الاستغلال:

تعرض المادة (159) لكيان نظام الاستغلال وللأثر المرتب عليه. وهي تقيم الاستغلال على أمرين، يتمثل أولهما وسيلة يستهدف بها الوصول إلى الثاني. فالمادة (159) تتطلب، بادئ ذي بدء، استغلال ناحية من نواحي الضعف في المتعاقد، ونواحي الضعف عديدة يذكر المشروع أهمها وأكثرها شيوعًا في حياة الناس، وهو إذ يذكرها، لا يغفل عن أن بعضها يتداخل مع بعضها الآخر، بل حتى يمكن له أن يغني، ولكنه أراد لنظام الاستغلال أن ينطلق، ليغطي جميع أوجه الضعف في الشخص، حينما يعمد الغير إلى استغلالها فيه، وصولاً إلى الكسب المفرط المتجافي مع شرف التعامل، وبالتالي الكسب الحرام.

ومن نواحي الضعف التي يخصها المشروع بالذكر، الحاجة الملجئة، أو حالة الضرورة، ويقصد بها الحالة التي يرى الشخص فيها نفسه، لظروف معينة تحيط به، مضطرًا إلى إبرام التصرف، تحت ضغط حاجة ملحة، تتمثل عادة في دفع خطر محدق بالنفس أو بالمال، وهي حالة لا تعدم الشيوع في حياة الناس، وقد عالجها القضاء في البلاد التي لم تأخذ بنظام الاستغلال على أساس الإكراه، وأولى بها أن ترتد في حكمها لنظام الاستغلال.

ويذكر المشروع أيضًا من نواحي الضعف التي يلجأ إلى استغلالها الطيش البين، ويقصد به عدم الخبرة البالغ بأمر التعاقد والاستهانة الشديدة بعواقبه، كما يذكر الضعف الظاهر الذي قد يتمثل في قلة إدراك الشخص أو غبائه أو في الإفراط في طيبة قلبه، أو أي ضعف آخر يراه القاضي كافيًا لقيام الاستغلال. ويذكر المشروع كذلك من نواحي الضعف الإنساني التي يلجأ إلى استغلالها الهوى الجامح، وهو ذاك الذي يتمثل في الشعور العارم الملح العنيف نحو شخص أو نحو شيء، فهو لا يقوم على مجرد العطف أو المودة أو الحب المتزن.

ويذكر المشروع كذلك في النهاية السطوة الأدبية، ويقصد بها النفوذ الأدبي الذي يكون لشخص على آخر، ويبلغ تأثيره عليه من الكبر حدًا بحيث يجعله ينقاد إليه، إما عن عقيدة في صواب رأيه، وإما خشية إغضابه، كما هو الشأن على وجه الخصوص، في السطوة الأدبية التي قد تكون للأب على ابنه، أو للرئيس على مرؤوسه، أو للمعلم على تلميذه، أو لرجل الدين على الدين. والأمر الثاني الذي تقيم المادة (159) الاستغلال عليه، هو التفاوت الباهظ الجسيم في الأخذ والعطاء، بحيث يتمثل العقد تنكرًا ظاهرًا لشرف التعامل ومقتضيات حسن النية. فنظام الاستغلال لا يتغيا قيام العقود على المساواة بين طرفيها في أخذ كل منهما وعطائه، بل هو لا يحارب مجرد عدم التناسب بين ذاك الأخذ وهذا العطاء، وإنما هو يحارب عدم التناسب الباهظ الصارخ بينهما. وقد عمدت كل التقنينات التي أخذت بنظام الاستغلال إلى إبراز هذا الجانب منه، وإن كان ذلك بعبارات مغايرة.

وقد حرص المشروع على أن يذكر أن عدم التناسب الذي يقوم الاستغلال عليه هو ذاك الذي يكون بين ما يلتزم ضحية الاستغلال بأدائه وبين ما يجره عليه العقد من نفع مادي أو أدبي. وقد قصد بذلك ألا يقتصر إعمال نظام الاستغلال على عقود المعاوضات، وليحدث أثره في عقود التبرع. ويتركز أثر الاستغلال في أنه يترخص للقاضي، بناءً على طلب ضحية الاستغلال، ووفقًا للعدالة ومراعاة لظروف الحال، أن يقضي، إما بإنقاص التزاماته أو بالزيادة في التزامات الطرف الآخر، أو بإبطال العقد.

والمشروع، إذ يُدخل ضمن الرخص الممنوحة للقاضي الزيادة في التزامات الطرف الآخر، يخالف بذلك أغلب التقنينات التي يقتصر أثر الاستغلال فيها، إما على بطلان العقد (القانون الألماني – المادة 138)، أو على جعل العقد قابلاً للإبطال (مدونة الالتزامات السويسرية – المادة 21) أو على ثبوت الرخصة للقاضي في إبطال العقد أو إنقاص التزامات الطرف المستغل، وقد قال بهذا الحكم الأخير مشروع القانون الفرنسي الإيطالي (المادة 22)، ومنه انتقل إلى القانون المصري، ومن بعده إلى قوانين البلاد العربية الأخرى التي استوحته ومن بينها قانون التجارة الكويتي. والمشروع، إذ يرخص لقاضي إجراء الزيادة في التزامات الطرف الآخر، إلى جانب إبطال العقد وإنقاص التزامات الطرف المستغل، يتمشى مع الفكرة السائدة في نظام الغبن، سواء في الفقه الإسلامي أو في القانون المعاصر، والتي تقوم على الزيادة في التزام الطرف الغابن بما يرفع الغبن الفاحش عن الطرف المغبون، فضلاً عن أنه يتجاوب مع الأثر المترتب على إعمال نظرية الظروف الطارئة.

والزيادة في التزام الطرف الآخر قد يحكم بها القاضي، إما بناءً على طلب ضحية الاستغلال، أو بناءً على ذات طلبه هو، كدفع يعمد به إلى اتقاء إبطال العقد. والمشروع في إعطائه للقاضي سلطة الزيادة في التزامات الطرف الآخر، قد استوحى القانون البولوني (المادة 42). وغني عن البيان أن الاستغلال، شأنه في ذلك شأن غيره من كافة عيوب الرضاء، لا ينتج أثره، إلا إذا كان هو الدافع إلى التعاقد، بحيث أنه لولاه لما أُبرم العقد، أو لما أبرم على نحو ما أبرم عليه، وسواء بعد ذلك أن يكون الاستغلال قد وقع من المتعاقد الآخر، أم من شخص غيره يعمل لصالحه.

وأتت المادة (160) لتؤكد إمكان إعمال نظام الاستغلال في عقود البيع، دفعًا لأية شبهة، فلا يوجد أي مسوغ لقصر دائرة الاستغلال على المعاوضات، وإذا كانت ثمة شبهة قامت في الماضي حول هذا الأمر، فإن مردها إلى الاعتقاد بأن نظام الاستغلال لا يعدو أن يكون مجرد تطوير لنظام الغبن، وإلى أن هذا الأخير لا يسري في صدد التبرعات، فأيًا ما كان وجه الحق في البنوة المدعاة بين الاستغلال والغبن، فقد اكتملت لنظام الاستغلال ذاتيته، وأصبحت له دائرة أعماله الخاصة به، فضلاً عن شروطه وأثره. ولا يوجد ثمة ما يمنع من سريانه على التبرعات، بل إن التبرعات تتمثل الحقل الخصيب لإعماله، لا سيما بالنسبة إلى ما قام منه على الهوى الجامح.

على أن أثر الاستغلال في عقود التبرع يختلف بالضرورة بعض الشيء عن أثره في المعاوضات، فهو يقتصر على الترخيص للقاضي، بناءً على طلب المتبرع، ووفقًا لظروف الحال، ومراعاةً لمقتضيات العدالة والاعتبارات الإنسانية أن يبطل العقد أو أن ينقص القدر المتبرع به، وقد حرص المشروع أن يذكر الاعتبارات الإنسانية من بين الأمور التي يهتدي بها القاضي في حكمه، تقديرًا منه أن بعضًا من التبرعات التي تجيء وليدة الاستغلال، تستهدف غاية إنسانية جديرة بالرعاية كما إذا استغلت الزوجة الهوى الجامح الذي يستشعره زوجها نحوها، فتجعله يهب أولادهما الصغار من أمواله ما يلزم لتربيتهم، ففي مثل هذه الحالة، يستطيع القاضي أن يتمشى في حكمه مع ما تقتضيه المصلحة الإنسانية في تربية الصغار، في حدود اتساق هذه المصلحة مع مصلحة باقي الورثة والتوفيق بينهما.

وتعرض المادة (161) للمدة التي ينبغي أن ترفع خلالها دعوى الاستغلال، وإلا سقطت، وتحدد الفقرة الأولى هذه المدة بسنة واحدة، تبدأ من تاريخ إبرام العقد. وهذه المدة، وإن كانت قصيرة، إلا أنه تشفع لقصرها الرغبة في استقرار المعاملات. وهي على أية حال، المدة التي قدرتها أغلب القوانين ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 126/ 2). وإذا كان المشروع قد قرر، الأصل العام لبدء سريان مدة السنة، محددًا إياه بوقت إبرام العقد، على نحو ما تقول به المدونات القانونية في أغلب الدول التي أخذت بنظام الاستغلال إلا أنه استحدث في الفقرة الثانية حكمًا مغايرًا بالنسبة إلى دعاوى الاستغلال الذي يقوم على الهوى الجامح أو السطوة الأدبية، جاعلاً بدء سريان مدة السنة، بالنسبة إليها، من تاريخ انقطاع أثر الهوى أو السطوة على أن تسقط الدعوى، على أية حال، بمضي 15 سنة من تاريخ إبرام العقد.

وقد دعا المشروع إلى تقرير الحكم الذي استحدثه ما رآه من أنه، في العمل، يتعذر على من يبرم التصرف، تحت تأثير الهوى الجامح أو تحت تأثير السطوة الأدبية، أن يطعن فيه، طالما بقي أسيرًا لهذه أو لذاك، ومن ثم لزم أن تبدأ فترة السنة من وقت تحرره منها، وإلا ضاق مجال إعمال الاستغلال بصددهما إلى حد يتقارب مع العدم، سيما وأن مدة السنة تتمثل فترة بالغة القصر. والمشروع بهذا الحكم المستحدث يتفادى عيبًا ظاهرًا في التشريع الكويتي الحالي، وهو عيب لم يفت الفقه أن يستظهره.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .