنها جرائم أمن الدولة الخارجي وذلك يعني أنها ذات طبيعة سياسية.

* التشريع التونسي: مثل بعض التشريعات العربية كالمشرع اللبناني والسوري لم يأتي المشرع التونسي بنصّ يبيّن طبيعة جرائم الإعتداء على أمن الدولة الخارجي والتي وإن لم تنص على ذلك صراحة إلاّ أنّها تقوم عند مواجهتها للجريمة السياسية بإستبدال عقوبة الإعدام بالأشغال الشاقة، أو الإعتقال المؤقت، أو الإبعاد، أو الإقامة الجبرية أو الحبس البسيط بدل الحبس مع الشغل. كما تقوم بتعداد العقوبات على الجرائم السياسية وذلك عند تحديد عقوبة الجرائم العادية[55]. ونظرا لشدّة العقوبات المقرّرة على جرائم الاعتداء على أمن الدولة الخارجي تُستبعد من نطاق الجرائم السياسية.

لكن المشرع الجزائي التونسي لم يقم حتى بهذا المجهود بإفراد الجريمة السياسية بعقوبات خاصّة يمكن من خلالها تبيّن موقع جريمة الإعتداء على أمن الدولة الخارجي من الجريمة السياسية.

على أنّه يمكن أن نستند في بيان هذه الطبيعة إلى ما اقرّه المشرع التونسي من عقوبات لهذه الجرائم التي يمكن أن نتبين من خلالها نظرة المشرع وميولاته لنجد أنّه سلّط عليها عقوبة شديدة القسوة ليصل بها حدّ الإعدام (الفصول 60 و60 مكرّر و60 ثالثا م ج).

وهو ما يمكن أن يبيّن عدم إعتراف المشرع بالطابع السياسي لهذه الجرائم فلو إعتبرها من قبيل الجرائم السياسية لما شدّد في عقابها بهذه الطريقة ولكانت نظرته لمرتكبيها أكثر لينا. لكن لو ذهبنا في هذا الإتجاه من التحليل لنفينا الطبيعة السياسية حتى على جرائم أمن الدولة الداخلي لخضوع بعض جرائمها لعقوبة الإعدام ممّا يجعلنات نذهب في إتجاه ما ذهب إليه E. Garçon [56]

في إعتباره أنّ عقوبة الإعدام لا يمكنها أن تفقد جريمة الإعتداء على أمن الدولة الخارجي طبيعتها السياسية لينتهي بنا المطاف إلى أنّ الفصل 313 م ا ج يمثّل الإستثناء الوحيد لمبدأ يتمثل في إنسحاب الطبيعة السياسية على جميع جرائم الإعتداء على أمن الدولة. لكن حتى وإن تمّ التسليم بذلك فإنّ هذا النوع من الجرائم لا يمكن إعتباره إلاّ جرائم “سياسية دنيئة” نظرا لدناءة هدف تلك الطائفة من الخونة والجواسيس بخلاف جرائم الإعتداء على أمن الدولة من جهة الداخل الذين تبقى غايتهم نبيلة تبرر تصرفاتهم وكثيرهم أولئك الذين اعتبروا في مرحلة ما من قبيل المتمرّدين على النظام الدّاخلي وطرق التسيير داخل الدولة ثم اعتبروا في مرحلة لاحقة من طائفة المصلحين ورجال الفكر والإصلاح والسياسة.فمن غير المعقول ان يستفيد الخونة والجواسيس بثمرة الاعتراف بالطابع السياسي لجريمة الإعتداء على أمن الدولة الخارجي ويستغلّ هذا الإعتراف ضدّ الدولة فيما يتعلق بتسليم المجرمين السياسيين.

الفصل الثاني

مضمون جرائم الإعتداء على أمن الدولة

إذا ما خيّر المشرع عدم التقيّد بوضع تعريف عام وشامل لجرائم الإعتداء على أمن الدّولة فإنه في المقابل إنتهج نهج التعداد بأن حصر ضمن أحكام الفصول 60 م ج إلى 81 م ج الأفعال التي يعدّ إتيانها جريمة إعتداء على أمن الدولة، ولعلّ أهمّ ما يميّز مضمون هذه الجرائم هو إعتماد أسلوب التوسيع في مجال التجريم من ناحية والتوسّع في صيغة التجريم من ناحية ثانية.

فأمّا عن التوسيع في دائرة التجريم فإنه علاوة على أسلوب التجريم المفتوح تكفي الإشارة إلى أن هذا التجريم يمكن أن يسبق المرحلة التحضيرية ليجرّم المرحلة النفسية كما يمكنه أن يطال مجالا واسعا من الإعتداءات والتي تستوى فيها الجريمة الموقوفة والخائية والتامة فلا فرق إن تم إحداث النتيجة الإجرامية أم لا (المبحث 1)

أمّا عن التوسّع في صيغة التجريم فقد إتبع المشرع في تحديد الوقائع الإجرامية مسلكا يتّسم بالمرونة لمواجهة ما يمكن أن يستجد من أفعال تستهدف النيل من أمن الدولة وإستقلالها لذلك خرجت قواعد التجريم في جرائم الإعتداء على أمن الدولة في كثير من أحكامها عن القواعد العامة التي تخضع لها أنواع الجرائم الأخرى (المبحث 2).

المبحث 1: التوسيع في مجال التجريم

إن إعتماد المشرع للتوسيع في دائرة التجريم وما يعبّر عنه بالتجريم المفتوح كان من خلال تجريم أشكال مختلفة من الأعمال التي تحدّد على مستوى الغاية التي ترمي إلى تحقيقها والمتمثلة عموما في النيل من أمن الدولة وإستقرارها، ومن هذه الأشكال، تجريم المؤامرة والإعتداء على أمن الدولة اللذان يمثلان أهمّ شاهد على هذا الأسلوب المعتمد من قبل المشرع، فالمؤامرة (فقرة 1) والإعتداء (فقرة 2) بإعتبارها الأكثر خطورة على أمن الدولة يعتبران الأكثر تعبيرا عن هذا الأسلوب من التجريم.

فقرة 1: المؤامرة Le complot:

وردت المؤامرة ضمن الجرائم المتعلق بالإعتداء على أمن الدولة الداخلي وجاءت أحكام الفصول 68، 69 و70 م ج محدّدة لإطارها القانوني، وقد أخذت أحكام هذه الفصول من نص الفصل 87 من المجلة الجنائية الفرنسية القديمة[57] ومن جملة ما أخذ المشرع التونسي، الخطأ الذي وقع فيه المشرع الفرنسي من تسبيقه لإيضاح ما يندرج ضمن المؤامرة من أفعال على تعريفها، ولعلّ في هذا ما يؤكّد أن التعريف في جرائم الإعتداء على أمن الدولة بصفة عامة لا يمثل مشغلا كبير بالنسبة للمشرع بقدر ما يهمه توضيح العقوبات وحصر أكثر ما يمكن من الإحتمالات والأفعال التي تمثل المؤامرة.

ويعتبر تجريم المؤامرة من قبيل أهم الخصائص التي تمتاز بها جرائم الإعتداء على أمن الدولة، ذلك أن مبادئ القانون الجزائي لا تعاقب على النوايا والأشياء الباطنية التي لم تظهر في شكل مادي، لكن لكون جرائم أمن الدولة من جرائم الخطر حيث لا يعتد بالنتيجة الإجرامية[58] وإيمانا من المشرع بضرورة الرّدع والزّجر بصرامة فإنّ مجرد العزم والتقارر يعتبر كافيا لقيام جريمة المؤامرة. وأمام هذا التشديد وإلتزاما بمبدأ الشرعية كان لزاما على المشرع أن يضع مفهوما واضحا لهذه الجريمة (I) ويبيّن أركانها (II) تجنبا لما قد يبرز عن هذه الجريمة من إشكاليات تجعلها تستوعب أشكالا إجرامية أخرى.

I. مفهوم المؤامرة:
بإعتبار أنّ المؤامرة تمثل أهمّ الخصائص المميزة لجرائم الإعتداء على أمن الدولة ولكونها تتعلق بالجوانب النفسية للفرد سعى المشرع إلى تعريفها (أ) وبيان صورها (ب) محاولا بذلك توضيحها

أ. التعريف بالمؤامرة:

عرّف المشرع التونسي المؤامرة بالفصل 69 بقوله “تحصل المؤامرة بمجرّد الوفاق والتقارر والعزم على الفعل بين شخصين أو أكثر”

كما عرّف المشرع الفرنسي المؤامرة بالفصل 412.2 بقوله:

« Constitue un complot la résolution arrêtée entre plusieurs personnes de commettre un attentat lorsque cette résolution est concrétisée par un ou plusieurs actes matériels »

ولئن كان النقل حرفيا من قبل المشرع التونسي لما ورد بالفصل 87 فرنسي قديم وتحديدا لفقرته الثانية[59]، إلا أنه لم يساير المشرع الفرنسي في تنقيحه لهذا الفصل إشترطه لعنصر مادي لإرتكاب جريمة المؤامرة “Un ou plusieurs actes matériels”.

كما عرّف المشرع السوري المؤامرة بأنّها “كل إتفاق تمّ بين شخصين أو أكثر على إرتكاب جناية بوسائل معيّنة”[60] ويتضح من مختلف هذه التعريفات أن المؤامرة لون من ألوان الإتفاق الجنائي “accord criminel” وللإفصاح عن معنى الإتفاق الجنائي لا غنى لنا عن الإشارة إلى المراحل التي تمرّ بها الجريمة قبل نفاذها حتى يتسنى لنا بيان موقع المؤامرة بالتحديد وسهولة إدراك أين تبتدئ وأين تنتهي لما في ذلك من تأثير إيجابي لا فقط على حسن فهم مقتضياتها بل كذلك على ضبط حدودها نظرا لكونها تمثل مرحلة نفسية يصعب إثباتها من جهة وغير معاقب عليها في سائر فروع القانون الجنائي من جهة أخرى.

والمرحلة النفسية هي المرحلة التي تخطر فيها الجريمة في ذهن الجاني فيصورها ويفكر فيها ويعقد العزم على إرتكابها، والقانون الجزائي لا يعاقب على هذه المرحلة وذلك لصعوبة إثبات هذا العزم ما لم يبرح مخيلة الفاعل ولأن العزم المجرّد لا يولّد خطرا على نظام المجتمع طالما لم يستتبع بمظاهر مادية توحي بالخطر[61] هذا فضلا على أن تجريم هذه الرغبة أو الفكرة لو حصل فإن من شانه أن يستحث الفاعل على تنفيذ عزمه طالما أنه معاقب في الحالتين.

هذا بخصوص المرحلة النفسية التي قد تسيطر على الشخص المنفرد أما إذا سيطرت هذه المرحلة النفسية على أكثر من شخص فعندها تصبح إتفاقا جنائيا.

ولعلّ خروج المشرع عن السياسة المتبعة فيما يخصّ المؤامرة لم يكن بسبب أنها خطوة في مراحل الجريمة وإنما بإعتبارها جريمة خاصة إستوجبت عدم التأخر والإنتظار حتى البدء بالتحضير ومحاولة التنفيذ[62]

فالعزم في المؤامرة لم يعد فرديا قاصرا على شخص واحد وإنما أصبح جماعيا وخارج النفس مما وحّد إرادة المتآمرين بإتجاه الجريمة موضوع المؤامرة، وهذه الظاهرة الجماعية ولو أنها فكرة مجرّدة إلا أنها تنذر بخطر محدق بأمن المجتمع فمن الأجدى معاقبتها وهي في بدايتها بدلا من الإنتظار حتى حلول الضرر الفعلي، فمن الضروري إحباط هذا الإتفاق والحيلولة بين الفاعلين وتحقيق خططهم الإجرامية والقضاء على الشرّ في مهده[63].

ولئن كان هذا الرأي سائدا إلا أنه هناك من التشريعات من لا تجعل من الإتفاق الجنائي مجرّما على إطلاقه ومعاقبا عليه دوما وإنما تميّز بين الإتفاق الجنائي العام والإتفاق الجنائي الخاص وتقتصر على النوع الثاني الذي يستهدف إرتكاب جرائم معيّنة شديدة الخطورة من ذلك مثلا المشرع السوري[64] الذي لا يعاقب على الإتفاق الجنائي إلا بشرط أن يكون الغرض من الإتفاق الجنائي المعقود إرتكاب عدد من الجنايات التي تقع على الأشخاص وعلى الأموال فلا عقاب بالتالي على الإتفاق الذي يهدف إلى إرتكاب الجنح والمخالفات أو إقتراف جناية واحدة أو إذا كانت الجنايات المتفق عليها لا تتناول الأشخاص أو الأموال[65].

لكن هذا التوجه ولما فيه من تقليص لدائرة التجريم إلا أنه يؤدي إلى تفشي النزعة الإجرامية داخل الدولة عن طريق التشاور وإبداء الآراء وفسح الإمكانية لهؤلاء لترجيح مدى إمكانية نجاح مخططاتهم الإجرامية قبل البدء في تنفيذها دون أن يكون ذلك محل تتبع أو عقاب. ومهما يكن من أمر فإن مشرعنا ومن خلاله سائر التشريعات الأخرى نحى منحى الإستثناء لمبدأ عدم تجريم المؤامرة كضرب من ضروب الإتفاق الجنائي بقيامه في القسم الخاص المتعلق بجرائم الإعتداء على أمن الدولة بتجريمها مطنبا في إستيعاب المراحل والصور التي تتخذها مزدادا في حرصه في تجريمها بأن يعتبر مجرّد إبداء الرأي بشأنها موجبا للعقاب وهو ما يقودنا إلى البحث في صور المؤامرة.

ب. صور المؤامرة:

يعتبر المشرع التونسي من التشريعات القلائل التي فرقت بين المؤامرة الموصوفة والمؤامرة المجرّدة وقد جاء ذلك بالفصل 68 م ج مع التنصيص على صورة خاصة صلب الفصل 70م ج تؤكد حرص المشرع على التوسيع من دائرة التجريم.

* المؤامرة البسيطة (المجردة):

المؤامرة المجردة هي تلك التي تتعدى مرحلة العزم والتقارر بين شخصين أو أكثر على إرتكاب مؤامرة دون القيام بأي عمل مادي[66] وقد إعتبر A. vitu أن المؤامرة البسيطة مأخوذة في أصلها من التشريع الأنقلوسكسوني إلا أن هذا الأخير له مجال أوسع نظرا لكونه يهدف إلى العقاب على كل إتفاق جنائي بين شخصين أو أكثر على إرتكاب فعل غير مشروع بوسيلة غير مشروعة[67].

فمثل هاته التشريعات تعاقب على جميع الإتفاقات بإعتبار أنها جرائم مستقلة أما المشرع الفرنسي ومن ورائه المشرع التونسي يعاقب على أفعال معيّنة على كونها من قبيل المؤامرة وهنا نتبين أن فلسفة كلا التشريعين تختلف ولو أن الإتجاه نحو التشدّد واحد.

ولقد اعتبر فقه القضاء الفرنسي أن المؤامرة البسيطة لا تتعدى مرحلة العزم عن طريق التخطيط وتحديد الأهداف أو حتى التهديد غير المتبوع بأي أعمال تحضيرية[68].

المؤامرة الموصوفة (المشددة)

لقد إعتبر المشرع التونسي أن الوفاق والعزم والتقارر على الفعل بين شخصين أو أكثر يعتبر من قبيل المؤامرة الموصوفة إذا وقع شفعها بعمل تحضيري[69] لذلك قيل أن المؤامرة تعتبر موصوفة نتيجة ظرف التشديد المتمثل في إتيان هذا العمل التحضيري فهنا تبرز مدى خطورة المجرم[70].

ولئن إتفاق معظم شرّاح القانون حول مفهوم المؤامرة الموصفة إلاّ أن الأمر لم يكن سهلا بالنسبة لتحديد معنى الفعل التحضيري الذي رغم أهميته في الفصل بين المؤامرة الموصوفة والمجردة وحتى بين المؤامرة والإعتداء لم يقم لا المشرع التونسي ولا المشرع الفرنسي بتعريفه أو حتى ذكر أمثلة تنير السبيل أمام رجال القضاء الأمر الذي أثار جدلا في فقه القضاء حول الأعمال التي يمكن وصفها بالأعمال التحضيرية.

فلقد إعتبرت محكمة أمن الدولة في قرارها الصادر في 10 سبتمبر 1968 أن الكتابات والخطابات تكوّن الفعل التحضيري[71]. ولقد أكدت ذلك نفس المحكمة في أوت 1977 بمناسبة محاكمة أعضاء الوحدة الشعبية الذي جاء فيه “إن ما تلوح به الخطب السياسية الحماسية من تهديد ووعيد وما يقع التعبير عنه بواسطة الصحافة والمطبوعات والمنشورات … يعتبر من الأعمال التحضيرية التابعة لجريمة التآمر فتكون ظرف تشديد… لكن مع توفّر الشرط الأساسي وهو تحديد الوسائل المعوّل عليها في التنفيذ من وسائل القوّة…”[72]

والملاحظ أن فقه القضاء هنا لا يخلط فقط بين العمل التحضيري المشدّد للمؤامرة والعمل التحضيري الممهّد للتنفيذ بل كذلك يربطه بوضوح بالوسائل الماديّة التي تعتبر دخولا في التنفيذ بالتالي إعتداء بالمعنى الصريح.

وفي هذا الإطار من الخلط جاءت المحكمة العسكرية بنظرية جديدة بحيث فسّرت الأعمال المرتكبة من قبل بعض المتطرفين بالإعتماد على غاياتهم فجاء بإحدى حيثيات الحكم عدد 76111 بتاريخ 30 أوت 1992 “…وحيث أنه بحكم الغايات التي يستهدفها تعتبر مرحلة لاحقة للمؤامرة تتجاوز مختلف الأفعال التي يمكن حصرها في نطاق مرحلة التحضير لإيقاعها…”[73]

إلا أن نفس هذا الحكم في حيثية لاحقة ومن بعده القرار التعقيبي عدد 46956 المؤرخ في 30 سبتمبر 1992 قام بتحديد بعض الأفعال التي يمكن إعتبارها تابعة لمرحلة التحضير فجاء بهذه الحيثية “… لإن كان تجميع السلاح ومختلف وسائل الإعداد وإستقطاب العناصر الصالحة للتنفيذ وتحضيرهم بدنيا ونفسيا لتلك الغاية ودراسة المراكز الحساسة المستهدفة له وتحديد الأشخاص المعنيين به يمكن إعتبارها داخلة في مرحلة التحضير اللاحق للمؤامرة…”[74]

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الحكم يمثل تطورا في فقه قضاء المحاكم التونسية ليساير بذلك فقه القضاء التونسي نظيره الفرنسي الذي أعطى معنى واضح لأعمال التحضير معتبرا الكتابات والخطايات خارج نطاق العمل التحضيري المقصود[75]، إذ يجب أن يكون الفعل المقترف يهدف إلى تحضير وتهيئة التنفيذ أما إذا كان يهدف مباشرة للتنفيذ فإننا نكون بصدد محاولة إعتداء ولا بصدد مؤامرة موصوفة وهو أمر مختلف تماما[76] فتوزيع سلاح ناري بعد تجميعه يعتبر من قبيل أعمال التنفيذ في حين أن خزنه بكميات هائلة داخل مخازن معدّة للغرض يعد من قبيل أعمال التحضير الذي يبقي الفعل في حدود المؤامرة الموصوفة[77]

* صورة الفصل 70م ج:

لئن بدى واضحا أن المشرع التونسي يحاول تشديد الخناق على المتآمرين في دلالة واضحة على حرص المشرع على الضرب بقوة وصرامة على أيدي كل من تخول له نفسه إرتكاب جريمة المؤامرة إلا أنه قد زاد في تأكيد ذلك من خلال ما أورده بالفصل 70 من تجريم لمجرّد إبداء الرأي لتكوين مؤامرة ليخرج بها من إطار القواعد العامة التي تنسبها للمشاركة عن طريق التحريض ويحولها إلى جريمة قائمة بذاتها يتم العقاب عليها حتى وإن لم تقع الجريمة محل التحريض[78].

لكن هذا الحرص المتزايد حجب على المشرع لزوم توخي الدقة والتحديد وهو يتعامل مع هذا الفصل لما خلفه من غموض، وتعقيد الأمر الذي لم يكن مطروحا بنفس الصورة في بعض التشريعات المقارنة.

