التطور التاريخي للجرائم ضد الإنسانية

المحامية / سهى منذر

يعد مصطلح الجريمة ضد الإنسانية حديث الظهور ، لكن ارتكابها قديم قدم التأريخ ، فلطالما كانت علاقات الإغريق مع الشعوب الأخرى مبنية على القوة المفرطة والتسلط لأن الإغريق كانوا يعدون انفسهم فوق الشعوب الأخرى وعدوا ان من حقهم شن الحروب والقيام بالفتوحات لذا فان منطق القسوة المفرطة والتصرفات العدائية كان هو المنظم لتلك العلاقات وفي خضم العلاقات المبنية على القوة كان من الطبيعي ان ترتكب جرائم دولية بما فيها جرائم ضد الإنسانية ، وهذا دعا رجال الفلسفة وبعض القديسين الى دعوة الأطراف المتحاربة الى نبذ العنف والعمل على الحوار من أجل احلال السلام بينهم ، فضلا عن بعض المحاولات لتنظيم عادات الحرب ومنع ارتكاب جرائم ضد المدنيين العزل .

وضع الفقيه الهولندي غروسيوس كتاباً سماه (كتب ثلاث في قانون الحرب) بحث فيه عادات الحروب وأعرافها ، وطالب بمعاقبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد السلام والجرائم ضد الانسانية ، كما أيّد الفقيه الفرنسي فاتيل التدخل العسكري لأسباب إنسانية ، وهذا ما حدث حينما تدخلت الدول الأوربية عسكرياً ضد الدولة العثمانية عام 1860 على أثر قتل آلاف المسيحيين في سوريا ولبنان ، وقيام الولايات المتحدة الأمريكية بالتدخل لدى رومانيا لصالح اليهود عام 1906. اما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد أصدر الرئيس (ابراهام لينكولن) تعليمات (ليبر) عام 1866 م ، التي صاغها الفقيه الأمريكي من أصل ألماني (فرانسيس ليبر) وأمر الرئيس لينكولن بأن تطبق من الجيوش الفيدرالية عند القتال وقد أصبحت تعليمات ليبر الأساس لمعاهدات القانون الدولي الانساني .

وبعد الحرب العالمية الأولى ، أسست دول الحلفاء لجنة للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها الألمان وفقاً لاتفاقية فرساي ، لكن اللجنة وجدت أن الأتراك ارتكبوا جرائم مخالفة لقوانين الإنسانية لأنهم قتلوا السكان الأرمن في الحرب العالمية الأولى ، لكن الولايات المتحدة واليابان اعترضتا على تجريم هذه الأعمال واحتجتا بأن تلك الجرائم تخالف القانون الأخلاقي لا القانون الوضعي .

وبعد الحرب العالمية الثانية ، حينما أُنشئت منظمة الأمم المتحدة وامتلكت صلاحيات أوسع مما امتلكتها عصبة الأمم ، وأجاز ميثاقها التدخل في الدول لحماية السكان من انتهاكات حقوق الإنسان اذ لم يعُد ذلك انتهاكاً لسيادة الدولة والمساس باستقلالها وشؤونها الداخلية فأصبح مبدأ تدخل الدول لحماية حقوق الإنسان أعلى من مبدأ سيادة الدولة لان الاول اصبح من مبادئ القانون الدولي التي تعد اسمى من القوانين الوطنية ، وتم تقنين الجرائم ضد الإنسانية واستُعمِلَ هذا المصطلح في النظام الأساسي لكل من محكمتي نورمبيرغ وطوكيو ، فوُجِّهت اتهامات لمجرمي الحرب بارتكاب جرائم حرب وجرائم عدوان وجرائم ضد الانسانية .

وتوالى الاهتمام الدولي بهذه الجرائم فورد ذكرها في المادة الثانية من مشروع قانون الاعتداء على السلم والإنسانية الذي وضعته لجنة القانون الدولي في الأمم المتحدة عام 1951 وكذلك في مشروع مدونة الأفعال المخلة بالسلامة الإنسانية الذي وضعته لجنة القانون الدولي عام 1996 وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثالثة والعشرين قراراً باعتماد اتفاقية منع تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية ، كما أصدرت عام 1973 قراراً يقضي بوجوب التعاون الدولي لتعقب وملاحقة وتسليم ومعاقبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية .

وتعددت الاتفاقيات الدولية التي وضعت تعاريفاً للجرائم ضد الإنسانية ، لكن جميع هذه التعاريف تؤدي الى نفس المعنى ، فالمادة السادسة من ميثاق المحكمة العسكرية لمحاكمة كبار مجرمي الحرب في أوربا ، التي تسمى (محكمة نورمبرغ) تعرّف الجرائم ضد الانسانية بأنّها (القتل ، الابادة ، الاستعباد ، الابعاد ، والأفعال غير الانسانية الاخرى ، التي ترتكب ضد السكان المدنيين قبل أو عند الحرب أو على أساس ديني أو عنصري أو سياسي ، تدخل ضمن اختصاص المحكمة سواء أكانت معاقباً عليها في القانون المحلي للدولة التي ارتكبت فيها أم لا. وهذا التعريف نفسه جاء في ميثاق المحكمة العسكرية لمحاكمة مجرمي الحرب في الشرق الأقصى ، التي سميت محكمة طوكيو لكن مع بعض التغييرات الطفيفة .

ومع التقدم الذي حققه المجتمع الدولي في تعريف هذه الجرائم ، جاء في نظام المحكمة الجنائية الدولية لمعاقبة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة الصادر سنة 1993 انه بالإمكان معاقبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية عند النزاعات المسلّحة الدولية وغير الدولية ، اذ نصّت المادة الخامسة على انه (سوف تمارس المحكمة الجنائ?ة الدول?ة ل?وغسلاف?ا سابقاً الاختصاص الذ يكون لها بمقتضاه محاكمة الأشخاص المسؤول?ن عن الجرائم الآت?ة عندما ترتكب في النزاعات المسلحة سواء أكانت ذات طب?عة دول?ة أو داخل?ة وتكون موجهة ضد أي مجموعة من السكان المدن??ن وهي : القتل العمد ، الإبادة ، الاسترقاق ، الإبعاد ، السجن، التعذ?ب ، الاغتصاب ، الإضطهادات لأسباب س?اس?ة ، عرق?ة أو د?ن?ة،والأفعالغير الانسان?ة الأخرى

وفقاً للمادة الخامسة من النظام الأساسي تكون للمحكمة سلطة محاكمة الأشخاص المسؤول?ن عن الجرائم ضد الإنسان?ة ، سواء ارتكبت في نزاع كان ذو طابع دولي ام داخلي ضد السكان المدنيين ، ورغم أنّ هذا التعريف لم يشترط ارتباط الجرائم ضد الانسانية بالجرائم الأخرى لإمكانية المعاقبة عليها مما يوسع نطاق صلاحياتها ، لكن يؤخذ على التعريف أنه يشترط وقوع الجرائم ضد الانسانية عند اي نزاع مسلح ، في حين أنه من الممكن وقوع الجريمة المذكورة من دون أن يحدث ذلك النزاع
أمّا في نظام المحكمة الجنائية الدولية رواندا الصادر عام 1994 ، فلم يختلف الوضع كثيراً عن محكمة يوغسلافيا سوى أن نظام محكمة رواندا لم يشترط ارتباط الجرائم ضد الانسانية بنزاع مسلح ، لكنه اشترط أن تقع ضمن هجوم واسع النطاق ، أمّا الأفعال المعاقب عليها فهي نفسها في نظام محكمة يوغسلافيا السابقة .