معيار التمييز بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة

نظراً للاختلاف الجوهرى بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة ، كان من الضرورى البحث عن معيار للتمييز بين هذين النوعين من القواعد ، فظهر معياران أولهما المعيار الشكلى أو اللفظى ، والآخر المعيار الموضوعي أو المعنوى .

‌أ. المعيار الشكلى أو اللفظى :

يعتمد هذا المعيار على أساس الرجوع إلى الألفاظ والعبارات الواردة في نص القاعدة القانونية لمعرفة ما إذا كانت آمرة أم مكملة ، فإذا استعمل المشرع لفظ باطل ، أو لا يجوز ، أو يجب ، أو يلزم ، أو يقع باطلاً ، أو يعاقب أو ما شابه ذلك تكون القاعدة آمرة .
ومن أمثلة ذلك ، ما نص عليه المشرع المصري في المادة (131) مدنى على أن «التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة باطل ولو كان برضاه» .

وكذلك المادة (232) مدنى تنص على أنه «لا يجوز تقاضى فوائد على متجمد الفوائد ، ولا يجوز في أية حال أن يكون مجموع الفوائد التي يتقاضاها الدائن أكثر من رأس المال» .

كذلك نص المادة (48) مدنى الذي يقضى بأنه «ليس لأحد النزول عن أهليته ولا التعديل في أحكامها» .

وكذلك نص المادة (471) مدنى الذي يقضى بأنه «لا يجوز للقضاه ولا لأعضاء النيابة ولا المحامين ولا لكتبة المحاكم ولا المحضرين أن يشتروا بأسمائهم ولا باسم مستعار الحق المتنازع فيه كله أو بعضه إذا كان النظر في النزاع يدخل في اختصاص المحكمة التي يباشرون أعمالهم في دائرتها وإلا كان البيع باطلاً» .

أما إذا استعمل المشرع ألفاظاً أو عبارات تؤدى إلى الإباحة وعدم الحظر أو تحتمل معنى التخيير مثل «يجوز ، يمكن ، يحق ، ما لم يتفق على خلاف ذلك ، ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضى بخلاف ذلك» أو ما شابه ذلك تكون القاعدة مكملة أو مفسرة .

ومن أمثلة ذلك ما نص عليه المشرع المصري في المادة (462) مدنى حيث تنص على أن «نفقات عقد البيع ورسوم الدمغة والتسجيل وغير ذلك من مصروفات تكون على المشترى ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضى بغير ذلك».

وكذلك نص المادة (103) مدنى الذي يقضى بأن «دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه ، إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك» .

‌ب. المعيار الموضوعي أو المعنوى :

في بعض الأحيان قد لا تساعد الألفاظ أو العبارات الواردة في نص القاعدة القانونية على معرفة ما إذا كانت القاعدة آمرة أم مكملة ، أى أن اللجوء إلى المعيار الشكلى لا يفيد في تحديد نوع القاعدة القانونية .

فهنا يجب البحث عن معيار آخر لمعرفة نوع القاعدة ، وهذا ما سعى إليه الفقه حيث تبنى الأخذ بفكرة المعيار الموضوعي عند تعذر استعمال المعيار الشكلى .

ويعتمد هذا المعيار على أساس النظر في الموضوع الذي تنظمه القاعدة القانونية ، فإذا كان هذا الموضوع متعلقاً بالمصالح الأساسية التي ينهض عليها المجتمع تكون القاعدة آمرة ، أما إذا كان هذا الموضوع غير متعلق بالمصالح الأساسية للمجتمع تكون القاعدة مكملة بمعنى أن موضوع القاعدة ينظم مصلحة خاصة بين الأفراد وليس فيها مساس بكيان الجماعة أو مصالحها الأساسية .

ومن أمثلة ذلك ما تنص عليه المادة (44) مدنى من أن «سن الرشد هو إحدى وعشرين سنة ميلادية كاملة» فعبارة المادة وألفاظها لا تبين نوع القاعدة الواردة به ، ومع ذلك يتبين من معناها ومضمونها أنها تتعلق بمصلحة أساسية في المجتمع تتعلق باستقرار المعاملات ، ولهذا فإن القاعدة الواردة بها تعبر قاعدة آمرة .

ولقد جرى العمل على تسمية كل ما يتصل بالمصالح الأساسية للمجتمع أو ما يتصل بكيان الدولة اسم «النظام العام والآداب» ، وبناء على ذلك إذا كانت القاعدة القانونية متعلقة بالنظام العام والآداب العامة فإنها تكون قاعدة آمرة ، وإذا لم تكن كذلك فإنها تكون قاعدة مكملة.

ولتطبيق هذا المعيار يجب معرفة ما المقصود بفكرة النظام العام والآداب العامة وما نطاق تطبيقها ؟

1. النظام العام :

مصطلح النظام العام من المصطلحات التي كثيراً ما تصادفنا في دراسة القانون والتي اثارت جدلاً فقهياً حول وضع تعريف له والسبب في ذلك غموض معناه وعدم الاتفاق على وضع مدلول محدد له ولكن يمكن القول بأن المقصود بالنظام العام . «هو مجموعة المصالح الأساسية التي يقوم عليها كيان المجتمع سواء أكانت مصالح سياسية أو اقتصادية أو مالية أو إجتماعية أو خلقية» .

ومصطلح “النظام العام” له مدلول نسبي ، إذ أنه يختلف باختلاف المكان والزمان أي أنه يختلف من مجتمع إلى آخر ، وفي نفس المجتمع من فترة زمنية إلى أخرى. فمبدأ “تعدد الزوجات” بالنسبة للرجل المسلم مثلاً يعد من النظام العام في البلاد الإسلامية فلا يجوز الاتفاق على منعه من الزواج ، بأكثر من واحدة فمثل هذا الاتفاق لا يعتد به لأنه مخالف للنظام العام ، أما في البلاد الغربية فان ” تعدد الزوجات” يعد أمراً مخالفاً للنظام العام وهكذا يختلف مدلوله من مجتمع إلى آخر.

كذلك كان تحديد “الملكية الزراعية” في مصر قبل ثورة 23 يوليو سنة 1952 لم يكن من النظام العام . أما بعد الثورة وصدور قانون الإصلاح الزراعي الذي حدد نطاق الملكية الزراعية ، فان تحديد الملكية أصبح متعلقا بالنظام العام . وقد ترتب على نسبية ومرونة وتطور فكرة النظام العام ، أن المشرع لم يقم بتحديدها، وإنما ترك أمر تحديدها إلى القاضي في ضوء الظروف والملابسات التي تحيط بالمنازعات المعروضة عليه ، لذلك فالقاضي هو الذي يحدد ما إذا كانت قاعدة معينة تعتبر من النظام العام فلا يجوز للإفراد الاتفاق على مخالفتها باتفاقاتهم أم أن هذه القاعدة لا تعتبر كذلك ويخضع القاضي في تقديره لذلك لرقابة محكمة النقض لأنه يفصل في مسألة قانونية ، وليس في مسألة واقع ، وبالتالي تتحقق وحدة النظام العام في الدولة ولا تتغير بتغير شخص القاضي.

2. الآداب العامة :

يقصد بالآداب العامة ، مجموعة القواعد الخلقية التي يعتبرها الناس في أمة معينة ، وفي جيل معين المعيار الخلقي الذي يجب أن يسود مجتمعهم ويحكم علاقاتهم الاجتماعية ، ويلتزمون باحترامها ولا يجوز الخروج عليها باتفاقات خاصة أو بعبارة أخرى هي الحد الأدنى من المثل والقيم التي يجب أن يسير عليها الأفراد داخل المجتمع في وقت معين ، ويشعرون بضرورة احترامها حيث أنها تمثل “المصالح الخلقية ” في فكرة النظام العام.

وفكرة الآداب العامة ، فكرة نسبية تختلف باختلاف المكان والزمان فما يعتبر مخالفا للآداب العامة في مكان معين قد لا يعتبر كذلك في مكان أخر فمثلا “الاتفاق على إنشاء نواد للعراة ” قد يعتبر باطلا في كثير من الدول لمخالفته للآداب العامة ، بينما يعتبر مشروعا في بلاد آخرى .

كما تختلف فكرة الآداب العامة من زمان إلي زمان آخر في نفس المجتمع ، فمثلا عقد التأمين على الحياة كان مخالف للآداب العامة بحجة أن حياة الإنسان لا يصح أن تكون محلا للتعاقد والتعامل ، وأن وفاة الإنسان لا يجوز أن تكون مصدر إثراء لغيره.
ولكن هذا العقد أصبح مشروعا في الوقت الحاضر لانه لا يتنافى مع الآداب العامة .

كذلك نظام الرق ، لم يكن في الماضي منافيا للآداب العامة ، في حين لا تقره الآن مختلف النظم القانونية وتعتبره مخالفاً للآداب العامة

تطبيقات لفكرة الآداب العامة :

ومن تطبيقات فكرة الآداب العامة ما نص عليه المشرع المصري في المادة 136 مدني علي أنه ” إذا لم يكن للآلتزام سبب ، أو كان سببه مخالفا للنظام العام أو الآداب كان العقد باطلا “

وقد طبق القضاء هذا النص علي حالات كثيرة حين قرر بطلان كل اتفاق على قيام علاقات جنسية غير مشروعة لمخالفته للآداب العامة .

نخلص من ذلك إلى أنه إذا كانت القاعدة متعلقة بالنظام العام أو الآداب العامة فانها تكون قاعدة آمرة ، ولا يجوز الاتفاق علي ما يخالف حكمها ، ويقع هذا الاتفاق باطلا بطلانا مطلقا

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .