التحيل في الإستدعاء

الاستاذة وفاء الرزقي

“إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فانه لا ينفع تكلم بحقّ لا نفاذ له آس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك ”

عمر بن الخطاب[1]

لا بد للمجتمع من قانون ولا بد للقانون من قضاء، وينبغي أن يكون للقضاء قانون ينظم أصوله وأوضاعه دون مبالغة في الشكليات أو في إهمالها وتؤثر حالة هذا القانون على الحياة الاجتماعية في مختلف مظاهرها.

فإذا كان التنظيم القضائي محكما، وكانت إجراءات التقاضي ميسورة وكان تنفيذ الأحكام القضائية مقدسا لدى الأفراد والحكام، شاعت الطمأنينة في النفوس وأمن الناس في معاملاتهم.

وأما إذا ساء التنظيم القضائي وتعقدت الإجراءات وطالت مواعيدها وتراخى تنفيذ الأحكام أو تعثر شاع الحذر في النفوس وقل التعامل، إذن فتحقيق الغاية المرجوّة من القانون في المجتمع رهين حسن أداء العدالة فيه، فالقضاء هو أداة هذه الوظيفة وقانون المرافعات هو وسيلة القضاء في أداء وظيفته، فإذا صلح صلحت هذه الحياة وإذا فسد شابها الفتور وعششت فيها الفوضى[2] لذلك فانه لا شكّ في أن الحقّ سيكون مجردا من كل قيمة إذا لم يكن لصاحبه الحقّ في حمايته،

وفي مجتمع متمدن لا يجوز فيه لأحد أن يحمي حقه بنفسه كان لا بد من اللجوء إلى سلطات الدولة لفرض احترام الحقوق الذي لا يتسنى إلا في ظل الدولة القانونية التي تعهد بهذه المهمة إلى سلطة مستقلة يتمتع أفرادها بضمانات تكفل لهم الحياة هي السلطة القضائية.

فإذا كان الحق الذي لا دليل عليه حق ضائع، فان الحق الذي لا تحميه “دعوى” حق لم يولد بعد أو أنه ولد ميتا[3] ولكي تنهض هذه الدعوى يجب أن يكون هناك مدع، مدعى عليه ومدعى به، وهو الحق المتنازع عليه.

ويمكن أن يطلق على المدعي والمدعى عليه تعبير أشخاص الدعوى و يتفرع “المدعى به” إلى موضوع وسبب، فالموضوع هو المطالب به، والسبب هو السند القانوني للطلب[4] لقد تأثر الفقه منذ العصور القديمة بفكرة وجود قانون أعلى من القوانين الوضعية، قانون ثابت أزلي يطبق في كل زمان ومكان لأنه يصدر عن طبيعة الأشياء باعتباره موجه مثاليا للعدل يفرض نفسه على إدارة المشرع الذي يلتزم باحترامه وهو ما أصطلح على تسميته بالقانون الطبيعي .

غير أن فكرة هذا القانون قد أتيح لها في القرنين الأخيرين أن تصبح فكرة قانونية بعد أن كانت فكرة فلسفية في العصور الأولى و فكرة دينية في العصور الوسطى، فلم تعد مجرد توجيهات كلية بل أصبح ينظر إليها باعتبار أنها تتضمن قواعد جزئية تفصيلية وبهذا أصبح كل من المشرع والقاضي يضطلع بدور هام في إزالة الفروق بين القوانين الوضعية القائمة وبين القانون الطبيعي سواء كان ذلك عن طريق تحقيق التجانس أو بملء الفراغ التشريعي.

وبناء على ذلك أضحى القانون الطبيعي يتخذ مظهرا له في القانون الوضعي في شكل مبادئ قانونية عامة[5] تهيمن على جميع مواد القانون ومن بينها مادة الإجراءات المدنية التي تخضع بدورها لجملة من المبادئ المتأثرة بفكرة القانون الطبيعي من أهمها مبدأ احترام حقوق الدفاع المجسم في مبدأ المواجهة.

والتناغم بين تينك المبادئ العامة يمنح القاضي مجالا أوسع للتدخل بعيدا عن القيود التشريعية بغاية الموازاة بين جوهر عمل القضاء المتمثل في إنصاف المتقاضين والجانب الوظيفي المتمثل في حسن تطبيق القانون.

كما ترجع جذور هذا المبدأ إلى القانون الروماني وذلك من خلال القاعدة الشهيرة Audi Alteran partem والتي مفادها وجوب سماع الطرف المقابل، كما أنه كان يحجر على القاضي الروماني البت في النزاع قبل سماع مستندات الطرفين والمعبر عنه باللاتينية بقاعدة “Audiature et altera pars “.

كما تضمن الفقه الإسلامي أيضا مجموعة من القواعد الأساسية التي تهدف إلى ضمان حقوق الدفاع في المنازعات الذي عرف بمبدأ “العلن والحضور” إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم” إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقضي للأول حتى تسمع كلام الآخر فسوف تدرى كيف تقضي”[6] واستمرت هذه المبادئ في القضاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ جاء في رسالة عمر ابن الخطاب” إذا سمعت حجة الآخر بان القضاء”.

ونظرا لأهمية هذا المبدأ فقد خصصت له بعض التشريعات نصا خاصا به مثل المشرع الفرنسي حيث جاء بالفصل 14 من م.ا.ج.ف أنه “لا يقاضى أي طرف بدون أن يقع سماعه أو دعوته للحضور “كما ورد بالفصل 16 من نفس المجلة أنه على القاضي في جميع الحالات أن يتقيد ويفرض التقيد بمبدأ المواجهة بين الخصوم”.

إن من ضمانات حسن أداء العمل القضائي هو قيامه على نظام معين لتتابع الإجراءات وهذه الغاية يعبر عنها بمجموعة من المبادئ أو القواعد الأصولية للخصومة وهي في الحقيقة جوهر نظام الخصومة ومضمونه بل تستهدف في النهاية تحقيق العدالة في أحسن صورة ومن أهمها مبدأ المواجهة بين الخصوم حيث يجمع الكتاب عادة بينه وبين مبدأ حرية الدفاع والذي يقتضي وجوب مثول الخصمين أمام القضاء مقرين أنه لا يجوز الحكم على خصم دون سماع دفاعه أو على الأقل دعوته للدفاع عن نفسه فيما يوجه إليه من طلبات[7]

بحيث يتيح القانون للمدعي حق الدفاع عن دعواه من خلال شرح المدعى عليه حق الدفاع للرد على الدعوى وتدعيمها بالدليل والحقيقة أن ما يعنيه مبدأ المواجهة هو تمكين كل خصم من العلم بطلبات خصمه ودفاعه، كما يوجب على القاضي ألا يبني حكمه إلا على الأقوال و الأوراق التي حصلت بصددها المواجهة وأن تعلم الخصوم بالحضور فيما يجريه من أعمال التحقيق المختلفة[8].

المشرع التونسي لم يتعرض إلى مصطلح حقوق الدفاع على خلاف فقه القضاء ثري في هذا المجال بالعديد من القرارات التي نقضت فيها محكمة التعقيب العديد من الأحكام ناعية عليها هضمها لحقوق الدفاع من ذلك القرار التعقيبي المدني المؤرخ في 18 جوان 1967 “إذا أذنت المحكمة بإجراء بحث تكميلي في القضية وتم هذا البحث فلا يسوغ لها القضاء في الدعوى إلا بعد اطلاع الخصوم على نتيجة ذلك البحث وتمكينهم من الوقت الكافي للاستعداد للمناقشة فيها وتفريعا على ذلك يكون مشوبا بالإخلال بحقوق الدفاع وقابلا للنقض الحكم الذي لم يراع تلك الإجراءات الأساسية”[9] ،

وأقر فقه القضاء المقارن هذا المبدأ “إن الدفاع هو حق طبيعي ولا يمكن الحكم على أي شخص قبل استجوابه والتنبيه عليه بالدفاع عن نفسه”[10].

