وفقاً لهذه الصورة من المعاملة بالمثل ، فان الأجانب في الدولة والوطنيين في الخارج شركاءٌ في التمتع بمركز قانوني معين تحدده المعاهدة التي ترد فيها شرط المعاملة بالمثل او النص التشريعي الداخلي ، سواء اكان هذا المركز موافقاً أم مخالفاً لمركز الوطنيين في الداخل(1). وبتعبير أخر ، ان الدولة لا تمنح الاجنبي الا ذات الحقوق التي يتمتع بها رعاياها في الدولة التي ينتسب اليها ذلك الاجنبي(2). فالدولة مثلاً ، لا تمنح الاجنبي حق الارث لديها ، إلا إذا كانت قوانين دولته تمنح الحقوق نفسها لرعاياها(3) او ان تقرر الدولة منح الاجنبي حق ممارسة مهنة معينة كمهنة الطب مثلاً، إذا كانت دولته تسمح لرعاياها بممارسة نفس المهنة – أي مهنة الطب – او ان تتعهد الدولة بمنح رعايا دولة اجنبية معينة تعويضات كاملة وفورية فيما لو اتخذت اجراءات التأميم في مواجهة اموالهم ، اذا كانت تلك الدولة الاجنبية تمنح تعويضات مماثلة لرعايا الدولة الاولى ممن يستثمرون اموالهم في اقليمها(4). لذلك ، فان الحق محل المعاملة بالمثل اذا كان مجهولاً في قوانين الدولة الأجنبية، امتنع على رعايا تلك الدولة التمتع به في اقاليم الدول التي يقيمون فيها وفقاً لهذه الصورة من المعاملة بالمثل(5). فالمعاملة بالمثل وفقاً لهذه الصيغة ، لا يمكن ان تُثار إلا في نطاق النظم القانونية او الحقوق المشتركة في تشريع الدولتين(6).

ولهذا السبب ، فإن البعض أطلق على هذه الصورة للمعاملة بالمثل ، تسمية (تبادل الحق بالحق)(7). والامر الطريف في هذه الصورة ، أن الوطني قد يتمتع بالخارج بحق او مجموعة حقوق ، قد لا يستطيع التمتع بها في وطنه ، فعلى سبيل المثال ، ان معاهدة عقدت بين دولتين تقرر ان لرعايا كل من الدولتين في الاخرى حق التعويض عن كل ضرر يصيبهم ولو كان ذلك الضرر ناشئاً عن عمل من اعمال السيادة ، كان لرعايا كل من الدولتين حق المطالبة بهذا التعويض ، على الرغم من عدم امكانية المطالبة به في دولتهم(8) . اذن ، فمن الواضح ان هذه الصورة للمعاملة بالمثل هي تجسيد صادق لفكرة تطابق الالتزامات الناتجة عن شرط المعاملة بالمثل في مجال العلاقات الخاصة الدولية . والمعاملة بالمثل القائمة على اساس التطابق في الحقوق ، اما ان تتقرر بموجب معاهدة او اتفاقية دولية، فهنا تصبح (معاملة دبلوماسية بالمثل قائمة على اساس التطابق في الحقوق). وتكون المعاملة بالمثل في هذه الحالة ، بمثابة عقد بين دولتين ، يشترط ان يكون الاداء الذي يلتزم به احدى الدول مماثلاً او مطابقاً لا داء الدولة الاخرى أي بمعنى التطابق بين التزامات كل من الدولتين(9).

وقد اطلق البعض(10) على هذه الاتفاقيات تسمية (اتفاقيات الحقوق مقابل الحقوق)، ولا يكفي وفقاً لهذه الصور ان ترد المعاملة بالمثل على التمتع بالحقوق فقط ، أي بمعنى ان يكون الحق الممنوح للاجنبي في الدولة هو الحق نفسه الذي تخوله الدولة التي يتبعها هذا الاجنبي لرعايا الدولة الاولى ، بل علاوة على ذلك يجب ان ترد المعاملة بالمثل على ممارسة الحق محل المعاملة بالمثل فعلاً ، وفي نفس الحدود التي يجوز فيها للوطنيين ممارستها(11). وقد اخذ بهذا المفهوم القانون المدني الفرنسي في المادة (11) التي نصت على انه (يتمتع الاجنبي في فرنسا بنفس الحقوق المدنية التي يتمتع بها الفرنسيون استناداً الى نص في معاهدة بين فرنسا والدولة التي ينتمي اليها ذلك الاجنبي). ومعظم الفقه في فرنسا(12) متفق على انه ، فكرة الالتزام الناشئة عن المعاملة الدبلوماسية بالمثل المنصوص عليها في المادة (11) من القانون المدني ، يجب ان تكون مبنية على التطابق والتماثل فيما يتعلق بمعاملة الافراد موضوع الاتفاقية . كذلك ان القضاء الفرنسي يعّد نفسه مرتبطاً او مقيداً بنص المادة (11) التي لا تمنح الاجانب في فرنسا الا الحقوق التي يستفيد منها او يتمتع بها الفرنسيون وذلك بموجب المعاهدة او الاتفاقية المعقودة بين فرنسا والدولة التي يتبعها اليها الاجنبي(13).

