بقلم ذ صــلاح الـدين دكـداك
دكتور في الحقوق مدير مـجلة الفقه والـقانـون

صادق البرلمان المغربي العام الماضي على قانون ينظم التبرع بالأعضاء[2] والأنسجة البشرية ، ويحمي المتبرعين القاصرين ويسمح لهم بالتبرع في حالات خاصة لحماية نموهم وسلامتهم ، وتزامنا مع إصدار هذا القانون أطلق المغرب حملة وطنية من أجل تشجيع المواطنين على التبرع بأعضائهم وأنسجتهم البشرية ، وذلك في ظل ضعف أعداد المتبرعين والتزايد المستمر في احتياجات مرضى الحالات المستعصية لهذه الأنسجة والأعضاء لإنقاذ حياتهم.

فرغم تقدم البلاد في مجال زراعة الأعضاء عربيا فإن إنجازاتها في هذا الميدان لا تلبي حاجيات المرضى المتزايدة ، كما أن المواطنين في المغرب ما زالوا يبدون بعض التخوفات والتحفظات بشأن التبرع بأعضائهم.

وفي هذا الإطار شجع العديد من المسؤولين والعلماء المغاربة المواطنين على التبرع بأعضائهم باعتباره أحد أشكال التضامن والتكافل الاجتماعي، وأبرزوا أهمية مبادرة التبرع بالأعضاء لإنقاذ حياة آلاف المرضى.

واعتبر بعضهم أن مسألة التبرع بالأعضاء أضحت في المغرب قانونا منظما تجاوز مرحلة المساءلة الشرعية بشأن جوازها من عدمه ، بل هناك من اعتبرها نوعا من أنواع الجهاد.

وبغض النظر عن أرائهم ومدى وجاهتها وسلامتها ، استوقفتني بعض فتاوى علماء القرويين وشيوخ المالكية الأفذاذ الذين يقام لهم ويقعد في العالم الإسلامي بخصوص التبرع بالأعضاء البشرية والذي يرفضونه جملة وتفصيلا وفي جميع الأحوال ، حال الحياة وحال الموت ، وهم العلماء الربانيون الأجلاء وشيوخ المالكية الأفذاذ سيدي عبد الكريم الداودي [3]وسيدي أحمد الغازي الحسيني[4]

سيدي محمد التاويل[5]رحمهم الله وجعل قبرهم روضا من رياض الجنة ، والذين رفضوا مس جثة الميت على الإطلاق ولو كان شعرة من شعراته فينبغي جعلها مع كفنه ، نظرا لاحترامهم وتقديسهم لإرادة الإنسان وكرامته ، واعتبارهم أن الأعضاء البشرية هي ملك تام لخالقها ومدبر شؤونها ، وقد أوجب الله الحفاظ عليها وصيانتها مما قد يضرها [6]، فكيف يتصور تصرف الإنسان في ما لا يملك !!!!!

وفي هذا الصدد لن أدخل في نقاش قضية تحريم وتحليل التبرع بالأعضاء البشرية بين الشرع والقانون ، ولن أناقش قضية التبرع بالأعضاء البشرية في ما بين الأحياء ، ولكن سأحاول مناقشة إشكال هام في القانون رقم 16.98 المتعلق بالتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية وأخذها وزرعها ، ومدى احترامه لإرادة المواطن المتبرع وكرامته ، وذلك من خلال مبحثين على الشكل التالي :

المبحث الأول : مدى احترام القانون 16.98 لإرادة المواطن المتبرع :
المبحث الثاني : مدى احترام القانون 16.98 لكرامة المواطن المتبرع :
 المبحث الأول : مدى احترام القانون 16.98 لإرادة المواطن المتبرع :

لاشك أن المستقرئ للمادة 4 [7]من القانون 16.98 المتعلق بالتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية وأخذها وزرعها سيفهم بوضوح لا مجال معه للشك بأن المشرع المغربي يحترم إرادة المواطن المتبرع بأعضائه ، فلا يجيز له التبرع إلا بموافقته الصريحة والواضحة ، كما يعطيه فرصة لإلغاء هذه الموافقة متى أراد ذلك ، وهذا الأمر أكدته المادة 13 [8]من نفس القانون السالف الذكر بحيث يمكن لكل راشد يتمتع بأهليته الكاملة وهو على قيد الحياة أن يعبر عن إرادته في التبرع بأعضائه أو عدمه.

لكن ما يثير الاستغراب حقا هو مضامين المادة 15[9] من نفس القانون السابق والتي تنص على ما يلي : “يعبر كل شخص يريد وهو على قيد الحياة أن يعترض على أخذ عضو من أعضائه بعد مماته عن رفضه الأخذ بواسطة تصريح يتلقاه رئيس المحكمة المختصة التابع لها محل إقامته أو القاضي المعين لهذا الغرض…”، وبمفهوم المخالفة سنفهم بأن كل مواطن لم يعترض في حياته على التبرع بأعضائه فسيكون مصير جسده التبرع عملا بقاعدة “السكوت علامة الرضى”

وبالتالي يبدو أن هذه المادة القانونية تؤكد بأن الأصل هو أن جميع المواطنين الهالكين ستتبرع الدولة بأجسادهم ، وأن كل شخص هو على قيد الحياة يرفض التبرع بأعضائه عند موته ينبغي عليه أن يسارع في حياته من أجل استصدار كل الوثائق اللازمة والرسمية التي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأنه كان يرفض عندما كان حيا يرزق التبرع بأعضائه.

وهذا الأمر في غاية الخطورة ، ولا ينم عن احترام إرادة الإنسان ، بمعنى أنه ومن خلال الثغرات الموجودة في المادة 15 السالفة الذكر ، يمكن للدولة التبرع بأعضاء المواطن الهالك بحجة أن المتوفى لم يكن يقظا في حياته ولم يكن محتاطا بما فيه الكفاية ونسي أن يستصدر الوثائق الرسمية اللازمة التي تؤكد رفضه المطلق للتبرع بأعضائه عند وفاته.

لتضاف مسؤولية جديدة أخرى على عاتق كل إنسان قد تباغته الموت في أية لحظة ، فبعدما كان يحمل هم عائلته الصغيرة ويتمنى من الله أن يلقاه و قد ترك لهم ما يعيشون به عيشة كريمة ، أصبح عليه أن يترك لهم أيضا وصية معززة بالوثائق تؤكد رفضه المطلق للتبرع بأي عضو من أعضائه عند وفاته .

ثم ما العمل إذا ثبت أن التصريح الذي تركه الهالك والذي يجيز التبرع بأعضائه مزور !!؟في زمن أصبح فيه تزوير الشواهد الطبية والحقائق سهلا ومتقنا ، لا يمكن اكتشافه إلا بمشقة الأنفس.

هذا ويواصل القانون 16.98 المتعلق بالتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية وأخذها وزرعها في مادته 16 عدم احترامه لإرادة المواطن وتأكيده على أن إرادة هذا الأخير لا يعتد بها فهي مجرد أمر شكلي يبقى حبرا على ورق ومسطرا في النصوص القانونية فقط ، ومما ورد في هذه المادة ما يلي :

“يمكن إجراء عمليات أخذ الأعضاء لأغراض علاجية أو علمية من أشخاص متوفين لم يعبروا وهم على قيد الحياة عن رفضهم الخضوع لعمليات من هذا النوع، في مستشفيات عمومية معتمدة تحدد قائمتها من طرف وزير الصحة إلا فـي حالة اعتراض الزوج وإلا فالأصـول وإلا فالـفـروع” : بمعنى أن هذا الأمر يعتبر تأكيدا بأن من لم يصرح خلال حياته بموافقته التبرع بأعضائه ، فسيتم التبرع بها رغما عن أنفه ،

خصوصا – إذا كان مقطوعا من شجرة – فلا زوج له ولا أصول ولا فروع ، وذلك على وجه السرعة حتى لا تفقد الأعضاء طراوتها وحيويتها [10]، وحتى إن كانت له عائلة فلا أظن بأن هناك إنسانا له الجرأة والشجاعة ليصرح بقبوله التبرع بجسد عزيز من أعزائه في وقت وظرف يعتصر فيه قلبه ألما على فراقه ، وفي وقت تعطل فيه كل تفكيره من هول المصاب الجلل الذي ألم بالعائلة.

