ارتكب جريمة ولكن بأمر من رئيس العمل

الأصل العام أن طاعة الرؤساء واجبة، لكن طاعة الرؤساء على حد تعبير محكمة النقض لا تنبغي بأي حال أن تمتد إلى الجرائم فليس على المرءوس أن يطيع رئيسه في أمر محرم، أو جرم يعلم هو أن القانون يعاقب عليه، ويبقى التساؤل مطروحا إن كان يشفع للفاعل صدور أمر من رئيسه بإحداث ذلك الجرم، أم تكون الشبهة قائمة على وجود الجناية، هذا ما سوف نعرضه في المقال التالي.

 رصدت في التقرير التالي مسألة حدود طاعة المرءوس للأوامر التي تفضي لارتكاب جريمة-حسب الدكتور أحمد الجنزورى، أستاذ القانون الجنائى بجامعة عين شمس والفقيه الدستورى-

أولاً: العمل القانوني الذي لا عقاب عليه:

إطاعة القانون سبب إباحة عام مطلق يمنع من العقاب، وعمل الموظف العام داخل في عموم تنفيذ القانون، لكن القانون قد يعهد إلى الموظف باختصاص محدد، أي يحدد له شروط إجرائية لا يترك له مجالاً للتقدير فإذا جاء العمل مطابقاً لهذه الشروط فيكون عمل الموظف العام مشروع إذا توافرت الشروط الآتية:

1- أن تكون هناك سلطة تقديرية يخولها القانون للموظف العام: فقانون الإجراءات الجنائية على سبيل المثال يمنح سلطات تقديرية واسعة لمأمور الضبط القضائي في إجراء التحريات والقبض على المتهم الذي توجد دلائل قوية على اتهامه (م 34 أ.ج) وتفتيش منزله في حالة التلبس إذا اتضح له أمارات قوية أن بالمنزل ما يفيد في كشف الحقيقة (م 47 أ.ج) فتقدير الدلائل أو الأمارات القوية متروك لمأمور الضبط ومتى كان عمله مطابقا للقانون خاليا من عيب سوء استعمال السلطة فإنه يكون مباحا.

2- أن يوجد سبب مشروع يدعو إلى استعمال هذه السلطة: فالعمل الذي يقوم به الموظف العام لا يكون مشروعا إذا لم يستند إلى سبب مشروع يبرره وقد حكم بأنه إذا كان المتهم متلبسا بجريمتي حمل السلاح بدون رخصة وإهانة ضابط بوليس بالقول أثناء تأدية وظيفته فهذه حالة تسوغ قانونا للضابط أن يقبض على المتهم ويجرده من سلاحه وأن يستعمل القوة الضرورية لذلك فإذا ما حاول المتهم الهروب لتفادي القبض عليه كان للضابط أن يعطله فإذا اضطر في سبيل ذلك إلى إطلاق النار علي الفرس التي استعان بها المتهم علي الفرار قاصدا تعطيلها عن العدو فقتلها فإنه لا يكون متجاوزا حقه والفعل الذي وقع منه لا يكون جريمة فالدافع إلى القبض هو تلبس المتهم بالجريمة والدافع إلى استعمال القوة هو محاولة للهروب ومن ثم يكون مبررا استنادا إلى استعمال السلطة أما إذا لم يحول المتهم الهرب ومع ذلك استعمل مأمور الضبط القضائي القوة فإنه يسأل عن الضرب لأنه كان بغير سبب مشروع.

3- مطابقة العمل للقانون: فيكون عمل الموظف العام مطابقا للقانون إذا كان داخلاً في اختصاص الوظيفة وروعيت فيه الشروط التي يستلزمها القانون من حيث الموضوع والشكل، فالاختصاص في القانون العام يقابل الأهلية في القانون الخاص ويترتب علي عدم توافره عدم مشروعية العمل وسواء كان عدم الاختصاص راجعا إلى المكان أو النوع أو الشخص، وفي هذا استقرت محكمة النقض على أنه:

” إذا خرج مأمور الضبط القضائي عن دائرة اختصاصه لا تكون له سلطة ما وإنما يعتبر فردا عاديا وهذه هي القاعدة العامة لأداء كل وظيفة رسمية في هذه الأحوال إذا استعمل مأمور الضبط العنف في القبض فإنه يسأل عن الضرب وإذا أتلف باب المسكن فإنه يسأل عن الإتلاف فضلا عن مساءلته عن انتهاك حرمة المسكن والقبض بغير وجه حق (م 128 و280 عقوبات).