فالمشرع التونسي لم يعطي أي وصف صريح لهذا الرأي الذي وقع إبداؤه جديا كان أم هزلا به سوء نية واضح أم هو مجرد خاطرة خامرت ذهن صاحبها أم هو حديث قوي اللهجة قد تشتم منه رائحة التحريض أو إستنهاض لهمم بعض الأشخاص وهو ما قد يشكل خطرا على حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية.

فإذا كان أمن الدولة أمرا خطيرا يستحق الصيانة بحزم فإن أمن المواطن هو أيضا له شأنه فلا سبيل للإعتداء عليه إلا بعد التأكّد من عزمه فلا عقاب إلا على إبداء رأي راسخ غايته إرتكاب الإعتداء المنصوص عليه بالفصول 63، 64، 72م ج وقد اعتبر Garraud [79]

(بخصوص الفصل 87 – 4 قديم) أن القانون لا يعاقب على العزم المجرّد على إرتكاب جريمة ضد أمن الدولة ولو وقع التصريح بهذا العزم مشافهة أو كتابة ولكنه يجرّم الإقتراح المقدّم لشخص ولو لم يتم قبول هذا الإقتراح، إذا لا يجب الخلط بين العزم المجرّد والعزم الذي يجرّمه القانون، فمثلا لو عزم شخص على القيام بإنقلاب وأعلم شخصا آخر بهذا العزم لا من باب دعوته إلى الإنضمام إلى مخططه الإجرامي بل فقط من باب مساررته بما يختلج في نفسه فهل يعدّ هذا الشخص مرتكبا لجريمة المؤامرة؟ يجيب Garraud أن هذا العزم خارج عن نطاق التجريم، لكن إذا ذهب الجاني إلى أبعد من ذلك وسعى إلى البحث عن مؤيدين له وذلك باقتراحه على شخص آخر أو مجموعة من الأشخاص مشاركته هذا العزم، في هذه الحالة يصبح الفعل تحت طائلة القانون الجزائي.

والجدير بالملاحظة أن المشرع التونسي لم يتحدث مطلقا عن رفض هذا الرأي لدى من أقترح عليه أو قبوله مما له تأثير أكيد على جديّة الرأي وجديّة المؤامرة وهو أمر لم يغفله المشرع الفرنسي قبل تنقيحه للمجلة الجزائية سنة 1992 مقتصرا على ما جاء بالفصلين 412.1 ، 412.2 م ج المخصصة للإعتداء والمؤامرة، حيث إشترط في الفصل 87 قديم صراحة لكي يكون إبداء الرأي موجبا للعقاب أن يكون هناك إقتراح لتكوين مؤامرة ويجب أن يكون العنصر الأول عنصرا إيجابيا معبّرا عنه بوضوح ويكون العنصر الثاني عنصرا سلبيا يمكن إستنتاجه حتى من السكوت،

أما إذا وقع قبول العرض فإن الأمر يتحول إلى مؤامرة[80] وهذا المنحى الفرنسي توخاه الكثير من المشرعين[81] ومن أبرزهم المشرع المصري الذي يتشابه مع نظيره الفرنسي إلا أن القانون الجزائي المصري يتحدث عن الإنظمام إلى الإتفاق حسب الفصل 740 من قانون العقوبات[82] وذلك يعني أن الإتفاق موجود من قبل[83].

وإنطلاقا مما سبق بيانه من فقه مقارن نتبين أن المشرع التونسي قد تفرّد عن التشريعات الأخرى بتجريمه لمجرّد إبداء الرأي وليس القيام بدعوى صريحة كما هو الشأن في التشريع الفرنسي أو المصري فإبداء الرأي لا نلمس فيه أي نوع من أنواع الإلزام أو الحرص أو التشجيع، على خلاف الدعوى التي تنم عن حث وإصرار وتأكيد لا يصل إلى مرتبة الشدة والإكراه فهي نشاط إيجابي يتجه به الجاني إلى الضغط على تفكير الشخص بقصد خلق التصميم لديه[84] بينما إبداء الرأي يكتفي في صبغته التحريضية بمجرد كونه يخلق فكرة الجريمة لدى الغير وهنا لا فرق فيما إذا كانت الفكرة موجودة لدى الغير من قبل أم لا.

ولعل هذا التحليل يكشف عن علّة إخراج المشرع التونسي لهذه الجريمة من تطبيقات الفصل 32 م ج فعدم خضوع هذه الجريمة للقواعد العامة مردّه أن جريمة التحريض تتطلب وقوع الجريمة من الفاعل الأصلي ووجود رابطة سببية بين الشريك وفعل الفاعل الاصلي مع توافر الركن المعنوي من الشريك وهذا غير متوافر في هذه الجريمة وذلك رغم إكتفاء المشرع صلب الفصل 32 بالتحريض المجرّد.

ومن هنا نلاحظ توسيع المشرع التونسي في مجال التجريم مما يستدعي منه مراجعة المجلة الجزائية بخصوص جرائم أمن الدولة بأن يضيّق في مفهوم المؤامرة على غرار المشرع الفرنسي الذي لم يعد يجرّم الإقتراح غير الموافق عليه لإرتكاب مؤامرة وألغى تجريم المؤامرة البسيطة في مجلته الجديدة حيث لم يقرّ إلا ما كان يعرف بالمؤامرة المشدّدة[85].

II. أركان المؤامرة:
يعتبر التثبت من أركان هذه الجريمة بإعتبارها سلوكا محتواه نفسي[86] أمر أكيد ويجب أن يحضى بدقة قصوى تقتضيها حماية حريات الأفراد وصيانتهم حيال السلطة من التأويلات الواسعة والملاحقات الكيدية ولعلّ المشرع التونسي قد وعى ذلك فأورد تعريفا للمؤامرة في الفصل 69 م ج يذكر فيه أنها تحصل بمجرّد الوفاق والتقارر والعزم على الفعل بين شخصين أو أكثر وعلى ضوء هذا تتكون أركان المؤامرة من ركن مادي (أ) موضوعه يتمثل في الرغبة في إرتكاب جريمة مقررة بالفصول 63 و64 و72م ج (ب) وركن معنوي صورته القصد الإجرامي (ج)

أ. الركن المادي:

تبرز خصوصية هذا الركن خاصة في عدد المتفقين الذين يشترطهم الفصل 69 م ج حتى يكون هناك اتفاق وعزم على الفعل.

* وجود إتفاق وعزم على الفعل:

إن المؤامرة ليست إلا تداول وتشاور وتبادل الآراء يفضي من خلاله المتآمرون لبعضهم بعضا بما يكنّه كل منهم في نفسه وتنتهي هذه التشاورات إلى التفاهم فتتحد إرادتهم ويصوّب عزمهم المقرّر نحو هدف واحد وتتناسق الأدوار التي يوزعونها فيما بينهم وتنسجم أعمالهم بما يجعل مخططهم الإجرامي واضح المعالم ومحدّد الأهداف[87]

ولعلّ المشرع التونسي قد أكّد هذه المرحلية في حرصه على استعمال ألفاظ عديدة تزداد تعبيرا عن هذا الإتفاق كلّما تقدّمت الرّغبة في تحقيقه فتكون وفاقا حيث لا يعلن كل جان عن رغبته وعزمه إلى سائر الجناة بل كلّ منهم يرد في خاطره نفس ما يرد بخاطر الآخر من العزم على إرتكاب نفس الجريمة، حتى إذا تمّ الإفصاح عن هذه الخواطر وتم التداول والتشاور والمذاكرة لهذه الآراء تحولت إلى تقارر ليكون بعد ذلك العزم وهو تعبير عن الجدية والثبات والإرادة لإتمام الفعل.

لذا يجب أن يكون الإتفاق نهائيا وقطعيا لا مترددا ولا غامضا[88] أما إذا كان مجرّد إبداء للرغبة أو لمطامح أو أماني عامة غير محدّدة أو كان تعبيرا عن نزوات عابرة في صورة إنفعالية أو إندفاعية وتهديد بفعل شيء غير محدّد فلا يقوم بذلك الإتفاق المذكور الذي يفترض بدوره مظاهرا مادية كالقول الشفوي والعبارات المكتوبة والإيماء إن كانت له دلالة مفهومة[89]،

وبالتالي نجد أن القانون هنا لا يعاقب على مجرّد العزم أو التصميم وإنما يعاقب على الفعل الخارجي الذي يفضح النوايا الداخلية للجناة[90]، ولا يشترط في الإتفاق أن يكون سريا[91]، كما لا يعيبه معرفة رجال الأمن به ومراقبتهم للمنضوين تحته حتى تحين فرصة كشفه[92] كما لا يؤثر في قيام الإتفاق أن يمتد فترة زمنية غير محدّدة كالتآمر على تنفيذ الجناية بمجرّد وفاة أحد المسؤولين كما لا يؤثر فيه أن يعلق تنفيذه على شرط مثل حل البرلمان أو انتخاب أحد الاشخاص ما دام هذا الشرط محتمل الوقوع وغير مستحيل[93].

لكن تجب الإشارة هنا إلى إشكالية بسيطة تتعلق بما إذا عدل المتآمرون عدولا طوعيا تلقائيا عن عزمهم المقصود فهل يبقى الإتفاق المعدول عنه قائما وهل يعاقب المتآمرون؟

الجواب على هذا السؤال لا يحظى بالحسم لا من التشريعات ولا من الفقهاء فبعضهم يرى أن جريمة المؤامرة تتم بمجرد حصول الإتفاق التام ولا عبرة بعد ذلك بالعدول وحجتهم في ذلك عدم معاقبة من يخبر السلطات من المتآمرين عن وجود مؤامرة قبل بدأ أي فعل مهيئ للتنفيذ فلو كان العدول بحد ذاته يمنع العقاب لما كان ثمة داع لوجود هذا النص في مختلف التشريعات والقاضي بإعفاء المتآمر المخبر من كل عقاب في حين يرى البعض الآخر وهو الرأي السائد في فرنسا أنه لا عقاب على المتآمرين إذا أثبتوا بشكل واضح أنهم عدلوا عن إتفاقهم التام عدولا إختياريا تلقائيا قبل الشروع في تنفيذ مؤامرتهم وهم يستندون في ذلك إلى أن التآمر من شروطه الإتفاق فإذا تم العدول إنعدم الإتفاق المستمر المجرّم، كما أن القول بمعاقبة المتآمرين الذين عدلوا عن إتفاقهم يؤدي إلى إغلاق الباب أمام هؤلاء في التوبة ولم يبقى لهم إلا سبيل واحد للنجاة وهو تنفيذ إتفاقهم وفوزهم في إتمامه[94] وعلى ما يبدو أن الأخذ بهذا الرأي أسلم شريطة أن يكون العدول تلقائيا أما إذا كان نتيجة عوامل خارجية كتفطن الشرطة لخططهم لا يكون هناك تأثير لهذا العدول على قيام الجريمة.

* تعدد المتفقين:

تعتبر جريمة المؤامرة من جرائم الفاعل المتعدد والحد الأدنى للمتفقين في القانون التونسي والفرنسي والمصري وغيرهم شخصان على الأقل[95] وبالتالي لا قيام للإتفاق إلا بإرادتين جادتين على الأقل وأن تكون كل منهما محلا للمسؤولية الجزائية أما إذا اتحدت إرادتان ولم تكن من بينهما غير إرادة واحدة جادة أو مسؤولة[96] كما لو كان أحدهما هازلا أو مخادعا يريد الإيقاع بالآخر، كرجل الأمن المتخفي الذي يتظاهر بالإتفاق معه كي يوقع به، أو كان غير مسؤول جزائيا كالمجنون والصغير والمكره فلا قيام للإتفاق[97].

ولا يؤثر في قيام المؤامرة استفادة أحد المتفقين من العذر المحل من العقاب أو المخفف منه بسبب الإخبار أو الإبلاغ عنها لأن هذا العذر لا يمحو المسؤولية بل يقتصر دوره على العقوبة[98] وكذلك لا يؤثر في قيام المؤامرة عدم معرفة سائر المتفقين في حال القبض على أحدهم وبقي هؤلاء فارّين أو مجهولين إذ يمكن للمحكمة إدانة المقبوض عليه ولو كان واحدا طالما ثبت لديها أنه إتفق مع غيره من المتآمرين.

لكن يمكن أن نشير هنا إلى أنه في حالة إدانة واحد من المتآمرين وخرج البقية من إطار التجريم لسبب من الأسباب وبقي عضو واحد بمفرده ثبتت عليه الجريمة فليس هناك مؤامرة بإعتبار غياب شرط التعدّد، ويختلف الأمر هنا إذا ما كان الإعفاء بموجب التبليغ حيث يمكن أن تقوم مسؤولية عضو بمفرده.

ولعلّ هذا الطرح يجعلنا نتساءل عن مدى إمكانية المشاركة في المؤامرة في ظلّ إشتراط هذه الشراكة “association” المفروضة لتكون الجريمة موجبة للعقاب؟

ذهب الرأي الغالب إلى إستبعاد المشاركة في المؤامرة[99] ويبنى ذلك كله على طبيعة المؤامرة التي لا تعدو أن تكون فكرة أو حادثة نفسية مجرّدة تتنافى مع إمكانية وجود متدخلين فيها ذلك أن المساهم إما أن يؤيد الفكرة وينضم إلى الاتفاق فيكون شريكا كفاعل مع غيره وإما أن يبقى خارج الإتفاق فلا يعدّ فاعلا فيها ولا يستحق أي عقاب.

والحقيقة قد نعثر في دنيا التآمر على أمثلة واقعية كثيرة حتى يمكن تصور المشاركة في المؤامرة في حق شخص بقي خارج الاتفاق وما انتهى إليه من تآمر وإقتصر دوره على تهيئة جو الإتفاق، أو إرشاد المتفقين أو تشديد عزيمتهم أو مساعدتهم على الأعمال المفضية إليه أو اللاحقة عليه دون أن يشارك في جريمة المؤامرة وفقا لقواعد المشاركة في سائر الجرائم (الفصل 32 م ج).

من ذلك أن يقدّم أحد الأشخاص منزله ليعقد به المتآمرون إجتماعهم دون أن يشاركهم في قراراتهم ودون أي نية منه في الإتحاد معهم مما يستدعي بإعتباره مشاركا[100] طبق الفصل 32 – 5 ولعلّ هذا ما أكّده فقه القضاء التونسي في قراره التعقيبي عدد 46956 الصادر في 30 سبتمبر 1992 بتأييده لما ذهبت إليه المحكمة العسكرية الدائمة في 30 أوت 1992 بقولها “إن إطلاع المتهمين على فحوى مشروع طلائع الفداء وإلتزامهم به والخطة التي رسمتها قيادة الحركة والغاية التي ترمي إليها والتي تهدف إلى الإطاحة بالنظام الحاكم وإقامة بديل إسلامي… مما يجعلهم مشاركين للفاعلين الأصليين في التعدي على أمن الدولة الداخلي على معنى الفصل 32 و72 ق ج” ولكن رغم وجود هذه الأمثلة العملية فإن التسليم بما ذهبت إليه المحكمة لا يمكن قبوله لا فقط لكون طبيعة المؤامرة تتعارض مع بعض صور المشاركة والتي تقتضي إلى جانب التدخل إتيان عمل إيجابي بل وكذلك لأن المتآمر في أحسن الحالات يجد نفسه متهما طبق أحكام الفصل 70 م ج مهما قلت خطورة الفعل الذي أتاه وبذلك يكون المشارك في المؤامرة أما قد ساهم فيها أو على علم بمقصدها وهنا نشير إلى أنه في الحيثية سالفة الذكر نجد أن ما قام به من أتهموا بالمشاركة يخولهم وبقوة لكي يكونوا فاعلين أصليين.

لكن يمكن أن نقول أن أهمية الدور ونجاعته في المخطط الإجرامي كلها عناصر تدخل فقط في التطبيق أي في تفريد العقوبة بين الحدين الأدنى والأقصى وإستعمال ظروف التخفيف[101].

* تعيين الوسائل المفضية إلى تحقيق الغرض من المؤامرة:

أضافت بعض التشريعات[102] صراحة شرط آخر لقيام المؤامرة يتمثل في ضرورة تحديد الوسائل التي سيقع بها تحقيق الغرض من المؤامرة إلا أن التشريع التونسي وفي إطار توسيعه في مجال التجريم لم ينص على هذا الشرط صراحة

ولقد وردت بعض القرارات[103] في هذا الإتجاه من ذلك القرار عدد 12 المؤرخ في 30 سبتمبر 1968[104] الصادر عن محكمة أمن الدولة الذي يشير في أحد حيثياته “أن التآمر على معنى الفصل 69 هو إتفاق شخصين أو أكثر على القيام بأعمال مضبوطة وعلى تنفيذها بطريقة من طرق العنف” وهنا نلاحظ التزيد الواضع في هذه الحيثية من قبل المحكمة فهي لم تقر الوسائل فقط بل حددتها “بطرق العنف” وكذلك نجد في هذا الإطار قرار أوت 1977 الذي جاء فيه “… مع توفر الشرط الأساسي وهو تحديد الوسائل المعوّل عليها في التنفيذ…” وقد تأكد هذا التوجه من قبل فقه القضاء التونسي بما جاء بالقرار الصادر عن محكمة التعقيب في 30 سبتمبر 1992 الذي حدّد مختلف الوسائل التي أعدّتها حركة النهضة لتنفيذ مؤامرتها.

وبذلك نلمس جليا حرص فقه القضاء على التركيز على هذه الوسائل لأنها تمثل أهم الإثباتات الملموسة والشروط التي من شأنها التضييق من دائرة التجريم.

ب. موضوع المؤامرة:

موضوع أو محل الجريمة بصفة عامة هو ما يقع عليه السلوك الإجرامي إذا كانت الجريمة تامة وما كان السلوك يتجه على أن ينصب عليه إذا توقّفت الجريمة عند حّد المحاولة[105]

وموضوع جريمة المؤامرة هو إرتكاب جناية مقرّرة بالفصول 63، 64، 72 م ج وبهذا يكون المشرع التونسي على عكس بعض التشريعات لا يعاقب على الإتفاق الجنائي بصفة مطلقة ولكنه يعاقب على بعض الإتفاقات الخاصة بإرتكاب جرائم معينة حيث لا تتوفر عناصر جريمة المؤامرة ما لم يفصح الإتفاق المعقود بين شخصين أو أكثر عن الغاية التي يريدها المتفقون على هذه الغاية، وهذا الهدف وجب أن يكون واضحا وصريحا فإن لم تكن هذه الجناية محدّدة ضمن الفصول 63، 64، 72م ج فلا مؤامرة ولا عقاب، أمّا إذا بقيت الجريمة غير واضحة المعالم فلا يمكن الجزم بوجود إتفاق قطعي ولا بوجود مؤامرة، فما هي أهمّ هذه الجنايات الواردة بالفصول المذكورة ؟

لقد جاءت أحكام الفصلان 63 و64م ج محدّدة للعقاب المستوجب للإعتداء على رئيس الدّولة بالضرب الإعتداء على حياته. أما الفصل 72 فقد نصّ على الإعتداءات المقصود بها تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا أو إثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي، وكل مؤامرة ترمي إلى إرتكاب جناية منصوص عليها في النصوص المذكورة تعتبر موجبة للعقاب، أما التآمر خارج هذا الإطار فلا يشكّل أيّ جريمة و لعلّ هذا الإتجاه من المشرع نحو تجريم بعض الإتفاقات الخاصة بإرتكاب جرائم معيّنة تثير بعض الملاحظات:

* أن النظرية التي تخلط بين شخصية الرئيس والدولة والتي تعتبر أن هذه الجرائم من قبيل المساس بالعظمة لا تزال بصماتها وآثارها موجودة في القانون التونسي رغم إن هناك بعض التشريعات المعاصرة تعتبر هذه الجرائم من جرائم الحق العام، وهذا ما أكده مختلف الفقهاء الفرنسيين.[106]

* بالرغم من أن جلّ التشريعات المقارنة جعلت من تجريم المؤامرة ينطبق على جميع الإعتداءات على أمن الدولة الداخلي والخارجي لا يزال المشرع التونسي متشبثا بقصر تطبيق الفصل 68 على أمن الدولة الداخلي ولعلّ ذلك يفسّر بنقله لهذه الوضعية عن المشرع الفرنسي الذي قد إستغنى بعد ذلك على التفرقة بين أمن الدولة الداخلي والخارجي وبالتالي وجب النظر مليا في هذه الوضعية في ضل التنقيحات الجديدة.