 المبحث الثاني : مدى احترام القانون 16.98 لكرامة المواطن المتبرع :
ومما يثير الأسف أيضا ما ورد في المادة 18 من نفس القانون[11]السالف الذكر والتي تؤكد بأن المواطن المريض بمجرد دخوله إلى المستشفى فإن إدارته ستساومه على جسده هل يريد التبرع به أم لا ؟ وتحاول جاهدة انتزاع تصريح منه بذلك ، مما يطرح معه إشكال صحة التصريح الصادر من المريض مرض الموت هل يعتد به أم لا ؟ بالنظر إلى الحالة الصحية المتدهورة للمريض والتي لا شك أنها ستؤثر على قدراته العقلية ،

هذا من جهة ومن جهة ثانية ألا يعد الطبيب مسؤولا عن التدهور النفسي والصحي للمريض من جراء تحسيسه بأنه سيفارق الحياة وسيتبرع بأعضائه ؟؟؟ فلاشك أن هذا الأمر الجلل سينزل عليه كالصاعقة ، فلا أحد في هذا الكون يحب الموت ، ولا أحد يحب أن يفهم من الطبيب المعالج بأن أجله قد اقترب فلاشك أن البعض من هؤلاء المرضى سيموت من حسرته وألمه ، وقد يصاب بسكتة قلبية مفاجئة ، فمساومة إنسان على جسده وهو على قيد الحياة خطير جدا ، فعوض أن يحفز الطبيب المريض ويرفع من معنوياته سنجده يجعلها في الحضيض ، وهذا يتنافى مطلقا مع شرف ونبل مهنة الطب.

وتواصل المادة 19[12] من نفس القانون السابق الجهد الجهيد من أجل انتزاع تصريح بالتبرع بالأعضاء من المواطن الهالك المنتظر أو أسرته ، وتطالب المادة المذكورة الطبيب بأن : “….يبذل جهده للحصول عليها ….”.

ومن هنا نتساءل : هل الطبيب مطالب ببذل الجهد الجهيد لإنقاذ المريض والعناية به إلى آخر رمق في حياته ؟؟؟ أم أنه مطالب بانتزاع تصريح منه للموافقة على التبرع بأعضائه !!!!!!

وهذا أمر محزن حقا فالأطباء الشرفاء الذين يقدسون حق الإنسان في الحياة يبذلون المعجزات من أجل أن يبقى مريضهم حيا يرزق ، والتاريخ يشهد على عدة حالات كان المريض فيها قاب قوسين أو أدنى من الموت لكن يقظة الطبيب وذكائه جعلت الروح تبعث من جديد في المريض بمشيئة الله ، والمعلوم شرعا أن موت الإنسان دماغيا لا يعتبر موتا وأن الموت الحقيقي يكمن في خروج الروح من الجسد ، وبالتالي فإن المادتين 21 و22 [13]من القانون 16.98 تبيحان أخذ أعضاء الإنسان بعد موته دماغيا وهذا يعتبر جريمة قتل للنفس بغير حق عند العديد من علماء القرويين وشيوخ المالكية الأفذاذ[14] .

أكيد أن لكل إنسان أجلا محتوما ولو اجتمع على علاجه أطباء العالم بأسره ، ولكن إنسانية الطبيب ونبله وتفانيه في علاج المريض إلى آخر لحظة في حياته أمر مطلوب وواجب محتوم ، فأي طبيب هذا الذي ينسى مواساة الأقارب في فقيدهم ويطلب منهم أن يسارعوا إلى توقيع وثائق رسمية تـؤكد قبولهـم بالتبرع بجسد فقيدهم العزيز ، أين هـي الرحمة ؟ أين هي الإنسانية ؟ أين هي كرامة الميت ؟ !!!

لابد أن نعترف بأن معزة من فقد من العائلة قد تجعل بعض الأقارب يتمنون تحنيط جثثه لبقائها أمام أعينهم صباح مساء فكيف بالتبرع بها !!!!!

ثم كيف سيكون إحساس من توفي له قريب وهو خارج أرض الوطن ، وهو يأمل عند وصوله الوقوف على قبره والدعاء له بالرحمة عسى أن تبرد وتخمد نار فراقه قليلا ، ليفاجأ بأن الفقيد قد تم التبرع بجسده وأعضائه فلا قبر له يذكر !!!!!!

وبالرجوع إلى الباب الرابع من القانون 16.98 وبالضبط المواد 27/28/29 [15]نجد عنوانا مستفزا وهـو : ” استيراد الأعضاء البشرية وتصديرها”، والذي قد يفهم البعض منه بأننا أمام شركة تجارية مخصصة لاستيراد الأعضاء البشرية وتصديرها .