تعرض الفقه إلى صعوبة وضع تعريف عام وشامل للمبدأ[11] فيرى الأستاذ “Couchez” في مبدأ المواجهة المفهوم الفني للقواعد العليا لاحترام حقوق الدفاع[12] ويعتبر الفقيه موتولسكي مبدأ المواجهة أحد تطبيقات حقوق الدفاع في النزاع المدني الذي يشمل ويستوعب في داخله مجموعة من المبادئ الإجرائية[13] .

وبذلك فان الاختلاف شمل إضافة إلى بيان علاقة مبدأ حقوق الدفاع بالمبادئ الإجرائية الأخرى طبيعة العلاقة بين المبدأ وأطراف النزاع المدني مما جعل البعض[14] يعتقد أن حق الدفاع ينحصر في ضمان حقوق المدعى عليه باعتباره الطرف المطالب بتقديم رده حول الادعاءات الموجهة ضده في حين يبرر الأستاذ الأحمدي قصور هذا التأويل على الصيغة اللفظية في حين أن المعنى المستقيم لحق الدفاع “يتمتع به كل متقاض بقطع النظر عن موقعه في الخصومة سواء كان طالبا أو مطلوبا أو متداخلا أو معترضا”[15] .

وحتى يتسنى الفصل في النزاع فان سير إجراءات التقاضي أمام المحاكم وتحديد الخطوات التي تمر بها الخصومة القضائية تاريخيا قد تجاذبه نظامان مختلفان خاصة من حيث توزيع دور كل من القاضي والمتقاضي في النزاع :

فالنظام الأول هو النظام الادعائي “système accusatoire” الذي يطلق عليه أيضا النظام الاتهامي أو نظام المبادرة الذاتية[16] أو نظام المواجهة بين الأطراف ويقوم على فكرة أن النزاع المدني يهم حقوقا خاصة لا صلة لها بالمصلحة العامة، وبناء على ذلك فان دور القاضي يتميز بالشكلية ويقتصر على معاينة الخصومة القضائية بين الأطراف لينتهي إلى حسم الخلاف بحسب ما تم عرضه عليه في حين يكون للأطراف في هذا الإطار الدور الايجابي والفعال من خلال تسيير إجراءات الدعوى وجمع الأدلة والحجج[17] .

أما النظام الثاني فهو النظام الاستقرائي أو نظام المبادرة القضائية[18] أو نظام البحث والتحري، يقوم هذا النظام على فكرة أن القضاء مرفق عام لذلك فان القاضي عليه القيام بدور ايجابي ليتمكن من كشف الحقيقة من خلال حقه في تسيير الخصومة وإجراء الأبحاث والتحقيقات لكشف الحقيقة دون التوقف على طلب الخصوم.

وذهب الأستاذ محمد الشرفي إلى أن النظام الإجرائي المعمول به في القانون التونسي هو مختلط بين النظام الادعائي والنظام الاستقرائي وهو أقرب إلي الأول حسب ما وقع استنتاجه من الفصول 12- 84- 114 من م.م.م.ت التي تقر أن عبء الإثبات محمول على الأطراف[19].

ولقد عرفت تونس هذين النوعين من الأنظمة وذلك عبر تطور تاريخي، فمن نظام استقرائي وفقا لمجلة المرافعات المدنية والتجارية لسنة 1910 التي كانت الاستدعاءات و الاعلامات فيها تبلغ بواسطة العامل أو السلط المحلية أو بمكاتيب مضمونة الوصول مع الإعلام بالبلوغ (الفصل 221 قديم)، أما الأحكام فقد كان منوطا بعهدة العامل أو شيخ المدينة بتونس (الفصل 144 قديم).

ولم تلبث هذه الحالة ردحا من الزمن حتى شرع في إصلاحها بإصدار أمر في الثامن والعشرين من فيفري 1952 يقضي بإحداث أعوان عدليين تونسيين، يعهد إليهم تبليغ الاستدعاءات والقيام بالإعلامات وتنفيذ الأحكام وفي نفس التاريخ صدر أمر آخر في تنقيح الفصلين 144-221 من قانون المرافعات المدنية، فأصبح الفصل 221 بعد هذا التنقيح ينص على أن الاستدعاءات والاعلامات يمكن إبلاغها بواسطة أعوان عدليين أو بمكاتيب مضمونة الوصول مع الإعلام بالبلوغ على أن هذه الطريقة لا تخلو من مساوئ جمة مما جعلها لا تتماشى مع حسن سير القضاء لذلك كان أول عمل قام به المشرع التونسي هو إحداث عدول منفذين أسندت إليهم جميع الوظائف التي كانت مناطة بعهدة العمال،

إذ من خصائص هؤلاء وحدهم تحرير الاحتجاجات والاعلامات والإنذارات، وقد جاء بالفصل 5 م.م.م.ت أن “كل استدعاء أو إعلام بحكم أو تنفيذ يكون بواسطة عدل منفذ ما لم ينص القانون على خلاف ذلك” وبذلك انتقلت الإجراءات من نظام استقرائي إلى نظام المواجهة من خلال صدور مجلة المرافعات المدنية والتجارية في 05/10/1959 والتي دخلت حيز التطبيق في جانفي 1960 والذي يجعل المتقاضي مسؤولا عن إجراءات رفع الدعوى[20]

هذا النظام الإجرائي أدخلت عليه عدة تنقيحات في 1966-1980- 1986- 1993 آخرها سنة 2002 بموجب القانون عدد 82 المؤرخ في 3 أوت 2002[21] فالمبدأ في القانون التونسي أن تكون أعمال الاستدعاء عن طريق عدل منفذ أما الاستثناء فهو إقرار المشرع في بعض المواضع اعتماد الطريقة الإدارية في التبليغ من ذلك الفصل 44 من م.م.م.ت فيما يتعلق بالاستدعاء للحضور أمام محكمة الناحية والفصل 202 من مجلة الشغل فيما يتعلق بالحضور أمام مجالس العرف والفصل 261- 265 من م.ت فيما يتعلق بتوزيع ثمن الأصل التجاري والفصول 419 – 496 – 502 -508 – 526 – 547 من م.ت فيما يتعلق بإجراءات الصلح الاحتياطي والتفليس ففي مختلف هذه الحالات سمح المشرع بإمكانية الاستدعاء عن طريق مكتوب مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ أو بواسطة أعوان المحكمة أو بواسطة السلطة الإدارية[22].

ومن الملاحظ أن قواعد المرافعات التي تتبع أمام محاكم الحق العام لم ترد بجملتها بمجلة المرافعات المدنية والتجارية فهناك كثيرا منها أوردته مجلات أخرى: فنظرية الإثبات وقوة الشيء المقضي فيه وردتا مثلا في مجلة الالتزامات والعقود وإجراءات الفلسة وبيع الأصول التجارية وردتا بالمجلة التجارية وإجراءات الشفعة في مجلة الحقوق العينية.

وكذلك تجدر الإشارة إلى أنواع أخرى من المرافعات غير المدنية والتجارية فهناك مجلة الإجراءات الجزائية والقوانين الإدارية والتي تشمل الأمر المؤرخ في 27 نوفمبر 1888المنظم للخصام الإداري وقانون جوان1972المتعلق بالقضاء الإداري والمحكمة الإدارية وغيرها من النصوص المتعلقة بالجباية.