ج-الركن المعنوي.

المؤامرة من الجرائم القصدية فيتخذ ركنها المعنوي صورة القصد الإجرامي و يتلازم الركنان المادي والمعنوي لهذه الجريمة لأنها تتم في لحظة واحدة كما سبق القول فإذا تحقق الإتفاق بإتحاد إرادة المتفقين بإتجاه الجناية موضوع الإتفاق وهذا يمثل الركن المادي فمعنى ذلك أن القصد ألأجرامي قد توافر أيضا بوجود إرادة المتفقين المتجهة نحو هذه الجناية وطالما أن المؤامرة جريمة قصديه يلزم توافر هذا القصد لدى المتآمرين أو لدى اثنين منهما على الأقل وذلك بعنصري العلم والإرادة، فيتعين أن ينصرف علم الجاني إلى موضوع المؤامرة بأن يكون عالما بأن الغرض من الإتفاق إرتكاب فعل يمس بأمن الدّولة[107].

أما إذا كان يجهل حقيقة الفعل المتفق عليه فإعتقد أنه فعل مشروع فإذا به فعل آخر غير مشروع فلا يتوفر القصد الإجرامي لديه، مثال ذلك من ينظم إلى جماعة معتقدا أنها تدعو إلى الإصلاح السياسي بالوسائل المشروعة فإذا بها تستعمل الجرائم لفرض ذلك بالقوة[108] كما يتعيّن أن تتجه إرادة الجاني بصورة جديّة إلى الدّخول في الإتفاق المكوّن للمؤامرة وأن يقوم بالدّور المعطى له، أمّا إذا كان المشارك في المؤامرة غير جاد بما إهطره للمتآمرين ويسعى إلى الإبلاغ عنهم أو كشف أمرهم بإعتباره مخبرا سريا أو كان يريد إستطلاع أمرهم دون الإنضمام إليهم أو كان هزلا يريد العبث بهم فلا يتوافر القصد الإجرامي لديه على أساس أن إرادة الآخرين لم تتحد مع إرادة جادة.

كما تجب الإشارة إلى أنه ليس شرف ونبل الباعث من عناصر القصد الإجرامي فلا أثر له على قيام القصد لكن يمكن أن يستدلّ على توافر القصد من خلال هذا الدافع فمن إنضمّ إلى إتفاق عالما بأن غرضه المس بأمن الدّولة توافر القصد الاجرامي لديه حتى لو كان دافعه إلى هذا الإنظمام تحقيق إصلاحات سياسية أو نشر أفكار حزبية أو مذهبية يؤمن بها فالعبرة هنا بإنصراف الإرادة إلى الدخول في المؤامرة التي تستهدف إرتكاب جناية من أحد الجنايات المقرّرة بالفصول 63، 64، 72 وليس من الغرض الذي ستحققه هذه الجناية لو نجحت، كما يعتبر القصد الإجرامي متوافر في المتآمر سواء أقام هو نفسه بتنفيذ أحد الجنايات المشار إليها بالفصل 68 أو قام بها غيره لأن المؤامرة جرم مستقلّ وتام بحد ذاته ولا يؤثر في وجوده بعد تمام الإتفاق قيام المتآمرين بتنفيذ مشروعهم أو عجزهم عنه[109].

 

فقرة 2: الإعتداء L’attentat:

لم يعرّف المشرع التونسي الإعتداء كما عرّف المؤامرة وخصها بالفصول 68، 69، 70 من المجلة الجزائية لذلك بقي المصطلح غامضا ومخيفا لأنه يتّسع لطائفة كبيرة مختلفة من الدلالات والمعاني، ويشمل ألوانا عديدة من السلوك الإنساني، وصورا شتى من الأفعال والتصرفات، فكلّ ما يؤذي الغير أو يمس حقوق الآخرين يمكن أن يسمى إعتداء فالقاتل يعتدي على حق الحياة والسارق يعتدي على حق الملكية ومثل هذا كثير.

ولقد اشتملت أحكام المجلة الجزائية التونسية على عديد الجرائم التي ورد بها مصطلح الإعتداء من ذلك ما نص عليه الفصل 202 م ج كمحاولة من المشرع لإبراز مفهوم الإعتداء عند تعريفه للإضمار فقال أنه “النيّة الواقعة قبل مباشرة الإعتداء على ذات الغير”.

ولئن تعدّد استعمال هذا المصطلح في مواضع عديدة[110] فإن استعماله يحظى بوضعية خاصّة في باب جرائم الإعتداء على أمن الدولة سواء منها الداخلي أو الخارجي وهذا يستدعي التطرق إلى هذا النوع من جرائم أمن الدولة بالبحث في تعريفه (I) والنظر في أركانه (II) حتى نتبيّن ما يتميز به من خصائص تجعله يستوعب أشكالا تجريمية كثيرة ومتنوعة.

I. تعريف الإعتداء:
رغم إستعمال المشرع لمصطلح “الإعتداء” في عدة مواضع لم يكلف نفسه عناء تعريفه على خلاف المشرع الفرنسي الذي فرّق بين المؤامرة والإعتداء صلب الفصلين 412.1 و412.2م ج[111]، فأفرد لكلّ منهما فصلا خاصا مقدّما تعريفا للإعتداء صلب الفصل 412.1 والذي يقابل الفصل 68 التونسي الحالي بقوله “يشكل الإعتداء الفعل الذي يستهدف القيام بعمل أو أعمال عنف يكون من طبيعتها وضع مؤسسات الجمهورية في خطر أو التي من شأنها أن تنال من حرمة تراب الوطن”[112] فهو يوافق إذن ما يعرف بالإنقلاب coup d’état [113]

ولقد جاء هذا التعريف كخلاصة لمراحل تطور هذا المفهوم الذي يمتد إلى زمن ما قبل الثورة حين كان مفهومي الإعتداء والمحاولة “tentative” يستعملان للدلالة على معنى واحد[114] ومع ظهور نظرية المحاولة في الجرائم العادية بأفعال البدأ في التنفيذ دون الأفعال التحضيرية أو الإتفاق، أمّا في جرائم الإعتداء على أمن الدولة فقد بقي مصطلح الإعتداء فيها واسع الدلالة بحيث يستوعب الفعل التام، والمحاولة فيها، والأفعال المهيئة للتنفيذ، ومنها المؤامرة وأحيانا العزم الإجرامي المنفرد إذا أمكن إثباته وكان هذا تشدّدا موروثا عن القانون الروماني في جرائم المساس بالذات الملكية.

ثم عرف التشريع الجزائي بعض التطور فأخذ يربط بين الإعتداء والمحاولة من جديد، لكنه أخرج في البدء المؤامرة من مفهوم الإعتداء وجعل منها جريمة خاصّة مستقلة، ثم ضيّق نطاق الإعتداء مستبعدا عنه الأفعال التحضيرية وقصر مدلوله على أفعال التنفيذ وهكذا لم تعد المؤامرة والأفعال التحضيرية داخلة ضمن مدلول الإعتداء لكن إشترط لوجوده أن يبدأ الفاعل بالتنفيذ على الأقلّ أمّا إذا أتمّه وأنجزه استحقّ عقوبة الإعتداء من باب أولى[115] بما أن مجرد البدأ فيه هو كذلك من قبيل الإعتداء.

وإنطلاقا من التعريف الوارد بالفصل 412.1 فرنسي جديد بقوله بأن الإعتداء هو “الفعل” واستنادا إلى ما سبق طرحه من تطور للمفهوم يمكن القول بأن الإعتداء هو مرحلة ما بعد التحضير إذ أن هذه المرحلة حسب التشريعين الفرنسي والتونسي من قبيل المؤامرة الموصوفة. وتجب الإشارة هنا إلى أن نصوص المجلة الجزائية يعتريها نقص كبير في هذا المجال ذلك أن أحكام المادة 261 من مجلة العقوبات السورية مثلا تنص على أنّ “الإعتداء يتم سواء كان الفعل المؤلف للجريمة تاما أو ناقصا أو مشروعا فيه” مما يفسح المجال أمام رجل القضاء الذي يجد نفسه مجبرا على تحديد الفيصل بين الأعمال التحضيرية والإعتداء بالرجوع إلى وقائع كل قضية على حدة وبما أن الأمر يغيّر وصف الجريمة من مؤامرة موصفة إلى إعتداء فإن هذا التقدير قد يؤثر بوضوح على حقوق المتقاضين والضمانات الممنوحة لهم وعلى مبدأ الشرعية ذاته خاصة وأننا بصدد تفسير قواعد جنائية وهو أمر خارق لأبسط القواعد الجزائية فضلا عن كونه لا يتعلق بمسألة تطبيق القانون بالتالي لا يحضى برقابة محكمة التعقيب من هذه الزاوية.

II. أركان جريمة الإعتداء:
تستلزم جريمة الإعتداء على أمن الدولة لقيامها توفر أركانها القانونية فحسب ما ورد في تعريف الإعتداء بالفصل 412.1 فرنسي وما جاء بمختلف التشاريع الجزائية ولا سيما منها التونسي لا تقوم الجريمة إلا مع قيام الركن المادي (أ) والركن المعنوي (ب)

أ. الركن المادي:

يمكن القول بأن الإعتداء لا يتم إلا إذا تلى المؤامرة عمل من أعمال التنفيذ أو محاولة للتنفيذ أو كذلك التنفيذ[116]، وبذلك تخرج عن مفهوم الإعتداء جميع المراحل السابقة.

وقد استقر فقه القضاء الفرنسي على أن القول والخطب والكتابات لا تعد من قبيل أعمال التنفيذ[117] وهو نفس موقف فقه القضاء في تونس إذ جاء في إحدى قرارات أمن الدولة “إنّ مجرد إبداء آراء مضادة لنظام الحكم بطريقة نشرات شديدة اللهجة… لا تعتبر قانونا من الأعمال التحضيرية للنيل من سلامة الدّولة”[118] فهذه الأعمال لا يقوم لها كيان مادي إلا بتواجد فعل مادي من أفعال القوة يعوّل عليه في البدء بالتنفيذ المفسّر بإنجاز عمل في الركن المادي للجريمة أو إتيان عمل آخر يؤدي إليه أحيانا[119]

وهذا ما أكدته محكمة التعقيب بقولها “أن القيام بأعمال الحرق وخاصة منها التي إستهدفت بعض المراكز الحساسة للدولة وخاصة منها الدفاع والأمن يتجاوز في الواقع مرحلة التحضير ويدخل في نطاق التنفيذ الفعلي للإعتداء على أمن الدّولة الداخلي[120].

وهكذا يكون فقه القضاء قد اعتبر أن الشروع في التنفيذ لا يكون إلا بإتيان عمل من أعمال التنفيذ فلا يتحقق الإعتداء ما لم يقع الدليل قاطعا على أن الفاعل قد ارتكب فعلا ماديا من أفعال التنفيذ.

والغريب أن المشرع وبالنظر في جميع النصوص المتعلقة بالإعتداء على أمن الدولة الداخلي والخارجي يستعمل لفظة الإعتداء لا للدلالة على إتيان عمل من أعمال التنفيذ بل كمصطلح يدل على إرتكاب جريمة مقررة.

فورد بالفصل 61 أنه “يعد مرتكبا للإعتداء على أمن الدولة الخارجي… كل تونسي أو أجنبي…”

كما وردت نفس العبارة بالفصل 61 مكرر وثانيا وثالثا ورابعا م ج، كما يستعمل نفس المصطلح بالفصل 63 عند الحديث عن الإعتداء على رئيس الدولة والفصل 64 م ج، بل أكثر من ذلك أن المشرع يستعمل مصطلح الإعتداء حتى في الفصل 68 م ج، عندما كان بصدد الحديث عن المؤامرة لإرتكاب أحد الإعتداءات. فالمشرع في جميع هذه المواضع وكأنه يستعمل مصطلح الإعتداء للدلالة على معنى اتيان فعل مجرّم بمقتضى نصوص المجلة أيا كانت طبيعته في حين أن مفهوم الإعتداء يقتضي بالضرورة أن يكون الفعل المؤلف لجريمة الإعتداء تنفيذيا، ذلك أن هذا الفعل التنفيذي هو الذي يعطي الإعتداء مفهومه ويخرجه عن زمرة الأفعال التي تسبقه، إلا أن المشرع بمثل هذا الإستعمال يؤدي إلى تعقيد هذا المصطلح ودمجه ببعض المفاهيم التي تختلف عنه إختلافا واضحا.

ويزداد الإشكال حدّة إذا علمنا بأن المشرع الجزائي لم يحدد معنى هذا العنصر المادي في جريمة الإعتداء إذ لا يمكن حصر هذه الأفعال لأنها تختلف في دنيا السياسة إختلافا كبيرا فالإعتداء المصحوب بإنتفاضة شعبية يتجلى في أفعال وألوان من السلوك هي غير الأفعال التي يتجلى فيها إذا ما أقدم على القيام به وزير متربع في دست الحكم أو قائد عسكري مغامر، ولعل عدم وضوح مفهوم الإعتداء يجعلنا نتساءل عن ضرورة أن يكون الإعتداء مسبوقا بمؤامرة؟ وعن مدى تأثير نجاح الإعتداء على وصفه الإجرامي؟ لما تمثله هذه الأسئلة من إشكاليات قانونية تجعل من التجريم أكثر اتساعا وشمولا.

* مدى تأثير نجاح الإعتداء على وصفه الإجرامي:

هل يصح في جرم الإعتداء على أمن الدولة إذا تم ما يصح في غيره؟

يردّ البعض أن المجرم إذا تمت جريمته بنجاح وقطف ثمرة إجرامه إنعدمت إمكانية عقابه إذ ينقلب من مجرم سياسي إلى بطل مظفّر تعقد له ألوية النصر وتلقى في يده مقاليد السلطة فمن ذا الذي يحاسبه؟

مما لا شكّ فيه أن الثورة الفاشلة هي الثورة المجرّمة أما إذا انقلبت إلى ثورة مظفّرة فلا تزول الصفة الجرمية عن أفعال الإعتداء بصورة آلية ويحكم النجاح وحده وإنما يلجأ عندها الثائرون الناجحون وقد غدى الحكم ملك أيمانهم إلى إستصدار قانون عفو عام يسدلون به الستار عن الجرائم التي أقترفت إخلالا بأمن الدولة أو إلى إستفتاء شعبي يضفون به ثوب المشروعية على ما قاموا به[121].

ولا يؤيّد الفقيهGarçon هذا الرأي ويعدد في ذلك أمثلة كثيرة من تاريخ فرنسا القضائي أتم فيه المعتدون على أمن الدولة جرائمهم ولم يحل نجاحهم دون معاقبتهم فلقد أتم المارشال Ney وكثيرا ممن أيدوا نابليون حين عودته من منفاه جرائم الإعتداء على النظام الملكي، فقلبوه ونجحوا في قلبه وساهموا مع نابليون في حكم المائة يوم، ولكن ذلك لم يمنع من ملاحقتهم ووصف جرمهم هذا بأنه جرم اعتداء تام معاقب عليه وقد عوقب المارشال Ney بالإعدام رميا بالرصاص عقب عودة النظام الملكي إلى فرنسا وكذلك أتمّ الثائرون في عام 1871 في باريس جريمتهم (ثورة الكومون) ونجحوا في إشعال حرب أهلية ولم يمنع نجاحهم هذا من عقابهم[122].

وإذن فنجاح المعتدي على أمن الدولة لا يكفي وحده من الناحية القانوني لسلخ الوصف الجرمي عن أفعاله وإعفائه من العقاب ولئن لم يشر المشرع التونسي صراحة على غرار المشرع السوري على التمييز بين الفعل التام والناقص والمشروع فيه فإن الإعتداء يكون تاما وموجبا للعقاب مهما كانت الصور التي يأخذها هذا الإعتداء، فإن مناط العقاب في جريمة الإعتداء هو البدء في التنفيذ وإتيان أحد أعماله،

وإن لم ينجم عن تلك الأفعال التنفيذية الآثار التي كان الفاعل يتوقّعها وسعى إليها ومن باب أولى أن يكون العقاب مستوجبا في حالة إتمام الإعتداء وفي ذلك خروج عن القواعد العامة في التجريم إذ أنه في الإعتداءات الأخرى لا يعاقب المجرم حسب الإعتداء التام إلا إذا أفضى نشاط الفاعل الإجرامي إلى حصول نتيجته أما الجريمة المشروع فيها فيعاقب عليها وفقا لأحكام الفصل 59 م ج إذا كانت الجريمة جناية أما إذا كانت جنحة فلا عقاب عليها إلا بنص صريح.

* محاولة الإعتداء على أمن الدولة:

يثير تحديد المحاولة في جرائم الإعتداء على أمن الدولة كثيرا من الدقة نظرا إلى أن مراحل إرتكاب الجريمة تبدأ من الأعمال التحضيرية ثم البدء بالتنفيذ حتى إتمام الجريمة فإذا وقفت عند البدأ في التنفيذ اعتبرت شروعا في الجريمة، فما هو المقصود بالمحاولة؟

لقد إنقسم الفقه المقارن في هذا الصدد إلى إتجاهين:

* إتجاه أول: يشترط أن يصل النشاط الإجرامي إلى حدّ البدأ في التنفيذ ويمثله القانون الفرنسي والذي ينصّ على أن التنفيذ والشروع وحدهما يتكون منهما الإعتداء ولذلك سوى المشرع بين المحاولة والجريمة التامّة، فالمحاولة بذلك تجرّم بمجرّد البدأ في التنفيذ لأن هدف المشرع هو العقاب على المحاولة حتى ولو عدل الجاني بعد البدأ في التنفيذ[123] لكن ذلك يتناقض مع تجريم المشرع للمحاولة بنص الفصل 59 م ج، كما أنه يخالف سياسة المشرع في العدول الإختياري.

* إتجاه ثاني: يكتفي بما دون ذلك من أفعال حيث يرى أن المحاولة تتوسط التحضير للجريمة والبدأ في التنفيذ ولذلك تمّ التنصيص عليها. فالمحاولة تقوم بالفعل المؤدي حالا ومباشرة إلى البدأ في التنفيذ بحيث لو ترك الجاني وشأنه لأدى ذلك إلى البدأ في تنفيذ الجريمة[124].

وفي هذا الإطار نجد أن المشرع التونسي أغفل الحديث عن المحاولة رغم ذكره لها والإحاطة بجميع الإشكاليات أو بعضها على الأقلّ والتي تطرح في التطبيق ما يزيد القضاء صعوبة في التعامل مع هذه النصوص وبالرجوع إلى القرار التعقيبي عدد 46942 الصادر في 30 سبتمبر 1992 نجد أن فقه القضاء إعتبر أنّ “تركيز صاروخ من نوع أرض جو ليطلق على الطائرة الرئاسية إثر إقلاعها ودرس مقر رئاسة الجمهورية وتحركات رئيس الدولة والطرقات التي تعود سلوكها”[125] تعتبر محاولة لإغتيال رئيس الدولة وقد ألحقها القرار بالفصل 72 م ج وبناء على ذلك يمكن أن نقول أن فقه القضاء التونسي وكأنه تبنى الإتجاه الثاني خاصّة وأن المشرع التونسي ذكر المحاولة في الفصل 62 م.ج.

* هل من الضروري أن يكون الإعتداء مسبوقا بمؤامرة؟

يمكن الإجابة عن هذا التساؤل من خلال تمييزنا بين المؤامرة والإعتداء سواء من حيث ورودهما زمنيا أو من حيث شخص الفاعل أو الفاعلين في كليهما.

فالإعتداء على أمن الدولة ليس بالضرورة وليد مؤامرة فلئن إشترطت أحكام الفصل 68 والفصل 69 م ج أن تكون المؤامرة وليدة إتفاق يتم بين شخصين أو أكثر فإن الإعتداء قد يقع من شخص واحد حسب نص الفصل 71 م ج ولا يشترط المشرع في هذا الإعتداء تعدّد الفاعلين بقدر ما يشترط إتيان فعل إستعدادي لإيقاع العمل الإجرامي وقد فسّره فقه القضاء الفرنسي “بالأعمال الدعائية الشفاهية أو المكتوبة مثل تحرير أو توزيع المناشير ووضع المعلقات”[126] وهو بالتالي يأخذ معنى الفعل التحضيري في المؤامرة الموصوفة.

