جوهر مبدأ الفصل بين السلطات ، هو الفصل بين وظائف الدولة فصلاً عضوياً أو شكلياً بمعنى تخصيص عضو مستقل لكل وظيفة من وظائف الدولة. فيكون هناك جهاز خاص للتشريع ، وجهاز خاص للتنفيذ ، وجهاز ثالث للقضاء . ومتى نحقق ذلك ، أصبح لكل عضو اختصاص محدد لا يمكنه الخروج عليه دون الاعتداء على اختصاص الأعضاء الآخرين(1).

فأساس مبدأ الفصل بين السلطات يقوم على ركيزتين أساسيتين(2) :

1- عدم تركيز وظائف الدولة في يد هيئة واحدة.

2- تقسيم وظائف الدولة إلى ثلاث وظائف أساسية هي : الوظيفة التشريعية ، والوظيفة التنفيذية ، والوظيفة القضائية(3).

فالوظيفة التشريعية تقوم بمهمة وضع القواعد القانونية التي تنظم كل نشاط من النشاطات التي تتم داخل الدولة، وتحدد السلوك العام للافراد في الدولة والمجتمع . اما الوظيفة التنفيذية فمهمتها تنفيذ القواعد القانونية التي تصنعها السلطة التشريعية لكي تضمن سير أجهزة الدولة في إطار هذه القواعد ، في حين تضمن الوظيفة القضائية ، معاقبة الخارجين عن القانون ، او الفصل في المنازعات والخصومات الناشئة بين الأفراد ، بناء على تلك القواعد(4). وتعود نشأة مبدأ الفصل بين السلطات إلى العصور القديمة ، فقد كان لاعلام الفكر السياسي الافريقي كأفلاطون وأرسطو ، دور هام في وضع الأساس الذي يقوم عليه هذا المبدأ . إذ أوضح أفلاطون في كتابه ((القوانين)) ، ان وظائف الدولة يجب ان تتوزع على هيئات مختلفة مع إقامة التوازن بينها ، لكي لا تنفرد إحداها بالحكم وما قد يؤدي إليه ذلك من وقوع الاضطرابات والثورات للتمرد على هذا الاستبداد(5). اما ارسطو فقد نادى في كتابه (السياسة) إلى تقسيم وظائف الدولة إلى ثلاث ؛ وظيفة المداولة ، ووظيفة الأمر ، ووظيفة العدالة ، على ان تتولى كل وظيفة منها هيئة مستقلة عن الهيئات الأخرى مع قيام التعاون بينها جميعاً لتحقيق الصالح العام ، بحيث لا تتركز هذه الوظائف في يد هيئة واحدة(6). ثم جاء بعد ذلك بقرون عديدة الكاتب الإنجليزي جون لوك J.Locke وكتب مؤلفة ((الحكومة المدنية)) عندما نفاه جاك الثاني gacques II حيث صدر مؤلفة في سنة 1690 بعد ثورة 1688 في إنجلترا ضد الحكم الاستبدادي وكان الهدف من هذا المؤلف هو إضفاء الشرعية على الثورة. وبعد ان ركز لوك في آرائه على الأصل العقدي للسلطة السياسية أبرز ضرورة الفصل بين السلطات في المجتمع. ويرى لوك ان هناك ثلاث سلطات في الدولة : سلطة تشريعية ـ سلطة تنفيذية ـ السلطة الفدرالية وهي سلطة العلاقات الدولية. وعلى الرغم من ان السلطتين الأخيرتين متميزتان ولكنهما تمارسان تحت قيادة واحدة ، لكن السلطة التشريعية أعلى منهما ويجب ان تكون منفصلة عنهما كي لا يحدث التعسف. وعلى السلطة التشريعية ان تتجنب الانعقاد بصفة دائمة كي لا تكون طامعة في التدخل في سير الحكومة .