إلا أنه رغم ذلك يجمع الفقه والقضاء على اعتبار أن مجلة المرافعات المدنية والتجارية هي بمثابة “الشريعة العامة” في مجال التقاضي مهما كان نوعه مدنيا أو إداريا[23] قائما أساسا على مبد أ المواجهة بين الخصوم والذي اعتبر من المبادئ العمومية[24] وذلك تكريسا وضمانا لحق الدفاع فقوام النزاع المدني الحوار الذي يدور بين الأطراف، هذا الحوار لا يتحقق إلا من خلال إجراء أساسي يتمثل في تبليغ الاستدعاء ليقام النقاش بين الخصوم في المسائل التي يفصل فيها القاضي.

فلولا حقوق الدفاع لضاعت الحقيقة بين الناس، إذ لا تجد من يعبر عنها ومتى ضاعت الحقيقية ضاعت العدالة التي هي أساس الحكم وبغيرها تسود الفوضى ولا يقوم النظام.

إلا أنه رغم أهمية هذا المبدأ إلى يومنا هذا[25] فإنه لم يحض بالمكانة التي عهدت له في ظل التطبيق الحالي باعتبار أنه قد يتبادر للخصم سيء النية أن يعمل جاهدا دون حضور الطرف الآخر لمناقشته ومقارعته بالحجج وبالتالي تمكينه من حقه في الدفاع الذي لا يتحقق إلا من خلال شكلية الاستدعاء.

والاستدعاء لغة: هو فعل مزيد مشتق من فعل دعا، ودعا الشيء دعوا ودعوى طلب إحضاره واستدعاه صاح به وطلبه واستلزمه[26].

أما اصطلاحا: فيعرف الاستدعاء بكونه إجراءا قانونيا يهدف إلى إعلام المطلوب بوجود دعوى مثارة ضده وذلك بدعوته للحضور والإجابة وقد عرفه البعض بكونه عبارة عن مخطوط يقدّم به شخصا طلبا إلى القاضي أو إلى المحكمة ويتضمن دعوة الخصم للحضور[27].

وحرصا من المشرع على تحقيق النجاعة في بلوغ الاستدعاء من خلال العمل على حصول العلم الفعلي لذات المطلوب بوجود دعوى منشورة ضده قام بتعداد البيانات الواجب تضمينها بعريضة الدعوى وأقر جزاءات لمخالفيها، حيث أوجب المشرع أن تشتمل عريضة الدعوى على اسم كل واحد من الخصوم ولقبه وحرفته ومقره وصفته.

إلا أنه رغم هذه الصرامة الشكلية فان ذلك لم يقف حائلا دون القيام بخرق هذه القواعد وذلك من خلال استعمال وسائل مبنية عن سوء نية من قبل المتقاضي غير النزيه يمكن أن يترتب عنه تحيّل يؤدي إلى الإساءة إلى الخصم وهضم حقه في الدفاع لأن التحيّل هو من بين الطرق الغير شرعية التي يعمد إليها الإنسان ويتبعها للحصول على مبتغاة.

غير أنه ما يبعث للاندهاش هو مدى التفاعل والتناغم بين الظاهرتين، التحيّل من ناحية وعلاقته بميدان الإجراءات المدنية والتجارية من ناحية أخرى لأن التحيّل لا يمكن أن يتعلق إلا بالاستيلاء على الأموال وهو من المسلم به ولا يتعلق بإجراءات التقاضي.

لكن هذه الدهشة قد أزاحها بعض الباحثين في هذا المجال حيث لاحظ Graven [28] أن التحيّل لا يشمل الحقوق المالية فحسب بل يمكن أن يمتد إلى كل الحقوق والمصالح حتى وان تعلق الأمر بتحيّل شاهد في قضية أو في ميدان الاقتراع أو إطلاق سراح سجين أو حتى في العلاقات الجنسية.

كما اعتبر Chavane أن التحيّل يعد ميزة العصر يتأقلم مع جميع الأمكنة والظروف والأذواق والموضة وحب الاطلاع والدين والفن والعلوم وحتى القانون[29] وهو ما جعل أحد الباحثين[30] يستنتج أن طرق ارتكاب الجرائم أصبحت تمثل أقل خطورة وأكثر نفعا والتحيّل يعد ميزة هذه الجرائم.

وما يمكن استنتاجه في هذا الإطار هو شمولية مفهوم التحيّل حيث أضحى كأخطبوط حاضرا في كل المجالات منتشرا في جميع ميادين الحياة على اختلافها وتنوعها.

وبذلك أدرك التشريع التونسي أن التحيّل لم يعد يشمل الميدان المالي فحسب بل امتد ليشمل ميادين مختلفة من ضمنها مادة المرافعات المدنية والتجارية .

هذا التوجه الفقهي تجاوز المستوى النظري ليضحى مجسدا في تشريعنا الحالي فكانت مبادرة المشرع منذ سنة 1993 من خلال استحداث جريمة جديدة في المنظومة الجزائية هي جريمة التحيّل في الاستدعاء وذلك بإضافة الفصل 32 مكرر إلى م.أ.ش والذي ينص على أنه: “إذا تحيّل أحد الزوجين لغاية عدم بلوغ المحاضر والاستدعاءات إلى الطرف الآخر يعاقب بالسجن مدة عام”.

وفي هذا الإطار فان المشرع التونسي قد نسج على منوال المشرع الفرنسي في مادة الأحوال الشخصية من خلال القانون المؤرخ في 13 أفريل 1932.

إن إدماج الفصل 32 مكرر من م.أ.ش كان يرمي من خلاله المشرع إلى دعم الترابط الأسري عبر الحفاظ على حقوق المدعى عليه من الزوجين، وتندرج هذه الحماية في إطار منظومة تشريعية كاملة تم تفعيلها بتنقيح 12جويلية 1993 من خلال استحداث جريمة جديدة هي جريمة التحيّل في الاستدعاء بهدف تفادي عديد المآسي الاجتماعية التي ذهبت ضحيتها العديد من النساء اللاتي استغل أزواجهن سذاجتهن وجهلهن للقانون للتحيّل والحصول على أحكام طلاق “غيابية ” دون أن تمثلن أمام القضاء ودون أن تتمكن من الدفاع عن حقوقهن خاصة إزاء استدعاء تم ظاهريا طبق القانون[31] وبذلك يعد الفصل 32 مكرر من أهم الفصول التي شملها تنقيح1993 والذي يضبط الإجراءات الواجب إتباعها في النزاع بين الزوجين بداية من المحاولة الصلحية إلى صدور الحكم بالطلاق[32].

ونظرا للمردودية التي حققتها أحكام الفصل 32مكررمن م.أ.ش فإن المشرع ارتأى إلى تعميم هذا التجريم ليشمل عديد الميادين المدنية والتجارية فكان بروز الفصل 11 مكرر ضمن إطار مجلة المرافعات المدنية والتجارية باعتباره النص الوحيد ذو الطابع الجزائي وما هذا البروز إلا تدعيما للصرامة التي عرفتها الشكلية الإجرائية وهذا هو شأن قواعد تبليغ المحاضر والاستدعاءات، حيث أحاطها المشرع بترسانة من الضوابط سواء على مستوى التنصيصات الوجوبية والمتعلقة أساسا بالهوية الكاملة للأطراف أو على مستوى طرق التبليغ.

وكان سعي المشرع متواصلا ونزوعه لا محدود في إطار التأكيد على قاعدة التبليغ الشخصي وذلك ضمن الفصل 8 فقرة 1 من م.م.م.ت من خلال تنصيصه على عبارة “أينما وجد” كما حدد السلطة المكلفة بالتبليغ والمتمثلة أساسا في عدل التنفيذ وفقا للفصل 5 من م.م.م.ت وذلك ضمانا لتوصل المعني بالأمر بالمحضر.