لكن كونه مرتكب من قبل شخص منفرد جعله من قبيل الإعتداء، ثمّ إنه تجدر الإشارة إلى تبرئة ساحة الفاعلين من جرم الإعتداء لا يحول دون تتبعهم والحكم عليهم بموجب المؤامرة كما أن المتآمرين المعتدين في مرحلة لاحقة يعاقبون لأجل الإعتداء لأن الإعتداء يجُبّ المؤامرة[127] ولا خلاف على هذا الحل إذا إشترك المتآمرون جميعهم بأفعال الإعتداء، ولكن ما القول إذا إرتكب عدد من الأشخاص جريمة المؤامرة ثمّ لم يقع إتمام ما وقع التآمر بشأنه إلا من قبل بعضهم ولم يقم البعض الآخر بأي فعل من أفعال التنفيذ؟

نفتقد هنا إلى حل تشريعي واضح ممّا جعل الآراء بشأن الإجابة عن هذا التساؤل تختلف من مذهب إلى آخر فقال البعض بأنه إنطلاقا من مبدأ شخصيّة العقوبة يجب أن يعاقب كلّ شخص بحسب الجرم الذي إرتكبه، أمّا الرأي المقابل وهو الأكثر تطبيقا هو معاقبة الجميع على حدّ السواء، فالذين قاموا بالتنفيذ يعاقبون كفاعلين أصلين أما المتآمرين فيعاقبون كمشاركين في جريمة الإعتداء ذلك أن مثل هذه الأفعال وإن أرتكبت من قبل البعض فقط فإنّها تشكل مرحلة من مراحل المخطط الإجرامي الذي وقع العزم والإتفاق بشأنه[128].

ب .الركن المعنوي:

جريمة الاعتداء على امن الدولة من الجرائم القصدين التي يشترط لقيامها وجود قصد عام وقصد خاص

* القصد العام:

طالما ان جريمة الإعتداء على أمن الدولة من الجرائم القصدية فإن من أحكام الإعتداء أن لا يتصور وقوعه منطقيا في الجرائم غير المقصودة ومادام الإعتداء يستلزم الشروع فإن الأفعال غير المقصودة لا يمكن أن تشكل إعتداءا بالمعنى الدقيق وبالتالي لا بد لقيام الجريمة أن ينصرف علم الفاعل إلى موضوع الإعتداء كما يتعيّن أن تتجه إرادته بصورة جدية إلى الفعل المكون للإعتداء وذلك دون تأثير لشرف الباعث على قيام القصد[129]

*القصد الخاصّ:

لئن فات المشرع التونسي أن يعرّف الإعتداء ويبرز صفته التنفيذية متجنبا بالتالي معايير التمييز بينه وبين بعض الأعمال الأخرى فإنه لم يفته أن يعين الهدف الذي ينبغي أن ترمي إليه هذه الإعتداءات، وهو ما سهّل في بعض الجرائم تحديد أفعال التنفيذ من ذلك مثلا ما ورد بالفصل 72 م ج الذي يعاقب بالقتل مرتكب الإعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح أو إثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي ويعتبر الإعتداء حاصلا إذا أثبت أن أحد المتهمين قد إقترف أي فعل مادي يتًصل مباشرة بهدف من هذه الأهداف التي عيّنها الفصل المذكور،

فلا يتحقق الإعتداء وفق هذا الفصل ما لم يقم الدليل القاطع على أن الفاعل قد إرتكب فعلا ماديا من أفعال التنفيذ وعلى أن هذا الفعل التنفيذي المادي يقصد به فاعله تحقيق إحدى الجرائم والأهداف المذكورة، لكن إستحال إيجاد رابطة سببية بين الفعل المرتكب مهما كان نوعه والقصد من ذلك الفعل الذي يجب أن يكون تبديل هيئة الدولة أو حمل السّكان على مهاجمة بعضهم بعضا فإن العقاب لا يكون وفق مقتضيات الفصل 72 م ج، بل يعاقب على ما قام به من أفعال إذا كانت يشكّل في حد ذاتها جرائم ودون النظر إلى القصد منها[130]

والملاحظ هنا أن المجلة الجنائية الفرنسية الجديدة قد سكتت عن القصد الخاص بما أنها إكتفت بالتعرض إلى أعمال العنف الخطيرة التي تكوّن الإعتداء دون التّعرّض إلى الهدف من ذلك الإعتداء[131] وقد تعرض موقف المشرع الفرنسي إلى النقد ذلك أنه من الصّعب أن يرتكب أشخاص اعتداء بارتكاب أعمال عنف واضطراب سياسي دون أن يكون لهم قصد قلب نظام الحكم.

أما في صورة المشاركة في الإعتداء فيجب أن يتوفر القصد في كل مساهم ويتكون هذا القصد من الهدف الخاص وإرادة الاشتراك وقد إعتبرت محكمة التعقيب الفرنسية في قرارها الصادر في 24 أكتوبر 1963 أنه على محكمة الأصل أن تبحث بخصوص كل مساهم في الإعتداء على توفر أركان الجريمة وخاصة الهدف الذي يسعى الجناة إلى تحقيقه[132] ، هذا الهدف هو في الغالب غير شرعي لكن الإشكال المطروح هل يمكن أن يكون الإعتداء شرعيا مثلا عندما يكون الهدف من الإعتداء حماية النظام السياسي نفسه كالتصدي لخرق الدستور من طرف الحكومة؟ يعتبر بعض الفقهاء أنه “في صورة وجود إعتداء جسيم على الدستور من شأنه أن يجعل الحكومة نفسها مدينة جزائيا يمكن أن يصبح الإتداء شرعيا[133] “.

المبحث 2 : التوسّع في صيغـة التجـريم

إنّ الحرص على التطبيق السليم والعادل لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات المتصدر أعلى الهرم القانوني [134] والمستهل به فصول المجلة الجزائية[135] يفرض على المشرع توخي الوضوح في الصياغة والبيان في الأسلوب وذلك باستخدام الكلام الصريح للدلالة على المعاني المحددة لكن الأمر ليس على مثل هذه الدقة والوضوح في نصوص جرائم الإعتداء على أمن الدولة لتكون المرونة ولأسباب معيّنة (فقرة 2) ممثلة للصفة الأساسية التي تتصف بها هذه النصوص (فقرة 1).

فقرة 1 : مرونة الصياغة ومبدأ الشرعية

عندما يريد المشرع صياغة النص الجزائي والإفصاح عن التكليف الملقى على عاتق المخاطب بالقاعدة الجزائية يعمد إلى تحديد السلوك الإجرامي ويصيبه في دقة من التعبير ووضوح في الصياغة وبيان في الأسلوب، وذلك بإستخدام الكلام الصريح للدلالة على المعاني المحددة [136]، ليمثل هذا التحديد أنموذجا مجرّدا لهذا السلوك، مع ذكر العناصر المكونة له والشروط الواجب توفرها في كل عنصر، وفي ذلك حرص على الإلتزام بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات [137].

لكن في النصوص المتعلقة بجرائم الإعتداء على أمن الدولة نجد أن التعبيرات التي إستخدمها المشرع التونسي هنا وهناك غير واضحة المعالم ولا محددة الأطراف وظلال الألفاظ متموجة تكاد تتسع لكل شيء حتى يتأتى للقاضي أن يدخل تحت طائلة النص الجزائي جميع الأعمال والتصرفات التي تجمعها علّة التجريم وإن إختلفت أشكالها فلا تكون الأفعال التي منعها المشرع أو طلبها محدّدة بصورة يقينية بل شباكا أو شراكا يلقيها المشرّع متصيّدا بإتّساعها أو إخفاءها من يقعون تحتها أو يخطئون موقعها[138] من ذلك ما نصّ عليها الفصل 60 م ج الذي جاء بفقرته الثانية “يعد خائنا ويعاقب بالقتل… كل تونسي اتصل بدولة أجنبية ليدفعها الى القيام بأعمال عدوانية ضد البلاد التونسية أو ليوفر لها الوسائل إلى ذلك بأي وجه كان”

فما المقصود بالأعمال العدوانية ؟ ومتى يكون الإتصال بالعدو معاقبا عليه ؟ وما هي أشكال الإتصال ومظاهره؟ كلها تساؤلات تطرح بمجرد قراءة هذا الفصل .

كما يمكن أن نشير كذلك إلى ما جاءت به الفقرة الثالثة من الفصل 60 مكرر م ج من انه ” يعد خائنا ويعاقب بالإعدام …كل تونسي يتعمد المشاركة في عمل يرمي إلى تحطيم معنويات الجيش أو الأمة بقصد الإضرار بالدفاع الوطني”

فمن ذا الذي يستطيع أن يعيّن فحوى العمل الرامي إلى تحطيم معنويات الجيش أو الأمة ؟ ولا تكاد تخلو التشريعات الجزائية المقارنة من مثل هذه التعابير والألفاظ الفضفاضة التي تكاد تتسع لكل فعل، والأمثلة في ذلك كثيرة منها ما أورده المشرع المصري في الفصل 77 م ج الذي جاء فيه “يعاقب بالإعدام كل من إرتكب عمدا فعلا يؤدي إلى المساس بإستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها” ويشير محمد الفاضل في تعليقه على هذا الفصل أنّه قد بلغ من الإحاطة والشمول والغموض حدا يجعل تطبيقه في أكثر الجرائم المقترفة ضد أمن الدولة الخارجي إن لم يكن فيها جميعا لأنها في الأعم الأغلب ليست سوى ألوان من النشاط الذي يؤدي إلى المساس بإستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها [139]

كما نلاحظ إعتماد الصياغة العامة في القانون السوري مثل ما جاء به الفصل 285 من القانون الجزائي السوري الذي نص على عقاب كل” من قام في سورية في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها بدعوة ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية” كما يقضي الفصل 191 من القانون الجزائي المغربي بعقاب “كل مغربي أو أجنبي باشر إتصالات مع عملاء سلطة أجنبية إذا كان الغرض منها أو ترتب عنها إضرار بالوضع العسكري أو الدبلوماسي للمغرب ”

وبناءا على ما تقدم، تطرح مسالة تأثير هذا الخروج عن القواعد العامة للتجريم على مبدأ الشرعية بأكثر حدة خصوصا أمام العقوبات الشديدة التي تميّز هذه الجريمة لتصل في أغلب الجرائم حدّ الإعدام هذا فضلا على التكريس الواضح والصريح لمبدأ الشرعية بإعتباره الضمان الحقيقي لحرية المواطن ولوحدة القانون ووضوحه بالنسبة للكافة ،

إلا أنه على الرغم من هذا التكريس الواضح لمبدأ الشرعية كان إلتزام المشرع به محل جدل بين الفقهاء أساسه عدم التلاؤم الواضح بين مبدأ الشرعية وهذه المرونة في الصياغة التي تبدو عليها المجلة الجزائية في قسمها الخاص بالإعتداء على أمن الدولة ولعل ما يجسم هذا الإنكار الواضح لمبدأ الشرعية هو غياب تعريف قانوني واضح وشامل لجرائم الإعتداء على أمن الدولة والإقتصار في جملة الفصول المجرمة للأفعال الماسة بأمن الدولة على تعريفين تعريف أول جاء به الفصل 60 مكرر ثالثا م ج يتعلق بأسرار الدفاع الوطني وتعريف ثاني يتعلق بالمؤامرة جاء به الفصل 69 م ج مما يظهر بوضوح أهمية المصلحة التي تشغل بال المشرع والتي يسعى لحمايتها بكل الطرق [140]،

وإهماله الواضح لتعريف الإعتداء والخيانة والتجسس وإكتفائه بتعداد الجرائم وهو ما يؤكد أن إعتماد الدقة والتعريف لا يمثلان مشغلا من مشاغل المشرع الذي كان هاجسه الوحيد يتمثل في إحاطة وشمول أكبر عدد ممكن من الأعمال وتحديد العقوبات المستوجبة في حين ترك الحرية في تقدير الأفعال المجرّمة للظرف السائد مما يجعل دائرة تجريم بعض الأفعال قد تتسع وقد تضيق حسب الظرفية السائدة في البلاد والأزمات التي يمكن أن تمر بها الدولة سواء في الداخل أو الخارج، فالفعل الذي يعتبر مسموحا في زمن معين قد يصبح محضورا في زمن لاحق تبعا للمستجدات الحديثة، ولعل في هذا التجريم غير المستقر مساس بمبدأ الشرعية بل إن البعض ذهب إلى إعتبار مبدأ الشرعية قد صار له أثر معاكس للهدف الذي بعث من أجل ألا وهو حرية المواطن [141] .

ويبدو من هذه الفصول أن المشرع وكأنه سبّق العقوبة على التجريم في حين أن مبدأ الشرعية يقتضي خلاف ذلك حيث تركز إهتمام المشرع على بيان العقوبة المستوجبة دون إهتمام بالغ بالجريمة المستوجبة وهو ما يؤدي إلى قلب مفهوم مبدأ الشرعية فيأخذ بالتالي مفهوما معاكسا للحاجة التي أملت وجود هذا المبدأ الذي يمثل سمة من سمات دولة القانون والمؤسسات[142] وذلك بغية حماية الحريات الفردية [143]

فبعد أن كان مبدأ الشرعية بمثابة “المكبح” لتعسف السلطة تحوّل ليصبح أداة تضفي به الشرعية على تصرفاتها ووسيلة لحماية السلطة العامة عوضا عن حماية حقوق الأفراد وحرياتهم [144]

ولعل هذا الأثر العكسي لمبدأ الشرعية شكّل أهم خاصية ميزت الجرائم الواقعة على أمن الدولة لذلك وإستجابة لنداء المنتقدين أولى المشرع الفرنسي إهتماما خاصا بمبدأ الشرعية وذلك على اثر تنقيحه للمجلة الجزائية سنة 1992 ليعتني بتعريف الإعتداء بالفصل 412.1 والمؤامرة بالفصل 412.2 كما عرّ ف الفصل 413.9 أسرار الدفاع الوطني إلا انه في مقابل ذلك أعطى للقاضي سلطة تقديرية واسعة ذلك بأن تعمّد وضع تعاريف واسعة قابلة لتأويلات عديدة ومختلفة[145].

لكن رغم هذا الخروج عن مقتضيات القواعد العامة للتجريم على مستوى فن الصياغة التشريعية فإن ذلك لم يمنع عديد الفقهاء من تبرير هذا التوجه التشريعي الذي ميّز الجرائم الواقعة على أمن الدولة.

فقرة 2 : مبررات مرونة الصياغة التشريعية

إن هذه النزعة التوسعية في تجريم الإعتداءات على أمن الدولة لها ما يبررها واقعا وقانونا أي أن ما حدا بالمشرع إلى انتهاج مثل هذا المنهج له مبرراته في تشريعنا التونسي من حيث التطور التاريخي لهذه الجرائم (I ) أو من حيث طبيعة هذه الجرائم نفسها (II)

I – المبررات التاريخية

إنطلاقا من أن التشريع بصفة عامة يمثل مرآة عاكسة لواقع اجتماعي وظرفية سائدة وقت صدوره حيث لا يمكن تصور نجاح تشريع معين لم تمله ظروف إقتضت صدوره لذلك كان لزاما على التشريعات أن تكون مواكبة للظرف الذي صدرت فيه، وفي هذا الإطار ولفهم هذه المرونة في الصياغة وجب الرجوع إلى ظروف وضع هذه الفصول وتنقيحها ومبررات ذلك حتى نفهم بعمق أسباب المرونة التي هي عليها.

قبل الاستقلال
صدرت مختلف التشريعات في هذه الفترة في اتجاه تضييق الخناق على المواطن التونسي الخاضع للحماية الفرنسية والسلطات التونسية المنتصبة شكليا في التعامل مع هذا النوع من القضايا لذلك كانت هذه القوانين سالبة في جوهرها لاختصاص القاضي التونسي بالنظر في مثل هذه النزاعات وموسعة في اختصاص المحاكم الفرنسية وفي هذا الصدد صدر مرسوم 29 جانفي 1926 ليسلب من ناحية اختصاص القاضي التونسي من النظر في الاعتداءات على امن الدولة ويعطيها للمحاكم الفرنسية الموجودة بتونس [146] ويعود السبب في ذلك إلى بداية ظهور الحركة الوطنية في تونس التي اعتبرتها سلطات الحماية تهديدا لوجودها وسيطرتها على الدولة المحمية

وقد ذكر الأستاذ محمود العنابي مفسرا تنقيح سنة 1926 ودوافعه بان هذه الجرائم ذات طبيعة سياسية والتي تمثل إضافة لكونها تهدد امن بلادنا وتمس من سيادتها أيضا ضربة واضحة للمعاهدات التي بمقتضاها انتصبت الحماية بتونس والحكومة الفرنسية تعتبر إن مثل هذه الجرائم تهمها كدولة حامية أكثر مما تهم الدولة المحمية [147]

بعد الاستقلال
بعد خروج المستعمر أصبحت القوانين الموروثة عنه عاجزة على مواكبة الوضع الجديد للبلاد التي تتهيأ لمرحلة جديدة للإقلاع على أسس واضحة فكل نظام جديد يلجئ لاستخدام التشريع الجزائي لحماية وجوده أولا ولحماية القيم الجديدة التي يرتكز عليها ثانيا والمرحلة الجديدة بطبيعتها تؤدي إلى خلق جرائم جديدة وألوان مستحدثة من السلوك الإنساني يعتبرها بنات الأنظمة الجديدة مغايرة لمفاهيمهم ومثلهم او معرقلة لمسيرتهم [148]

لذلك كان هدف رجال الفكر والقانون آنذاك الضرب بشدة على جميع الأيادي التي ستعيق هذا التأهب للإقلاع وقد جاء ذلك في صورة تنقيح 10 جانفي 1957 الذي تعرض لانتقادات عديدة ذلك انه وقع تعويض القوانين السابقة بفصول جديدة طويلة نسبيا بالمقارنة مع نصوص المجلة الجنائية تعبر بصراحة على هذا الحرص كما عرفت تلك الفترة ظهور حركة اليوسفيين في البلاد وكانت الضرورة ملحة لإيجاد نصوص ملائمة لقمع كل محاولة تمرد وانقلاب على النظام [149].

كما كانت الضرورة ملحة لوضع تشريع خاص بحماية امن الدولة الخارجي فبعد حصول البلاد على استقلالها الداخلي والخارجي أصبحت حماية استقلال الدولة وسلامة أراضيها ووحدتها ضرورة ملحة وهو ما أكده التنقيح الذي جاء في مستهله “… وحيث يتأكد لضمان استقلال البلاد اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق امن الدولة الخارجي …[150]

لذلك كان لمختلف هذه المراحل التاريخية التي مرت بها البلاد أثرها الواضح على الصياغة الفنية للنصوص الأمر الذي جعل المشرع يضع هذه النصوص ثم ينقحها ثم يعيد هيكلتها كلما اقتضت الظروف ذلك

لكن أمّا وقد تجاوزت البلاد المرحلة التي كانت تسعى فيها إلى بناء ذاتيتها وفرض نظامها ودخلت مرحلة تدعيم دور القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان لنا ان نتساءل عن نجاعة إبقاء هذه المرونة على الأفعال المجرمة

II المبررات القانونية

نظرا لأهمية مبدأ الشرعية في بيان حقوق الأفراد وبيان واجباتهم [151] والتنسيق بين طموحاتهم والتوفيق بين حرياتهم في سلوك المنهج الذي يرتضون سعيا وراء الكسب وإبراز مواهبهم وإيجاد التناغم بين ضرورات الحياة الاجتماعية ومقتضيات الحياة الجماعية اختلف الفقه في تبرير هذا التهميش لمبدأ الشرعية فمنهم من رأى مبرر لذلك (ب) ومنهم من ناهض (ا)

الشق المناهض : يمثله الفقه التقليدي [152] وقد ندّد أنصاره بشدة بالوضعية التي تسود جرائم الإعتداء على أمن الدولة من حيث صياغتها التشريعية وذلك لعديد الإعتبارات:

إن مبدأ الشرعية هو المبدأ القانوني الوحيد الذي يكفل الوجود القانوني للدولة إذا أرادت أن تضفي على تواجدها مفهوم الشرعية، ذلك أن الدولة تستمد أساسها من القانون نفسه، فكيف تتعسّف على أهم مبادئه وتجعل وجودها كسلطة شرعية محل جدل يضعها في تناقض صارخ بين تواجدها كتنظيم قانوني أملته ضرورة تنظيم الحياة الاجتماعية وزيغها على مثل هذه الوظيفة عند تجريمها للاعتداءات التي تمس وجودها من الداخل والخارج.

إن تطبيق مبدأ الشرعية وهيمنته داخل الدولة يقتضي أن يكون أكثر وضوحا في جرائم الإعتداء على أمن الدولة أما في بقية الجرائم فإنها تكاد تكون مستقرة فضلا على أن تجريمها مفروغ منه حيث أن الإختلاف وعدم الإستقرار في وضع نصوصه قد يختلف لينا وشدة دون أن يصل إلى حد عدم التجريم أما جرائم الإعتداء على أمن الدولة فتضيق دائرتها وتتسع بحسب الظرفية السائدة في البلاد مما يحدث إضطرابا وبلبلة واضحة في حالة عدم التقيد بأحكام مبدأ الشرعية في هذا النوع من الجرائم بالذات .

إن هذه المرونة تجعل من مبدأ الشرعية سلاحا بيد السلطة وهو أمر يتنافى مع دور مبدأ الشرعية كحام للحريات العامة ليصبح مجرد أداة لتبرير الأفعال المجرمة [153].

ب الشق المساند :

يمثله الفقه الحديث [154] وهو متفقون مع أنصار المذهب المناهض حول عدم التناغم الواضح بين مبدأ الشرعية والطريقة التي صيغت بها أحكام المجلة الجزائية في قسمها الخاص بالاعتداءات الواقعة على امن الدولة ويرجعون ذلك إلى عديد الأسباب

إن طبيعة هذه الطائفة من الجرائم نفسها تتجافى مع الدّقة والتحديد فهي في أصلها وماهيتها غير بينةّ المعالم والأطراف وقد تتسع سلامة الدولة وأمنها لكثير من المعاني والأحوال والمحتويات وقد تضيق عنها تبعا للزمان والأزمات التي تعتري الدولة ذاتها في شتى مراحل النشوء والتطور، فتكون المرونة وسيلة لسد كل نقص يبرزه الواقع في نصوص التجريم والعقاب، فهي أداة لملاحقة ومسايرة التطور دون حاجة إلى إعادة صياغته فقرة بعد أخرى [155].

إن ثبات القاعدة الجزائية ووضوحها من ناحية وقاعدة التفسير الضيق للنصوص الجزائية كلها عوامل من شأنها أن تصيب التشريع الجنائي بالجمود والعجز [156] على مواجهة الأفعال المضرة بسلامة الدولة لهذا السبب يجد المشرع نفسه مجبرا على تحديد النتيجة وتعيين الرابطة السببية وتبعا لذلك يتحدد السلوك الذي تنبثق عنه السببية فتربط بينه وبين النتيجة [157].

إن الشارع يرغب من وراء ذلك في أن يترك للقاضي حرية واسعة في التقدير عند تطبيق هذه النصوص المرنة على القضايا التي يفصل فيها وفقا لظروف الوقائع وأدلتها وقرائنها ولا عاصم للفرد أو المواطن من هذا السلاح الخطير الذي تملكه للدولة سوى شرف ضمير القاضي ونزاهة وجدانه وإستقلاله ورفاهة حسه في التمييز بين الغث والسمين[158]

إنّ هذه المرونة يمكن تفسيرها بأهمية المصلحة المحمية وخطورة السلوك الإجرامي عليها وإعتبارها من جرائم الخطر [159] التي تتمثل النتيجة القانونية للسلوك الجرمي فيها في مجرد تعريض المصلحة المحمية للخطر سواء ترتب عن هذا النشاط نتيجة مادية أم لا.

يضيف أنصار هذا المبدأ بأنه بالرغم من النجاح الظاهر الذي ساد مبدأ الشرعية إلا أن هذا المبدأ لم يلق إطلاقا تطبيقا سليما لأحكامه حيث أن مبدأ الشرعية يمكن تطبيقه في كل واقعة على حدة بطريقتين متشابهتين [160] ، فمبدأ الشرعية هو بمثابة الثورة في المادة الجزائية إلا أن تطبيقه عمليا أدى إلى أحداث بلبلة على المبادئ العامة في القانون العام خاصة انه لا يحتمل إلا تطبيقا نسبيا لمقتضياته العديدة[161] وهو ما يؤدّي بالتشريع الجنائي إلى أن يصبح قانون الأشرار الذين يستطيعون تدبير نظم حياتهم على هامش التشريع دون الوقوع في براثنه[162]

خلاصة القول أن ممارسة الدولة لحقوقها في الدفاع عن وجودها ومؤسساتها والأجهزة التي تؤلف قوام شخصيتها يؤلف واجبا أوليا من واجبات الدولة الأساسية إلا أن ذلك لا يجب أن يبيح للدولة أن تتخذ من ممارسة حقها هذا أو قيامها بواجبها وسيلة للخروج من التجريم عن مبدأ الشرعية أو سلب الأفراد والجماعات الضمانات والحريات التي منحها إياهم دستور الدولة.

خاتمة الجزء الأوّل

إن البحث في خصوصيّة تجريم الإعتداء على أمن الدّولة يبيّن بوضح حرص المشرع على الإحاطة بهذه الجرائم بطريقة شموليّة، ذلك أنّه لم يكلّف نفسه عناء تحديد مفهوم دقيق لهذه الجرائم يمكن من خلاله تمييزها عن بعض المفاهيم المشابهة.

كما لم يحدّد المشرّع الطبيعة القانونية لهذه الجرائم والتي يمكن أن تؤدي إلى نتائج تغيّر وضعيّة المجرم وطريقة معاملته.

في حين ركّز على محاولة شمول أكبر عدد ممكن من الأفعال التي تمثّل إعتداءا على أمن الدّولة من حيث تجريم مجرّد العزم والتقارير وإبداء الرأي بشأن التآمر على امن الدولة وكذلك من حيث أحكام الإعتداء والإشكالات القانونية التي يطرحها موسعا بذلك مجال هذه الجريمة أكثر فأكثر خاصّة مع الليونة التي أضفاها على نصوص المجلة الجزائية المتعلقة بهذا الباب في خرق واضح لمبدأ شرعيّة الجرائم والعقوبات وعدم التقيّد بمقتضياتها.

وبذلك يكون هذا النوع من التجريم المفتوح انتهاكا واضحا لحرية الأفراد المكفولة دستورا والمضمونة بمبدأ الشرعية ليقع المشرع من خلاله في تناقض مع الغاية التي جاء من اجلها. فلئن كانت غايته المحافظة على أمن الدّولة، فإن أمن الدّولة ليس إلاّ أمن أفراد وبالتالي انتهاك حرية وأمن هؤلاء الأفراد هو انتهاك لأمن الدّولة.

وكأن المشرع في هذه الجرائم يعتدي باليد اليسرى عن ما يحميه باليد اليمنى.

الجزء الثاني: خصوصية زجر جرائم الإعتداء على أمن الدولة

إنّ الرغبة في التوفيق بين مصالح الدّولة من جهة ومصالح الأفراد من جهة أخرى جعلت موقف المشرّع يتأرجح لينا وشدّة بين مستلزمات سلامة الدّولة من إجراءات وتدابير صارمة وما تقتضيه الحريّة الفردية والعامة من حماية ورعاية.

فاتخذ المشرع لذلك مسلكا خرج في أغلبه عن القواعد العامة للتتبع والمؤاخذة فبرزت بذلك خصوصية جرائم الإعتداء على أمن الدّولة سواء على المستوى الإجرائي (الفصل الأول) بما ميز به المشرع هذه الجرائم من قواعد اختصاص استثنائية وما أقرّه لها من إجراءات خاصّة للتتبع أو على المستوى العقابي (الفصل الثاني). من خلال اعتماده أسلوب الترغيب والترهيب لإحكام سيطرته على هذه الجريمة بكلّ وسائل سواء من خلال تشديده للعقوبة المقررة أو النصّ على إمكانية الإعفاء منها في حالة التبليغ.

الفصل الأول: الخصوصية الإجرائية

إنّ حرص المشرع على حماية أمن الدّولة لم يقف عند الجانب الموضوعي من الجريمة ليمتد نحو الجانب الإجرائي منها ليمثل خصوصية أخرى مميزة لهذه الجريمة ومعبّرة عن رغبة المشرّع الكبيرة في حماية الدولة ومؤسساتها ونتبين هذا التمييز وهذا الحرص سواء على مستوى قواعد الإختصاص (مبحث 1) أو على مستوى التتبع (مبحث 2) لما فيها من خروج عن القواعد العامة للتجريم والعقاب هذا الخروج الذي يبدو أنه في تراجع مستمر.

مبحث 1: خصوصية قواعد الإختصاص:

في نطاق السعي المتواصل نحو محاولة شمول جملة الجرائم التي تمس من أمن الدولة والعدد الأكبر من مرتكبيها نظرا لخطورتهم، حاول المشرع أن يوجد حلولا في مستوى قواعد الإختصاص تتماشى مع هذا التوجّه سواء من خلال اعتماده للإختصاص العيني في هذه الجرائم (فقرة 1) أو حدّه من إختصاص القضاء العادي (فقرة 2) من خلال تنصيصه على إمكانية النظر في بعض الجرائم من قبل القضاء العسكري.

فقرة 1 : امتداد النطاق الإقليمي للإختصاص : الإختصاص العيني

من المسلّم به أن القانون الجزائي يعد مظهرا من مظاهر سيادة الدولة التي لا تُمارس إلا فوق رقعة معينة من الأرض فيقف بذلك سلطان الدولة عند حدود إقليمها ولا يتجاوز هذه الحدود ليسري على إقليم دولة أخرى احتراما لسيادة هذه الأخيرة وهذا ما يعبّر عنه بقاعدة الإقليمية[1]

وبالتالي تعتبر هذه القاعدة من القواعد الأساسية في التتبع والمؤاخذة، لكن المشرع خرج عنها في نطاق الجرائم الماسة بأمن الدولة ليؤكد على حرص الدولة على استعمال حقها في العقاب ضدّ كل من اقترف جريمة تمس أمنها وهذا المبدأ المقرّر يعرف بمبدأ الإختصاص العيني.

هذا المبدأ الذي اكتسى – بوصفه استثناء من قاعدة الإقليمية – أهمية خاصة وبرز ذلك خاصة على الصعيد الفقهي (I) أو التشريعي( II).

 

I – المواقف الفقهية :

لقد أجمع الفقهاء حول هذا المبدأ ولكن في ميادين مختلفة من ذلك قسّم الفقيه DE VABRE مصالح الدولة إلى صنفين صنف أول يخص كيان الدولة وصنف ثاني يتعلق بحماية الممتلكات والأفراد معتبرا أن الجرائم التي تهدّد كيان الدولة هي تلك التي تهدّد الدولة في وجودها نفسه [2].

كما ذهب الفقيه Claude Lombois إلى أن الإختصاص العيني يعدّ التطبيق الصريح لمبدأ حماية مصالح الدولة ذاتها لذلك فإن هذا الإختصاص لا يهّم إلاّ بعض الجرائم المعينة بالنص، والدولة المتضررة هي وحدها التي تملك سلطة تقدير ما إذا كانت هذه الجريمة تضرّ بمصالحها أم لا وذلك اعتمادا على قانونها الخاص وأن مثل ذلك الفعل قد لا يكون منصوصا عليه في قانون الدولة التي ارتكبت على أرضها [3] .

وفي هذا الاتجاه نفسه أقر البعض الأخر بتمتع الدولة بنوع من الدفاع الشرعي الذي تستخدمه بغض النظر عن جنسية مرتكبها أو مكان اقترافها أو قانون البلد الذي ارتكبت فيه الجريمة [4].

كما أيّد الفقه المصري هذا المبدأ معتبرا أن العلة في امتداد قانون العقوبات إلى الخارج بالنسبة لهذه الجرائم هي خطورتها على أمن الدولة مما يستدعي تعقب مرتكبها في أي بلد كان [5] خصوصا أنها لا تثق في إهتمام الدول الأخرى بالعقاب عليها لذلك يعدّ مبدأ العينيّة مبدأ المصلحة في صورتها المجرّدة [6].

لكن رغم التبريرات التي قدمت من أجل تقرير مبدأ الإختصاص العيني فقد وجهت إليه عدة انتقادات وأبرزها أن فكرة مصلحة الدولة التي يقوم عليها مبدأ الإمتداد الإقليمي ليست في الواقع إلاّ معيارا غامضا وواسعا يصعب وضع حدود له [7] فلا توجد جريمة لا تلحق ضررا بأي دولة معينة وتبعا لذلك قد يتسع إختصاص الدولة ليشمل كامل بقاع الأرض.

إضافة إلى أنه إذا تمّ الإعتماد على الرأي القائل بأنه يمكن الحد من خطورة هذا المبدأ بتحديد الأفعال التي تخضع له على سبيل الحصر فهل يكفي في هذه الحالة أن ترتكب هذه الأفعال في الخارج أم أن النتيجة الايجابية للفعل هي التي يجب إعتمادها أم أنه من الأفضل الإكتفاء بمجرّد نيّة المجرم؟

انتقاد أخر تمّ توجيهه إلى هذا المبدأ حيث أنّه أمام سكوت النّص القانوني يجد القاضي نفسه مجبرا على إتباع أحد المسلكين، إمّا إعتماد نظرية الهدف المباشر، وإما إتباع نظرية النتيجة، ولعلّ هذه الإنتقادات الموجهة هي التي تفّسر هذا التباين الموجود على مستوى مواقف التشريعات الجزائية من هذا الموضوع سواء كان الجاني أحد مواطني دولة صديقة أو دولة محايدة أو دولة معادية [8].

II – موقف التشريعات الجزائية

نصّ الفصل 307 م إ ج “كل أجنبي يرتكب خارج تراب الجمهورية سواء بوصفه فاعلا أصليا أو مشاركا جناية أو جنحة من شأنها النيل من أمن الدولة أو يقوم بتقليد طابع الدولة أو بتدليس العملة الوطنية الرائجة يمكن تتبعه ومحاكمته طبق أحكام القوانين التونسية إذا ألقي عليه القبض بالجمهورية التونسية أو تحصلت الحكومة على تسليمه”.

ويؤخذ من أحكام هذا الفصل حرص المشرّع على أن يطال بعقابه لا التونسي فقط بل حتى الأجنبي مهما كانت تبعية هذا الأجنبي سواء كان من دولة صديقة أو محايدة أو من دولة معادية.

وبذلك يكون قد احتفظ المشرع مثل معظم المشرعين بالحق الكامل للدولة في التتبع بصرف النظر عن جنسية مرتكب الجريمة.

إلا أنه إذا كانت معظم الدول قد اتفقت على تكريس مبدأ الإختصاص العيني فقد انقسمت فيما بينها في خصوص تحديد الجرائم الخاضعة لهذا المبدأ فمنها من أخذت بفكرة تحديد الجرائم التي تعد اعتداء على مصالح الدولة مثل المشرع التونسي والمشرع الفرنسي (فاصل 113. 10 م ج)[9] ومنها من فضّلت عدم حصر هذه الجرائم وترك الأمر لتقدير جهة القضاء فيها[10] .

ويعدّ القانون البلغاري أبرز مثال لذلك حيث نصّ ضمن مجلته الجنائية على أنّه “يطبق القانون الجنائي أيضا على الأجانب الذين يرتكبون جرائم القانون العام في الخارج إذا أحدثت ضررا بمصالح الجمهورية الشعبية البلغارية أو بالرعايا البلغاريين” حيث جعل المشرع البلغاري كلّ الجرائم خاضعة لهذا المبدأ وذلك بشرط حصول الضرر الفعلي بمصالح الدولة[11].

وبمقارنة هذين الاتجاهين يبدو الإتجاه نحو إطلاق عبارات النّص الذي يتضمن تطبيق هذا المبدأ يتماشى وخطورة هذه الجرائم على أمن الدولة خاصة وأنه من ناحية لا يمكن حصر الجرائم التي تعتبر اعتداء على مصالح الدولة ومن ناحية ثانية تختلف المصالح في كلّ زمن باختلاف الدولة ونظامها السياسي والإجتماعي والإقتصادي.

لذلك فإن منح القاضي سلطة تقدير كل حالة على حدة للتعرف على مدى تأثير الجريمة المرتكبة على مصالح الدولة تمكن من مسايرة التطورات التي تستخدمها البلاد والمجتمع الدولي عموما.

لكن هذا الاتجاه ولئن كان يحمي مصالح الدولة ذاتها إلاّ أنه يتناسى في المقابل مصالح الدول الأخرى، فاعتماد هذا الاتجاه من شأنه أن يوسّع من اختصاص الدولة بصفة تجعله شاملا كل بقاع العالم ولعلّ ذلك ما يفسّر ميل المشرّع إلى حصر الجرائم إدراكا منه بأن الدول في تطبيق مبدأ عينية النّص الجزائي يجب أن تضع حدودا للقاضي الوطني لا يتخطاها تفاديا لكل تحكم من جانبه أو إساءة استعمال الدولة لحقها في حماية سيادتها وذلك إما بتحديد الجرائم على سبيل الحصر وإما بتحديد المصلحة المعتدى عليها[12].

صحيح أن كل دولة تختلف مصالحها الحيوية عن الأخرى وهي الوحيدة التي تملك سلطة تقدير مدى خطورة الجريمة المرتكبة ولكن هذا لا يمنع من التزامها بالا تخضع لهذا المبدأ إلا الجرائم التي تهدد الدولة في سلامتها ووجودها.

ولعل فكرة حصر الجرائم التي تعد اعتداء على مصالح لدولة هي التي جعلت الفقهاء يطلقون على هذا المبدأ اسم مبدأ الإختصاص العيني بمعنى أنه ينطبق على جرائم معينة تهدد مصلحة بدرجة خاصة من الأهمية.

فقرة 2: اختصاص محدود للقضاء العادي:

أمام الوضعية التشريعية التي لم تسلم من الإنتقادات الدائرة حول الإنتهاكات التي ترتبت عن إحداث محكمة أمن الدّولة والتي نالت من حقوق وحريات الأفراد وضمانات المدّعى عليهم جزائيا كان لزاما على المشرع وضع حدّ لمثل هذا القضاء الإستثنائي كردّ اعتبار للدستور من خلال دعم مبدأ المساواة (الفصل 6 من الدستور) ومبدأ استقلالية القضاء (65 من الدستور) مستفيدا في ذلك من المناخ السياسي الجديد وهو ما تمّ فعلا مع حذف محكمة أمن الدّولة وإعطاء المشعل لمحاكم الحقّ العام (I) مع مشاركة استثنائية للمحاكم العسكرية (II) في خصوص جرائم الإعتداء على أمن الدولة.

I. اختصاص القضاء العادي:
صدر في 29 ديسمبر 1987 القانون عدد 79 وهو القانون الذي ترقبه أغلب رجال القانون وخاصّة المهتمين بالحريات العامة والذي قضى بحذف محكمة أمن الدولة ومن خلالها حذف لكلّ مظاهر الظلم والاستبداد وهضم حقوق الدّفاع وخرق مبدأ استقلال القضاء، بذلك كان هذا الإلغاء حدثا تاريخيا[13] عادت به الولاية في جرائم الإعتداء على أمن الدولة إلى محاكم الحقّ العام حيث نصّ الفصل 2 من قانون 29/12/1987 على أن “الأحكام الصادرة عن محكمة أمن الدّولة قبل حذفها والقابلة للطعن بالاعتراض وغيره من الصور المنصوص عليها بمجلّة الإجراءات الجزائية تكون من اختصاص محاكم الحقّ العام بتونس العاصمة”.

وبالرّجوع إلى المراحل التي مرّت بها جرائم الإعتداء على أمن الدّولة من حيث الاختصاص القضائي نجد أنها مرّت بخمسة مراحل تبين بوضوح حرص المشرّع على إفراد هذا النوع من الجرائم بأجهزة قضائية خاصّة، وتأكّد على قيمة هذا المكسب بعودة الولاية لمحاكم الحق العام، حيث خضعت جرائم الاعتداء على أمن الدولة في مرحلة أولى إلى “محكمة جنائية خاصّة” أحدثت بأمر 28-1-1956 وقد اختصت بالنّظر في جرائم الإعتداء على الباي وعلى أفراد عائلته وفي الجرائم الماسة بالوطن ،

ليتمّ إلغاء هذه المحكمة صراحة بالفصل 12 من الأمر المؤرخ في 19-04-1956 وإحداث محكمة أخرى أطلق عليها المواطنون اسم “المحكمة الشعبية” لأنها تتألف من ستة أعضاء يختارهم المجلس القومي التأسيسي من بين أعضاءه وينتدب رئيسها إمّا من القضاة في السلك العدلي أو من المحامين إلاّ أنّها لم تدم طويلا ليتم تجميدها دون نص بعد بضعة أشهر. وبذلك صارت جرائم الإعتداء على أمن الدّولة خاضعة إلى المحاكم العدلية مثل سائر الجرائم[14].

وفي مرحلة ثالثة أحدثت المحكمة العسكرية الدائمة بأمر 10 جانفي 1957 لتنظر في جرائم الإعتداء على أمن الدولة كلّما وجد مبرّرا من المبررات الموضوعيّة أو الشخصيّة أو المكانية المنصوص عليها ضمن أحكام المجلة العسكرية، لذلك كانت هاته المحكمة كثيرا ما تجد أساسا لتعهدها ممّا مكّنها من النّظر في الجرائم المرتكبة على الحدود التونسيّة الجزائية للتجسس على الوحدات العسكريّة[15].

واستمرت هذه الحالة إلى حدود سنة 1968 حيث تغيّرت الوضعية بصدور القانون عدد 17 لسنة 1968 المؤرخ في 2 جويلية 1968 الذي نسج على منوال المشرّع الفرنسي وأحدث محكمة أمن الدولة التي أصبحت مختصّة بالنّظر في جميع الاعتداءات على أمن الدولة الداخلي والخارجي وفي الجنايات أو الجنح لتدخل بالتالي الإعتداءات على أمن الدولة مرحلة رابعة تنتهي بإلغاء محكمة أمن الدولة وذلك في إطار سلسلة من الإصلاحات التشريعية[16] وتصبح في الأخير هذه الجرائم من أنظار محاكم الحق العام[17].

ولقد كان للانتقادات التي وجهت للقضاء الإستثنائي عموما ولمحكمة أمن الدّولة خصوصا الأثر الواضح في أغلب التشريعات إلأّ أنّه رغم حرص هذه التشريعات على القضاء على مختلف المظاهر التي تمثّل خرقا لمبدأ استقلالية القضاء[18] ومبدأ المساواة أمام القانون[19] فإنها تأرجحت في مواقفها بين اللّين والشدّة.

فلئن تخلصت بعض التشريعات من القضاء الاستثنائي كليا مثل التشريع الإيطالي الذي ينصّ ضمن الفصل 25 من دستوره على أنّه “… لا يجوز أن يحرم شخص من القاضي الطبيعي الذي يحدّده القانون”، أو تخلّص منه جزئيا مثلما هو الحال في التشريع الفرنسي الذي اقتصر على إلغاء محكمة أمن الدّولة بالقانون عدد 737 لسنة 1981 المؤرّخ في 4 أوت 1981 وإلغاء اختصاص المحكمة العسكرية في زمن السلم ليبقيه منحصرا في زمن الحرب وذلك منذ 21/07/1982[20].

فإن مشرعنا على الرّغم من حذفه لمحكمة أمن الدّولة بوصفها محكمة استثنائية فقد أبقى مع ذلك على بعض المظاهر الأخرى من القضاء الإستثنائي والتي لها صلاحية النظر في بعض الإعتداءات على أمن الدّولة مثل المحكمة العليا المحدثة بالقانون عدد 10 لسنة 1970 المؤرخ في 01-04-1970 والتي تنتصب عند اقتراف جريمة الخيانة العظمى من قبل أحد أعضاء الحكومة والمحكمة العسكرية المحدثة بقانون 10-01-1957.

II. اختصاص المحكمة العسكرية:
بالرّغم من أن المشرع التونسي قد خطى خطوة هامّة في إلغاء مظاهر القضاء الإستثنائي لما يحتويه من حيف وهضم لأبسط القواعد الإجرائية العادية فإن عمل المشرع التونسي في هذا الميدان يحتاج إلى مزيد من الدّعم خاصّة في ميدان جرائم الإعتداء على أمن الدّولة لأنه لا يمكن أن نسلب باليد اليمنى ما منحناه باليد اليسرى، الأمر الذي حصل مع الإعتداءات على أمن الدّولة بحيث وقع ظاهريا إلغاء اختصاص محاكمة أمن الدّولة في هذه الجرائم لصالح محاكم الحق العام في حين أن الواقع يؤكّد بقاء هذه الجرائم من اختصاص القضاء الاستثنائي المتمثل في المحكمة العسكرية ليمسّ من جديد بوحدة القضاء الضامن للمساواة التي لا يمكن أن تتحقق إلا إذا خضع جميع المخاطبين بالقاعدة الإجرائية إلى جهة قضائية واحدة وإلى إجراءات متماثلة تضمن حقّ الدفاع بنفس الدرجة.

ولئن تباينت الآراء بخصوص ذلك ليذهب الإتجاه الأول إلى القول بأن القضاء العسكري قضاء عادي متخصص و ان وجوده لا يعتبر خروجا عن مبدأ المساواة[21] المنصوص عليه بالفصل 6 من الدستور طالما أن الفصل 7 منه أجاز الحدّ من حقوق الأفراد لاعتبارات من بينها صالح الأمن العام والدفاع الوطني، كما لا يتعارض القضاء العسكري مع وحدة القضاء طالما أنه يباشر عمله تحت رقابة محكمة التعقيب كما يضيف أنصار هذا الإتجاه إذا كان من سمات القضاء الإستثنائي أن يكون مؤقتا ينعقد في صورة وجود أحداث معيّنة فإن القضاء العسكري قضاء دائم[22]

في حين ذهب الإتجاه الثاني وهو الأغلب إلى القول بأن القضاء العسكري قضاء استثنائي يخل بوحدة القضاء والمساواة “إذ يقضي مضمون المساواة أمام القضاء أن يكون القاضي الذي يتقاضى أمامه الجميع واحدا وألاّ تختلف المحاكم باختلاف الأشخاص الذين يتقاضون أمامها وكذلك أن تكون إجراءات التقاضي التي يسير عليها المتقاضون واحدة[23] بحيث لا يجرّم الفعل بالنسبة لشخص دون آخر،

ولا يسنّ للفعل الواحد عقابان مختلفان باختلاف صفة المنحرف، ولا يحدّ أمام محكمة من الضمانات المشروعة الممنوحة أمام محكمة أخرى ولا يحاكم شخص من طرف هيئة متضلّعة في القانون ويحاكم آخر من طرف هيئة لا مرجع لها سوى الذوق والفطرة[24]، فوجود محاكم استثنائية خاصّة بأفراد معنيين أو لفئات اجتماعية بذاتها يخلّ بالمساواة.

وما يزيد الأمر أهميّة أن المتأمل في الجرائم المعروضة على محاكم الحقّ العام بعد إلغاء محكمة أمن الدّولة يلاحظ اقتصار مواضيعها أساسا على الاحتفاظ بجمعيّة غير مرخّص فيها المنظمة بقانون الجمعيات عدد 154 لسنة 1959 المؤرخ في 7-11-1959 وهكذا فإن نظر محاكم الحقّ العام في جرائم أمن الدّولة إذا ما استثنينا الجرائم المذكورة يكاد يكون منعدما حيث استأثرت به المحكمة العسكرية الدائمة بتونس التي أسست اختصاصها على الفصلين 8 و5 من مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية.

فقد جاء بالفصل الخامس الفقرة الخامسة منه بأنّه : “يمكن منح هذه المحاكم بموجب قانون خاصّ حقّ النظر في جميع أو بعض الجرائم المخلّة بأمن الدّولة الداخلي أو الخارجي”.

وتبعا لأحكام الفصل 5 و 8 م.م.ع.ع يمكن أن تدخل جرائم الإعتداء على أمن الدولة بصريح النص ضمن اختصاص المحاكم العسكرية عند توافر أحد العوامل الثلاث الآتية: إذا ارتكبت الجريمة بمكان عسكري أو كانت ماسة بمصالح عسكرية أو صدرت من أحد رجال الجيش.

إلاّ أنّ الإشكالية التي بقيت مطروحة هي أن هذا الإختصاص يمنح لهذه المحكمة في جرائم الإعتداء على أمن الدولة الدّاخلي أو الخارجي بموجب قانون خاصّ.

ولقد ذهبت المحكمة العسكرية في حكمها الصادر يوم 30 أوت 1992 والتي أحيل فيها قرابة 108 من المتهمين أمام المحكمة العسكرية الدائمة بتونس لمقاضاتهم من أجل الإعتداء على أمن الدولة الدّاخلي فيما يخصّ مسألة خروج هذه القضية عن أنظارها وعدم اختصاصها بالنظر فيها نظرا لعدم صدور قانون خاص يخوّل هذا الإختصاص، “أنّ هذا الدفع لا يمكن الأخذ به ضرورة أن المادة الثامنة من المجلة نفسها المتعلقة بتحديد مرجع النّظر الشخصي لهذه المحكمة خوّلتها حقّ النظر في القضايا التي يكون فيها طرف عسكري مهما كانت رتبته بصرف النظر عن موضوع التهمة…”

وهذا ما أكدته محكمة التعقيب في القرار عدد 46956 المؤرخ في 30 سبتمبر 1992 والمتعلق بنفس القضية السابقة لتضيف محاولة توضيح ما أوردته المحكمة العسكرية في هذه الحيثية “أنّ ما جاء بالفصل الثامن يكفي بمفرده لاعتبار المحكمة العسكرية مختصّة بالنّظر وكذا الشأن بالنسبة للفصل 5 المتعلق بمرجع النّظر الموضوعي…”

كما أيدت محكمة التعقيب ما أوردته المحكمة العسكرية في خصوص الفصل 5 فقرة أخيرة بقول محكمة التعقيب وبتركيبة أكثر دقّة “إن ما جاء بالفقرة الأخيرة منه والواقع التمسك بها قصد بها المشرع إمكانية منح تلك المحاكم صلاحيات زائدة بتخويلها بقانون خاص حقّ النظر في جرائم الإعتداء على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي والحال أنّها ليست جرائم عسكرية ولا وجود لعنصر عسكري في القضية”.

وتبعا لذلك فإنّ جرائم الإعتداء على أمن الدّولة قد تخرج من نطاق اختصاص محاكم الحق العام لتصبح من أنظار المحكمة العسكرية، باعتبارها تمسّ من ناحية مصلحة عسكرية[25] ومن ناحية أخرى لا يمكن تصوّر حصولها من مدنيين فحسب إلاّ في حالات نادرة، لذلك فإنّ وجود الطرف العسكري فيها تكاد لا تخلو منه قضيّة من القضايا التي عرضت على أنظار محكمة أمن الدّولة سابقا أو المحكمة العسكرية حاليا. وهو ما يعبّر على اتساع مجال تدخل المحكمة العسكرية في هذه الجرائم.

لكن يجوز أن يثور الشكّ والخلاف في شأن الإختصاص بين محاكم الحقّ العام والمحكمة العسكرية فلمن يؤول أمر البت في هذا “التنازع”؟ ولأيّ من القضائين ترجّح كفّة الإختصاص؟

اختلفت الدول في الأجهزة الموكول لها صلاحية فصل هذا التنازع فتمثل هذا الجهاز في بعض الدّول مثل تركيا في محكمة خاصّة تسمى “محكمة التنازع” “Tribunal de conflit” في حين أوكلت دول أخرى مهمّة فض هذا التنازع إلى وزير الدفاع الوطني وذلك مثل السودان.

أمّا المشرع التونسي والذي كان يسند صلاحيات البت في الإختصاص إلى نوع من الأجهزة عبّر عنه بالسلطات القضائية العسكريّة فإنّه بتنقيح الفصل 9 نص على أن “كلّ خلاف يثار بين المعالم العسكريّة والمحاكم العدلية في شأن مرجع النّظر يقع فصله وفقا لأحكام الفصلين 291 و292 من مجلة الإجراءات الجزائية المتعلقة بالتعديل بين المحاكم”[26]، وبذلك تكون محكمة التعقيب هي المختصّة في الفصل في تنازع الإختصاص كما هو الشأن في فرنسا ولبنان والجزائر.

وهكذا ولئن قام المشرع التونسي بوضع القضاء العسكري تحت رقابة محكمة التعقيب مؤكدا بذلك على وحدة القضاء إلاّ أن ذلك لا يمكن أن ينفي الموقف الذي اتخذه في تقليص اختصاص محاكم الحقّ العام بالنظر في جرائم الإعتداء على أمن الدّولة لفائدة المحكمة العسكرية الدائمة بتونس وبالتالي خضوع مرتكبيها لقواعد إجرائية استثنائية ليؤكّد لنا مرّة أخرى التزامه الشدّة والصرامة في زجر مرتكبي الإعتداء على أمن الدّولة ولو كان ذلك على حساب أبسط القواعد العامّة في التجريم والتتبع.و لم يكتفي المشرع في المستوى الإجرائي بذالك بل حاول تضيق الخناق أكثر على مرتكبي الاعتداء على امن الدولة من خلال ما أضفاه على مرحلة التتبع من خصوصية.

مبحث 2: خصوصية إجراءات التتبع:

لا شكّ أنّ ممارسة الدّولة لحقها في الدّفاع عن وجودها ومؤسساتها وأجهزتها يستلزم كثيرا من الحزم والحرص لكشف النقاب على كل شبكة إجرامية من شأنها النيل من هيبة الدولة.

لذلك أضفى المشرع على الإرشادات المتعلقة بتدابير الكشف والقبض على المعتدين في جرائم الإعتداء على أمن الدولة سواء بشأن الأبحاث الأولية (فقرة 1) أو التحقيق (فقرة 2) البعض من الخصوصية التي عبرت بوضوح عن ضعف الضمانات الإجرائية في جرائم الإعتداء على أمن الدّولة فحين لم يفرد مرحلة المحاكمة بإجراءات خاصّة تمس بصفة واضحة و اكيدة بهذه الضمانات.

فقرة 1: مرحلة البحث الأولي:

البحث الأولي كما عرفه Jean Pradel “إجراء تقوم به الضابطة العدلية بصفة تلقائية أو بناء على تعليمات من النيابة العمومية من أجل الحصول على معلومات أوليّة تخصّ جريمة ما لتمكين وكيل الجمهورية من ملائمة التتبع”[27]

وتبرز أهميّة هذه المرحلة خاصّة في جرائم الإعتداء على أمن الدّولة باعتبار أنّ هذه الجرائم يغلب عليها طابع التنظيم المحكم إذ يتمتع هؤلاء المجرمون بهياكل وتجهيزات تمكّنهم من استغلال التقنيات العصرية الأكثر تطورا في مستوى البرمجة والتخطيط والتنظيم وما يتوفر لهم من عناصر التنفيذ لذلك نجدهم نادرا ما يرتكبون هفوات أو أخطاء تمكّن من ضبطهم والتعرّف عليهم. لذلك حظي هذا النوع من الجرائم بأجهزة خاصّة في صلب مؤسسات الدّولة وهي مصالح أمن الدّولة التي تتولى البحث في هذا النوع من الإجرام وذلك على غرار جلّ الدول التي تكلّف أجهزة أمنية خاصّة للبحث في الجرائم الخطيرة على أمن الدولة فمثلا في مصر يتولّى البحث في الجريمة السياسية مباحث أمن الدّولة والمخابرات الحربيّة[28] أمّا في سوريا فتناط هذه المهمّة بعاتق ثلاث أجهزة أساسية وفي المخابرات العسكرية والمخابرات العامّة والأمن السياسي[29].

ولعلّ ما يتميز به البحث الأولي هو قلّة الضمانات الممنوحة للمشتبه فيه وخاصة المتعلقة بحقّ الدفاع والإستعانة بمحام وقد تميّزت عدّة تشريعات بغياب هذا الحق خلال البحث الأولي من ذلك التشريع الإجرائي السفياتي سابقا[30] أمّا التشريع الفرنسي فقد أدخل ضمانة الاستعانة بمحامي أثناء مرحلة البحث الأولي على مرحلتين إثر تنقيح 1993 لم.إ.ج الفرنسية والثانية بموجب قانون تدعيم قرينة البراءة لسنة 2000[31].

و قد ذهب التشريع التونسي في هذا الاتجاه ليقر بدوره مؤخرا هذه الضمانة بموجب القانون عدد 17 لسنة 2007 المؤرخ في 22 مارس 2007[32] حيث يجيز للمشتبه به الاستعانة بمحام أمام أعوان الضابطة العدلية بشرط وجود إنابة فقد فرض المشرع على مأموري الضابطة العدلية إعلامه بان له الحق في اختير محام للحضور معه و التنصيص على ذالك في المحضر واضعا بذالك حدا للمبدأ الفقه قضائي التونسي الذي كان يعتبر “أنّ حضور المحامي بالإستنطاق الذي يجريه أعوان الضابطة العدلية غير واجب قانونا إذ لا صفة لهذا العون في توجيه التهمة، والمحامي لا يحضر إلاّ عندما يوجه على منوبه حاكم التحقيق التهمة وأدلته ليتمكّن من الدّفاع عن حقوق موكّله الشرعية”[33].

لكن يمكن ان نقول انه رغم اهميه هذاالتنقيح ال انه يعاب عليه حصره لامكانية حظور المحامي في صورة الانابة فقط، في حين ان الانتهاكات التي يمكن ان تمارس على المشتبه به تكون في صورة الانابة وفي غير صورة الانابة فلم ضيق المشرع في مجال هذا الاجراء وهو يعلم ان حضور المحامي في البحث الأولي يضفي رقابة ناجعة على أعوان الضابطة العدلية، وان مختلف الضمانات التي تحيط بالتحقيق الإبتدائي تصبح غير مجدية إذا تمّ انتهاكها[34]وما يزيد الأمر تعقيدا أنّ حاكم التحقيق عند توليه البحث بدوره كثيرا ما يقتصر على قراءة محضر بحث الشرطة أو الحرس الوطني[35] هذا المحضر الذي قد يكون متضمنا لاعتراف أنتزع بواسطة التعذيب.

وأمام خطورة هذه الجرائم وضعف الضمانات الإجرائية في مرحلة البحث الأولى ليس من الغريب أن نسجل عديد الدفوعات المتعلقة بخرق آجال الاحتفاظ أو بالتعذيب.

I. خرق مدّة الاحتفاظ:
لئن كان الاحتفاظ في القانون التونسي غير مقيد بمدّة فإنه على إثر صدور القانون عدد 70 لسنة 1987 المؤرخ في 26 نوفمبر 1987 أضيف الفصل 13 مكرّر لمجلة الإجراءات الجزائية الذي تمّ تنقيحه سنة 1999[36] والذي جاء فيه “في الحالات التي تقتضيها ضرورة البحث لا يمكن لمأموري الضابطة العدلية المبينين بالعددين 3 و4 من الفصل 10 ولو في حالة التلبس بالجناية والجنحة الاحتفاظ بذي الشبهة لمدّة تتجاوز ثلاثة أيّام وعليهم إعلام وكيل الجمهورية بذلك ويمكن لوكيل الجمهورية التمديد كتابيا في اجل الاحتفاظ مرّة واحدة فقط لنفس المدّة”

حيث لم يشر الفصل 13 مكرر م إ ج إلى استثناء جرائم الإعتداء على أمن الدّولة من نطاقه وبالتالي فإن مختلف الضمانات الواردة بهذا الفصل تنطبق على المتّهم بالإعتداء على أمن الدّولة والمتهم العادي على حدّ السواء خاصّة مع تحديد مدّة الاحتفاظ بثلاثة أيّام كحد أدنى وستّة أيام كحد أقصى لكن هل يتمّ الإلتزام بهذه الآجال تجاه المعتدين على أمن الدولة؟

لقد جاء في تقري منظمة العفو الدوليّة لعام 1992أنّه “ألقي القبض على آلاف ممّن يشتبه في تأييدهم “لحزب النهضة” ووضع كلّ منهم قيد الإعتقال الإنعزالي السابق للمحاكمة لما يعرف “بالإحتفاظ” لمدّة كثيرا ما تجاوزت الأجل الأقصى الذي يحدّده القانون التونسي بعشرة أيّام”[37].

