الدولة.. وسيادة الأمة
حبيب عيسى
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

( 1 )

استقر الفقه الحقوقي على أنه حيث توجد الأمة، فإنه لا يوجد مستند قانوني، أو شرعي لتقسيم سيادة هذه الأمة، أو للتنازل عنها، أو عن بعضها، حتى بالنسبة إلى الذين يبُشروّن بدولة عالمية واحدة، تشمل أمم الأرض جميعها، فإن الدولة القومية هي المرحلة التي تسبق ذلك، يقول الأستاذ عبد الهادي عباس: “إن أغلب الكتاب يعتقدون أنه من الأفضل في الظروف الراهنة بناء العلاقات العالمية في الظروف الراهنة، على أساس الدول القومية المستقلة، وإذا ما حصل التطور العالمي باتجاه (الدولة العالمية الواحدة)؛ فإن النظرية التقليدية المتعلقة بالسيادة الخارجية، والمساواة بين الدول، لا بد من إجراء تعديل بشأنها)(1).

هكذا فإن حق الأمة في إقامة الدولة القومية المتطابقة مع حدودها التاريخية يبقى قائمًا، ولو تمكنت قوى خارجية، أو عناصر داخلية من استلاب هذا الحق، مدة من الزمن، مهما طالت، “ففي القانون الداخلي يمكن التأكيد على أن صاحب الحق يمتلكه بصفته تلك، مع أنه قد يكون ممنوعًا تمامًا من ممارسته، وعلى سبيل المثال، فإن مالك شيءٍ ما، يحتفظ بحقه بالملكية، ولو انتقلت حيازة أو ممارسة هذا الحق فعلًا إلى غاصب، أو سارق مثلًا، فالدولة تضمن له -من حيث المبدأ- استعادة ممارسة حقه بالملكية وباسترجاع الشيء المُغتصب، أو المسروق”(2).

كما أن العدوان الذي يُلحق ضررًا بيّنًا بالأمة، عن طريق العدوان على سيادتها بإقامة دول تغتصب هذه السيادة، لا يمكن أن يصبح (العدوان)، أو تتحول الأوضاع التي أقامها إلى أوضاع مشروعة بالتقادم، فلا بد من إزالة الضرر، يقول د. حسين عامر: “إن القواعد الفقهية تقضي بأن الضرر لا يكون قديمًا، إذ لا فرق بين القديم والحديث، حيث كانت العلة الضرر البيّن؛ فلا يصّح أن يُدفع بقدم الضرر، وأن الضرر البيّن يزال، ولو كان قديمًا”(3).

إن الدولة لا تخلق المجتمع، وإنما تنظم حياة المجتمع الذي تكوّن تاريخيًا، يقول هارولد لاسكي: “ما أعنيه بالدولة، مجتمع تكامل، أصبحت له سلطة قسرية، تعلو بشكل شرعي على أي فرد، أو جماعة يعيشون في هذا المجتمع. ودراسة أي مجتمع قومي لن تكشف داخل حدوده عن أفراد، فحسب، بل جماعات من الناس مجتمعين سويًا للنهوض بكل الأهداف التي لهم فيها مصلحة، سواء أكانت أهدافًا دينية، أو ثقافية، أو سياسية، أو اقتصادية”(4).

( 2 )

لكل مجتمع مُعيّن في زمن معين، مؤسسات تتناسب معه ومع حاجاته؛ ذلك أن “تحليل أي مجتمع سيكشف دائمًا عن وجود علاقة وثيقة بين مؤسسات المجتمع، وثقافاته، وبين طريقة سد الرغبات المادية، فإذا تغيرّت هذه الطريقة؛ تغيرت مؤسسات هذا المجتمع وثقافاته”(5).

ولا بد من تحقيق التوازن بين حرية أفراد المجتمع، وسلطة الدولة، “فواجبنا هو أن نُحقّق بين الحرية التي نحتاج إليها، والسلطة التي لا غنى عنها. ذلك التوازن الذي يبعث لدى الرجل المتوسط إحساسًا واضحًا بأن لديه مجالًا فسيحًا للتعبير المستمر عن شخصيته”(6). وإذا كان انعدام المساواة في المجتمع معناه “منح امتياز خاص للبعض، وحرمان البعض الآخر منه، وهذا الامتياز الخاص ليس في الحقيقة من الطبيعة، ولكنه تدبير متعمد من البيئة الاجتماعية”(7)؛ فإن الحرية، والمساواة ليستا في درجة تناقض الأشياء المكمّلة لبعضها، “فمن الممكن أن يكون الناس متساوين تمامًا في ظل نظام استبدادي، ولكنهم مع ذلك ليسوا أحرارًا”(8).