ولكن يبدو أن هذا التنظيم المحكم لقواعد التبليغ قاصر عن تحقيق الفاعلية المرجوة إلى جانب عدم كفاية جزاء البطلان في صورة الإخلال به بحيث تواصل بالرغم من كل ذلك صدور الأحكام الغيابية[33].

وبذلك تجلت نجاعة وفاعلية أحكام الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت للتصدي لظاهرة التحيّل على قواعد تبليغ المحاضر والاستدعاءات في المادة المدنية والتجارية.

ولا غرابة، إذ أن اكتساح القانون الجنائي لبقية فروع القانون الأخرى أضحى يمثل ظاهرة عامة مستقرة ومقبولة بالنظر إلى دوره العقابي الذي يجعل منه وسيلة أساسية لدعم نجاعة وفاعلية قواعد غيره من فروع القانون الأخرى[34] .

وقد يتبين لنا منذ الوهلة الأولى أن مدلول التحيّل المنصوص عليه صلب الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت يعد ضربا من ضروب التحيّل المنصوص عليه بالفصل 291 من م .ج إلا أن البحث والتقصي في أحكام كل من الفصلين يلحظ تباعدا من حيث الميادين المنظمة بهذين الفصلين، فبينما كانت جريمة الفصل 11مكرر من م.م.م.ت تتحقق بجميع الأفعال سواء كانت مادية أو غير مادية،

سلبية أو ايجابية أو حتى بمجرد الكذب أو إخفاء حقيقة بقصد حرمان الطرف المقابل من حقه في الدفاع كالكذب في الهوية الكاملة للمطلوب من خلال تقديم معلومات كاذبة تخص البيانات الوجوبية أو إخفاء المحضر من قبل أحد الأشخاص المخول لهم قانونا تسلمه وذلك لغاية حرمان الطرف الآخر من الدفاع عن نفسه، لكن الأخطر من ذلك هو اعتبار أن الاستدعاء من الناحية القانونية سليما رغم ما حامت حوله من أساليب خداع.

إن جريمة الفصل 291 من م.ج لا تتحقق إلا باستعمال إحدى الوسائل الواردة على سبيل الحصر وهي إما اسم مدلس أو صفة غير صحيحة أو خزعبلات وذلك لجعل الطرف الآخر يقتنع بوجود مشروع كاذب أو نفوذ أو اعتماد وهمي أو بعث الأمل في نجاح غرض معين بهدف الاستيلاء على ملك الغير.

كما يختلف مفهوم التحيّل في الاستدعاء عن مفهوم التدليس موضوع الفصل 172 من م.ج وما بعده باعتبار أن هذه الجريمة لا تقوم إلا بتوفر أركانها المكونة لها والمتمثلة في: تغيير الحقيقة، فجوهر التدليس هو الكذب المكتوب ويتم ذلك بإبدال الحقيقة بما يغايرها، فلا يعتبر تغييرا لها أي إضافة أو حذفا طالما حافظت الحقيقة الموثقة بالكتب على الحالة التي كانت عليها قبل الإضافة أو الحذف.

أما الركن الثاني، فيكمن في إحداث ضرر عام أو خاص، وأخيرا الركن المعنوي المتمثل في القصد الجنائي العام والذي قوامه العلم والإرادة لدى الفاعل كما يستوجب توفر القصد الجنائي الخاص المتمثل في جلب المنفعة للفاعل أو لغيره أو نية الإضرار بحقوق أحد الناس.

وبذلك نلاحظ أن جريمة التحيّل في الاستدعاء قد شرعت لحماية حقوق الدفاع، أما جريمة التدليس فتهدف لحماية الكتب الرسمي في حد ذاته وشكل المحرر وحماية الثقة الموضوعية في تلك المحررات[35].

أما من حيث العقاب فالمستهدف من جريمة التدليس هو الموظف العمومي في حين أن العقاب موضوع الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت يستهدف كل متدخل في عملية الاستدعاء في معناها الواسع.

وبالتالي يمكن أن نستنتج أن وضع المشرع لجريمة التحيّل في الاستدعاء ترمي إلى مزيد تفعيل عملية التبليغ من خلال التصدي للأساليب الاحتيالية التي يستعملها المتقاضي أثناء سير الخصومة لمجابهة خصمه.

ويعد الفصل 32 مكرر من م.أ.ش المصدر التاريخي للفصل 11 مكرر من م.م.م.ت وقد أثبت التجربة نجاعة هذه الأحكام لما لها من مفعول ردعي ووقائي وهو ما يفسر التفكير في تعميم هذا المنهج بإدراج قاعدة عامة تتضمن تجريم التحيّل لغاية عدم بلوغ الاستدعاءات والمحاضر إلي الطرف المقابل في كافة القضايا المدنية والتجارية[36] حيث مثل استحداثا تشريعيا صلب هاته المجلة باعتباره النص الوحيد ذو الطابع الجزائي، وهو ما دفع البعض[37] إلى التساؤل عن عدم تأييد هذا التبرير بإحصائيات مضبوطة حول تراجع الطلاق الغيابي حتى يتسنى الجزم والاعتداد بنجاعة الفصل 32 مكرر من م.أ.ش في الحد منه، إلا أن الأعمال التحضيرية للقانون عدد 82 لسنة 2002 لم تتضمن أي أرقام تسمح بالمقارنة في هذا المضمار.

إن هذا التحيّل الإجرائي ينضوي ضمن نظرية أعم هي نظرية التحيّل على القانون التي تشكل من منظار واسع وسيلة لمراقبة الطرق التي تكتسب الحقوق وتثبت المصالح عن طريق إفشاء وإجهاض المحاولات الهادفة إلى اكتساء الحقوق بصفة اصطناعية وغير طبيعية عملا بقواعد قانونية غير مختصة بالحالة أو الوضعية التي تولد عنها الحق[38].

لقد استعمل المشرع في إطار الفصل 11 مكررمن م.م.م.ت المتعلق بالتحيّل في الاستدعاء عبارة “لغاية عدم بلوغ المحاضر” وبذلك فقد فرق بين المحاضر من ناحية والاستدعاء من ناحية أخرى، وهو ما يبعث على التساؤل حول سبب هذه التفرقة ألا يعد الاستدعاء من قبيل المحاضر ؟

حول هذه المسألة أجاب البعض[39] بأنه من الثابت ولئن كان جانبا هاما من الاستدعاءات للجلسة يصاغ في شكل محاضر مبلغة بواسطة عدل تنفيذ إلا أنه هناك جانبا آخرا لا يقل عنه أهمية يبلغ بغير العدول المنفذين وذلك إما بالطريقة الإدارية أو برسالة مضمونة الوصول مع الإعلام بالبلوغ وهو الجانب الذي يبدو وأن المشرع قد قصده بعبارة الاستدعاءات المضافة للمحاضر.

إن هذه العمومية التي ميزت جريمة التحيّل في الاستدعاء لم تكن من فراغ وإنما كانت نتاج رغبة المشرع الملحة في توسيع دائرة التجريم لتشمل كامل المادة المدنية وكذلك الجزائية دون استثناء نظرا لخطورتها الإجرامية التي يمكن أن تتجاوز إلحاق الضرر بالمطلوب إلى المس من هيبة القضاء إلا أننا نروم التطرق لذلك في إطار الدعاوى ذات الصبغة المدنية والتجارية نظرا للإطار الذي وردت فيه أحكام الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت وفق ما نصت عليه مداولات مجلس النواب التي سبق بيانها والتي مفادها أن المشرع يرغب في إدراج قاعدة عامة تجرم التحيّل لغاية عدم بلوغ الاستدعاءات والمحاضر إلى الطرف المقابل في كافة القضايا المدنية والتجارية لذلك سيقتصر عملنا على هذه المادة.