وإذا كان الموظف العام ينفذ أمر رئيسه فإنه لا يخول إذا ما ورد في الإذن فالإذن بتفتيش منزل المتهم لا ينسحب على شخصه والإذن بتفتيش متهم لا يخول القبض عليه والإذن بالقبض على المتهم يبرر لمأمور الضبط القضائي باستخدام القليل من العنف ومحظور عليه الالتجاء إلى فعل يحدث موتا أو جروحا بالغة وعندئذ يسأل مأمور الضبط عن هذا التجاوز بوصف العمد إذا كان مقصودا وبوصف الأعمال إذا كان نتيجة الرعونة.

4- مشروعية الغاية: وهذا هو العنصر المعنوي في العمل القانوني، فانصراف إرادة الموظف العام إلى تحقيق الغاية غير المشروعة فيكون عمله غير مشروع، كما لو باشر السلطة لتحقيق أغراض ومآرب أخرى بعيدة عن المصلحة العامة كاستهداف مصلحة شخصية، أو حزبية فالقانون يخول لرجال البوليس سلطة فض المظاهرات ولو بالقوة بقصد تدارك الإخلال بالأمن أو السكينة العامة ففي حدود هذا الغرض يكون العنف مشروعا أما إذا قصد به مجرد إشباع شهوة الانتقام أو تحقيق مصلحة حزبية أو لإثارة الفتن بين طوائف الشعب لتحقيق أغراض ومآرب بعيدة عن الصالح العام فإنه يكون عملا غير مشروع ويعاقب عليه فاعله.

ثانياً: شروط الإباحة إذا ارتكب الموظف عمل غير قانوني بحسن نية.

تنص المادة (63) من قانون الإجراءات على حالتين تندرج تحتهما كل صور العمل غير القانوني: الأولى: إذا ارتكب الموظف العمل تنفيذاً لأمر غير قانوني صادر من رئيس تجب عليه طاعته.. الثانية: أن تكون المخالفة قد وقعت من الموظف دون أن يصدر له الأمر.

ومع أن العمل غير قانوني في الحالتين فإن القانون لا يعتبره جريمة إذا توافر شرطان:

الأول: أن يكون الموظف حسن النية معتقداً مشروعية العمل.

الثاني: أن يثبت الموظف أنه لم يرتكب العمل إلا بعد التثبت، والتحري وأن اعتقاده بمشروعيته مبني على أسباب معقولة.

تكييف المسئولية الجنائية للرئيس والمرؤوس حال ارتكاب فعل يؤثمه القانون.

أولاً: مسئولية المرؤوس:

القاعدة العامة أنه لا طاعة لرئيس إذا تضمن الأمر ارتكاب أفعال يجرمها القانون، فإنه وإن كان المشرع قد اخذ بنظرية الطاعة المقيدة كما أشرنا، فأوجب من حيث المبدأ على المرؤوس تنفيذ أمر الرئيس إلا انه أخضعه لمجموعة من القيود لحماية المجتمع، حيث حظر قانون العقوبات الذي يحمي المصلحة الاجتماعية على الموظف العام أن يطيع الرئيس فيما يتضمن ارتكاب فعل يؤثمه القانون، فإن أمر الرئيس مرءوسه بارتكاب تزوير أو اختلاس أو قتل أو تعذيب فإن المرءوس لا يلتزم بإطاعة رئيسه فإن أطاعه كان مسئول جنائياً عن الجريمة التي اقترفها تنفيذاً لأمر رئيسه غير المشروع.

وقد استقر قضاء النقض على أن:

«طاعة الرئيس لا تمتد بأي حال من الأحوال إلى ارتكاب الجرائم وأنه ليس علي مرءوس أن يطيع الأمر الصادر له من رئيسه بارتكاب فعل يعلم أن القانون يعاقب عليه».(نقض 6-1-1966 ـ 13-3-1972 ــ 13-10-1974 ــ 24-3-1983)

التثبت وحسن النية مانع من موانع للمسئولية:

من الجدير بالذكر أنه وإن كان استعمال السلطة في ظل الضوابط المرعية كما أسلفنا يعد سبباً من أسباب الإباحة التي تبيح عمل الموظف إذا كان مطابقاً للقانون، فإن ارتكاب الموظف للفعل المخالف للقانون بحسن النية، وبعد التثبت والتحري وأن اعتقاده بمشروعيته مبني على أسباب معقولة.

على النحو الوارد في المادة 63 عقوبات سالفة الذكر يمنع قيام المسئولية عن المرؤوس، فإن قام بالعمل غير المشروع تنفيذاً لأمر رئيس تجب عليه طاعته قانوناً معتقدا سلامة موقفه، وبعد بذل العناية الكافية للتثبت والتحري بدقة، فإن المشرع يلقي عليه عبء إثبات تحقق هذين الشرطين، فيظل الأصل العام أنه مرتكب لجريمة يستحق عنها العقاب، ولا يعفى من العقوبة ما لم يثبت تحقق الشرطين معاً كأحد موانع المسئولية الجنائية لديه وهنا يسأل عن جريمة غير عمدية .