دستور 1950 استجابة غير كافية لقضيتي الحرية والهوية

مهند البعلي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

ترتبط قضية الحقوق والحريات العامة مباشرةً بما ينص عليه الدستور في بلدٍ ما؛ لذلك فإن البحث في هذه القضية يجب أن ينطلق من دراسة القواعد العامة الكلية الحاكمة لها، ومن ثم؛ الانتقال إلى أثر هذه القواعد في الحياة العامة، لنتمكن من الاطلاع عن كثب على مستوى النضوج والتطور اللذين وصلت إليهما.

في 1950، كانت المرة الأولى التي يرِد فيها عنوان الحقوق والحريات العامة صراحةً في دستور سوري، ومما لا شك فيه أن ذلك كان نتيجةَ التأثر بفكر الحداثة في أوروبا، بعد الحرب العالمية الثانية، وقد كان ملفتًا ما ورد في مقدمة هذا الدستور من إسهاب واضح مقارنةً بالدساتير التي سبقته؛ حيث جاء فيها:

“ضمان الحريات العامة الأساسية لكل مواطن، والعمل على أن يتمتع بها فعليًا في ظل القانون والنظام؛ لأن الحريات العامة هي أسمى ما تتمثل فيه معاني الشخصية والكرامة والإنسانية…. وكفالة المساواة في الواجبات العامة والحقوق التي أقرها الدستور، ونصت عليها القوانين… وتقوية الشخصية الفردية وتثقيفها وتعهدها..”

بالانتقال إلى المواد التي تضمّنها الدستور، يتبين مدى الاهتمام والجدية التي بُني عليها، في احترام الحقوق والحريات العامة والفردية، من دون الإخلال بالمبادئ الأخلاقية الاجتماعية والدينية التي كانت تحكم المجتمع السوري آنذاك؛ إذ بلغ عدد المواد المتعلقة بالحقوق والحريات العامة 28 مادةً، أبرزها حصانة المنازل، وحرية الرأي والصحافة والاجتماع والتظاهر، والمحاكمة العادلة ومنع الاعتقال التعسفي والتوقيف مدة طويلة من دون محاكمة، وحفظ حق الملكية.

وأبرز ما ورد، في هذا المجال، وضع قواعد محددة غير قابلة للتأويل أو التفسير، حيث نصّ الدستور على قواعد آمرة، تحدد مدة التوقيف، وحق الموقوف في الاعتراض أمام القضاء على قرار التوقيف المتخذ بحقه، ومنع المحاكم الاستثنائية. وهذي حالة قانونية متميزة، لم ترِد في أي دستور سوري لاحق، ولم يرد ما يشبهها في الدساتير العربية.

في الواقع، لا تتوفر بيانات أو إحصاءات رسمية، تتعلق بأعداد المنظمات والنقابات والجمعيات أو بمجالات نشاطها خلال المرحلة الزمنية اللاحقة لإقرار هذا الدستور؛ وذلك بسبب عدم وجود قانون خاص، ينظم عمل هذه النقابات والجمعيات، وعدم وجود جهة رسمية تتولى هذه المهمة حينئذٍ، ولكن من خلال مراجعة بعض الدراسات التي اهتمت بالمرحلة التاريخية الممتدة من الاستقلال إلى ما بعد إقرار هذا الدستور، يمكن القول إن هذه المرحلة التاريخية قد شهدت صراعًا حادًا بين الفكر الوطني المهتم بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية على المستوى المحلي والوطني من جهة، وبين التيارات العقائدية المتأثرة بنمو الفكر القومي في أوروبا الغربية والفكر اليساري في أوروبا الشرقية والفكر الإسلامي المتأثر بالفكر السلفي، وعلى الرغم من عدم استقرار الحياة السياسية استقرارًا عامًّا إلا أن البلاد عاشت مرحلة ذهبية في احترام الحقوق والحريات العامة، ولكن -مع الأسف- لم تتمكن هذه التيارات جميعًا من الوصول إلى شكل توافقي للمجتمع السوري، يمكن أن يتسع للجميع في ظل الصراع العميق بين الريف والمدينة، والصراع بين الإرث الفكري الاجتماعي الديني وأفكار الحداثة والقومية البديلة التي نشأت في سورية أو وفدت إليها.