وكذلك فان المعاملة بالمثل القائمة على اساس التطابق ، قد تتقرر بموجب التشريع، وهنا تصبح (معاملة تشريعية بالمثل قائمة على اساس التطابق) . من هذا القبيل ، ما نصت عليه المادة (26) من قانون العمل المصري رقم 137 لسنة 1981 ، من انه:- (لا يجوز للاجانب ان يزاولوا عملاً إلا بعد الحصول على ترخيص في ذلك من وزارة العمل وان يكون مصرحاً لهم بالإقامة وبشرط المعاملة بالمثل مع الدولة التي ينتمي اليها وفي حدود تلك المعاملة …) .وهذا النص يقرر صراحة على ان معاملة الاجنبي يجب ان تكون في حدود المعاملة التي يعامل بها الوطني في الدولة الاجنبية ، حيث ان المشرع المصري قصد بذلك تقييد المعاملة بالمثل بنوع العمل المسموح به للرعايا المصريين بمزاولته في الدولة الاجنبية والشروط التي يسمح لهم بمزاولته فيها(14) . وبهذا المعنى ، فانه لا يكفي السماح اللاجنبي بمزاولة عمل معين في مصر ان تكون الدولة التي ينتمي اليها هذا الاجنبي تقرر لرعايا مصر حق العمل بصفة عامة ، بل يتعين ان تقرر هذه الدولة لرعايا مصر الحق في مزاولة العمل نفسه الذي يطلب الاجنبي السماح له بممارسته في مصر(15) .

كذلك فان المشرع المصري ، اشترط ايضاً المعاملة التشريعية بالمثل القائمة على اساس التطابق ، فيما يتعلق بممارسة الاجانب لمهن الطب والصيدلة وطب الاسنان والطب البيطري ، فلم يجز للاجنبي بمزاولة هذه المهن في مصر إلا إذا كانوا ينتمون الى دول تسمح تشريعاتها لرعايا الجمهورية العربية المصرية بمزاولة هذه المهن نفسها(16) . وقد تبنى المشرع العراقي المعاملة التشريعية بالمثل على أساس التطابق ، فيما يتعلق بتملك الاجانب للعقارات في العراق ، وتأسيساً على ذلك ، نصت المادة الاولى من قانون تملك الاجنبي للعقار في العراق رقم (38) لسنة 1961 ، على ذلك ، بقولها : (يعامل الاجنبي في حق الملكية وفي المعاملات التصرفية التي ترد على العقار. بما يعامل به العراقي في بلد الاجنبي في وفقاً لقاعدة المقابلة بالمثل ، فلا يجوز ان يتملك العقار في العراق الا ما يجوز ان يتملكه العراقي في ذلك البلد من حيث النوع والمساحة والموقع والاستعمال …) وبهذا النص فإن المشرع العراقي قد حدد تحديداً قاطعاً ، التطابق في حق تملك العقار بين الاجانب في العراق والعراقيين في الخارج . ويرى البعض(17) أن هذه الصورة للمعاملة بالمثل “تحقق التوازن بين الدولتين بطريقة حسابية محددة ، وهكذا لا تثور شبهة الغُبن الذي يلحق باحدى الدول المتعاقدة لصالح الدولة الاخرى ، وذلك لان تبادل الحق بالحق يفترض توازناً مادياً بين ما تأخذه الدولة وما تعطيه” .

ألا اننا نتفق مع البعض الاخر(18) بان تحقيق هذا التوازن لا يتم الا في الظاهر ، حيث ان التطبيق الفعلي لهذه الصورة لا يؤدي أحيانا إلى تحقيق المساواة الكاملة بين الطرفين من الناحية الموضوعية ، حيث يكون الالتزام من جانب دولة بمنح الأجانب لديها بعض الحقوق تطبيقاً لمبدأ المعاملة بالمثل التطابقي عبئاً عليها ، وميزة للدولة الأخرى ، ويتجسد هذا الاختلال في حالة اختلاف عدد رعايا كل من الدولتين المقيمين في الأخرى، ومدى حاجتهم للحق الذي تقرر منحه لهم(19) كما هو الحال عندما تتعاقد دولتان على منح رعايا كل منهما في إقليم الأخرى ، حق الاشتغال بالتجارة على سبيل المثال ، وكان رعايا الدولة الأخرى المقيمون في إقليم الدولة الثانية ، اكثر عدداً من رعايا الدولة الأخيرة المقيمين في الدولة الأولى ، فلا شك أن الفائدة التي ستترتب على هذا الشرط ، سيحققها بدون شك ، رعايا الدولة الأولى ، بينما يلحق الغبن بالدولة الثانية(20). ويؤخذ على هذه الصورة ايضاً ، بأنها تثير بعض الصعوبات في تطبيقها ، إذ أنها تفترض تطابقاً كاملاً بين تشريعات الدولة المختلفة في شأن تنظيم التمتع بالحقوق ، محل المعاملة بالمثل ، وحدود ممارستها وتفاصيل التمتع بها من الناحية الموضوعية(21). فلو فرضنا مثلاً ان العراق عقد مع دولة أخرى اتفاقية معاملة بالمثل على أساس التطابق ، تقضي بتمتع رعايا تلك الدولة الأجنبية عندنا في العراق بحقوق الملكية التجارية والصناعية ، مقابل تمتع العراقيين بالحقوق نفسها في تلك الدولة ، فتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل في مثل هذه الحالة يستوجب تطابق التشريع العراقي مع تشريع تلك الدولة الأجنبية ، من حيث التسليم بجواز التمتع بالحق ذاته من جهة ، ومن حيث كيفية تنظيمه وتفاصيل التمتع به من جهة اخرى . غير انه من الراجح لدى الفقه ، بان الاعتراف للأجنبي بأصل الحق ، يترتب عليه تمتعه بتفاصيل تنظيمه ولو كانت غير معروفة في قوانين دولة الأجنبي ، وذلك على اعتبار ان هذه التفاصيل عبارة عن توسيع في اصل الحق(22).

ولتجنب هذه الصعوبات ، فأن الدول تستعين في بعض الأحيان بصيغة أخرى للمعاملة بالمثل ، في المعاهدات التي تبرمها مع الدول الأخرى ، وهي التي تسمى بـ (المعاملة بالمثل على أساس تعديد للحقوق)(23). حيث تكتفي الدول المتعاقدة بذكر او تعديد للحقوق التي تدخل في نطاق مبدأ المعاملة بالمثل ، ودون اشتراط التطابق بين تشريعات الدول في تنظيمها(24). وبذلك فان رعايا الدول المتعاقدة يستطيعون التمتع بالحق وفقاً لتشريع الدولة التي يقيمون فيها ، وبغض النظر عن الطريقة المقررة في قوانين دولهم فيما يتعلق بتمتع الاجانب بهذه الحقوق(25). ومن الأمثلة على هذا النوع من الاتفاقيات (الاتفاقية العربية للمعاملة بالمثل في نظم التأمينات الاجتماعية – الضمان الاجتماعي)(26). فالمادة الرابعة من الاتفاقية ، وضعت مبدأً عاماً يقضي تبني الاتفاقية لمبدأ المعاملة بالمثل بين دول الأطراف ، وفيما يخص منح كل منها لرعايا الأخرى نفس المزايا التي تمنحها لرعاياها . حيث نصت هذه المادة ، على انه : (يتمتع المؤمن عليهم المنتمين لجنسية إحدى الدول المتعاقدة بنفس المزايا التي يقرها تشريع الدولة المتعاقدة الأخرى التي يقيمون فيها ، مع مراعاة الشروط والأوضاع المعمول بها في هذه الدولة) . أما المادة الثانية من الاتفاقية ، فقد قامت بتعديد أنواع التأمينات التي يستفيد منها، رعايا دول الأطراف من الاتفاقية ، وعلى أساس المعاملة بالمثل ، حيث نصت هذه المادة على انه : (تسري أحكام هذه الاتفاقية ، بالنسبة لنوع أو اكثر من التأمينات الآتية :

1-تأمين إصابات العمل .

2-التامين الصحي .

3-تأمين الأمومة (الحمل والوضع) .

4-تأمين العجز .

5-تأمين الوفاة .

6-التأمين من البطالة .

7-المنافع العائلية .