يصل هارولد لاسكي إلى نهاية الشوط، عندما يُسلمّ بأن السلطة ستكون فريسة لقوى الهيمنة الاقتصادية، فيقول: “في الواقع لم يخطئ هارنيجتون، وماديسون، وماركس، وأمثالهم، حينما صممّوا على قولهم: أيًا كانت أشكال الدولة؛ فإنه لا مناص من أن تؤول السلطة السياسية إلى أصحاب القوة الاقتصادية(9).

ونحن نقول إن هذا التعميم الذي أطلقه لاسكي استنادًا إلى الذين عدّد أسماءهم يعتمد على قراءة تطور الدول الرأسمالية في أوروبا، فالدولة قد تصبح هي القوة الاقتصادية في المجتمع (رأسمالية الدولة)، والدولة قد تعيد بناء هيكلية الطبقات الاجتماعية والاقتصادية؛ فتضرب الطبقات الاقتصادية القوية، وتشكل هي طبقات جديدة، هي محورها مثلًا.

( 3 )

أيًا كان الأمر بالنسبة إلى اختيار نظام الدولة؛ فإن القضية الأساسية تبقى توفر مُستند صحيح للدولة، ونقصد به المجتمع بالمعنى التاريخي المشترك لأشخاصه، وأن يكون غير منقوص، لأنه في هذه الحالة يملك خيارات التطور، ويُغيّر نظام الدولة، ويبقى يُغيّره إلى أن يُصبح أكثر انسجامًا مع مستوى المعرفة والتحرر الذي بلغه، وأكثر مقدرة على تلبية حاجات المجتمع، أما إذا كان (سكان الدولة) جزءًا مُقتطعًا من مجتمع تاريخي؛ فإن هذا يعني أن المقدرة على التطور، والتحرر معدومة، أو قريبة من ذلك مما يعني أن الباب بقي مفتوحًا للاستبداد الخارجي الذي يقتضي تبعية الدولة التي تقوم بالتعويض عن طريق الاستبداد بالسكان؛ لأننا في هذه الحالة نكون في مواجهة دولة لا مشروعة، وأساليب لا مشروعة.

في القرن التاسع عشر، قال جون ستيوارت ميل، فيما يعتبر قاعدة قانونية، وسياسية، واجتماعية لتأسيس الدولة: “يجب -كشرط أساس للمؤسسات الحرة من وجهة عامة- أن تنطبق حدود الحكومات في جوهرها على حدود القوميات” (10).

( 4 )

اعترف هارولد لاسكي بقوة بهذا المبدأ، فقال: “لقد تحققت تحت اسم هذا المبدأ وحدة كل من إيطاليا، وألمانيا، وانهيار الإمبراطوريتين التركية والروسية. وحتى الآن ما زال سلطان هذا المبدأ أبعد ما يمكن عن الانهيار؛ وذلك لأن كل إساءة في تطبيق مبدأ (ميل) في معاهدات السلام تخلق دائمًا مشكلات عن الحكم، سيجد العالم أنه من الصعب حلها من دون التحكيم الدموي للسلاح”(11).

يضيف لاسكي: “لو أخذنا مبدأ (ميل)، بحسب استقرائه المنطقي؛ لكان معناه أن كل شعب له الحق في دولة خاصة به. فالدولة الحديثة هي دولة ذات سيادة. والمعنى القانوني للسيادة هو المقدرة الكاملة، فالدولة يمكنها بحسب ما يحلو لها أن تقيم السلم والحرب”(12).

