المسئولية المدنية والمسئولية الجنائية
د.محسن البيه

أولاً : أصل العلاقة بين المسئوليتين:

15 – تشهد تطورات تاريخ القانون، أن المسئولية المدنية هي الابنة الشرعية للمسئولية الجنائية. فإذا ما تتبعنا المسئولية المدنية منذ القانون الروماني، فسوف نجد أنه لم تكن توجد في ظل هذا القانون قاعدة عامة تقرر أن كل خطأ ينشأ عنه ضرر يوجب التعويض، بل كانت هناك أعمال معينة تحددها النصوص القانونية هي وحدها التي ترتب المسئولية.

ولم يكن جزاء هذه الأعمال يتمخض تعويضًا مدنيًا، بل إن فكرة العقوبة الجنائية ظلت تتخلل فكرة التعويض المدني كأثر من آثار الماضي وقت الأخذ بالثأر ودفع الدية

ولم تظهر فكرة الخطأ كأساس للمسئولية إلا بالتدريج، فلم يكن الخطأ في بادئ الأمر مشترطًا، بل كان الضرر هو الشرط البارز.

ثم أخذت فكرة الخطأ تظهر شيئًا فشيئًا. أما في الأعمال التدليسية، فإن فكرة الخطأ ظهرت بوضوح حتى استغرقت فكرة الضرر.

ويمكن إجمال ما كانت تتميز به المسئوليتان في القوانين القديمة في فكرتين أساسيتين:

الأولى : هي أن الأفعال التي تعتبر جرائم جنائية ومدنية كانت محصورة، فلا يستوجب الفعل مسئولية صاحبه جزائيًا أو مدنيًا إلا إذا كان من الجرائم المنصوص عليها.

الثانية : أن المسئولية كانت تقوم لمجرد حدوث الفعل المنصوص عليه دون اشتراط أن يكون الفعل خطأ. وبقيت هاتان الفكرتان قائمتين في القانون الروماني حتى آخر مراحل تطوره. فلم يظهر في القانون الروماني المبدأ العام الذي يقضى بأن كل فعل خاطئ يستوجب مسئولية فاعلة عن تعويض ما نشأ عنه من ضرر.

والواقع أن الفضل في تمييز المسئولية المدنية عن المسئولية الجنائية إنما يرجع إلى القانون الفرنسي القديم. والغريب أن فقهاء القانون الفرنسي فعلوا ذلك – في بعض منه – عن طريق تفسير القانون الروماني تفسيرًا خاطئًا

وهكذا، فإن المسئولية المدنية تعتبر، بحسب النشأة، متفرعة عن المسئولية الجنائية، بل إن الاعتبارات الأدبية مازالت تفسر إلى اليوم تجاور المسئوليتين المدنية والجنائية، وإن كانت الأخيرة تتمتع بسيطرة تفوق الأولى.

ولعل هذا التجاور هو الذي يفسر صعوبة التمييز بيد الزجر والتعويض؛ ربما لأنه من الممكن القول إن التعويض يمثل أحد أشكال العقوبة.

ومادام يوجد هذا الترابط أو حتى مجرد التجاور بين الجنائي والمدني، بالنظر إلى أصل النشأة، فإن المسئولية المدنية تتأسس تقليديا على الخطأ، إذ أن أصلها، وهي المسئولية الجنائية لا قيام لها، بحسب الأصل بغير هذا الخطأ
ورغم ذلك، فيجب الاعتراف أن التطور التاريخي للمسئولية يظهر انفصالاً متزايدًا بين المسئوليتين الجنائية والمدنية، أي بين العقاب والتعويض.

ثانيًا: الفروق الجوهرية بين المسئولية المدنية والمسئولية الجنائية:

16 – رغم أن كلا من المسئولية المدنية والمسئولية الجنائية تنتميان إلى المسئولية القانونية، إلا أن القانون المعاصر يفرق بينهما، ويرتب على هذه التفرقة آثارا مهمة، وهنا تكمن أهمية تحديد معيار التمييز بينهما.

1 – تحديد من أصابه الضرر:

وفي هذا الصدد، يمكن القول إن المسئولية الجنائية هي جزاء فعل أضر بالمجتمع، ويتمثل هذا الجزاء في عقوبة يطالب بتوقيعها على الجاني ممثل المجتمع وهو النائب العام، وتتضمن هذه العقوبة معنى الإيلام.