ويعتبر سارياً كل تعديل يطرأ على هذه التأمينات في الدولة المتعاقدة ، بشرط ان تخطر به الدولة الأخرى ، خلال شهر من تاريخ العمل به ). غير ان ما يلاحظ هنا ، أن هذه المعاهدات أو الاتفاقيات لا تتدارك مما قد يؤدي ايضاً الى اختلال التوازن بين المزايا الحقيقية التي تمنحها احدى الدول اطراف الاتفاقية لرعايا الاخرى ، والمزايا الممنوحة لمواطني الاخيرة في الدولة الاولى ، والناتج عن اختلاف التشريعات الداخلية في شؤون الحدود المسموح بها لممارسة الاجانب لهذه الحقوق(27). ولهذا السبب ، فان بعض المعاهدات لا تكتفي بتعديد الحقوق وترك تفاصيل تنظيمه للتشريعات الداخلية لدول الاعضاء في الاتفاقية ، بل علاوة على ذلك تقوم بتنظيم تفاصيل التمتع بهذه الحقوق من الناحية الموضوعية ، بحيث تنتفي الحاجة الى الرجوع لقوانين الدول الاطراف في الاتفاقية لتحديد كيفية تمتع رعاياها بهذه الحقوق في اقاليم بعضها البعض(28).

_______________________

[1]- د. احمد مسلم ، القانون الدولي الخاص ، مصدر سابق ، ص305 .

2- د. بدر الدين عبد المنعم شوقي ، مصدر سابق ، ص284 .

3- المصدر نفسه ، ص284 .

4- د. هشام علي صادق ، الحماية الدولية للمال الأجنبي ، مصدر سابق ، ص242 .

5- د. شمس الدين الوكيل ، مصدر سابق ، ص353 .

-6 Yvon Loussouarn ، Pierre Bourel ، Op-Cit،P.711.

7- د. هشام علي صادق ، ود. حفيظة السيد حداد ، مصدر سابق ، ص329 .

8- أنظر : د. احمد مسلم ، القانون الدولي الخاص ، مصدر سابق ، ص305 .

-9P.Modinos، Sur La reciprocite en matrere de traites، Revue egyptienne de droit interuational، volum 5 ، 1949 ،P.70 .

10- راجع : Yuon loussouarn ، Pierre Bourel، Op. Cit.، P.711.

1[1]- راجع : حامد مصطفى ، مصدر سابق ، ص121 .

-12 Jean Derruppe، Op-Cit، P.48 ;Yvon Loussouarn ، pierre Bourel، Op-Cit، P.711; Henri Batiffol، Paul lagarde ، Op. Cit.، P. 237.

(13) Henri Batiffol، Paul lagarde ، Op. Cit.، P237.

4[1]- د. فؤاد عبد المنعم رياض ، الجنسية ومركز الأجانب وتنازع الاختصاص القضائي ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، بدون سنة طبع ، ص402 .

5[1]- د. فؤاد عبد المنعم رياض ، المصدر السابق ، ص402 .

6[1]- د. ابراهيم احمد ابراهيم ، مصدر سابق ، ص160 .

7[1]- د. شمس الدين الوكيل ، مصدر سابق ، ص353 .

8[1]- د. هشام علي صادق و د. حفيظة السيد حداد ، مصدر سابق ، ص331 .

-19 P.Modinos، Op. Cit.، P.70 .

20- د. بدر الدين عبد المنعم شوقي ، مصدر سابق ، ص285 .

-21 Henri Batiffol ، Paul Lagarde ، Op. Cit.، P.238 .

22- د. احمد مسلم ، القانون الدولي الخاص ، مصدر سابق ، ص308 .

23- انظر : د. هشام علي صادق ، الجنسية والموطن ومركز الأجانب ، مصدر سابق ، ص183 .

-24 Yovn loussouarn ، Pierre Bouerl، Op. Cit.، P.712.

25- د. فؤاد عبد المنعم رياض ، مبادئ القانون الدولي الخاص ، مصدر سابق ، ص384 .

26- صادق العراق على هذه الاتفاقية بالقانون المرقم (111) لسنة 1970 ، والذي نشر في الوقائع العراقية ، العدد 1886 ، بتاريخ 6/6/1970 .

27- د. هشام علي صادق ، الحماية الدولية للمال الاجنبي ، مصدر سابق ، ص246 .

28- المصدر نفسه ، ص246 .

المؤلف : مراد صائب محمود البياتي
الكتاب أو المصدر : مبدأ المعاملة بالمثل في مجال المركز القانوني للأجانب
الجزء والصفحة : ص50-56

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .