أهم التفسيرات القانونية لظاهرة الجريمة

المحامي غياث ابو ردن

التفسيرات الأولية لظاهرة الجريمة انطلقت قبل ظهور العلم بوجود قوى خارجية غير مرئية حيث كان ينظر للمجرم في غابر الزمن باعتباره شخصاً تمتلكه روح شريرة وهذا التفسير ظل حتى وقتنا الراهن متنامياً في المجتمعات التي يسود فيها السحر حيث يفسر العمل الجرمي وانحراف السلوك إلى إغراءات شيطانية أو عفاريت تسيطر على عقل الإنسان وروحه ويكمن الخطر في هذا التفسير لعدم عد المجرم مسؤولاً عن جريمته

مما خلق ما أطلق عليه التفسيرات الطبيعية كرد فعل على التفسيرات الغيبية حيث اعتبرت أن الأفكار والأحداث الموضوعية والعلاقات القائمة في الواقع الذي يعيشه الفرد هي المسؤولة عن ذلك وبظهور علم الجريمة الكلاسيكي جرى تحول بشأن فهم الطبيعة البشرية الذي أكد على أنها تمتاز بصفتين هما العقلانية والذكاء واللتين تمكنان الفرد من اتخاذ قراراته وما تنطوي عليه من أفعال وفقاً لمصالحه ولذلك صار الإطار المرجعي يعزو الجريمة والانحراف للإنسان نفسه وليس إلى غيره فكان أن ظهر القانون الجنائي … غير أن استبيان القرن الماضي أوج ما أطلق عليه الفكر النقدي في السياسة والتربية والاقتصاد والاجتماع والقانون تجنب أصحابه إشكالية ما إذا كان سلوك الإنسان حراً أو حتمياً ليتم التركيز على أهمية مساهمة الفرد في صنع عالمه الاجتماعي وهو ما يؤكد أن الجريمة مجرد بناء اجتماعي وأن المجتمع وضع تعريفاً لها وبذلك يختار مجموعة من الأفعال والأفراد يجعلها موضوعاً لتعريفاته وهو متوقف ذاتي فالجرائم وصفات المجرمين تتحدد قانوناً وليس بناء على وجهات وخلفيات المجرمين واعتبر البعض أن مفاهيم الجريمة والمجرمين ما هي إلا وصمات أو مسميات تحتوي على أفعال محددة وأفراد محددين ولعل ميزة هذا المنهج النقدي تمكنه من تحويل التفكير باتجاه دراسة معنى الجماعة وآثارها السلبية في الفرد والمجتمع والتوجه لدراسة مجموعة العمليات التي يمارسها المجتمع تجاه مجموعة من الناس والأفعال الكيفية التي يصبح من خلالها هؤلاء مجرمين قد طرح جليسر نظرية حديثة ضمن كتابه الجريمة ضمن عنوان التوقع المخالف .. رأى فيها أن الإنسان يعيش في بيئة اجتماعية ويرتبط بصداقات مختلفة ويتعرض لقيم ثقافية متنوعة ومن خلال ملاحظاته وخبراته حيث يعرف ما هو الثواب والعقاب وبالتالي يختار الجريمة بناء على عملية وجود الفرص وتقييم الربح والخسارة وأن كل ذلك يكون متعلّماً ومتوقعاً من البيئة التي يعيش فيها .‏

هذه المعطيات والتحليلات التي تنامت وتطورت نتيجة البحث والتدقيق تدفعنا اليوم للوقوف على معدلات انتشار الجريمة وآليات ارتكابها بالرغم من تشدد القوانين في قمعها والحد من انتشارها أو حتى اكتشافها وإذا ما كانت تلك الأمور مجتمعة لدينا تجعل تلك المعدلات في حدودها الدنيا وعدم وجود الجرائم المنظمة بشكل عام لكن هذا لا ينفي وجودها أو يقلل من احتمالات انتشارها بتأثير عوامل مختلفة لعل أبرزها غياب الدور الأسروي المنطلق من الوعي المستند للثقافة العلمية والاكتفاء بأسلوب الزجر والنهي العنيف مما يولد تمرد الفرد على واقعه بالنظر لتصعيد الميل العدواني الداخلي للفرد وانطلاقاً من تأقلمه مع مفهوم الثواب والعقاب الذي يأخذ الجانب المادي أو الجسدي ولا شك أن لوسائل الإعلام الدور الأبرز في رصد حالات الجريمة وتحليل أبعادها النفسية والاجتماعية لتوضع أمام القارئ بقالب يمكنه من التزود بآليات الدفاع المعرفية والسلوكية والثقافية لتكون بمثابة مسافة أمان بينه وبين طريقة الانحراف أو الغوص في عالم الجريمة وهنا يأتي دور المؤسسات الأخرى كوزارة الداخلية والعدل والمؤسسات الأهلية لتكمل هذا الدور باعتبارها على تماس مباشر مع المجتمع ولها سلطة في وضع الضوابط وتزويد الإعلام بالحوادث والقضايا المنظورة أمامها أو التي تم الإحاطة بخيوطها لتكوين ما يمكن تسميته ببانوراما الوعي التكاملي يأتي فيما بعد التشدد في الرقابة الاحترازية على سلوكيات ونشاطات شرائح مختلفة من الأفراد وخاصة ارتيادهم للأماكن المشبوهة بالنظر لما تحتويه تلك الأماكن من مناخات ملائمة لتنمية سلوك الانحراف المبني على تغيير أنماط الحياة والعادات التي غالباً ما تحتاج للمال للبقاء داخلها وهو ينتج بالمحصلة السعي لكسب المال بأية طريقة وطبعاً لن تكون الوسائل مشروعة أو قانونية … إن ما بين أيدينا من قضايا ومواضيع حول ما تم ذكره يدعونا للحسرة والأسف لكون مرتكبي كثير من تلك الحوادث هم ضحايا جهلهم أو عدم توازنهم النفسي أو ضحايا مجموعات أقحمتهم في ذلك الأتون فانقادوا له وأصبحت الجريمة سلوكاً ممارساً دون أن يجدوا البيئة الصالحة أو اليد الخبيرة لانتشالهم من ذلك المستنقع فدفعوا ثمن أفعالهم وإذا كان الندم هو لسان حالهم أمام المحكمة فإن ذلك قد يبدو العلاج إذا ما تم تأهيلهم وإعادة غرس البذرة الخيرة فيهم مجدداً ولا شك أن القانون وروحه وتشريعاته يظل الأمل والهدف الذي يصبو إليه صلاح المجتمع .‏