كما نلاحظ الطابع السري لذا الإحتفاظ إذ حسب هذه التقارير كثيرا ما يتمّ الإحتفاظ بصفة سرية وقد يتمّ الإحتفاظ بأحد أقارب المتهم السياسي الهارب لحمله على تسليم نفسه فقد جاء مثلا في تقرير منظمة العفو الدوليّة لسنة 1992 أنّه “وقعت حالات إيقاف لزوجات الأشخاص الذين تجد السلطة في طلبهم أو لبعض من ذوي أقاربهم لحملهم على تسليم أنفسهم”[38].

ومن هذا المنطلق نلاحظ أنه رغم محاولة المشرع الحدّ من الممارسات الغير مشروعة بإيجاد النصوص الضامنة لحرية الفرد وسلامته إلاّ أن ذلك يجب أن تتبعه إرادة سياسية جادّة تتماشى مع ما يورده المشرع حفاظا على حرية الفرد وسلامته.

II. التعذيب أثناء فترة الإحتفاظ:
لقد أعتبر أحد الفقهاء أنه “لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من التفكير في أن أزمة التحقيق هي أزمة شرطة أيضا”[39] وذلك نظرا لتفاقم ممارسة التعذيب الجسدي خاصّة داخل مقرّات “مراكز الشرطة والحرس الوطني وبالتحديد في ثلاث مراكز رئيسية مركز الحرس الوطني بالعوينة ومركز الشرطة ببوشوشة وبمحلات وزارة الداخلية”[40] وقد جاء في تقرير منظمة العفو الدولية لسنة 1992 أنّ “من الأمور المألوفة ممارسة التعذيب ضدّ معتقلين سياسيين أثناء احتجازهم في عزلة قيد الإحتفاظ الذي كثيرا ما تمدّد، الشرطة لفترة لا يسمح بها القانون…

ومن الأساليب المستخدمة لهذا الغرض أسلوب “الفرّوج المشوي” الذي يمثل في تعلق المعتقل مقلوبا مع وضع قضيب من حديد وراء الركبتين وإحكام وثاق اليدين بالقدمين والضرب على بطن القدمين والحرق بلفائف التبغ والصدمات الكهربائية… وقد ورد أن سبعة محتجزين على الأقلّ لقوا حتفهم نتيجة للتعذيب ومن بينهم “عبد الرؤوف العريبي” وصهره “فتحي الخياري” بينما كان كلاهما رهن الإعتقال كما توفي رهن الاعتقال “فيصل بركات” أحد الأعضاء المعروفين في “حزب النهضة” وتردّد أن وفاته نتجت عن تعذيب”[41]،

لقد أصبح التعذيب يمارس عن طريق مؤسسات تتصور طرقه، إذ يتمّ تكوين الجلاّدين وتمرينهم ويمارس عادة في أماكن مجهولة ومقرّات للإستنطاق ومراكز للشرطة يعسر تحديد موقعها ويقع تغييرها كلّما تمّ اكتشافها والهدف من هذا التعذيب محو الفرد وتحطيم إرادته وعندئذ تصبح الضحيّة ميّتا – حيّا[42].

ومن هذا المنطلق نلاحظ أن المشرع في مستوى البحث الأولي مازال يعاني ضعف الضمانات الإجرائية وذلك رغم إلزامه مأموري الضابطة العدلية بأن يعلموا المحتفظ به بحقوقه بما في ذلك حقه في طلب إجراء فحص طبي وأن يقع تدوين هذا الطلب في صورة حصوله ضمن محضر الإحتفاظ[43]“فالفحص الطبي وبالرغم من أهميته كضمان لحماية شخص المشتبه فيه من ممارسات التعذيب إلا انه يحومه العديد من الغموض والإشكالات التي وجب تلافيها”[44] فالعبرة ليست بإقرار الحقوق بل لا بد من ضمان ممارستها

حيث أنه وبالرغم من هذه التنصيص جرى العمل في مراكز الشرطة على أن العون عادة لا يذكّر ذي الشبهة بحقه في طلب إجراء الفحص الطبي ولا يقوم بتدوينه في المحضر وفي صورة رفض المحتفظ به إمضاء محضر الإحتفاظ نظرا لعدم تذكيره بحقه في إجراء الفحص الطبي فإن ذلك لا يعدّ إشكالا لأن الوسائل التي استعملت لاستئصال اعترافه ستستعمل لجبره على إمضاء المحضر[45].

“فالإنسان الذي يمرّ بمقرّات الشرطة العدلية لا يخرج منها إلاّ معترفا”[46] لأنّ الشرطة تكون حريصة على نجاعة البحث الأوّلي أكثر من حرصها على حماية الحريّات ومن هذا المنطلق يكون منطق القوّة هو على الدوام الأمثل[47].

ولئن حدّد المشرع زمن طلب إجراء الفحص الطبي وحصره في حالتين الأولى خلال مدّة الإحتفاظ والثانية عند انقضائها وبالتالي أصبح الفحص الطبي حماية لاحقة أي أنه ضمان بعد حصول الضرر[48]، إلاّ أن صعوبة الإثبات تبقى كبيرة في هذه الجريمة وهذه الصعوبة متأتية بالأساس من صفة الجاني ألا وهو الموظف العمومي فهذه الصفة تعطي لصاحبها سلطات وإمكانيات واسعة تساعده على طمس معالم الجريمة[49]، وهو ما يفسر الغياب الواضح لفقه قضاء، في مجال التعذيب وفي هذا الموضوع نورد هاته الحيثية التي تختزل ما كنّا بصدد شرحه حيث أوردت المحكمة العسكرية بتونس في قرارها المؤرخ في 30 أوت 1992″…

وحيث أنه بالنسبة للعنف والتعذيب المشار إليه من طرف غالبية المتهمين فإنه لم يثبت من خلال محاضر الاستنطاق المحرّرة من قبل حاكم التحقيق ما يشير إلى أنه عاين على أحدهم آثار عنف كما أن اللجنة التي تمّ تسخيرها بفحص من تعللوا بهذا الدفع قد أثبتت في تقاريرها وجود بعض الآثار بالنسبة للبعض من المتهمين دون أن تجزم بمصدرها أو تاريخ حصولها ممّا يجعل الجزم بوقوعها أثناء التحقيق أمرا متعذّرا وبالتالي فلا يمكن الأخذ بهذا الدّفع”…[50]

فقرة 2: مرحلة التحقيق الإبتدائي:

إن جعل الإختصاص الحكمي في جرائم الإعتداء على أمن الدّولة من أنظار محاكم الحقّ العام يجعل الضرورة ملحة للعناية بمرحلة التحقيق في هذه الجرائم وذلك للدور المحدود الذي يلعبه حاكم التحقيق والذي لا يتماشى مع طبيعة هذه الجرائم (I) ممّا يفتح الباب للتجاوزات (II)

I. محدودية دور قاضي التحقيق:
إنّ للتحقيق أهميّته الخاصة كمرحلة وسطى بين إثارة الدعوى العمومية والحكم فضلا عن الضمانات التي يوفّرها للمتهمين بالجنايات حيث يكون وجوبيا, أو الجنح نظرا لطبيعته الإختيارية فيها[51]

فهو يجسّد مبدأ الفصل بين سلطتي التتبع والحكم ممّا يتيح للمتهم فرصة أكبر في تأكيد براءته أو ثبوت إدانته والتحقيق في هذا المنطلق يخضع إلى عديد القيود سواء من حيث الجهة التي يوكل إليها بحيث يكون قضاته من ذوي الأقدمية في ميدان القضاء أو من حيث أعماله التي تحف بها عديد الإجراءات الشكلية الضرورية لصحّة أعمال التحقيق، حيث أنّ كلّ خرق لهذه المقتضيات يجعل أعمال التحقيق باطلة برمتها هذا فضلا عن وجود جهاز النيابة العمومية إلى جانبه يستأنف قراراته من جهة أو يحدّ من سلطته في إصدار البطاقات القضائية اللازمة من جهة أخرى، كما تنتصب دائرة الإتهام كدرجة ثانية من درجات التحقيق توكل إليها مهمّة مراقبة أعمال التحقيق والنظر في القضايا المحالة عليها بموجب الإستئناف هذا فضلا على القيود الرّاجعة لعمل حاكم التحقيق داخل مرجع نظره الترابي في إطار المحكمة الابتدائية المتواجد بها.

كلّ هذه المعطيات تجعل من عمل حاكم التحقيق محدودا فهذه القيود ولئن تمثل ضمانات بالنسبة لسائر الإعتداءات على الأشخاص وعلى الأموال فإنها تمثل عائقا أمام السّرعة المطلوبة في التدخل والنجاعة في التحقيق التي قد تفرض عدم التقيّد بهذه القيود السابق الإشارة إليها ولعلّ هذا المبرّر هو الذي دعى المشرّع في عديد البلدان إلى الخروج عن القواعد العامة في التحقيق في جرائم الإعتداء على أمن الدولة من ذلك التشريع الفرنسي الذي خرج عن قانون 8 ديسمبر 1897 الضابط لإجراءات التحقيق وذلك في إطار القانون عدد 22 – 23 – 63 لسنة 1968 المؤرخ في 8 جويلية 1968[52]

إلاّ أن التشريع التونسي[53] وكذلك التشريع الفرنسي لم يبقيا على مثل هذا الخروج عن القواعد العامّة في التحقيق وذلك أمام الإنتقادات العديدة التي وجهت إليه من زاوية كونه لم يراع الضمانات الممنوحة للمتهمين ممّا جعل المشرّع أمام معادلة يصعب تحقيقها، إمّا ضمان نجاعة عمل التحقيق بالخروج عن القواعد العامّة والقيود التي تعترض أعماله وإمّا ضمان هذه النجاعة ومصادرة الضمانات الممنوحة للمتهمين[54].

لكن يجب أن نسجّل هنا أنّ مشرع الجزائي التونسي وفي بعض القوانين الخاصّة مازال يحافظ على هذا الخروج عن القواعد العامة في التحقيق حيث نجد أن مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية نصت على ضرورة إعطاء التحقيق نجاعة أكبر في البحث في الإعتداءات على أمن الدولة ففضلا على مرجع نظر المحكمة العسكرية الشامل لكامل تراب الجمهورية فإن قرارات حاكم التحقيق العسكري غير قابلة للطّعن عدى في بعض الحالات الإستثنائية (الفصل 27 م.م.و.ع.ع)[55] مما يمكن معه التأكيد بأنّ حاكم التحقيق العسكري له ما لحاكم التحقيق في محاكم الحقّ العام من وسائل[56] فضلا عن انعدام الرّقابة عن أعماله وامتداد مرجع نظره الترابي مما يجعل دورة أكثر اتساعا.

ومن هذا المنطلق نقول أن طبيعة عمل حاكم التحقيق باعتباره عملا قضائيا هو الذي أفرز هذه المحدودية في العمل فهو كما يقول A. Vitu “لا يتحرّك إلاّ عاري الوجه وإلى جانبه الدّفاع”[57] لذلك فالحلّ لا يكمن في توسيع الإجراءات أو خرقها أو التضييق فيها بقدر ما يتمثل في إعطاء كلّ مرحلة من المراحل الأهميّة التي تستحقّها حتى لا نقع في التجاوزات.

II- التجاوزات في مرحلة التّحقيق:

قد يتبادر للذهن أنّ هذه المرحلة تتّسم بتعدّد الضمانات المخوّلة للمضمون فيه بما أنّ من يباشر التحقيق هو قاض، فلا يتصوّر أحد أن يعمد حاكم التحقيق إلى خرق الشرعية واستعمال طرق التعذيب ضدّ ذي الشبهة نظرا لتكوينه ومستواه العلمي، إضافة إلى افتراض نزاهته في البحث عن الأدلّة واحترامه لهيبة العدالة التي يمثّلها. كما يشكّل حضور المحامي في هذه المرحلة دعامة أخرى إلى سابقاتها لترسّخ مبدأ الحرمة الجسديّة المفترضة خلال تحقيق الواقع من قاضي التحقيق، إضافة إلى حقّ الصمت المخوّل لذي الشبهة والذي يمكن استنتاجه بقراءة لمقتضيات الفصل 69 م إ ج وهو “حقّ الصمت المؤقت” إلى حين حضور محام يختاره للدّفاع عنه، وكذلك الفصل 74 م إ ج والمتعلّق “بحقّ الصمت المسترسل”[58] أي حتّى بعد حضور المحامي.

بيد أنّه إذا كان المبدأ أن يتولّى قاضي التحقيق استجواب المتّهم بنفسه إلاّ أنّ الإستثناء الذي يتمتّع به حاكم التّحقيق هو إمكانية إسناد هذه المهمّة إلى أعوان الضّابطة العدلية[59] ويعتبر هذا الإستثناء الوارد بالفصل 57 م إج أخطر الإستثناءات الواردة بمجلّة الإجراءات الجزائيّة[60] ذلك أنّ الإنابة كإجراء استثنائي لا تمكّن من توفير الضمانات الكافية للمتّهم لذلك استثنى المشرّع منها البطاقات القضائية باعتبارها من أخطر أعمال التّحقيق لما لها من تأثير على حقوق المتّهم وحرّيته لذلك استأثر قاضي التّحقيق دون سواه بإصدار البطاقات القضائيّة.

ورغم أنّ الإنابة العدلية تقتضي أن يتمتّع المضنون فيه بنفس الضمانات التي يتمتّع بها أمام قاضي التّحقيق, فإنّه من النّاحية العمليّة الصّرفة لا توفّر الإنابة نفس الضمانات. فإذا تم سماع ذي الشبهة من طرف مأموري الضّابطة العدلية بمقتضى إنابة, فإنّه لا يمكنه أن يكلّف محام يحضر معه التّحقيق[61]ممّا يمكن معه أن يتعرّض ذي الشّبهة للتعذيب حتّى أنّ بعض الفقهاء قد ذهب إلى القول أنّ قاضي التحقيق هو في الواقع مأمور الضابطة العدلية[62] والذي تتنامى سلطته مقابل اضمحلالها لدى قاضي التّحقيق[63].

وقد جاء في تقرير منظّمة العفو الدولية لسنة 1992 “في كثير من الأحيان لم تراع الحقوق القانونية للمتّهمين في القضايا السياسية بل لم يتمّ في بعض الحالات إعلام المعتقلين بحقّهم في التوكيل القانوني”[64].

ولعل هذا ما دفع لمشرع إلى اعتماد التعديل الأخير الذي لا يعفي قاضي التحقيق من واجب احترام واجب احترام حق إنابة المحامي أمامه[65] كما انه اذا اقتضى تنفيذ الانابة سماع المضنون فيه فعلى ماموري الضابطة العدلية اعلامه بان له الحق في اختيار محام للحضورمعه وفي صورة اختيار المضنون فيه محاميالا يتم سماعه الا بحضور المحامي المعني الذي يمكنه الاطلاع على اجراءات البحث ما لم يعدل المضنون فيه عن اختياره صراحة او تخلف المحامي عن الحضور بالموعد بعد اعلامه من طرف ماموري الضابطة العدلية بموعد سماع منوبه و التنصيص على ذالك في المحضر[66].

كما جاء في تقرير منظّمة العفو الدولية لسنة 1992 “…وقد ألقت قوات الشرطة القبض على البعض في منازلهم باستخدام العنف دون أن تظهر إذنا قانونيا في الإيقاف”[67].

هذا بالإضافة إلى بعض الوسائل التي يعتمدها المحقّقون أثناء التحقيق استجابة للسرعة المطلوبة في كشف جرائم الإعتداء على أمن الدولة لحمل المضنون فيه على الإعتراف كاستخدام التنويم المغناطيسي أو استخدام أجهزة كشف الكذب أو الإستجواب تحت التّخدير أو الإستجواب المطوّل وفي ساعات متأخّرة من اللّيل[68]وتعمد هذه الوسائل لقهر الإرادة أو تعطيلها وهي نفس النتيجة التي يمكن الوصول إليها بالعنف التقليدي[69].

وبالتّالي فإنّ مقتضيات السرعة المطلوبة في الكشف عن جرائم الإعتداء على أمن الدولة ومحدودية دور تدخل قاضي التحقيق تدفعه إلى ممارسات تضعف الضمانات الإجرائية الممنوحة للمتهمين، حتّى أنه هناك من ذهب إلى اعتبار أنّ الإنابة لا تمثّل فقط وسيلة استثنائية تمكّن القاضي من التخفيف من عدد الملفات المتراكمة بل هي وسيلة غير مباشرة يستعملها قاضي التحقيق كلّما بدا له أنّ ذي الشبهة لن يعترف إلاّ أمام الضابطة العدلية التي تمتلك الوسائل الكفيلة لجعله يعترف[70]و حتى في حالة حضور المحامي فان امكانية اثبات الممارسات الغير مشروعة تبدو صعبة نسبيا خاصة في جرائم خطيرة كجرائم الاعتداء على امن الدولة التي يسمح في اطار التعامل معها بارتكاب تجاوزات تعطي النتيجة المرجوة في الوقت المطلوب. ولعل الخوف من هذه التجاوزات والانتهاكات في الواقع الفعلي اكبر من الخوف من العقوبة المقررة و ما ميزها به المشرع من خصائص.

الفصل الثاني: خصوصية العقاب

للسبب ذاته ألا وهو خطورة الإعتداءات على أمن الدولة وضع المشرع في نطاق مؤاخذته لمرتكبي هذه الجريمة قواعد خرجت في كثير من أحكامها عن القواعد العامة التي تخضع لها فصائل الجرائم الأخرى

فهي تحيد عنها وعن الطريق المألوفة والمتبعة من حيث ما ميز به المشرع العقوبة في هذه الجرائم من صرامة (المبحث 1) وما اقره من امكانية الإعفاء منها في حالة التبليغ (المبحث 2) ليروح بذالك بين اللين والشدة مستفيدافي ذالك بمزايا كل منهما لتحقيق الامن المنشود.

المبحث 1 : صرامة العقوبة

تقوم فلسفة العقاب على الردع لصالح أمن المجموعة ذلك أن المصالح التي تمثلها الهيئة الاجتماعية ليست سوى مصالح أفراد المجتمع نفسه [71] ونظرا لهذه الإعتبارات كانت الشدة في العقوبة (الفقرة 1) خاصية تميزت بها جرائم الإعتداء على أمن الدولة إلا أن التبرير القائم على أهمية المصلحة موضوع الحماية لم يكن كافيا لدى العديد من رجال الفقه لإتباع مثل هذا المنهج في الشدة (فقرة 2) وذلك لعديد الإعتبارات.

فقرة 1 : مظاهر الشدة في العقاب:

من أبرز مظاهر الشدة في العقاب وأكثرها تعبيرا عن ذلك- الإعدام – الذي يمثل أقصى العقوبات المقررة بالمجلة الجزائية في فصلها الخامس ورغم ما تتسم به هذه العقوبة من صرامة فإن ذلك لم يمنع من وجود بعض المؤيدين لإقرارها معتبرين أنه ما من حجة تصلح للحيلولة بين المجتمع وبين أن يستعين بعقوبة الإعدام لتحقيق مصلحته في مكافحة فعالة وحازمة للإجرام حيث أن إلغاء هذه العقوبة يمثل خللا في السياسة الجنائية وتنازلا عن سلاح فعال في مكافحة اشد الجرائم خطورة ومواجهة اشد المجرمين ضراوة [72]

فهم غير جديرين بالرحمة والرأفة وهو ما فعله المشرع التونسي بنصه على عقوبة الإعدام في أكثر من 20 مناسبة تخص كلها جرائم الإعتداء على أمن الدولة في حين لم يقرر لباقي الإعتداءات المذكورة بالمجلة الجزائية أكثر من 5 مناسبات [73] وفي هذا تعبير عن توجه المشرع وقناعته بضرورة استئصال هذا المجرم من كيان المجتمع وذلك على نحو نهائي لا رجعة فيه [74].

كما حرص المشرع على تتبع أصول الخطر وتعقب أزمنته والضرب بقوة على يد من يستغل الظروف الصعبة التي تمر على الدولة لينجز جرائمه حيث أورد المشرع صلب الفصل 62 م ج معتمدا على الزمن لتشديد العقوبة فنصّ على عقوبة 12 سنة سجن عوض عن 5 سنوات بالنسبة لمقترفي الجرائم زمن الحرب.

وتبرز الإشارة هنا إلى أن المشرع التونسي اعتمد عقوبة السجن في جرائم الإعتداء على أمن الدولة تفوق في معظمها الـخمس سنوات لتصل إلى السجن بقية العمر بالنسبة لمن يقبل بمناسبة ثورة أن يقيم نفسه بدل الهيئات الحاكمة المكونة بمقتضى القانون.