وبغض النظر عن زاوية فهم وتفسير هذا العنوان ، لابد أن نؤكد بأنباب التصدير موجود والثغرة القانونية موجودة إذن ، والمدخل الشيطاني للتلاعب بأعضاء المواطنين المتبرعين وجثثهم موجود أيضا ، وبإمكان تصدير أعضائهم للخارج –أكيد بشروط وضعها هذا القانون متوهما بأنها كافية لمنع المتاجرة بالآدميين – والمنطق يقضي أنه لا يعقل أن نقوم بتصدير الأعضاء البشرية إلا إذا حققنا الاكتفاء الذاتي منها والذي ينفع المواطنين-حسب تصور هذا القانون السالف الذكر-ومادامت عمليات زرع الأعضاء في المغرب لازالت في بداياتها فإن التصدير إذن سيكون أولى من الاستيراد ،

فما الفائدة في الإبقاء على ثروة من الأعضاء البشرية بأرض الوطن ونحن لا نملك الظروف والوسائل العلمية المتطورة التي تمكننا من زرعها ؟؟؟، فإذا نجحت عمليات محدودة للزرع بالمغرب فلاشك أن هناك العديد من الأعضاء الدقيقة التي يستحيل زرعها في المغرب والتي يكلف زرعها أموالا خيالية …

إذن من كل ما سبق ونظرا للثغرات الموجودة في فصول هذا القانون سيكون هناك احتمال كبير لازدهار تصدير الأعضاء البشرية ببلادنا ، وستصبح – لا قدر الله – قضية التبرع بالأعضاء تجارة قائـمة بذاتها[16]رغم أنف الجميع في زمان كثر فيه الغش والخداع وتزوير الشواهد والحقائق والمتاجرة بالدماء المتبرع بها ….فكيف لا تتم المتاجرة بالأعضاء البشرية أيضا ؟؟ !!!!!وهذا اعتداء صارخ وتبخيس وتحقير للكرامة البشرية وتحويل جثة الإنسان إلى سلعة يتاجر بها وتجنى من ورائها الأرباح الطائلة.

خاتمة :
مما سبق يتبين بأن المشرع المغربي ترك العديد من الثغرات القانونية التي يفهم منها وللأسف الشديد أن إرادة المواطن المتبرع بأعضائه هي آخر ما يلتف إليه ، وأنها لا تعدو أن تكون أمرا شكليا غير ذي قيمة ، وأن السلطة الكبرى متروكة للأطباء الذين يملكون الحصانة التي تجعلهم ينتزعون الموافقة من المواطن المتبرع أو من أهله ، دون مراعاة لمشاعر المتبرع وكرامته ، فكيف يتصور أخذ تصريح بالموافقة من مريض مرض الموت ؟

وكيف ستكون حالته النفسية من جراء سماعه هذا العرض القاتل ؟ وهذا الأمر الصادم ، وهذه الصاعقة التي ستجعله يتصور بأن جسده سيقطع إربا إربا ، إن لم نقل بأن روحه ستزهق حال سماع هذا الأمر الجلل ، ولا ننس بأن ديننا الحنيف أمرنا باحترام الإنسان حيا أو ميتا ، ومن حق المواطن الميت ألا تشوه جثثه بطريقة بشعة ، وتوزع أعضاؤه شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ، فكيف إذن سيكون له قبر وجثثه بعثرت يمنة ويسرة !!!!!!

إن الخوف كـل الخوف من أن يتـحول جلب – المصلحة – التي يـنادي بها القانون 16.98 إلـى مفسـدة أعـظم و يستغل عديموا الضمير الثغرات القانونية الموجودة في هذا القانون من أجل تحويل قضية التبرع بالأعضاء البشرية إلى تجارة قائمة بذاتها تجعل جثث المواطنين تباع بالتقسيط بالداخل والخارج ، وتندثر معها المقابر وتباع مساحاتها للوبيات العقار من أجل تحويلها إلى تجزئات سكنية باهظة الثمن .

رحمكم الله يا علماء جامعة القرويين الأفذاذ ، ويا شيوخ المالكية الأمجاد ، سيدي عبد الكريم الداودي وسيدي أحمد الغازي الحسيني ، وسيدي محمد التاويل ، وأسكنكم فسيح جنانه ، وجعل قبركم روضة من رياض الجنة ، فلقد كنتم خير حريص على ضمان احترام إرادة وكرامة المواطن المسلم حيا وميتا ، وحرمتم الاعتداء ولو على شعرة واحدة من جسده ، في وقت أصبح فيه البعض ينادي بالإسراع إلى التبرع بأعضاء المواطنين قبل أن يأكلها الدود !!!!!!