تسعى مادة المرافعات المدنية والتجارية إلى القيام بدور كبير في تحقيق ضمانات أساسية للخصوم في المحافظة على حقوقهم واحترامها سواء كانت من الحقوق المادية أو الأدبية هذا من ناحية وخضوع هذه المادة من ناحية أخرى لتنظيمات وتوجيهات قانونية مختلفة هي التي تمنحه صفته الإجرامية، وهي الصفة الأساسية التي يتميز بها هذا القانون وعدم احترامها يؤدي إلى ضياع الحقوق الموضوعية كما هو الحال بالنسبة للبطلان والطعن في الأحكام.

تكمن أهمية هذه المادة أيضا في وقوف المشرع وقفة حزم تجاه كل من تسول له نفسه التحيّل لغاية عدم بلوغ الاستدعاء من خلال منع النظر في ادعاءات الطالب وفحص مؤيداته قبل التحقق من كونه أعلم الطرف المقابل بطلباته بصفة قانونية.

إن العمومية في صياغة النصوص القانونية التي اعتمدها المشرع من خلال إدراجه لهذه الجريمة لم تكن من فراغ وإنما كان يطمح من خلالها إلى الوقاية والردع لمقاومة ظاهرة التجريم في المحاضر والاستدعاءات رغم التوجه التشريعي الذي يميز السياسة الجزائية اليوم القائمة على نزع التجريم ورفع العقاب واستحداث عقوبات بديلة عن العقوبات السجنية وذلك من أجل إصلاح المجرم بعيدا عن تطبيق العقوبة.

وهو ما يثير التساؤل في هذا المجال عن خصوصية هذه الجريمة في المنظومة الجزائية ؟

إن خصوصية هذه الجريمة تظهر من خلال بيان أركانها (الجزء الأول) ومن خلال الآثار المترتبة عنها (الجزء الثاني).

الجزء الأول : أركان جريمة التحيّل في الاستدعاء

الجزء الثاني : آثار التحيّل في الاستدعاء

الجزء الأول: أركان جريمة التحيّل في الاستدعاء

إلى جانب الشروط الواجب توفرها لدى المتقاضي لرفع دعواه أمام المحكمة والمتمثلة في الأهلية والصفة والمصلحة وفق ما تم ضبطها بأحكام الفصل 19 من م.م.م.ت، وجب عليه احترام النظام الإجرائي المعتمد فالمشرع لم يقف عند ضبط أهم الشكليات واجبة الإتباع فحسب بل عمل على الإحاطة بهذا النظام الإجرائي من خلال تحليته بضمانات جزائية تهدف إلى زجر وردع كل من تسول له نفسه التحيّل في الإجراءات إضرارا بحقوق المعني بالاستدعاء، فبعد أن كانت نظرة المشرع لسنة 1993 محدودة تنحصر في نطاق الأسرة أضحى اليوم وفي ظل تنقيح 2002 يسعى إلى تعميمه على النظام الإجرائي لتشمل مادة المرافعات المدنية والتجارية برمتها من خلال أحكام الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت.

وبذلك سعى المشرع إلى تعميم تجريم التحيّل في الاستدعاء لغاية عدم بلوغ المحاضر والاستدعاءات إلى الطرف المقابل في آخر الأحكام المتعلقة بالاعلامات والتبليغ أي اثر الفصل 11 من م.م.م.ت وبذلك فان الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت نص واسع النطاق يمتد إلى مرحلة التمهيد للتقاضي ومرحلة التمهيد للتنفيذ ضرورة أنه أشار للاستدعاءات والمحاضر عموما بما في ذلك الإعلام بالحكم تمهيدا لتنفيذه.

وما إيمان المشرع بضرورة إدخال الجهاز المرعب للقانون الجزائي في مادة المرافعات المدنية والتجارية وتحديدا فيما يتعلق بالمحاضر والاستدعاءات إلا نتيجة الانتشار الواسع والمخيف لهذا النوع من التحيّل على أرض الواقع.

إضافة إلى أن المشرع عمد إلى أن تكون عبارات الفصل 11مكرر من م.م.م.ت رغم قصرها الأكثر اتساعا وشمولية وهو ما يضفي على هذه الجريمة خصوصية تبرز من حيث الأركان الأولية (الفصل الأول) ومن حيث الأركان الأصلية (الفصل الثاني).

الفصل الأول: الأركان الأولية:
تعتبر الظاهرة الإجرامية معطى اجتماعيا خطيرا يهدد أواصر المجموعة وكيانها ولا يمكن اعتبار نوع من السلوك الإجرامي ظاهرة في المجتمع إلا إذا تكرر هذا الفعل بين فئة أو جماعة في المجتمع أو في بعض فئاته أو انتشر في معظم الجماعات والطبقات.

ويعد التحيّل من الظواهر الإجرامية المتفشية في جل المجتمعات الإنسانية حتى قال عنها عالم الاجتماع والأخصائي البلجيكي Quételet:” لعل بوسعنا أن نحصي اليوم مقدما… عدد المحتالين والنصابين بنفس الكيفية والدقة النسبية التي نحصي بها عدد الولادات وعدد الوفيات في مجتمع معين”[40].

إلا أن التحيّل اليوم لم يعد يقتصر على الحب الزائد للمال والسعي الدائم وراء الربح من أي طريقة وبأي وسيلة بل أضحى التحيّل يتميز بخصوصية من حيث الموضوع (المبحث الأول) وكذلك من حيث الأشخاص (المبحث الثاني).

المبحث الأول: من حيث الموضوع
إن استحداث جريمة جديدة في إطار المنظومة التشريعية والمتمثلة في التحيّل في الاستدعاء قد مثلت نقلة نوعية لما عهدناه لظاهرة التحيّل من استعمال أساليب احتيالية ترمي إلى تزييف الحقيقة وتتميز بطابعها المالي مما أضفى عليها خصوصية تهم موضوعها تتجلى على مستويين يتمثل الأول في صبغته الإجرائية (الفقرة الأولى) ويتمثل الثاني في صبغته الشكلية (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: التحيّل في الاستدعاء جريمة إجرائية

يتحقق التحيّل بتعمد الاستيلاء على أموال الغير وذلك باستعمال الأساليب غير الشرعية قصد تحقيق الربح بأسرع الطرق وأسهلها فتنوعت هذه الأساليب الاحتيالية واختلفت من محتال إلى آخر، إلا أن هدفها واحد هو الاستيلاء على المال بما أضفى على هذه الجريمة الصبغة المالية حسب ما وردت بأحكام الفصل 291 من م.ج الوارد صلب القسم الرابع تحت عنوان: “في التحيّل وغيره من أنواع الخداع” والذي يندرج بدوره في الباب الثاني “في الاعتداء على الملك”.

إلا أنه ونظرا لخطورة هذه الجريمة وتفشيها في كل الميادين عمد المشرع منذ 1993 إلى استحداث صنف جديد من التحيّل يعرف بالتحيّل في الاستدعاء ضمن الفصل 32 مكرر من م.أ.ش وقد تم تعزيز ذلك باستحداث الفصل 11مكرر من م.م.م.ت ضمن إطار تنقيح 3 أوت 2002.

ويتكون الركن المادي لهذه الجريمة من نمط وحيد من السلوك هو فعل التحيّل القائم على استعمال الخدعة.

