مقال قانوني هام عن الأسباب التي أدت إلى ظهور الأحزاب السياسية

أ/ عبد الله كامل محادين

كيفية ظهور الأحزاب السياسية

في الحقيقة إن الانتقال من التجمعات العفوية إلى المفهوم الحديث للأحزاب السياسية تم بشكل متلاحق و كان أحد أهم نتائج و ضرورات النظام الديمقراطي التمثيلي في وقتنا الحالي .

فعلى الرغم من أن رجال الثورة الفرنسية كانوا يرون أن هناك تعارضاً بين الصفة التمثيلية لعضو البرلمان و بين و جود الأحزاب، و كذلك رفض الرئيس جورج واشنطن لوجود الأحزاب، فقد ولدت الأحزاب نتيجة للنظام التمثيلي و في قلب البرلمان. فقد كان البرلمانيون الذين لهم اتجاهات سياسية متقاربة يجلسون في البرلمان و بشكل عفوي على مقاعد متقاربة، و في بعض الأحيان يجرون فيما بينهم اجتماعات خاصة من أجل توحيد مواقفهم من المسائل المطروحة أمامهم. من ذلك نشأ ما يسمى حالياً بالتجمعات أو الكتل البرلمانية Groupes parlementaires و التي لم يكن لها سابقاً أي و ضع رسمي.

بنفس الوقت و على المستوى المحلي، كانت الشخصيات المهتمة بالسياسة تشكل في أوقات الانتخابات لجاناً في الأحياء و المناطق لدعم بعض المرشحين. معظم هذه اللجان كانت تحل نفسها كلما انتهت الانتخابات، و لكن البعض القليل منها كان يستمر عاملاً على إيجاد احتكاك مستمر بين البرلمانيين و بين اللجان التي ساندته في الانتخابات.

بين هذه التجمعات البرلمانية و اللجان المحلية لم يكن هناك و لفترة طويلة أية علاقة منتظمة، بل كان يوجد فقط علاقة فردية بين البرلماني و بين اللجان الموجودة في دائرته الانتخابية. و كان البرلمانيون في الحقيقة لا يرغبون في استمرارية وجود هذه اللجان التي تشكل بالنسبة لهم عين رقابة تحد من حريتهم في بعض الأحيان.

إنّ موقف البرلمانيين من هذه اللجان قد تغير مع مرور الزمن و خاصة مع توسيع قاعدة الاقتراع أي الهيئة الناخبة. فالبرلمانيون لم يعد بإمكانهم البقاء على احتكاك مع ناخبيهم في دوائرهم الانتخابية نتيجة الازدياد المستمر في عدد الناخبين و نتيجة الأخذ بمبدأ الاقتراع العام و التوسع به، كذلك الأمر فإن النفقات المالية للعملية الانتخابية أخذت تتزايد. لذلك توجه البرلمانيون وبشكل دائم إلى هذه اللجان المحلية، مما أدى بالنتيجة إلى قيام علاقات منتظمة بين هذه اللجان و بين التجمعات البرلمانية و هو الذي كانت نتيجته اتحاد العديد من هذه اللجان المحلية ضمن تنظيم على المستوى الوطني، مما أدى فيما بعد إلى ظهور الأحزاب بالمفهوم الحديث للكلمة . و لكن هذه الأحزاب لم تكن بداية سوى أحزاب كوادر أو نخبة و ليست أحزاباً جماهيرية :

فكما قلنا إن البرلمانيين و الشخصيات المحلية هي التي كانت وراء إنشاء هذه الأحزاب. فالمكاتب السياسية (القيادة) كانت في غالبيتها مشكلة من البرلمانيين. لذلك كانت الطبقات السياسية بعيدة و متميزة عن جماهير المواطنين. فالسياسيون كانوا بأغلبيتهم من النبلاء أو من الطبقة الوسطى الطموحة (محامين، أطباء، أساتذة جامعات….الخ). و هؤلاء، و بسبب الوسط الذي ينتمون إليه أو التعليم الذي تلقوه، كانت رؤيتهم للمشاكل السائدة مختلفة عن رؤية غالبية الشعب.

فبالنسبة لهم كانت الحرية الفردية أهم أهدافهم، أما المسائل الاجتماعية و خاصة قضايا العمال كانت مجهولة من قبلهم. و كرد فعل ضد ما اعتبر مصادرة للاقتراع العام من قبل البرجوازية الصغيرة تشكلت الأحزاب الجماهيرية. و قد أنشئت نتيجة اتفاق بين مجموعات من المثقفين و العمال ( مثل الحزب الاجتماعي الديمقراطي الألماني Parti Social-Démocrate الذي تأسس عام 1875)، أو نتيجة قرار نقابات العمال نفسها (مثل حزب العمال البريطاني Parti Travailliste الذي تأسس عام 1900). إن ظهور الأحزاب السياسية الجماهيرية و اتساع قاعدة الهيئة الانتخابية نتيجة إقرار الاقتراع العام في بدايات هذا القرن أحدث تحولاً هاماً في تاريخ المؤسسات السياسية. حيث تمخض عن ذلك تنظيمات سياسية تعمل في الدرجة الأولى للبحث أو لفهم الإرادة الحقيقية للشعب و تحويلها إلى حقيقة، فالطبقات الأكثر عدداً و الطبقات الأكثر فقراً أصبحت ممثلة في البرلمان من قبل نواب منحدرين منهم.