في ظل هذا الصراع الفكري ومع توافر مساحة واسعة من الحرية السياسية، بدأت الحركة النقابية في سورية تتشكل وتتأسس على نحو منظم، وتمكنت من تحقيق عدة انتصارات على حساب القوى الاقتصادية الأقوى في البلاد، وهي الإقطاعيات والبرجوازيات؛ إذ صدر قانون العمل السوري في 1946، وتأسست الرابطة النسائية السورية في 1948، وتأسس مؤتمر العمال السوريين في 1950، وانعقد المؤتمر الطلابي الأول في 1950، ومُنحت المرأة حق الترشح في 1953، وما ذكرناه آنفًا هو على سبيل المثال لا الحصر؛ فقد شهدت المرحلة ذاتها نشاطًا في تأسيس الجمعيات، ويعود تاريخ تأسيس كثيرٍ من النقابات إلى المرحلة ذاتها وفقًا لعدة مصادر تاريخية، ومما لا شك فيه أن صدور دستور 1950 -بما حمله من ضمانات للحقوق والحريات العامة مع توفر أجواء ممارسة ديمقراطية رائدة في الشرق العربي، من خلال الانتخابات النيابية- أعطى دفعًا قويًا لحركة المجتمع المدني، فبدا أكثر تنظيمًا وفاعلية على حساب المجتمع الأهلي الذي ظل يعاني حتى الآن من طبيعته العشائرية أو المناطقية أو الطائفية.

وللاطلاع على مساحة حرية الرأي التي تمتع بها المجتمع السوري، في تلك المرحلة، نورد المقتطف التالي من تقرير المركز السوري للإعلام وحرية التعبير في 2006:

“واستمر هذا الزخم الصحفي إلى أن وصل إلى الذروة في تاريخ سورية، بعد إنجاز الاستقلال في عام 1947؛ إذ أُقرَّ قانون مطبوعات جديد، حمل رقم 35 في 1949، ورفع كثيرًا من القيود على حرية إصدار وتملك الصحف المستقلة والحزبية، وبلغ عدد المطبوعات، في سورية، رقمًا قياسيًا في مرحلة الخمسينيات؛ إذ وصل العدد إلى 52 مطبوعة متنوعة”

لقد عرفت المرحلة الممتدة، من 1950 إلى 1958، نشاطًا حزبيًا ونقابيًا مميزًا؛ فعلى الصعيد السياسي، بغض النظر عن عدم الاستقرار السياسي، شهدت البلاد انتخابات برلمانية ديمقراطية، شارك فيها تسعة أحزاب وتيارات سياسية، هي الحزب الشيوعي، والحزب القومي الاجتماعي السوري، وحركة الإخوان المسلمون، وحزب البعث، والحزب التعاوني الاشتراكي، وحزب الشعب، والحزب الوطني، وحزب التحرير، وحركة القوميين العرب.

أما على الصعيد الاجتماعي فقد تأسس الاتحاد النسائي في 1957، وتشير بعض الدراسات إلى إعداد أبحاث عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، في سورية، في 1957 بمساعدة فنية من مكتب العمل الدولي، نتج منها صدور قانون العمل رقم 91 عام 1959، ويُعدّ صدور قانون التأمينات الاجتماعية رقم 92 وقانون الجمعيات رقم 93 في العام نفسه تتويجًا للنضال النقابي والحراك المجتمعي، في سورية ومصر، وأثرًا غير مباشر لدستور 1950، على الرغم من تعطيل العمل به، والاحتكام إلى دستور الجمهورية العربية المتحدة بزعامة جمال عبد الناصر في 1958.

وعلى الرغم من كل مساحة الحرية التي وفرها دستور 1950، بما نص عليه من قواعد حاسمة في مجال احترام حقوق الإنسان، إلا أنه لم يتمكن من الردّ على تساؤلات الهوية الوطنية ومشروع الدولة السورية؛ إذ ظل الصراع مستعرًا في المجتمع السوري حتى وصل مرحلة الانقسامات الحادة التي كادت أن تشعل صدامًا مسلحًا داخل الجيش. وعلى الرغم من تأثير الفكر الليبرالي نوعًا ما في هذا الدستور، إلا أنه ذهب إلى الإعلان أن سورية دولة عربية خالصة، مهملًا أو متجاهلًا حقوق القوميات الأخرى التي تكوّن الشعب السوري، ثم أكد على أن سورية دولة مسلمة، وحدد دينَ رئيس الدولة بالإسلام، بل إنه جعل الفقهَ الإسلامي المصدرَ الرئيس للتشريع. في الواقع إن واضعي هذا الدستور لم يتمكنوا من فصل الفكر الأيديولوجي عن الدولة، وبمعنى آخر، إن الدولة السورية -بموجب دستور 1950- لم تكن دولة حيادية تجاه جميع مواطنيها، وهذا ما فشلت فيه جميع الدساتير اللاحقة في سورية.

وبدلًا من فتح حوار داخلي حول القضايا الكبرى التي تعصف بالمجتمع والمفكر السوري، والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمسألة الهوية الوطنية، قررت قيادات البلاد، في ذلك الوقت، الهروبَ إلى الأمام، بطرح مشروع الوحدة مع مصر برئاسة جمال عبد الناصر، في محاولة لوأد أسباب الصراع الداخلي؛ ففشلت تجربة الوحدة بعد نحو سنتين من دون أن تُواجَه قضايا الهوية والدولة الوطنية، بالرد عليها ومناقشتها؛ فظلت معلقة، من دون إجابات، ومصدرًا للصراع إلى وقتنا الراهن.