وأصبح من الممكن اليوم الحديث عن نوعين من الجرائم إن صح القول، يمكن وصف الأولى بالمالية لارتباطها بالاستيلاء اللامشروع على مال الغير والثانية بالإجرائية لارتباطها بعملية تبليغ المحاضر وتتصل بمادة إجرائية بحتة[41] .

لذلك وجب التطرق إلى التحيّل المالي والتحيّل الإجرائي في (أ) والى التحيّل الإجرائي العام والتحيّل الإجرائي الخاص في (ب).

أ- التحيّل المالي والتحيّل الإجرائي:

إن ظاهرة التحيّل كظاهرة إجرامية مهما كانت أسبابها ومهما اختلف العلماء في تفسيرها لا يمكن أن تنبع إلا من إنسان، وانتقالها من الإنسان إلى المجتمع لا يمكن أن يتم بطريق الجبر أو الحتم أو الآلية وإنما لابد أن تكون قد انتقلت بالاختيار وبواسطة الفعل أو السلوك، هذا الفعل لا يتجسد من خلال الفصل 291 من م.ج إلا بالاستيلاء على الأموال ومن خلال الفصل 11مكررمن م.م.م.ت عبر التحيّل في تبليغ المحاضر والاستدعاءات.

ولئن يتفق هذان النصان على الطابع الزجري والردعي لفعل التحيّل فهل يمكن أن نوازي بينهما ؟

إن المجال الذي ورد به الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت حسبما يدل عليه موقعه يعد فصلا من فصول مجلة المرافعات المدنية والتجارية ومندرج في آخر الأحكام المتعلقة بالتبليغ إضافة إلى العبارات المستعملة من “بلوغ” و”محاضر” و”استدعاءات” يبرز بصفة جلية الصبغة الإجرائية لهذا الفصل ليضحى التحيّل في إطاره تحيّلا من نوع آخر وهو تحيّل إجرائي صرف باعتباره مسلط على مادة المرافعات المدنية والتجارية برمتها.

فاستعمال وسائل الخداع والمغالطة في إطار إجراءات تبليغ المحاضر والاستدعاءات يحول دون تمتع الطرف الآخر بحقه في الدفاع ورد التهمة الموجهة إليه مما ينجر عنه عديد الماسي التي قد تصل أحيانا إلى صدور أحكام غيابية غير قابلة للطعن بالاعتراض، أو تفويت آجال الطعن في الأحكام.

إلا أنه بالبحث عن الجذور التاريخية لبروز هذين النصين، نلحظ أسبقية الفصل 291 من م.ج على الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت باعتبار أن الأول قد نشأ سنة 1913 تاريخ صدور المجلة الجزائية، وأما الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت موضوع جريمة التحيّل في الاستدعاء فيعد حديثا بالنظر إلى تاريخ إقحامه بمجلة المرافعات المدنية والتجارية والذي يعود إلى تنقيح 3 أوت 2002.

إضافة إلى موقع كل من الفصلين فالفصل 291 ورد في إطار المجلة الجزائية أما الفصل 11 مكرر فقد ورد ضمن مجلة المرافعات المدنية والتجارية رغم انتمائها للقانون الجزائي.

إن الاختلاف بين جريمة التحيّل المالي وجريمة التحيّل في الاستدعاء يختلفان إلى حد التضارب من حيث محل الحماية الجزائية فإذا كانت الأولى تقوم أساسا على حماية الذمة المالية للمجني عليه، وسلامة إرادته إزاء تصرفاته المالية الأصل فيها أن تتم بإرادة منزهة عن الغلط المؤدي إلى الاستيلاء على الأموال عبر استعمال وسائل الخداع القائمة على الكذب الذي من شأنه أن يوقع المجني عليه في الغلط.

لهذا فحيث لا كذب،لا خداع ولا احتيال بالتالي ومن ناحية أخرى فليس كل كذب يعتبر احتيالا، ولكن يعتبر احتيالا كل كذب”يصلح” لأن يوقع المجني عليه في الغلط الدافع إلى التسليم وبذلك فان “مبنى” الخداع هو الكذب و “مرماه” هو الإيقاع في الغلط الدافع إلى التسليم وبالتالي فانه لا خداع حيث لا كذب[42] .

أما محل الحماية الجزائية في إطار جريمة التحيّل في الاستدعاء فإنها تهدف أساسا إلى تكريس مبدأ المواجهة بين الخصوم، هذا المبدأ الذي يعد أهم تطبيقات مبدأ آخر أوسع نطاقا هو مبدأ احترام حقوق الدفاع، وهذا الأخير يعد بدوره من المبادئ الأساسية التي تسيطر على الخصومة القضائية باعتباره حق من الحقوق المضمونة دستوريا بالفصل 12 منه.

المواجهة هي أداة فنية إجرائية تعني بصفة عامة أن يحاط كل طرف علما بالإجراء الذي يتخذه طرف آخر ضده فهي تعني حق الخصم في أن يعلم بكافة إجراءات الخصومة وما تحتويه من عناصر واقعية وقانونية، أي العلم بما لدى الخصم الآخر من ادعاءات ووسائل دفاع قانونية وواقعية وحجج ومستندات[43] .

وواضح مما تقدم أن المواجهة في الخصومة لا تعني إعلام المدعى عليه فحسب بل إعلام المدعي أيضا، لأن كلا منهما يهاجم ويدافع أثناء سير الخصومة[44] .

قلنا أن المواجهة من المبادئ العامة في القانون الإجرائي، لذلك فهو مبدأ يطبق بشأن الادعاء أمام القضاء جوهره العلم بالإجراءات التي تتخذ لبدء الخصومة فيجب على المدعي أن يعلن المدعى عليه بعريضة الدعوى التي أنشأت الخصومة والتي تتطلب بيان اسم ولقب وحرفة ومقر كل من الطالب والمطلوب وموضوع الدعوى وطلبات المدعي.

والعلم أو الإعلام بالإجراء يجب أن يتوافر فيه عدة شروط إذ يجب أن يكون علما كاملا أو تاما بكل الإجراءات التي من حقه العلم بها، ويجب أن يكون هذا العلم في وقت مفيد أو نافع، ويجب أن يكون الإعلام أمينا[45].

تتواصل مظاهر الاختلاف بين التحيّل المالي والتحيّل الإجرائي لتشمل مضمون كلا الجريمتين، وباعتبار أن الجريمة تتمثل عموما في سلوك إرادي يجرمه القانون ويقرر لفاعله عقوبة، فان هذا السلوك الإجرامي رغم ما يخضع له من قواعد عامة لا تختلف من جريمة إلى أخرى فإن الجرائم في الواقع كثيرة ومتنوعة يكون السلوك الإجرامي في خضمها هو المحرك لها والمحدد لصنفها.

فبينما كانت جريمة الفصل 291 من م.ج تنتمي إلى صنف الجرائم المركبة فان جريمة الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت تنتمي إلى صنف الجرائم البسيطة.

والجريمة المركبة هي: جريمة يتكون ركنها المادي من عدة أفعال مجرمة ومختلفة، وذلك مثل جريمة التحيّل التي يتكون ركنها المادي من فعل أول يتمثل في استعمال طرق احتيالية لإيقاع المحتال عليه في الغلط ومن فعل ثاني يتمثل في اختلاس أو محاولة اختلاس الكل أو البعض من مال الغير[46]

فهذه الجريمة مركبة لأن ركنها المادي لا يكتمل إلا إذا قام المحتال في مرحلة أولى باستعمال طريقة من طرق الاحتيال المنصوص عليها بالفصل 291 من م.ج. كانتحال شخصية مزيفة أو تكوين شركة صورية وقام في مرحلة ثانية باختلاس أو محاولة اختلاس شيئا من مال الغير بهذه الطريقة، فهذه الجريمة لا تتكون باستعمال طرق احتيالية فقط أو باختلاس مال الغير بدون استعمال لطرق احتيالية بل لا بد من اجتماع هذين الفعلين معا ليكون المتهم مرتكبا لجريمة تحيّل على معنى الفصل 291 من م.ج.

أما عن الأفعال التي يتكون منها الركن المادي لجريمة التحيّل مثلا يمكن أن ترتكب في أزمنة وأماكن مختلفة الشيء الذي يجعل تقادم الدعوى لا يبدأ إلا من اليوم الذي يتم فيه اختلاس أو محاولة اختلاس مال الغير أو من اليوم الذي وقع فيه آخر تسلم لشيء من هذا المال[47].

وأما الجريمة البسيطة، فان ركنها المادي يتكون من فعل واحد الذي يمكن أن يكون تركا وذلك مثل عدم الإغاثة في جريمة الامتناع المحظور، أو فعلا ايجابيا مثل اختلاس مال الغير في جريمة السرقة وبالتالي فان تقادم الدعوى المتعلقة بها يبدأ من يوم ارتكاب هذا الفعل[48].

وبذلك فان الجريمة البسيطة تتميز بوحدة النشاط الإجرامي[49] وهو ما نستنتجه من خلال جريمة التحيّل في الاستدعاء باعتبار أنها لا تقوم إلا في إطار عملية تبليغ المحاضر والاستدعاءات وبالتالي فان ركنها المادي يقوم علي فعل واحد وهو فعل التحيّل القائم على الخداع والمغالطة.

وقد يتبين إلينا حسبما سبق بيانه أن التحيّل في الاستدعاء موضوع الفصل 11مكررمن م.م.م.ت لا يدخل ضمن إطار التحيّل موضوع الفصل 291 من م.ج وهو ما جعل جل الدارسين لهذه الجريمة يقر بأن التحيّل على معني الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت يعد “صنفا جديدا من التحيّل لا علاقة له بالاستيلاء على مال الغير”[50] ومدلوله بعيد كل البعد عن الاستيلاء عن مكسب الغير[51] .

وبذلك أضحى التحيّل تحيّلان تحيّل مالي موضوع الفصل 291 من م.ج التي لها مساس مباشر بالذمة المالية للأشخاص من خلال الحصول على مال الغير بواسطة الخداع من قبل أشخاص لهم القدرة على الإيهام بما هو غير حقيقي لمغالطة المجني عليه حتى يسلم ذلك الشيء إراديا، وتحيّل إجرائي موضوع الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت والذي يتعلق بعملية تبليغ المحاضر والاستدعاءات.

إن التمعن في فقه القضاء الفرنسي يحيلنا على نوع آخر من التحيّل وهو التحيّل على الحكم l’escroquerie au jugement » « وهو صنف جديد من التحيّل ظهر حديثا إذ يستعمل المحتال في بعض الأحيان القانون وسيلة للحصول على مآربه.

ويرى الفقيه قارسون أن اللجوء إلى المحاكم يمكن اعتباره عنصر من عناصر الإخراج المسرحي في طريقة يسعى المحتال من وراءها إلى الاستحواذ على ملك للغير[52] .

تتمثل هذه الطريقة في استعمال أحد المتقاضين لوسائل احتيالية بمناسبة نزاع منشور أمام المحاكم قصد تضليل ومخادعة القاضي والتوصل إلى استصدار حكم لفائدته يضر بالذمة المالية للخصم وذلك من خلال الإدلاء بمؤيدات مزورة أو لم يعد لها قيمة واستخدامها على أنها صحيحة لتأييد ما يدعيه ولبعث الخوف لدى خصمه أو للحصول على حكم لصالحه بمبلغ من المال[53] كتقديم المحتال كمبيالة محض صورية ومعدومة السبب لتعزير طلب حجز ما للمدين لدى الغير[54] .

ولقد أقر جانب من الفقه وفقه القضاء الفرنسي إلى وقوع التحيّل في أحكام القضاء من خلال تمكن المتهم من التأثير على القضاة مستخدما الأساليب الاحتيالية فصدر الحكم لصالحه، فثار التساؤل عما إذا كان مثل هذا الحكم يعتبر مالا تحصل عليه المتهم بالاحتيال مما يعتبر معه مرتكبا لجريمة التحيّل؟ اعترض البعض على ذلك بأن “الأحكام القضائية” لم ترد في النص وأن مرتكب مثل هذه الأفعال إنما يعاقب بعقوبة التزوير أو الشهادة الزور أو التأثير على الشهود بحسب الأحوال ولكن يمكن أن يرد على ذلك بأن الأحكام القضائية تدخل تحت عموم تعبير السندات الوارد في النص[55] .

أما عن خطة محكمة النقض الفرنسية إزاء هذه الفكرة يمكن القول بأنها لم تلق قبولا في بادئ الأمر[56] .

ويعد Emile Garçon من أشهر المعارضين الذين اعتبروا أن التحيّل على الحكم لا يدخل تحت طائلة الفصل 405 من م.ج.ف[57] ولا يعد أصلا جريمة في حد ذاتها تستوجب العقاب[58].

لكن عاد فقه القضاء فيما بعد إلى قبول هذه الإمكانية وهو ما أدى إلى تضارب الآراء فيما يتعلق بإمكانية انطباق أركان الجريمة التقليدية المالية في مثل هذه الحالة.

هذا التذبذب في فقه القضاء الفرنسي يتراوح بين مقر لإمكانية انطباق أحكام الفصل 405 من م.ج.ف على جريمة التحيّل على الحكم وبين رافض لذلك معتبرين أن هذه الأخيرة لا يمكن أن تكون سوى جريمة جديدة أقحمت في المنظومة الجزائية الفرنسية.

لكن هذا التذبذب والاضطراب الذي لازم فقه القضاء الفرنسي انتهى إلى الإقرار بإمكانية استيعاب الفصل 405 من م.ج.ف هذا الصنف من التحيّل الذي أضحى يقتصر على وجود متضرر أول وهو القاضي ومتضرر ثاني وهو الخصم في النزاع.

لذلك اعتبر الأستاذ Chavane التحيّل بأنه ميزة العصر يتأقلم مع جميع الأمكنة والظروف والأذواق والموضة وحب الاطلاع والدين والفن والعلوم وحتى القانون[59].

أما الأستاذ الأحمدي فقد اعتبره نوع جديد من التحيّل يعد مظهر من مظاهر التوسع في مفهوم الطرق الاحتياليّة وذلك بأن يتعمد المتقاضي الإدلاء بمؤيدات مزورة لبعث الخوف لدى خصمه للحصول على حكم لصالحه[60]، فتتكون تبعا لذلك عقيدة مخالفة للحقيقة لدى القاضي فيقع في الغلط لاقتناعه بأكاذيب المحتال المشفوعة بأسانيد تؤكد كذبه وتدعمه، ويفترض ذلك بالضرورة جهله بالحقيقة.

وبذلك أضحى التحيّل مفهوما زئبقيا لا يمكن حصره في مجال معين باعتباره أضحى ملازما لكل سلوك إجرامي فلا غرابة أن يتسع ليشمل التحيّل على الحكم.

لكن هذه الجريمة التي أثرت على فقه القضاء الفرنسي والتي أدت في فترة معينة إلى إحداث اضطراب في القرارات الصادرة عن المحاكم ما هو حلها فيما يتعلق بالقانون التونسي خاصة في ظل ميلاد الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت ؟ ألا يمكن أن يكون الإطار العام الذي تنضوي فيه جريمة التحيّل على الحكم؟

إن جريمة الفصل 11مكرر من م.م.م.ت والمتعلقة بالتحيّل في تبليغ المحاضر والاستدعاءات ولئن بدت منذ الوهلة الأولى إمكانية أن تشتمل جريمة التحيّل على الحكم، إلا أنه وبعد التمعن في ذلك فان كلا الجريمتين تختلفان من حيث الفترة الزمنية، فلئن كان الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت يتمثل في تبليغ المحاضر والاستدعاءات تحقيقا لمبدأ المواجهة بين الخصوم وما يحتويه وجوب العلم بما لدى الخصم الآخر من ادعاءات ووسائل دفاع قانونية وواقعية وحجج ومستندات حتى يهاجم كل منهما الآخر كما بينا سالفا، فان جريمة التحيّل على الحكم لا تحصل إلا بعد عرض تلك الحجج والمؤيدات على المحكمة وصدور حكم.

وبذلك يمكننا القول أنه رغم انتماء هاتين الجريمتين لميدان الإجراءات فان الفصل 11مكررمن م.م.م.ت لا يشمل هذا الصنف من التحيّل لأنه يعنى أولا بتبليغ المحاضر والاستدعاءات.

يبدو أن التذبذب الذي صاحب فقه القضاء الفرنسي لم يكن بمعزل عن القانون التونسي الذي عرف هو الآخر هذا الاضطراب حيث اعتبرها البعض صنفا جديدا من التحيّل ولكنها لا تدخل ضمن تطبيقات الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت واتجه في نفس اتجاه فقه القضاء الفرنسي واعتبر إمكانية إخضاع جريمة التحيّل على الحكم لمقتضيات الفصل 291 من م.ج[61] ومن جهة أخرى اعتبر البعض الآخر[62] أن هاته الجريمة لا تعتبر تحيّلا في التشريع التونسي بل أنها تعد مسك سند مزور واستعمال مدلس.

ولا يقتصر الحال على التحيّل على الحكم، بل يعمد البعض من المحتالين إلى التملص من بعض الأحكام القانونية التي تتعارض ومصالحهم الشخصية باستعمالهم لطرق احتيالية مختلفة مثال ذلك فيما يخص عقود التسويغ ومراعاة للمصلحة العامة يعتبر هذا العقد مستمرا وعاملا بين الطرفين في بعض الصور بالرغم من عدم رضا أحد الطرفين بذلك الاستمرار من ذلك أن اقتضت بعض القوانين تخويل متساكني بعض محلات السكنى حق البقاء بالمحل والاستمرار على التسويغ ولو بدون رضا المالك.

ولما رأى المالك نفسه مقهورا بتلك القوانين لأنها تقيد حريته في التصرف في ملكه كيف يشاء أخذ يبحث عن كل طريقة تمكنه من الإفلات من أحكامها التي يرى أنها تجحف بحقوقه، فعمد إلى إهمال المكرى من جميع الإصلاحات مدة عام أو عامين ثم القيام بقضية استعجالية في طلب إخراج المتسوغ إما لتداعي المحل للسقوط أو لإجراء الإصلاحات الضرورية بعد أن استصدر إذنا على العريضة في تكليف خبير بمعاينة المحل خصوصا وأن المتسوغ يخشى المالك في الغالب ولا يطالبه بالإصلاح حتى لا يسعى لإخراجه من المكرى.

وإذا علمنا أن سبعين بالمائة على الأقل من المسوغين يسكنون محلات قديمة البناء وهم من الطبقة الضعيفة أو المتوسطة نفهم جيدا المشكل الإجتماعي الذي تحدثه مثل هذه التحيلات[63] .

ونستخلص إذن مما تقدم أن فقه القضاء سواء كان الفرنسي أو التونسي ظل مضطربا فيما يتعلق بمحل جريمة التحيّل على الحكم، فان حسم هذا التذبذب لا يمكن أن يكون إلا بيد المشرع من خلال تدخله بسن قاعدة قانونية تضع حدّا لهذا الاختلاف.

ب- التحيّل الإجرائي العام والتحيّل الإجرائي الخاص

لقد جرت العادة على اعتبار التحيّل من جرائم الاعتداء على الأموال وهي تلك التي تنال بالاعتداء أو تهدد بالخطر الحقوق ذات القيمة المالية موضوع الفصل 291 من م.ج لكن هذا المفهوم التقليدي للتحيّل يقابله نوع آخر من التحيّل المسلط على الإجراءات، هذا التحيّل نشأ مع تنقيح 1993 لم.أ.ش وبالتحديد مع ميلاد الفصل 32 مكرر من تلك المجلة والذي تدعم بالقانون عدد 82 لسنة 2002الذي أقحم الفصل 11 مكرر من م.م.م.ت صلب الأحكام العامة الواردة ضمن الباب التمهيدي من نفس المجلة، وبذلك أضحى التحيّل المسلط على الإجراءات تحيلان يختلفان من حيث النطاق بينما كان الأول يقتصر على مادة الأحوال الشخصية فان الثاني يتميز بعموميته لاحتوائه كافة المادة المدنية والتجارية لذلك وجب التطرق إلى التحيّل الإجرائي الخاص (1) قبل التطرق إلى التحيّل الإجرائي العام(2).

1- التحيّل الإجرائي الخاص:

رتب المشرع صلب مجلة الأحوال الشخصية بمقتضى القانون عدد 74 لسنة 1993 والمؤرخ في 12 جويلية 1993[64] آثارا جديدة عن عدم تبليغ الاستدعاء في قضايا الطلاق وذلك بإضافة الفصل 32 مكرر الذي ينص على أنه: “إذا تحيل أحد الزوجين لغاية عدم بلوغ الاستدعاء إلى الطرف الآخر، يعاقب بالسجن مدة عام”، فمن الملاحظ أن هذا النص الجديد هو نص جزائي وهو النص الوحيد من نوعه ضمن الكتاب الثاني من مجلة الأحوال الشخصية والمخصص لأحكام الطلاق وإجراءاته فتضمن العبارات المستعملة في النصوص الجزائية كعبارة “تحيّل” أو عبارة “العقاب بالسجن”[65] وهو يلي مباشرة الفصل 32 من م.أ.ش المتعلق بإجراءات دعوى الطلاق.

إن وضع هذا النص الجزائي ضمن مجلة الأحوال الشخصية لم يكن من فراغ وإنما كان نتيجة رغبة ملحة من طرف المشرع إلى الإحاطة بالأسرة بصفة عامة وحقوق الزوجين بصفة خاصة، فالمبدأ المعمول به هو الاحترام المتبادل والتعاون بينهما في تسيير شؤون الأسرة والنهوض بالأبناء والسهر على تربيتهم وقد سوى المشرع صلب الفصل 23 من م.أ.ش بين الزوجين في الحقوق والواجبات وأوجب على كل من الزوجين على حد السواء حسن معاشرة ومعاملة الآخر وتجنب إلحاق الضرر به.

ولكن قد يطرأ في بعض الأحيان توتر على هذه العلاقة الزوجية وأحيانا يتطور هذا التوتر إلى أن يصبح حربا عشواء بين الطرفين مما قد يجعل مواصلة الحياة الزوجية مستحيلة بينهما.

وقد يلجأ في بعض الأحيان كل من الطرفين أو أحدهما إلى محاولة فض هذا النزاع بأقل الأضرار حسب نظره فيعمد إلى استعمال بعض الحيل والخزعبلات[66].