كما ان السلطة التنفيذية تملك بعضاً من الاستقلال في تفسير القوانين، ولما كان دورها يتمثل أساساً في تنفيذ الإرادة المعبر عنها من طرف السلطة التشريعية فهي نتيجة لذلك تكون خاضعة لها. ومن هنا يتبين لنا انه إذا كانت هذه الوظائف يمكن القيام بها من قبل جهاز واحد كما حدث في الماضي فالجهاز الذي يقوم بوضع القانون ليس هو الجهاز المكلف بتطبيقه وهنا ظهرت ضرورة تخصص الهيئات في إطار وظيفة محددة(7). بيد ان المنظر الحقيقي لمبدأ الفصل بين السلطات هو المفكر الفرنسي مونتسكيو Montesquieu الذي عاش في القرن الثامن عشر (1689ـ1755) وقد عرض مونتيسكو لمبدأ الفصل بين السلطات بوضوح كامل في كتابه الشهير ((روح القوانين)) الذي أصدر مونتسكيو عام 1748. ومما يميز آراؤه المتصلة بالمبدأ هي قدرته على صياغته بكيفية أعطت وزناً ومكانة بارزة ضمن المبادئ والنظريات السياسية التي شهدتها أوربا في أعقاب العهود الاستبدادية التي سحقت الإنسان الأوربي عموماً والفرنسي على وجه الخصوص(8). ومضمون المبدأ عند مونتسكيو ان تركيز السلطات العامة في هيئة واحدة أو في يد فرد واحد من شأنه ان يؤدي حتماً إلى الاستبداد وضياع الحريات الفردية حتى لو كانت تلك الهيئة هي مجلس نيابي شعبي ، فلابد ان ينتج عن تركيز السلطات في مثل هذا المجلس شيوع المطلق واهدار الحريات. ويبنى مونتسكيو هذا الرأي على ملاحظة الحقيقة الواقعية التي أبرزها التاريخ ، وهي انه في كل مرة تتجمع السلطة أو السلطات في قبضة فرد أو هيئة واحدة . كانت النتيجة دائماً واحدة وهي سيادة الديكتاتورية والاستبداد وفي النهاية اختفاء حريات الأفراد. لذلك يرى مونتسكيو انه لكي نضمن حريات الأفراد وحقوقهم ، لابد من تقسيم وتوزيع سلطات الدولة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية على هيئات منفصلة ومتوازية ، وفي ظل هذا الفصل بين السلطات يكون لكل هيئة أو سلطة من السلطات الثلاث حق التقدير في حدود وظيفتها ، كما يكون لها وسائل لتقييد السلطة ومنعها من الانحراف ويؤكد مونتسكيو على هذه الفكرة الأخيرة قائلاً انه يجب على السلطة ان توقف السلطة بمعنى ان كل سلطة من السلطات الثلاث يجب ان تراقب السلطات الأخرى. وان تلك الرقابة المتبادلة بين السلطات ـ بالذات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من شأنها ان تحقق الحماية لحقوق وحريات الإفراد وان تحقق سيادة الشرعية في الدولة(9). وقد أثرت فكرة مونتيسكو عن مبدأ الفصل بين السلطات في الدول الديمقراطية التي اعتنقت هذا المبدأ في دساتيرها وطبقته في نظم الحكم فيها. حيث طبقت إنجلترا مبدأ الفصل بين السلطات ابتداء من القرن السابع عشر ، بالإضافة إلى التجارب العملية الإنجليزية في تطور نظام الحكم البرلماني فيها(10). كما أصبح هذا المبدأ عقيدة سياسية تبنته الثورة الفرنسية التي وصل بها الحد إلى التصريح في المادة 16 من إعلان حقوق الإنسان الصادر عام 1789 بان ((كل جماعة سياسية لا تضمن حقوق الأفراد ولا تفصل بين السلطات لا دستور لها)) كما أخذ به أول دستور للثورة الصادر عام 1791 ودستور 1848 اللذين نصا على ان ((فصل السلطات هو الشرط الأول لكل حكومة حرة)) (11). وكذلك دستور السنة الثالثة للثورة 1795 إذ نصت المادة 22 منه على مبدأ الفصل بين السلطات بقولها انه ((تكون الضمانة الاجتماعية مفقودة ، إذا لم يكن تقسيم السلطات قائماً ، وإذا لم يكن لهذه السلطات حدود معينة)). كما تبنى مبدأ الفصل بين السلطات الاتحاديون ، الذين كانوا وراء النظام الفدرالي في الولايات المتحدة الأمريكية ، في منشورهم الذي أكد على اقامة الفصل بين السلطات لمنع التعسف الذي أدى إلى الإساءة في استعمال كل سلطة على حدة ، وإلى افتقاد التعاون بين كل سلطة من السلطتين الأخيرتين(12). مما جعل لهذه الفكرة صدى في نصوص الدستور الأمريكي ذاته الصادر عام 1787 فقد تضمن الدستور مبدأ الفصل بين السلطات في فصوله الثلاثة الأولى حيث اشتمل تنظيماً دقيقاً للسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية(13).