ولذلك، فهي تهدد الأفراد في أعز ما يملكون وهو حريتهم وأنفسهم وأموالهم، ومن هنا تأتى أهمية حصر الأفعال التي تستحق العقاب، ولهذا ظهر المبدأ المشهور في قانون العقوبات، والمتمثل في أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، فضلا عن مبدأ شخصية العقوبة، ومبدأ عمومية العقوبة، أو المساواة في تطبيقها.

أما المسئولية المدنية، فهي جزاء فعل أضر بشخص معين، ويتمثل الجزاء فيها في تعويض، يطالب به الشخص المضرور.

وحيث إن الأفعال التي تضر بالأشخاص لا يمكن حصرها، فإنها لا تتحدد إلا بمقتضى ضوابط مرنة، لعل أشهرها، المبدأ المتمثل في تقرير أن “كل خطأ سبب ضررًا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض” (المادة 163 مدني).

2 – أهمية الضرر لانعقاد المسئولية :

لا مجال لانعقاد المسئولية المدنية دون حدوث الضرر حيث لا يكفى مجرد احتمال وقوعه في حين أن المسئولية الجنائية قد تترتب ولو لم يحدث أى ضرر للمجتمع حينما يظهر مجرد احتمال وقوعه ومثال ذلك جرائم النشاط المجرد أو جرائم الخطر مثل حيازة سلاح بدون ترخيص.
3 – طبيعة الجزاء :

يتمثل الجزاء في المسئولية الجنائية في العقوبة التى توقع على الجاني والتي من شأنها أن تمنعه من ارتكاب جرائم أخرى وردعا لغيره من الأفراد فى المجتمع .

أما جزاء المسئولية المدنية فهو التعويض الذى غالبا ما يكون مبلغ نقدي

ثالثا : نتائج التمييز بين المسئوليتين الجنائية والمدنية:

17 – بالنظرلوجود نطاق خاص لكل من المسئولية المدنية والمسئولية الجنائية، فإن ذلك يستتبع أنه قد توجد إحداهما، على أثر فعل معين، ولا توجد الأخرى، وقد يوجدان معًا عند حدوث فعل واحد.

1- فقد توجد المسئولية الجنائية دون المسئولية المدنية، متى ارتكب شخص فعلا يحظره قانون العقوبات، دون أن ينشأ عنه ضرر لشخص معين، كما في جرائم الشروع والتشرد وحمل السلاح والاتفاق الجنائي، أو مخالفة إحدى قواعد المرور دون وقوع حادث لأحد.

2- وقد توجد المسئولية المدنية دون المسئولية الجنائية، إذا وقع فعل خاطئ سبب ضررًا للغير دون أن يكون هذا الفعل من الأفعال المجرمة التي يعاقب عليها قانون العقوبات. فكما تقول محكمة النقض المصرية: إن الفعل مع تجرده من صفة الجريمة قد يكون خطأ مدنيًا.

ومن أمثلة ذلك، إتلاف مال الغير من غير عمد، والفصل التعسفي لعامل من العمل. فإذا كان كل خطأ جنائي يعتبر خطأ مدنيًا في نفس الوقت، إلا أن العكس ليس صحيحًا.

3- بيد أنه يغلب أن يترتب على الفعل الواحد أن تنعقد المسئوليتان معًا: كما في أفعال القتل والضرب والسرقة والقذف.. الخ.

وحينئذ، ولأن المسئولية الجنائية هي الأصل، وتمثل حق المجتمع، فإنها تكون أقوى دون شك من المسئولية المدنية التي تمثل مصلحة خاصة، وتتعلق بحق الفرد. ولذلك فإن المسئولية الجنائية تؤثر في المسئولية المدنية – التي نشأت معها بسبب فعل واحد – وذلك من بعض النواحي.

18 – وتتجلى مظاهر تأثير المسئولية الجنائية في المسئولية المدنية في الآتى:
أ – من حيث الاختصاص القضائي: تتبع دعوى المسئولية المدنية دعوى المسئولية الجنائية، حيث يجوز رفع الدعوى المدنية للمطالبة بالتعويض أمام المحكمة الجنائية التي رفعت أمامها الدعوى الجنائية.

ب- الجنائي يوقف المدني: إذا رفعت الدعوى المدنية أمام المحكمة المدنية ثم رفعت الدعوى الجنائية، قبل أن يتم الفصل في الدعوى المدنية، تقف الدعوى المدنية إلى أن يحكم في الدعوى الجنائية.

ﺠ- التقادم: من المقرر أن الدعوى المدنية لا تسقط بالتقادم مادامت الدعوى الجنائية قائمة لم تسقط. فإذا كانت دعوى المسئولية التقصيرية تسقط بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي علم فيه المضرور بحدوث الضرر وبالشخص المسئول عنه، وتسقط في كل الأحوال بانقضاء خمس عشرة سنة من يوم وقوع العمل غير المشروع.

إلا أنه إذا كانت هذه الدعوى ناشئة عن جريمة وكانت الدعوى الجنائية لم تسقط بعد انقضاء المواعيد – للدعوى المدنية – فإن الدعوى المدنية لا تسقط إلا بسقوط الدعوى الجنائية (المادة 172/2مدني)

د- حجية الحكم الجنائي أمام القاضي المدني: إذا فصلت المحكمة الجنائية في الدعوى الجنائية، فإن القاضي المدني يرتبط بالحكم الجنائي، في الوقائع التي فصل فيها هذا الحكم، وكان فصله فيها ضروريًا.

فإذا حكمت المحكمة الجنائية بالإدانة على أساس وقوع الفعل من الجاني، فلا يجوز للمحكمة المدنية أن تبحث فيما إذا كان هذا الفعل قد وقع منه أو لم يقع، بل ترتبط بما انتهت إليه المحكمة الجنائية.

بيد أن من اللازم لكي تكون للحكم الجنائي هذه الحجية أن يكون باتًا حيث من المقرر – طبقًا لما استقرت عليه محكمة النقض المصرية – “أن الحكم الجنائي لا تكون له قوة الشيء المحكوم به أمام المحاكم المدنية إلا إذا كان باتًا لا يقبل الطعن، إما لاستنفاد طرق الطعن الجائزة فيه أو لفوات مواعيدها”.

وبالعكس، إذا حكمت المحكمة الجنائية بالبراءة على أساس أنه لم يثبت وقوع الفعل من المتهم، فلا يجوز للمحكمة المدنية أن تبحث في أمر وقوع هذه الفعل.

وعلى العكس إذا صدر الحكم المدني أولا وأصبح نهائيًا، ثم أقيمت الدعوى الجنائية، فإن الحكم المدني يكون واجب النفاذ، ولكنه لا يؤثر في سلطة المحكمة الجنائية، التي تحتفظ بسلطة اتخاذ القرار دون التقيد بالحكم المدني، وهذه إحدى مظاهر تفوق الجنائي على المدني.

([1]) راجع في ذلك بحث بعنوان : حقيقة أزمة المسئولية المدنية ودور تأمين المسئولية، مجلة المحامى الكويتية، س16، أعداد يوليو – أغسطس- سبتمبر 1992، بند6، ص140.

([2]) السنهوري، الوسيط، ﺠ1، بند 516، ص762.

([3]) راجع البحث السابق، حقيقة أزمة المسئولية المدنية، بند 8، ص143.

([4]) وهي مبادئ استقرت في القانون الوضعي، وعرفها التشريع الجنائي الإسلامى منذ أربعة عشر قرنًا. راجع في ذلك : سعد محمد الشيخ المرصفي، شبهات حول أحاديث الرجم وردها، مجلة الحقوق (الكويت)، س15، العدد 2، 3، 4، يونيو- سبتمبر- ديسمبر 1991، ص205.

([5]) نقض مدني 19/12/1985، م.م.ف، س26، ق236، ص1147 “لايمنع انتفاء الخطأ الجنائي عن القول أو الفعل المؤسس عليه الدعوى المدنية من توافر الخطأ المدني في هذا القول أو ذلك الفعل”.

([6]) نقض مدني 31/10/1985، م.م.ف، س36، ق200، ص968.

([7]) انظر تطبيقًا لذلك: نقض مدني 15/12/1983، م.م.ف، س34، ق358، ص1830، “إذا كان الأصل في الدعوى المدنية التي ترفع تبعًا للدعوى الجنائية على المتهم ورب العمل بوصفه متبوعًا أنها لا تطرح على المحكمة الجنائية خطأ شخصيًا منسوبًا للمتبوع وإنما يسأل فقط باعتباره كفيلاً، متضامنًا مع المتهم، فإن الحكم الذي يصدر برفض هذه الدعوى لا يحول دون مطالبة المضرور لرب العمل باعتباره مسئولا عن خطئه الشخصي المفترض بوصفه حارسًا للشيء الذي وقع به الحادث وذلك لتغير صفة المدعى عليه والسبب في الدعوى الأولى عنها في الدعوى الثانية. فالحكم لا يحوز حجية الشيء المحكوم فيه أمام المحكمة في دعوى أخرى إلا إذا اتحد الموضوع والسبب والخصوم بذوات صفاتهم في الدعويين”.