عن المادة الخامسة في مسودة قانون الأحزاب الجديد

بعد ثمانية أعوام من سقوط نظام الحزب الواحد، نظام حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان من أهم سماته قمع الأحزاب الأخرى ، والشعب كله، بالحديد والنار، صدرت هذا الأسبوع مسودة (قانون الأحزاب العراقية) في فترة لا تخلو من بعض مظاهر الانقسام الوطني والحزبي والطائفي والأثني. المطلوب مناقشة هذا القانون في الصحافة والبرلمان من جميع الوجوه، لتشريعه بعد ذلك، كي يمتلأ الفراغ الكبير، الذي عانت وما تزال تعاني منه، الحياة الحزبية، والسياسية، والاجتماعية، والانتخابية، حيث كانت نتائجه ذلك الفراغ السلبية قد أضرت إضرارا كبيرا بالعملية السياسية وبالحياة الديمقراطية المنشودة. كان عدم وجود قانون الأحزاب خلال السنوات الماضية سببا رئيسيا في خلق عُقد وتفاعلات صعبة ليست خالية من التحديات الموجعة المفضية إلى أوضاع ، قاسية و جافية، مهددة للتقدم والتنمية والسلم الاجتماعي.

لا أريد، هنا، في هذه المقالة أن ادرس مشروع القانون المطروح للمناقشة فأنا لا احمل رؤية قانونية تساعدني في البحث والدرس، لكن بإمكاني المساهمة، بتواضع تام، في إلقاء بعض الضوء عما تقدمه بعض التجارب عن ألوان الحديث بشأن الفجائع التي أحدثتها بعض الأحزاب الدينية، المتطرفة وغير المتطرفة، من تلك التي سيطرت على الحكومات والبرلمانات في بعض البلدان، خاصة في إيران والعراق وباكستان وغيرها.
أقول ، أولا، أن من حق كل إنسان متدين أن يكون سياسيا مستقلا أو منتميا إلى حزب معين يجد فيه نفسه مع أهدافه، أو أنه يجد في برامج حزب ما مستجيبة لبعض طموحاته. وقد كنتُ قد صحبتُ الحياة الحزبية منذ أوائل فترة فتوتي وشبابي حيث أنفقتُ فيها الكثير من أوقات الليالي والأيام منذ عام 1952 حتى اليوم متابعا الحياة الحزبية العربية وصراعاتها كلها وانقلاباتها العسكرية الدموية، التي وفرتْ عندي رؤية ً خاصة ً خلال دهر طويل كانت الأحزاب السياسية غير الحاكمة فيه قد واجهت السجون والقمع وواجه قادتها الإعدام والاغتيال إذا لم يطيعوا الأنظمة الحاكمة المتعاقبة في العراق أو إذا لم يجاروا هوى الحاكمين مجاراة العبد للسيد أو التابع للمتبوع.

أهم لذة من لذات العمل الحزبي أن يكون الحزب الذي ينتمي إليه الإنسان منسجما مع روح المواطنة ومستصحبا للإرادة الوطنية، القادرة على جعل العراق بلدا متطورا للعراقيين جميعا، وأن يستكشف هذا الحزب الوطني أو ذاك أسرار حب العراقيين لوطنهم ، وأن يكون نشاط حزبهم مكرسا بالدرجة الأولى لحب الوطن ، كله، والإقبال على النشاط والتضحية من اجل جميع العراقيين مهما كانت أديانهم وقومياتهم.

المعنى الأول في التجارب الحزبية العراقية تثير لدى كثير من السياسيين العراقيين، بدون شك، ما ورد في (الفقرة الثانية) من (المادة الخامسة) من مشروع قانون الأحزاب السياسية حيث تقول الفقرة (لا يجوز تأسيس الحزب على أساس العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التعصب الطائفي أو العرقي أو القومي..). لقد افلح واضع مسودة المشروع ، هنا ، في هذه الفقرة ، بقطع الاتصال بين الطائفية والاثنية والعرقية وبين التشكيلات الحزبية. هذا أمر ايجابي فيه جوهر العزل بين الحب والبغض ، وبين الصراع والمنافسة، عما تأتي به التكتلات الطائفية والعرقية مما ينمي روح الإقبال عند المواطنين الحزبيين على نشر وتنمية المواقف الوطنية المشتركة، لكن ما يجب الإشارة إليه هو النقص في الفقرة الثانية من المادة الخامسة، حيث كان يجب الاسترسال فيها لتشمل عدم جواز تأسيس الأحزاب على أسس دينية أيضا، كي يكون القانون مبنيا على نسقٍ منسجمٍ مع جوهر مبادئ الوطنية العراقية، التي لا تفرق المواطنين على أسس دينية أو طائفية أو عرقية وهي أسس مقطعة لأهل الوطن ومفرقة بينهم ، شئنا أو أبينا، إذ أن من أهم واجبات المشرع أن لا يكره المسلم على العراقي المسلم أن ينتمي إلى حزب ديني إسلامي وأن لا يكره المسيحي على الانتماء إلى حزب مسيحي، وان لا يكره الازيدي أو الصابئي على الانتماء إلى حزب ازيدي أو صابئي. بهكذا إكراه يتواصل (العصيان) و(الطاعة) عند المواطنين حسب الأصل الديني، وليس حسب قواعد العيش المشتركة بوطن واحد وبأرض واحدة فيتنازع المواطنون، سياسيا ودينيا، في شئون الوطن الواحد ليدخلا في عناد وممانعة وإكراه بما يتعلق ببرامج وخطط البناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي التي تمليها مصلحة واحدة هي مصلحة الوطن الواحد. من مخاطر تجارب الأحزاب الدينية في كل بلد هي أنها تخلق الأسس الفكرية لخلق الجموح لدى أعضائها. الجموح في المواقف، والجموح في الشعارات، والجموح في السجايا السياسية. لنا من تجارب الأحزاب الإسلامية في إيران وأفغانستان وباكستان وفي جميع البلدان العربية أنفع الدروس حين أثقلت نفسها ، بقيود المواقف الدينية الجامحة ،على حساب المواقف الوطنية، مما اوجد كلفة سياسية بظهور تيارات (تنظيم القاعدة) الذي أشاع القتل والإرهاب والعنف ضد الأديان الأخرى وحتى بين طوائف الدين الإسلامي نفسه. كما أشاع عوامل قائمة على تنمية الصراع بين المواطنين على اختلاف أديانهم، التي هي بالضرورة مقيدة بالضمير الطائفي، كما هو الحال في العراق وسوريا وإيران وغيرها ، حتى وان سطر قادتها بأقلامهم على ورق برامجهم أنهم ليسوا طائفيين. كما انه لا يمكن وقف انطلاق العقال الديني من موقعه لدى المتطرفين الدينيين بوجه الآخرين مثل ما حصل في مواقف بعض المنظمات الدينية الإسلامية السرية في مصر إزاء القبطيين.

كان شيئا رائعا وفياضا ، حين أقرت لجنة صياغة قانون الأحزاب السياسية الجديد في مصرـ بعد بضعة أيام فقط من عملية تغيير النظام وليس بعد ثمانية أعوام كما حصل في العراق ـ بأن يكون (عدم إنشاء الأحزاب على أساس ديني أو فئوي أو جغرافي …) وكل ذلك بجمل واضحة لا لبس فيها .
أهم شيء في تشريع قانون الأحزاب السياسية هو أن لا يكون محمولا بأي شكل من أشكال القيود على الحرية ولا بأي شكل من أشكال ارتداء الحزب السياسي ثوبا دينيا أو بأي شكل من أشكال تأسيس حزب ما على الأرض بأقدار الدين النازل من السماء..! يجب أن لا ينسب الحزب السياسي نفسه إلى أي إله ولا أن يضع نفسه متميزا عن الآخرين ، فالسياسيون لهم شئون الحزب ولرجال الدين شئون الدين.
يجب تلافي كل أخطار الانقسام الاجتماعي حين لا يخل النظام الداخلي لآي حزب من الأحزاب بحرية الانتماء الحزبي لجميع أعضائه. هنا في التجارب الأوربية، في هولندا مثلا، يتعايش المنتمون في الأحزاب من دون أن يعرف احدهم دين الآخر. يتعايش المسيحي والمسلم واليهودي واللاديني في الحزب الواحد ، بل حتى أن الحزب الديمقراطي المسيحي الهولندي يقبل المسلمين في عضويته ويوجد عضو مسلم في البرلمان الهولندي ممثلا للحزب المسيحي. كذلك يحصل الحزب على أصوات الكثير من المسلمين في الانتخابات البلدية والبرلمانية ، كما أن هذا الحزب هو أول من دعا الأوربيين إلى الاعتراف بالإسلام كدين، ودعا المنظمات الإسلامية إلى السعي نحو ذلك من خلال المحكمة الأوروبية لإيجاد المكانة الدينية للإسلام في أوروبا. كما يتعايش في الحزب المسيحي هولنديون أصليون وبجانبهم هولنديون من أصول عراقية وإيرانية وتركية ومغاربية وافريقية وعشرات أخرى من الجنسيات، كلهم يعملون ويواظبون بالعلم والنقد البناء على تطوير هولندا. لا تمنع قوانين الأحزاب حق احد في الانتماء لأي حزب إذا ما توفرت فيه شروط الانتماء ليس فيها أي تصور عن الأصل الديني أو القومي.

