مناقشة لموضوع البشعة كجزء من العادات و التقاليد الاردنية القديمة في القضاء العشائري

كتابة السيد باجس ابو طاحون الحويطات

يلجأ البدو في حالات كثيرة إلى لحس النار (البشعة) يقادون إليها بحكم من القاضي في حالة عدم وجود أدلة وحين يشعر القاضي أن القسم لا يكفي, وهي تعالج قضايا العرض والقتل و الأرض والسرقة أو الإنكار, والبدو يعتقدون بعدالة البشعة اعتقادا راسخا ويركنون إلى حكمها ويطمئنون إليه, ويطلقون عليها اسم النور أيضا فيقول المدعي عند بحث القضية أمام القاضي: <<أقول إني الحق عليه النور>> ومن برأته النار أضحى بريئا لا غبار عليه بل على متهمه أن يرفع ثلاث رايات في ثلاثة بيوت مشهورة ويقول على رؤوس الإشهار: <<راية فلان بضا أو عرض فلان أبيض وأنا أخطأت في حقه>> وقالوا <<بعد النار ما فيه معيار>> وكثيرا ما يسمع رجل يقول: << أنا العري البري الحسن النار مني في (أي على حسابي) ليبرأ نفسه من تهمة ألصقت به أو ليحرر أرضا له غبيت حدودها, وأحيانا تطالب امرأة بلحس النار لنفي تهمة وجهت إليها.

يذهب الطرفان إلى مكان البشعة ومعهم سامعه يعد كشاهد ويخبر المبشع بما اتفق عليه الطرفان من نص للحس إما كتابة وإما مشافهة, وكذلك يعود لإخبار القاضي بالنتيجة بعد اللحس وتدفع للسامعة مصاريف نفقاته ويأخذ أجرا كذلك, وكل طرف يدفع نفقاته ثم يتكيس الخاسر النفقات كلها وأحيانا يدفع المتهم بالقتل نفقاته حتى لو ظهر بريئا ولكن النص يقول :<<بإرادته على براته>> أي تعاد إليه البارات (نقود تركية) التي دفعها إذا ظهر بريئا هي أقرب للمنطق. ويحل الطرفان ضيوفا عند المبشع وتشرح له القضية يسمعها من الطرفين وحين يلم بتفاصيلها يحاول إقناع الطرفين ومصالحتهما ليعزفا عن اللحس ويحذر المتهم من اللحس, فإذا اعترف ركبه الحق ولم يلحس, أما إذا أصر على براءته يوافق المبشع على تلحيسه, وفي حالات القتل لا يضع المبشع الحماس نشوب مشاجرات وأعمال ثأرية. ثم يشعل النار ويضع عليها محماس القهوة حتى يتغير لونه من الأسود إلى الأحمر والأخضر, ويجرد ذراعه ثلاث مرات دون أن تؤثر النار في ذراعه ليثبت للجميع أن النار لا تحرق البريء, ثم يطلب من اللاحس أن يمد لسانه ليراه الحضور قبل اللحس ثم لحسه المحماس ثلاث مرات متتالية فيناوله المبشع كوب ماء ليتمخض ومن ثم يخرج لسانه ليراه المبشع ويصدر حكمه وكذا يراه السامعة فإذا حرقته النار تغير شكله عن السابق عد اللاحس مذنبا <<موغوفا>> وإذا لم تحرقه عدا بريئا, وإذا تبرأ أحدهم يطير أحد مرافقيه إلى أهله وعشيرته على الفور يسمى <<المبشر>> ليبشرهم ببراءة رجلهم, فتقام الأفراح وتنحر الذبائح, ويلاقى اللاحس باحتفال كبير هناك ثلاث بشع العيادي في سيناء والدبر في القويرة بجذوب الأردن وبشعة بلي في تبوك.

وقد يلحس المتهم نفسه أو ينيب عنه أحد أفراد خمسته. والنص الذي يتفق عليه الطرفان مهم في براءة اللاحس. وكثيرا ما بنبه المبشع إلى ذلك فمثلا ذهب متخاصمان من عند القضاة إلى بشعة العيادي حول موت امرأة, وكانت (سلمى) قد ضربت صاحبتها (نصرة) بعصا غليضة على رأسها بينما كانتا ترعيان الأغنام فأصيبت نصرة بالحصبة كذلك فماتت فقال أهلها أن سبب الموت كان ضربة العصا بينما قال أهل سلمى إن الحصبة هي التي تسبب في الوفاة, فاتفق الطرفان على أن يلحس والد سلمى النار على أن: <<نصرة ما ماتت من ضربة سلمى>> فلحس على هذا النص فحرقت النار لسانه.

وذهب سالم ربيع إلى البشعة ذاتها من عند أهل الديار على نص فحواه: <<خط حدود أرضك وبردها بالنار>> وكان جيرانه قد تجاوزا عليه الحدود فضموا أجزاء من أرضه إليهم وقال سالم عندما حددت حدود أراضي تركت مسافات واسعة من كل جانب خشية أن تخرقي النار ولم أحدد سوى ما كنت متيقنا تماما أنه من أرض أجدادي.

فلحس النار وخرج صادقا ولم تحرقه النار فاعتمدت الحدود التي خطها.

وغالبا ما يكتب المبشع نتيجة اللحس ويعطيها إلى السامعة وإذا تمت البراءة يرفعا اللاحس راية بيضاء ويعود بها إلى أهله ويقابل بالزغاريد والفرح من عشيرته وتبرئه النار تضفي على صاحبها الاحترام والتقدير والمهابة من الجميع.

والمبشع ليس رجلا عاديا بل هو من أصحاب الطريقة والولاية ويعتبره الناس من الأولياء الصالحين وهو ملتزم بالفرائض الدينية ومشهود له بالصدق والنزاهة ولاشك عندهم أن العناية الإلهية وراء عدم حرق لسان اللاحس البريء وقالوا << على قدر نياتكم ترزقون>> وهم يتخذون من إبراهيم الخليل عليه السلام قدوة حين كانت النار بردا وسلاما عليه بمشيئة الله. وهناك من يبرر عدم حرق النار للسان اللاحس بالبريء بعدم الخوف وبالتالي فإن ريقه يكون جاريا وقت اللحس مما يحول دون حرق النار للسان, ولكن المنطق يقتضي خوف اللاحس حتى لو كان بريئا حين يشاهد وهج المحماس الذي أوشك على الانصهار.

وكثيرا ما يشاهد رجل يغير على النار ويغرفها إلى صدره في ديوان قضاء إذا ما شعر بأنه ظلم ولحقه حيف وغالبا ما يسامح بل يطلب غريمه الصفح منه ويزوره بشاة في بيته, إذ يخشى أن يدعو عليه ويعدونه من أهل الله <<يطيح في النار وما تأكله>>