ولم يكتف المشرع التونسي بإقرار هذه العقوبة السجنية بل نصّ كذلك ضمن الفصل 73م ج على عقوبة الخطية التي قدرها مائتا ألف دينار كما فرض الخطية المصاحبة للسجن في الفصول 67 ،64 ، 75 م ج.

كما أضاف المشرع في سلم عقوبة جرائم الإعتداء على أمن الدولة صلب الفصل 62 م ج عقوبات تكميلية لمدة أدناها 5 أعوام وأقصاها 20 عاما سواء ارتكبت الجريمة زمن السلم أو الحرب ولعل هذا التحديد الزمني للعقوبة التكميلية يجرنا للحديث عما أورده الفصل 26 م ج الذي نص على انه ” في صورة الحكم بالعقاب الصادر تطبيقا لأحكام الفصول 60 إلى 79 … تتحتم المراقبة الإدارية مدة عشرة أعوام إلا إذا قضت المحكمة بخلاف ذلك ” هنا نلمس الشدة التي انتهجها المشرع في مستوى تحديده لمدّة المراقبة الإدارية[75]

وفي هذا المستوى من تنوع العقوبات والتشديد فيها نلمس بوضوح هذه الصرامة في التعامل مع المعتدين على أمن الدولة لكن هذه الشدة لا يمكنها أن تطال سوى الأشخاص الطبيعيين أما الأشخاص المعنويين فإنّ المشرع التونسي لم يشر لهم صراحة لكن تبقى العقوبة الأصلية الوحيدة التي يمكن أن نطبقها عليهم هي الخطية والتي إن بلغت أرقاما خيالية فإنها لن تماثل الإعدام أو السجن

ولقد نص المشرع الفرنسي على مسؤولية الشخص المعنوي ضمن أحكام الفصل 121-2 م ج جديدة كمبدأ عام لينص ضمن الفصل 414-7 م ج على إمكانية المساءلة الجزائية للأشخاص المعنويين بالنسبة إلى جميع الجرائم الماسة بالمصالح الأساسية للدولة وقد سلط عليها عقوبة مالية بالإضافة إلى مختلف العقوبات التكميلية التي نص عليها الفصل 131-39 م ج [76] ولعل هذا الإقرار بمسؤولية الشخص المعنوي أصبحت اليوم تمليه مقتضيات الصيانة الناجعة لأمن الدولة.

كل هذه الإعتبارات تبين لنا بوضوح انتهاج التشريعات ولا سيما المشرع التونسي نهج الشدة في هذه الجرائم إلا أن خصوصية المصلحة المستهدفة والنزعة العدوانية لمرتكبي هذه الجرائم والتخطيط المحكم الذي ينتهجه هؤلاء لم يكن سببا كافيا في نظر البعض من الفقهاء لتبرير انتهاج كل هذه الشدة في العقاب الأمر الذي انعكس على موقف أغلب التشريعات.

فقرة 2 : الإنتقادات الموجهة لانتهاج الشدّة في العقاب

إن اعتماد جلّ التشريعات سياسة زجر شديدة في جرائم أمن الدولة جعل الأصوات تنادي بضرورة تلطيف العقوبة معتمدة في ذلك على تعاليل وأسانيد الشيء الذي جعلها تؤثر في مواقف المشرع في بعض التشريعات، من هذه الإنتقادات تلك الموجهة لعقوبة الإعدام ذاتها [77] باعتبارها تمثل ابرز صور الشدة في مستوى عقاب المعتدين على أمن الدولة، ذلك أن عقوبة الإعدام في اعتمادها خروج عن العدل فان كان إيذاء المجتمع محدود في نطاقه فان إيذاء الإعدام لمن ينزّل به فغير محدود، فهي تقصيه من المجتمع في حين انه لا تقضي أي جريمة ولو كانت بخطورة جرائم الإعتداء على أمن الدولة على المجتمع[78].

هذا بالإضافة إلى أن هذه العقوبة تنقصها المرونة إذ لا تقبل التجزئة حيث يجد القاضي نفسه أمام أمرين إمّا أن يحكم بها كلها وإمّا لا يحكم بها مطلقا.

كما يرى البعض الأخر أن الإعدام لم يفلح في مكافحة الجريمة فالجرائم التي يعاقب عليها به مازالت ترتكب، بل إن الإعدام سبب لبطئ القضاء في الجرائم المعاقب عليها به إذ يفرط القاضي في التأني وإتاحة سبل الدفاع للمتهم، فيطول الوقت بين ارتكاب الجريمة وتوقيع العقوبة ويقوم الشك خلاله فيما إذ كان المجرم سينال جزاء جريمته أم لن يناله فتكون نتيجة ذلك إضعاف الأثر الرادع لهذا الجزاء حين يوّقع [79].

أما الحجة الأخرى التي اعتمدها أنصار إلغاء عقوبة الإعدام فهي متمثلة في أنّ عقوبة الإعدام تعدّ عقوبة لا يمكن الرجوع فيها إذا ما قضي بها ثم ظهر خطأ في الحكم الذي قضى بها أو طرأت ظروف أخرى جعلت من الملائم العفو عنها [80].

ولعل من أهم الإنتقادات الموجهة لشدة العقوبة تلك التي تنبع من اعتبار جرائم الإعتداء على أمن الدولة عموما من قبيل الجريمة السياسية وبما أنها كذلك فإن مقترفها يجب أن يحظى بمعاملة خاصة نظرا لانتفاء تلك الطبيعة الإجرامية والعدوانية لديه إذ أنه يقصد من وراء فعله تغيير الوضع السياسي في الدولة وإقامته في صورة مختلفة عن صورته القائمة بالفعل والتي تفترض في الظاهر أن الكثرة الغالبة من المواطنين تقرها [81] وبالتالي انتهاج الشدة في العقاب لا يستجيب لمثل هذا التحليل.

كذلك من الانتقادات تلك الناتجة عن تغيير النظرة للمجرم بصفة عامة فالجاني ليس سوى شخصا خارجا عن المجتمع بسبب مرض سوء التكيّف مع إطار سياسة جنائية حكيمة [82] وبالتالي وجب قتل النزعة الإجرامية فيه عوض قتله ولعل مجمل هذه الانتقادات أنتجت تغييرا واضحا في التشاريع ذلك انه جاء في تقرير منظمة العفو الدولية لسنة 2004 أنّه في 1 فيفري 2004 بلغ عدد البلدان الملغية لعقوبة الإعدام 117 دولة.

78 منها ألغت هذه العقوبة كلّيا في جميع الحالات، 15 دولة ألغتها في الجرائم العادية و24 دولة ألغتها في التطبيق، مع العلم أنّ عدد الدول التي لم تلغي عقوبة الإعدام بلغ 78 دولة [83]وتعتبر فرنسا من بين البلدان التي تخلت نهائيا عن عقوبة الإعدام وذلك منذ صدور القانون المؤرخ في 9 أكتوبر 1981 وعوضت هذه العقوبة بعقوبة السجن مدى الحياة في صورة التجسس والخيانة أما في الحالات الأخرى فان العقوبة السالبة للحرية لن تكون إلا مؤقتة [84].

لكن عموما لم تخرج التشاريع الجزائية عن منحى الشدة والصرامة في العقوبات المقررة ذلك أنه رغم إلغاء عقوبة الإعدام في بعض التشريعات إلا أنها بذلك لم تحد بدورها عن هذا الاتجاه حيث نجدها من ناحية قد ألغت عقوبة الإعدام ومن ناحية أخرى قد عوضتها بعقوبة أصلية وتكميلية أشد قسوة ولعل هذا ما يفسر الرأي السائد في مستوى الفكر الجنائي الذي يتجه إلى ضرورة الإبقاء على عقوبة الإعدام في مواجهة الجرائم الجسيمة التي تهدد أمن المجتمع وسلامته [85].

ورغم هذا التشديد الذي ميز التشريع الجزائي التونسي في معاقبة مرتكبي جريمة الإعتداء على أمن الدولة فقد اقر إمكانية إعفاء المجرم بموجب تبليغه عن الجريمة.

مبحث 2 : الإعفاء في حالة التبليغ

تمثل عملية الإبلاغ عن الجرائم الماسة بأمن الدولة وسيادتها مسؤولية كل شخص مهما كانت صفته ذلك أن الإبلاغ في هذه الصورة يمثل واجبا وطنيا يدل على روابط الولاء التي يشعر بها المواطن تجاه وطنه قبل أن يكون التزاما قانونيا مفروضا عليه

وقد تعرض المشرع لواجب الإبلاغ عن هذه الجريمة في الفصل 80 من م ج الذي ينص على ما يلي “يعفى من العقوبات المستوجبة لمرتكبي الإعتداءات على أمن الدولة كل فرد من المجرمين عرّف أولا قبل كل تنفيذ بالفعل وقلب ابتداء المحاكمات الإدارية والمدنية بالمؤامرة أو الإعتداءات أو اخبر بفاعليها ومشاركيهم أو تسبب منذ ابتداء المحاكمات في إلقاء القبض عليهم”

فلم يكتف المشرع بزجر هذه الجريمة بعد ارتكابها بل حرص على مقاومتها حتى قبل وقوعها عبر انتهاج طريقة التشجيع على التبليغ.

فما الذي دفع المشرع إلى إقرار مثل هذا الاستثناء (فقرة 1) وما هي الشروط الواجب توافرها للإنتفاع بهذا العذر المعفي (فقرة 2) وما هي آثار التبليغ (فقرة 3)

فقرة 1 : أساس الإعفاء

جاء الإعفاء الوارد بالفصل 80 م ج متعلقا بجرائم الإعتداء على أمن الدولة عموما وهذا الإعفاء تقف وراءه عديد الإعتبارات تنضوي في مجملها في إطار معادلة يسعى المشرع لتحقيقها في بعض أنواع الجرائم وهي خطورة المصالح المستهدفة للاعتداء من جهة وما تقتضيه هذه الخطورة من انتهاج الشدة في العقاب وإيمان المشرع من جهة أخرى بضرورة إحباط كل اعتداء يهدد أمن الدولة وما يقتضيه الكشف عن هاته الإعتداءات المنظمة بصفة محكمة من تقرير وسائل خاصة تضمن النجاعة في مكافحتها.

الأمر الذي جعل أغلب المشرعين في كثير من القوانين الحديثة [86] يتجهون نحو التشجيع على التبليغ عن مثل هذه الجرائم قصد قمعها والحد من مخاطرها في إطار توجه عام للسياسة الجنائية التي يتقيد بها المشرع الجزائي وذلك يمنح فرصة للتدارك وعدم الوقوع تحت طائلة العقوبة المتصفة بالشدة والصرامة كما يعزى اتخاذ مثل هذا المنحى إلى السرية التامة التي يتم بها التخطيط المحكم لارتكاب هذه الجرائم الأمر الذي يصعب معه على قوات الأمن اكتشافها قبل البدء في تنفيذ الخطة [87]، فكان لا بد من الاستعانة بالمترددين من المساهمين أو المشاركين فيها والطريق إلى الاستعانة بهم هو إعفاؤهم من العقوبة [88].

ونظرا للطابع الاستثنائي الذي تتسم به الأعذار المعفية كان من المتعين انطباق شروط الإعفاء في النص التشريعي على الواقعة المؤثمة انطباقا تاما سواء من ناحية كنهها أو ظروفها أو علة إقرار هذا العذر.

فقرة 2 : شروط الإعفاء

باعتبار أن هذا النظام استثنائي ويخص بعض أنواع الجرائم فقط [89] في التشريع الجزائي التونسي سعى المشرع إلى الإحاطة بوضوح بجميع شروط التمتع بالإعفاء بالفصل 80 م ج وانطلاقا منه وما جاء به من حالات يمكن التطرق للشروط الواجب توافرها في الإخبار أو التبليغ حتى ينتفع المتهم المخبر بالإعفاء من العقوبة في حالة كشف الجريمة للعدالة (I) أو حالة تمكينه السلطات من القبض على متهمين آخرين( II )

I – حالة كشف الجريمة للعدالة

طبقا لما نص عليه الفصل 80 م ج يركز الإعفاء في هذه الحالة على شروط ثلاث هي المبادرة بإخبار الحكومة (أ) ، التبليغ قبل البدء في التنفيذ (ب) والتبليغ قبل الشروع في التحقيق أي قبل علم السلطات بالجريمة (ج)

المبادرة بالإخبار والتبليغ:
يقع الإبلاغ من الجاني الذي يتمتع بالإعفاء لذا لا يتحقق شرط الإعفاء إذا حدث الإبلاغ من أحد الموظفين العموميين الذين يقع على عاتقهم واجب الإبلاغ عن الجرائم ويعنى ذلك وجوب حدوث الإبلاغ من احد المساهمين في الجريمة سواء أكان فاعلا أم شريكا فالإخبار بوصفه عملا إجراميا يجب لصحته أن يصدر من شخص توافرت لديه الأهلية الجزائية لمباشرته فهذا الشرط يعتبر الميزة الهامة التي تفصل بين المخبر الجاني والشاهد[90].

فمن المهم أن يكون المبلغ هو “البادئ” بالتبليغ عما يعرفه عن الجريمة وعن الجناة فيها إلى السلط المعنية فلا يجوز أن يستفيد من هذا التسامح إلا من درأ عن الدولة بالفعل خطرا محققا أي الذي بلّغ السلطات دون غيره فمن أبلغ السلطات بنفس الأخبار بعد ذلك دون أخبار جديدة أو لم يعد لها فائدة لا يكون قد أدى خدمة تستأهل الإعفاء

غير أن ذلك لا يستتبع حتما ألا يكون المستفيد من الإعفاء أكثر من شخص فمن الممكن أن يتقدم للتبليغ شخصان في نفس الوقت وحينئذ لا يصح أن ننسب لأحدهما فضل درء الخطر عن الدولة دون الأخر بل قد يتقدم شخص للتبليغ ويدلي بمعلومات مفيدة ثم يتقدم بعد ذلك شخص أخر يدلي بمعلومات أخرى مفيدة أيضا في الكشف عن ذات الجريمة وضبط الجناة فيكون كل منهما مستحقا للإعفاء لكن وبالرجوع إلى بعض التشريعات الجزائية المقارنة مثل المشرع المصري والفرنسي قديم نلاحظ أن قصر الإعفاء من العقوبة على أول مجرم بادر بالإخبار بحيث لا يستفيد من هذا الإعفاء من قام بالإخبار عن جرمه بعد علمه أن غيره من الأشخاص قد قام هو بكشف الجريمة [91].

والمثير للاستغراب في هذا الشرط هو انه إذا كان من يفكر في التبليغ غير متأكد من انه البادئ- وهي الفرضية الغالبة- فلن يكون بذلك مطمئنا إلى إعفائه مما يدعوه إلى التردّد والإحجام عن التبليغ وهي ليست صورة حال مشرعنا الذي أورد الفصل 80 م ج عاما يشمل جميع المجمرين المخبرين مهما تعدد المخبرون ومهما تعاقبت الإخبارات وكذلك فعل القانون الجزائي السوري.

كما تجدر الإشارة في هذا الإطار إلى سكوت النص عن تحديد شكل معين للإبلاغ فقد يكون شفاهيا أو كتابيا مباشرا، أو بواسطة ، فالمهم أن يتناول موضوع الإخبار عن الجريمة إعطاء معلومات وافية عن الواقعة من حيث مرتكبيها ومكان وزمان ارتكابها وكيفية ارتكابها والمهم أن يكون الإبلاغ جديا حتى تبلغ سياسة الإعفاء غايتها كما يجب أن يكون صادقا فحسب الأستاذ عدلي خليل “يشترط في الإخبار أن يكون صادقا كاملا يعطي جميع وقائع الجريمة …دون نقص أو تحريف “[92]. فإن فاتت المخبر بعض التفصيلات فسكت عنها أو أغفلها أو أخطأ في سردها ينتقص ذلك من إخباره[93]

وبخلاف الفص 80 م ج الذي اعتمد فيه المشرع التونسي الصيغة التناوبية للأفعال التي إن تم الإخبار عنها أو بها ينتفع المخبر من منحة الإعفاء وقد جاء الفصل 2-414 من المجلة الجزائية الفرنسية الجديدة ليضع تلازما بين التبليغ بوجود مؤامرة والإخبار أيضا بأسماء المتآمرين كلهم أو بعضهم حتى يكون الإبلاغ أكثر نجاع ومعبرا عن جدية ومصداقية المخبر ويكفي للتحقق من هذه المصداقية أن يكون قد مكن من القبض على من يدخل في علمه ومعرفته فقط [94].

التبليغ قبل البدء في التنفيذ :
نص المشرع ضمن أحكام الفصل 80 م ج على أنّه يحدث التبليغ قبل تنفيذ الجريمة وقبل البدء في التحقيق ويفهم من ذلك انه يجب أن تكون الجريمة لم ترتكب تامة ولم يتم الشروع في تنفيذها، أما من تراخى عن التبليغ إلى أن وقعت الجريمة فإنه لا يستحق هذا الإعفاء [95] فالمهم هنا هو وقوع الإخبار بغض النظر عن النتيجة التي سيفضي لها الإخبار[96] وفي ذلك حرص من المشرع التونسي على مزيد التشجيع على التمتع بالإعفاء إذ لا يشترط وجود أي علاقة سببية بين الإخبار ونتيجته السلبية أو الايجابية في القبض على المتهمين ولقد ارجع الفقهاء سبب إقرار هذا الشرط إلى أن من يبلّغ عن الجريمة بعد وقوعها يستشعر في الأغلب الخشية من المسؤولية فيندفع تحت تأثير ذلك إلى التبليغ ليتخلص من تبعة الجريمة وهو في ذلك المسلك أدنى إلى رعاية مصلحته منه إلى رعاية المصلحة العامة.

لكن ذلك لم يمنع من اعتراض الفقهاء على هذا الشرط إذ استغرب احدهم كيفية معاقبة شخص عن جريمة لم تقع تامة ولا في صورة محاولة حتى يتصور إعفائه من العقاب عند التبليغ عنه قبل البدء في التنفيذ [97] بل إنّ من الفقهاء المصريين [98] من أشار إلى أن الحال بالنسبة للمبلّغ لا يعدو احد فروض ثلاث: أما انه قد ساهم في الجريمة التي ابلغ عنها فيكون معنى هذا أنها وقعت بالفعل وأما انه ساهم في التحضير لكنه بادر إلى التبليغ عنها قبل وقوعها وعندئذ لا مجال لتطبيق الإعفاء ما دام المبلّغ ليس مستحقا لعقوبة الجريمة التي لم ترتكب وإمّا ألاّ تكون للمبلّغ صلة بالجريمة ولكنه علم بارتكابها فتقدم وابلغ عنها ولا مجال في هذه الحالة للكلام على إعفائه من العقاب لأنه لم يكن أبدا مستحقا له كما انه غير معني بالنص وانتهى هذا التحليل الفقهي إلى أن هذا الشرط لا يسمح بالاستفادة من الإعفاء في حال من الأحوال.

وإن كان التشريع الجزائي التونسي لا يشترط غير الإبلاغ قبل تنفيذ الجريمة فهناك من يضيف شرطا أخر كوجوب التعاون من قبل المبلغ مع سلطات التحقيق للتعرف على المساهمين الآخرين كالتشريع الفرنسي رقم (686-92) في الفصل 414.2 وقد يضيف شرطا أخر وهو منع تحقق الجريمة المبلغ عنها في الجرائم الإرهابية كما في الفصل 1-414 ج فرنسي [99].

ج- التبليغ قبل علم السلطات

نصت اغلب التشريعات الجزائية على وجوب ورود الإخبار قبل أن تبادر السلطة إلى ملاحقة الفاعلين وتحريك الدعوى العمومية ضدهم أو قبل البدء في التحقيق على الأقل وذلك حتى لا يبقى باب الإعفاء من العقاب مفتوحا في وجه المجرم المخبر إلى الأبد وحتى لا يكون الجاني في موقف المعترف بالجريمة حين يستوجب أن يسال لا موقف المبلّغ عنها [100]

ويرجع أساس إقرار هذا الشرط إلى الحكمة من الإخبار وهو كشف الجريمة لتمكين السلط منها ومن فاعليها حيث أن ورود الإخبار بعد أن تكون السلطة قد وضعت يدها على الجريمة واكتشفت فاعليها يفقد الإعفاء الغاية منه وتنعدم الحكمة من منحه.