المطلوب من مشرعي قانون الأحزاب العراقية أن يستفيدوا من تجارب التاريخ الإسلامي كله إذ نحن الآن نتعايش في ظل تجارب جديدة مفعمة بهمةٍ إنسانيةٍ جديدةٍ، آمالها متغيرة من عام إلى عام. هي همة وآمال إنسان القرن الحادي والعشرين وهو إنسان يرى انه منتسب إلى الإنسانية في نشاطه اليومي وأنه بحاجة إلى مروءة ونجدة وحسن بلاء الآخر في العمل الوطني المشترك، مهما كان دين الآخر وعقيدته.
نحن في عصر جديد قائم على العلم والتكنولوجيا، بهما فقط يتطور الإنسان والمجتمع والعالم، بهما فقط يتم القضاء على فقر الناس وآلامهم وعذابهم، بهما فقط يستقر الناس بحالٍ حسنٍ مؤهل للتطور، يستطيع فيه كل فرد، وكل مجتمع، أن يتطلع إلى المجد الاجتماعي والثقافي وأن يشق طريقه إلى حياة أفضل.

الأرجح والناجح أن يحرص مشرعو قانون أحزاب العراق الجديد على ضم النخب والجماهير الشعبية من العلماء والأدباء ومن أصحاب المعارف السياسية والاجتماعية وان لا يلتمس في ذلك أي عذر لتأسيس أحزاب قائمة على عقيدة دينية أو على العشائرية البدوية، حيث توضع أسس الصراعات بتكتم أو تحفظ أو بصورة علنية ، خاصة إذا ما علمنا أن الكثير من الجماعات الإسلامية تندفع نحو تأسيس أحزاب إسلامية قد تحاكي ما جرى خلال أزمان الدول الإسلامية الأولى والأموية والعباسية في مكة و الكوفة والشام والبصرة والقاهرة والأندلس وغيرها من صراعات إسلامية دينية ومذهبية وحزبية تحكمت فيها القبائل المسرورة بالانقسام الاجتماعي وأضرت بالشعراء المحزونين من أمثال الفرزدق والطرماح وذي الرمة وأبي نواس وأبي تمام وأبي العلاء وأبي الطيب المتنبي.

ينبغي أن يؤسس قانون الأحزاب قاعدة اجتماعية – سياسية رصينة تكون من صالح الأدوات الفعالة في صياغة معنى وانجازات العملية السياسية، بصورة يتعاطف فيها الجميع، بحرصٍ جماعيٍ شديدٍ، على بناء وطن جديد ليكون من أكارم وأفاضل الأوطان بتقديم تجربة سياسية للبلدان المجاورة لا يشك احد بديمقراطيتها إذ لا يكيد فيه حزب ما لحزب آخر ولا يرى فيه موئلا لطائفة أو دين ينافس أو يصارع طوائف واديان أخرى. نحن الآن في عصر يشرع به قانون الأحزاب السياسية ينبغي أن ندرج في نصوصه أرقى وأبقى وأقوم المبادئ المتعلقة بحقوق الإنسان، شاملا أوسع وأعمق واصدق المفاهيم عن الحرية القادرة على توفير حركة الانتساب إلى العصر الحديث من دون أي مظهر من مظاهر التعصب الطائفي والديني والاثني لتحقيق القيم المعاصرة والتاريخية التي يصبو إليها العراقيون جميعا.

* بقلم : د. جاسم المطير *