وهذا ما لا يريده (لاسكي). لماذا؟ لأن الدول ذات السيادة (القومية) أداة للعدوان. مرة أخرى نقول إن الفقيه لاسكي وقع في شرك نموذج الدولة الرأسمالية الأوروبية. إن لاسكي يدعو إلى الحكومة العالمية، ونحن معه، لكن حتى يتحقق ذلك، إذا كان قابلًا للتحقيق؟ هل من مصلحة الإنسانية والمساواة، أن نقول للأمم، والشعوب التي اعتدى عليها الاستعمار، وما زال ينهب ثرواتها، وفتتها بإقامة دول لا تملك إلا أن تكون تابعة، وإلا أن تكون مستبدة، وإلا أن تُحقّق الهدف من تأسيسها، وهو أن تقوم موضوعيًا بما كانت تقوم به الجيوش الاستعمارية، بل بما عجزت تلك الجيوش عن القيام به في أغلب الأحيان، هل من العدل والمساواة أن نقول لتلك الأمم والشعوب: لا تقيموا دولكم القومية؛ لأنها عدوانية، كيف يتصور لاسكي وماركس وسواهما إمكانية مقاومة عدوانية الدول الرأسمالية الأوروبية، إلا بدول حقيقية قومية متطابقة مع حدود مجتمعات حقيقية قادرة على الفعل والحياة والتحرر! أليست هذه الحشود من الدول المُصطنعة في العالم، والتي تقهر شعوبها استغلالًا واستعبادًا لصالح الدول الرأسمالية الأوروبية، هي وراء عدوانية تلك النظم الرأسمالية في أوروبا، أو على الأقل هي التي تجعل ممارستها للعدوان ممكنة؟

( 5 )

لنسمع لاسكي نفسه ماذا يقول: “لا يوجد إنكليزي واحد يمكن أن يظن نفسه حرًا، إذا كانت دولة أخرى هي التي تُحدّد له حياته الداخلية، وكل ألماني كان بلا نزاع يشعر بإحساس مرير من العبودية، خلال الاحتلال الأجنبي لمنطقة الرين، فجيلنا على الأقل، لا يحتمل أن يُقللّ من شأن مشكلة التقييدات التي تفرضها أي جماعة قومية على المطالبة بالحرية”(13). ولهذا نقول نحن لا يوجد عربي واحد، يمكن أن يظن نفسه حرًا، ولهذا ولأكثر منه؛ فإن أغلب شعوب (العالم الثالث) لا تذهب بها الظنون إلى توهّم أنها حرة.

نعود إلى هارولد لاسكي، لنتابعه، وهو يميّز بين ما هو اعتداء على الحرية، وما هو دون ذلك يقول: “أعتقد أن باستطاعتنا الاحتفاظ بكل ما هو ضروري للحرية في الحياة القومية، ولكن هذا لا يمنعنا من الاعتراف الكامل بمتطلبات المجتمع الدولي، فيمكننا أن نترك لبريطانيا استقلالها الثقافي كاملًا. وسوف لن تكون فرنسا أقل مما هي إذا كانت سلطة عالمية هي التي ترسم سياسة الذهب التي يمتلكها بنكها. وقد أستطيع أن أرى أساسًا (للاعتداء على الحرية يهدم السعادة القومية)، إذا ما قامت أي سلطة عالمية بتحريم تدريس اللغة الفرنسية في مدارس فرنسا، أو عدلت حدود فرنسا بحيث تجعل مرسيليا مدينة إيطالية، فمثل هذه الأشياء هي التي يمكن عن حق اعتبارها اعتداءً على أشياء في حياة أي دولة، ليس لغيرها أن يدعي حق البت فيها”(14).

هل وقف العدوان على شعوب وأمم ودول العالم الثالث، عند هذه الحدود؟ على أي حال إن العدوانية التي مارستها، وتمارسها الدول الاستعمارية ثم الإمبريالية، لا تمارسها بصفتها (قومية)، ولكن بصفتها الاستغلالية العدوانية، وهي (الرأسمالية)، ففي مقابل كل (دولة قومية) معتدية، هناك أكثر من دولة قومية، أو شعب، أو أمة كانت هدفًا لهذا العدوان. فهل القومية بعد هذا (عدوانية)، أم (معتدى عليها)؟!

هوامش ومراجع:

(1) عبد الهادي عباس-السيادة-صفحة (38).

(2) المصدر السابق صفحة (40).

(3) حسين عامر-التعسف في استعمال الحقوق صفحة (122).

(4) هارولد لاسك-الدولة في النظرية والتطبيق-صفحة (40).

(5) المصدر السابق صفحة (122).

(6) هارولد لاسك-الحرية في الدولة الحديثة-صفحة (42).

(7) و (8) و (9) المصدر السابق صفحة (44).

(10) و (11) المصدر السابق صفحة (187).

(12) المصدر السابق صفحة (189).

(13) المصدر السابق صفحة (57). و(14) المصدر السابق صفحة (197).