ويحقق مبدأ الفصل بين السلطات العديد من المزايا . وتتلخص أهمها في النقاط التالية :

1- حماية الحرية ومنع الاستبداد :

تلك هي الميزة الأولى والأساسية لمبدأ الفصل بين السلطات ، والمبرر الأساسي للأخذ بهذا المبدأ ، فجمع السلطات بيد شخص واحد يتيح الفرصة لإساءة استعمال السلطة ، وانتهاك حقوق وحريات الأفراد ، دون وجود رقيب ، ودون إعطاء فرصة للأفراد بالدفاع عن حقوقهم وحرياتهم أمام جهة أخرى. اما توزيع السلطات بين عدة هيئات مع الفصل بينهما فانه يفسح المجال لكل هيئة في مراقبة أعمال الهيئتين الاخريين بما يؤدي إلى منعها من التجاوز أو الإساءة وانتهاك حقوق وحريات الإفراد(14).

2- إتقان وحسن أداء وظائف الدولة :

الميزة الثانية لمبدأ الفصل بين السلطات هي انه يحقق مبدأ تقسيم العمل والتخصص ، الذي من شأنه ان يحقق إتقان كل هيئة لوظيفتها وحسن أدائها. فمن الثابت ان التخصص وتقسيم العمل يؤدي إلى إتقان العمل ليس فقط في مجال علم الإدارة بل أيضاً في المجال السياسي . ومقتضى ذلك المبدأ ان يقسم العمل إلى عدة أجزاء حسب نوع التخصص لكل جزء منها ، ثم يعهد بكل جزء منه إلى الخبراء المتخصصين تخصص دقيقاً في نوعية المهام والمسؤوليات التي يتضمنها ذلك الجزء ليتولوا أداءها بالكفاءة التي تتناسب مع تخصصهم فيها ، وبذلك يدار العمل كله بأكبر قدر ممكن من الكفاءة والدقة. وبتطبيق مبدأ التخصص وتقسيم العمل على الوظائف الرئيسية للدولة ، نجد ان تلك الوظائف تتضمن ثلاثة أنواع مختلفة ومتباعدة من المسؤولية ، وهي مسؤولية التشريع ومسؤولية الحكم والإدارة ومسؤولية إقامة القضاء العادل بين الناس ، وقلما يتمكن شخص واحد من الجمع بين تلك المجموعة المتنوعة من التخصصات بما يستلزمه كل منها من خبرات مختلفة ، ثم يتمكن من إنجاز مسؤولياته على الوجه المطلوب ، ومن هنا كان الأسلوب الأفضل للعمل هو ان يعهد بكل سلطة من تلك السلطات إلى مجموعة من الخبراء المتخصصين فيها والذين يمكنهم بالكفاءة المطلوبة وبالسرعة والدقة اللازمتين(15).

3- ضمان احترام مبدأ سيادة القانون :

وأخيراً من المزايا الهامة لمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث انه يؤدي إلى ضمان احترام مبدأ سيادة القانون في الدولة ، بحيث نضمن خضوع السلطات الحاكمة للدستور والقانون وليس فقط الأفراد . لانه إذا اجتمعت وتركزت السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في هيئة واحدة فلا ضمان لاحترام القانون ، لان هذه الهيئة ستقوم بوضع القوانين وتعديلها بناء على ان الحالات الفردية الطارئة مما يفقد القانون صفة العدالة لانه لن يصبح قواعد عامة ومجردة. وكذلك لو مارس القضاة سلطة التشريع أيضاً ، فان ذلك يؤدي إلى عدم عدالة القانون وأيضاً عدم عدالة الأحكام(16). لذلك فان الفصل بين السلطات وما يصاحبه من رقابة متبادلة بينها ، يؤدي إلى ضمان احترام كل سلطة لحدودها الدستورية واحترامها لقواعد القانون ، بالإضافة إلى ان الفصل بين السلطات يجعل السلطة القضائية رقيبة على السلطتين الاخريين ويضمن بوجه خاص خضوع قرارات السلطة التنفيذية لرقابة القضاء وإلغائها عند مخالفتها للقانون(17).

___________________________

1- د. ثروت بدوي ـ النظم السياسية ـ مصدر سابق ـ ص175.

2-د. سليمان الطماوي ـ السلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر الإسلامي ـ دار الفكر العربي ، مصر ، ط3 ، 1974 ، ص448.

3- منذ عصر الثورة الفرنسية التي انطلقت عام 1789 نجد ان الرأي السائد هو اعتبار السلطات ثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية ، على اننا نجد ان الدستور الصيني الصادر سنة 1947 (قبل الثورة الشيوعية سنة 1949) يعتبر السلطات خمسة : إذ يضيف إلى تلك السلطات الثلاثة التقليدية سلطة رابعة يسميها سلطة البحث والفحص أو (سلطة الامتحان) وتختص بالإشراف على التعيين في الوظائف العامة، وسلطة خامسة يسميها(سلطة الرقابة) control مهمتها حماية القانون والصالح العام.

د. عبدالحميد متولي ـ القانون الدستوري والأنظمة السياسية ـ منشأة المعارف ـ الاسكندرية ـ 1993 ـ ص178.

4- د. منذر الشاوي ـ القانون الدستوري (نظرية الدولة) مركز البحوث القانونية ـ بغداد ـ 1981ـ ص190 ـ191.

5- د. عبد الغني بسيوني عبدالله ـ النظم السياسية والقانون الدستوري ـ منشأة المعارف ـ الإسكندرية 1997 ـ 187.

6- د. محمد كامل ليلة ـ النظم السياسية (الدولة والحكومة) ، دار الفكر العربي ـ القاهرة ـ 1971. ص552ـ553.

7- د. بوكرا إدريس ـ الوجيز في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية ـ دار الكتاب الحديث الجزائر ـ 2003م . ص198ـ199.

8- محمد ارزقي نسيب أصول القانون الدستوري والنظم السياسية ـ الجزء الثاني ـ جامعة الجزائر كلية الحقوق بن عكنون ـ 1999ـ2000 ص168.

Jacques Cadart، Institutions politiques et Droit Constitution nel ، 2eme edition، 1979 T.1، p-297.

9- د. محمد رفعت عبدالوهاب ـ النظم السياسية ، دار المطبوعات الجامعية ، اسكندرية ـ 1996 ـ ص155ـ156 وكذلك اندريه هوريو ـ القانون الدستوري والمؤسسات السياسية ـ الجزء الأول ترجمة علي مقلد وشفيق حداد وعبد المحسن سعد ـ الأهلية للنشر والتوزيع ـ طبعة الثانية بيروت ـ 1977 ص209 و 210.

10- ان أول تطبيق عملي لمبدأ الفصل بين السلطات ظهر في القرن السابع عشر في إنجلترا في دستور كرمويل Cromwell الذي جاء على أساس هذا المبدأ ، الا ان كرمويل لم يكن عند ذلك يفكر في تطبيق مبدأ نظري وانما أراد في الواقع القضاء على الاستبداد الذي ينشأ عن البرلمان الطويل Long Parliament فعمد إلى فصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية كما كان حريصاً على استقلال القضاء؛ وحافظ كرمويل في أنظمته المختلفة المتوالية على مراعاة ذلك على انه بانقضاء عهده وعودة الملكية تلاشت أعمال هذا الرجل ولم يبق لها أثر لا في انجلترا ولا في البلاد الأجنبية.

د. سعيد بو الشعير ـ القانون الدستوري والنظم السياسية المقارنة ـ الجزء الثاني النظم السياسية ـ طبعة الثالثة منقحة ـ ديوان المطبوعات الجامعية ـ الجزائر ـ 1999 ، ص163.

وكذلك د. السيد صبري ـ النظم الدستورية في البلاد العربية ـ معهد الدراسات العربية العالية القاهرة ـ 1956ـ ص25.

11- د. صالح جواد الكاظم ود. علي غالب العاني ـ الأنظمة السياسية ـ مطبعة دار الحكمة ـ بغداد ـ 1990 ـ 1991 ـ ص64.

12- د. حسان شفيق العاني ـ الأنظمة السياسية المقارنة ـ مطبعة المعارف بغداد ، 1980، ص28.

13- د. أدمون رباط ـ الوسيط في القانون الدستوري العام ـ الجزء الثاني ـ دار العلم للملايين ـ بيروت ـ 1971 ـ ص571 و 572.

14- د. سليمان الطماوي ـ السلطات الثلاث الطبعة الثالثة ـ مصدر سابق ص448.

وكذلك د. أحمد حافظ عطيه نجم ـ مصدر سابق ـ ص89.

15- د. محمد رفعت عبدالوهاب ـ مصدر سابق ـ ص158 وكذلك د. أحمد حافظ عطية نجم ـ مصدر سابق ص90-91.

16- ادريه هوريو ـ مصدر سابق ـ 236.

17- د. محسن خليل ـ القانون الدستوري والنظم السياسية ـ الاسكندرية ـ 1987 ، ص5560.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .