بحث قانوني كبير حول سمو المعاهدات الدولية على النظم القانونية الداخلية

زهير المالكي

تمهيد

ان مسألة اولوية المعاهدات الدولية وسموها على النظام القانوني الداخلي ومن ثم انفاذها في النظام القانوني الداخلي تثير من الناحية القانونية مشاكل كثيرة وخاصة على صعيد فقه القانون الدولي وفقهاء القانون الدولي متفرقون بخصوص هذه المسألة حيث ظهرت مدرستين الاولى التي تنادي بوحدة القانون والثانية بثنائية القانون والتي انقسمت بين المنادين بعلوية القانون الدولي على النظام القانوني الداخلي , والمنادين باعتبار ان النظام القانوني الداخلي يعلو على النظام القانون الدولي , وظهر فريق أخر يدعوا الى نظرية وسطية بين هاتين المدرستين , حيث ان المعاهدات الدولية تعتبر من اهم مصادر القانون الدولي وان مسألة ادخالها الى النظام القانوني الداخلي يعد من الامور الجوهرية والحساسة تستلزم ان نقوم بدراسة معمقة في هذا المجال

المبحث الاول : العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي

يسود الفقه الدولي في شأن تحديد العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي، نظريتان مختلفتان، تقوم إحداهما على فكرة ازدواج القانونين التي تنكر أية صلة بين القانونين الدولي والداخلي، واستندت الأخرى إلى فكرة وحدة القانون التي تعترف بوجود صلة وثيقة بين القانونين وتوجب تغليب قواعد إحداهما على قواعد الآخر عند التعارض( ).
اختلف الفقه الدولي بشأن العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي , فان لهذه العلاقة بعدان احدهما مادي والاخر شكلي ” فمن وجهة النظر المادية فهي تعني تحديد العلاقات القانونية التي يحكمها القانون الداخلي كمسائل الجنسية والتنظيم الاداري للدولة, وتلك التي يعني بها القانون الدولي كقواعد الحرب والحياد وتحديد المياه الاقليمية “( ) اما من الناحية الشكلية فهي تختلف من حيث اجراءات وضع كلا القانونين من حيث تدرج القواعد القانونية عما اذا كان القانون الدولي يسمو او يعلوعلى القانون الداخلي , وكذلك حول مدى تطبيق القاضي الوطني لقواعد القانون الدولي ( ).” فبغية تأكيد مكانة القانون الدولي في نظام قانوني داخلي معين يمكننا ان نلاحظ تأثيرا واضحا للنظريات الفقهية التي عنيت ببحث العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي على الحلول التي تبنتها بعض الدساتير” ( ).

رغم الخلافات الفقهية وعدم الاتفاق على مبدأ واساس قانوني في هذا الموضوع , حاول هؤلاء الفقهاء ومن خلال نظرياتهم الفقهية من توضيح العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي ,وقد اسهم هؤلاء في ارساء مبادئ اساسية في القانون الدولي من خلال تحليلهم لطبيعة كلا القانونين , ورغم اختلاف النظريتين الفقهيتين لكن من الممكن معرفة الصلة والاساس القانوني الذي تستند اليه قواعدهما ( ).
النظرية الثنائية بحسب ماجاء بهذه النظرية التي يشايعها فقه المدرسة الوضعية الارادية ( تربيل وانزيلوتي ) في القانون الدولي العام , حيث يعتبر كلا النظامين القانونين الدولي والداخلي مستقلين عن بعضهما بصورة تامة سواء من حيث اشخاصهما , او مصادرهما , او التنظيم القانوني لاي منهما , او العلاقات التي يحكمها كل منهما ( ).ويتبع هذا الاختلاف ان لكلا النظامين القانونين دائرة سلطان خاصة بهما , حيث اذا تعارضت قاعدة داخلية مع قاعدة دولية تقيد القاضي الوطني بتشريعات قانونه الداخلي لانه يستمد سلطاته واختصاصه منها من حيث المبدأ , وبالمقابل نتيجة لهذا الامر يترتب على الدولة ان تراعي تطبيق قواعد القانون الدولي من خلال تشريعها الداخلي ( ).

ووفقاً لهذه النظرية يمكن تطبيق قاعدة قانونية دولية في نطاق القانون الداخلي ويحكم العلاقات الخاصة بالافراد , وذلك من خلال اتخاذ السلطة العليا في الدولة الاجراءات القانونية لانفاذ هذه القاعدة الدولية .وقد كان من الطبيعي ان توجد صلة قانونية بين هذين القانونين في حدود قواعدهما القانونية حيث لاتستطيع الدول ان تعيش دون قانون دولي ينظم علاقاتها مع بعضها ولايكون القانون الدولي فوق ارادة الدولة فهو يقوم على” المبدأ الرضائي” وتحقيق مصالحهما( ).
فقد يخاطب القانون الدولي الافراد في اطار القانون الداخلي كما هو الامر في مجال حقوق الانسان . بمعنى أن الشخص الطبيعى من الممكن أن يكون موضوعاً فى ذات الوقت لكل من القانون الوطنى ولأحكام القانون الدولى بوصفه عضواً فى المجتمع الدولى، وأن الفرد هو المصدر الحقيقى لسلطه الدولة ، ذلك أن التطورات التى طرأت على المجتمع الدولى قد وسعت من دائرة اختصاص القانون الدولى من حيث أشخاصه حيث أصبحت التنظيمات الدولية والأفراد من بين الأشخاص الذين يتوجه اليهم بالخطاب، ويخضعون لـه فيلتزمون بأحكامه بما توفره لهم من حقوق ومزايا وما تلقيه فى الوقت نفسه على كاهلهم من واجبات وإلتزامات ) (.

ويعبر الأستاذ كيلسن عن هذا الاتجاه بالقول بأن هناك الكثير من النصوص القانونية الواردة فى المعاهدات الدولية والأحكام الراسخة فى العرف الدولى تتجه مباشرة بالخطاب إلى الشخص الطبيعى وخاصة فيما يتعلق بالنصوص ذات الطبيعة الإنسانية التى تهدف إلى إصباغ الحماية على حياة الإنسان( ).وهكذا ووفقاً لهذا الاتجاه فمن المتصور وجود حالات أخرى للمسئولية الدولية منها المسئولية الجنائية للفرد على الصعيد الدولى باعتباره محوراً جديداً يبنى عليه القانون الجنائى الدولى بعض أحكامه وقواعده( ).

نظرية الوحدة او مذهب وحدة القانونين : على نقيض المذهب السابق , فقد كرس انصار مدرسة الوحدة افكارهم بما يتفق مع الاتجاه الموضوعي في تفسير مايتمتع به القانون الدولي العام من وصف الالزام , وقد استعرضت نظريتها باسلوبين متميزين , احدهما اجتماعي وعلى راس القائلين به الفقيه الفرنسي الشهير (جورج سل ) , والاخر مرتبط بفكر مدرسة القانون الخالصة ومن اشهر زعمائها الفقيه (كلسن) وسائر زعماء المدرسة النمساوية امثال الفريد فون فردروس ( ) .
اما منطق هذه النظرية ( نظرية وحدة القانون ) فيقوم بالضد من النظرية الثنائية , على ادعاء وحدة تامة بين النظامين القانونين الدولي والداخلي انطلاقا من معايير مختلفة تستند اما للضرورة الاجتماعية ( سيل ) او التحليل المجرد للقانون ( كلسن ) ( ) , وقد ذهب بعض انصار مذهب الوحدة الى اعتبار النظام القانوني الدولي هو الجزء الاسمى من قانون الدولة فهو يعلو القانون الداخلي ويفضله ( ) .

والفكر السائد في فقه مذهب الوحدة يشدد على ارجحية النظام القانوني الدولي على النظام القانوني الداخلي بمعنى ( الوحدة مع سمو القانون الدولي )
ان النظريتن الفقهيتين لم ترجح احداها على الاخرى لما لها من اسس تبني عليها اسانيدها , وكل ذلك يتطلب البحث في مدى تاثير تلك النظريات في الاطارالدولي وما يترتب عليها من نتائج عملية, وسوف نبحث ذلك الامر من خلال العمل الدولي والقضاء الدولي ومدى اهمية قواعد القانون الدولي والمكانة التي يحتلها على مستوى الانظمة القانونية المختلفة .

ان هناك بعض من الدول تعتمد مذهب ثنائية القانون مثل ( فرنسا قبل عام 1940 وبريطانيا والكويت والاردن ) حيث يتطلب اتخاذ اجراءات من قبل السلطة التشريعية او رئيس الدولة لانفاذها الى النظام القانوني الداخلي ( ) .في حين ان هناك بعض من الدول ترتكز على مذهب الوحدة حيث تطبق المعاهدات وتنفذ في النظام القانوني الداخلي من غير اجراء قانوني تتخذه الدول وذلك حسب الاوضاع الدستورية لكل دولة , مثلا في فرنسا تسري المعاهدات الدولية التي صادقت عليها وفق النصوص القانونية الداخلية المتبعة فيها وذلك وفقا لنص ( المادة 55 من الدستور الفرنسي لعام 1950) ( ) .

يؤكد العمل الدولي على اهمية قواعد القانون الدولي ويشغل هذا القانون المذكور مرتبة الصدارة لما تتسم به من قواعد عرفية امرة والجدير بالذكر ان ميثاق الامم المتحدة لم ينص بشكل صريح على اولوية النظام القانوني الدولي , انما قد يفهم ضمنا انه يؤكد هذه الفكرة من خلال ما جاء في مقدمته ونص على انه يجب احترام الالتزامات الدولية الناشئة من مصادره الشكلية (المعاهدات الدولية ) والاعراف الدولية التي اصبحت قواعدها امرة نتيجة تكرار الدول على تطبيقها . وقد رضت الدول الاطراف في اتفاقية فينا لقانون المعاهدات لعام) 1969( بسمو القانون الدولي التعاهدي , حيث نصت المادة 26 من الاتفاقية ” توجب على الدول الاطراف في المعاهدة تنفيذها بحسن نية ” وطبقا للمادة 27 من الاتفاقية المذكورة ” لايجوز لطرف في معاهدة ان يحتج بنصوص قانونه الداخلي كسبب مبرر لاخفاقه في تنفيذ المعاهدة …الخ ” ( ).

لقد جرى العمل الدولي باحترام القواعد الدولية الاتفاقية واضفاء صفة الالزام عليها لما لها من سمو على باقي القوانين الداخلية , واليوم نشهد ثورة تغير في الاوساط الدولية تبررها مصلحة الدول الكبرى لتحقيق رغباتها السياسية حسبما تراه مناسبا ووفق مصالحها العليا , ولا تستطيع الدول القفز فوق هذه الاحكام الدولية , ولم يكن ذلك وليد اللحظة فقد ترعرت تلك المبادئ منذ وقت طويل اي عندما ظهرة فكرة التنظيم الدولي وظهور الهيئات الدولية كل حسب اختصاصها لتوطيد العلاقات فيما بينها ( ).
يرى أحمد سرحال فيما يتعلق بترجيح إحداهما على الأخرى إلى القبول والأخذ بنظرية وحدة القانون، إذ لا يمكن حسبه الإقرار برفعة القانون الوطني وبالتالي سمو المجتمع الداخلي على الدولي وإعطاء الأولوية للدول، لأن ذلك يعني السيرنحو مجتمع الفوضى والتنافر في ظل غياب الإطار التنظيمي، ويضيف أن الأمل يتقدم بالبشرية وانتظامها في مجتمع دولي تكاملي يجب أن لا يفقد، ولتحقيق هذا الأمل يرى أن الحل الوحيد هو القبول بأولوية القانون الدولي وفي النهاية يرى أن مثل هذا الموقف يجاري العقل والمصلحة الاجتماعية ( )

بالنسبة للقضاء الدولي فمن خلال الممارسات والاجتهادات القضائية والهيئات التحكيمية الدولية وأصدرت العديد من القرارات القضائية والاراء الاستشارية والفتاوى بهذا الخصوص , ومن الجدير بالذكر ان القضاء الدولي يعمل بتاكيد سمو القانون الدولي على النظام القانوني الداخلي والقانون الدستوري حسب كل قضية وملابساتها , فالقاضي الوطني يلتزم بالنصوص القانونية المتوفرة لديه عندما يكون امام قضية تحتاج الرجوع فيها والحكم بها وفق قواعد القانون الدولي , لذلك هو لايستطيع الفصل بالدعوى الا اذا كان امامه قوانين نافذة يستند اليها لحل النزاع المعروض امامه.

وقد استقر القضاء الدولي على سمو القانون الدولي على قواعد النظام القانوني الداخلي الدستورية منها اوالتشريعية وكذلك سمو القانون المذكور على القرارات الادارية والقضائية ( ) وهذا ماتؤكده محكمة عدل الاتحاد الاوربي (محكمة لوكسمبرغ ) على نفاذ قانون الاتحاد (القانون الاوربي ) والمعاهدات المنشئة له والقرارات التي تصدر من مختلف افرع الاتحاد في النظام القانوني الداخلي للدول الاعضاء فيها ولا تحتاج الى اتخاذ اجراءات قانونية معينة لتحويلها الى قواعد قانونية داخلية ومعنى هذا انها تسمو على كافة الانظمة القانونية الوطنية , وقد اكدت على ذلك ايضا محكمة العدل الدائمة للعدل الدولي في قضية عرضت امامها بشان “معاملة المواطنين البولنديين ” في دانزغ عام 1932 وقد خلصت المحكمة في رأيها الاستشاري بخصوص الرعايا البولنديين الى وجوب تطبيق الاتفاقية المعقودة بين بولندا ودانزغ عليهما , حيث لا يطبق على المواطنين المذكورين اعلاه القواعد الدستورية المنصوص عليها في دستور دانزغ ( ) .

وقد اكدت المحكمة المذكورة اعلاه في قضايا عديدة انها تستند الى مبدأ سمو النظام القانوني الدولي على النظام القانوني الداخلي ومن بينها قرارها بشأن قضية ” المصالح الالمانية في سيلزيا العليا البولونية ” , وقد سارت محكمة العدل الدولية على نفس الفكر والنهج الذي عملت به محكمة العدل الدائمة من حيث تأكيدها على اولوية قواعد القانون الدولي الاتفاقية في قضايا عديدة منها الواقعة المتعلقة واكدت المحاكم الدولية ذلك بالعديد من قراراتها واراءها الاستشارية ومن امثلتها ماخلصت اليه محكمة العدل الدولية في قضية ( Nottbohem ) عام 1955 بين لينختنشتاين وغواتيملا, فقد قضت المحكمة المذكورة انطلاقا من اساس القانون الدولي بان الالماني الاصل الذي حصل على جنسية لنختنشتين لايستطيع الاحتجاج بها في مواجهة قانون غواتيمالا وليس لها اثر قانوني على الصعيد الدولي لانه لايحمل الجنسية الفعلية حسب وجهة نظر غواتيمالا, وبناءا على ذلك حكمت المحكمة لصالح غواتيمالا التي رفضت الاعتراف بجنسية الشخص المذكور والممنوحة له من قبل لينخشتنشتاين .

ومن خلال هذه المواقف الدولية نرى ان القانون الدولي يسمو على النظام القانوني الداخلي , لكن لا ننكر ان كل ذلك يعتمد على ارادة الدولة التي ارتضت الالتزام بهذا الاتفاق الدولي , ويترتب على ذلك عدم الاخلال بتلك التعهدات الدولية وتنفيذها بحسن نية .
وتوجد تطبيقات قضائية دولية تبنت مبدأ سمو القانون الدولي على القانون الداخلي واسهمت العديد من هذه القرارات التحكيمية والاراء الاستشارية لايجاد قاعدة اساسية تشكل هرمي قانوني تستمد الدول منه التوجهات الفقهية باعتباره كمرجع قانوني ترتكز عليه لحل المسائل القانونية المتعارضة ضمن اطار التنظيم الدولي .

يضاف الى ذلك ان الغالبية العضمى من الفقه الحديث تسير على مبدأ سمو النظام القانوني الدولي , على الرغم من اختلافهم الفقهي النظري حول اساس الزامه واولوية قواعده الاتفاقية والمتمثلة بالمعاهدات الدولية , ورغم كل هذا التباين في وجهات النظر واسانيدهم الفقهية من خلال نظرياتهم التقليدية والتي حاولوا فيها معرفة اساس وقوة الالزام في قواعد النظام القانوني الدولي , وقد اسهمت هذه النظريات بتحليل المصادر والاسس التي يقوم عليها هذا النظام .
ومن الواضح ان القاضي الدولي يعمل باستمرار على اضفاء طابع الالزام على قواعد النظام القانوني الدولي ولايملك القدرة على فهم القوانين الداخلية لانه يسير وفق المفاهيم القانونية الدولية والمصادر الاصلية للقانون المذكور ولا يستدرك فهم القوانين الداخلية وبشكل اساسي (الدستور) الذي يعتبر اعلى قمة الهرم القانوني ومنبع التشريعات القانونية داخل حدود الدولة .
لذا كان من المفترض والواجب على القاضي الدولي استيعاب واستدراك هذه المجموعة القانونية الداخلية لتلافي حدوث اي تضارب بين القانونين وتطبيق القانون الواجب تطبيقه في حالة نشوء نزاع بين حكم دولي وجكم وطني ومراعاة احكام كلا القانونين المذكورين عند حسم تلك النزاعات .

المبحث الثاني : اولوية المعاهدات وسموها على النظم القانونية الداخلية

من المعلوم ان المعاهدات الدولية لها قيمة قانونية على صعيد الانظمة القانونية المختلفة , ولكن هذا يسوقنا الى ان نتعرف على اهميتها واولويتها على تلك الانظمة , وهل هي بهذا المنطق تسمو على النظم القانونية الداخلية :

المطلب الاول : اولوية المعاهدات من وجهة نظر الفقه الدولي .

وفيما يخص الفقه الدولي فانه لم تنهج المدارس الفقهية مسلك موحد بشأن سمو المعاهدات على جميع النظم القانونية الداخلية , وكما اوضحنا سابقا ومن خلال استعراض النظريات الفقهية التي استند فقهاء القانون الدولي في كل نظرية على حجج تدعم اراءهم ونهجهم لاعلاء مبدا سمو المعاهدات والبحث في العلاقة بين النظامين ( الدولي والداخلي ) , ورغم التباين في الحجج والاسانيد والانتقادات التي وجهت لتلك النظريتين ( النظرية الثنائية ونظرية الوحدة ) , الا انهم اسهموا في توضيح تلك الصلة القانونية بين النظامين , وذلك وفق التحليل الفقهي والعلمي الدقيق .
وذهب في ذلك اتجاهان اثنان وهما ” مذهب سيادة القانون الوطني الذي يتزعمه الفقيه الالماني ياليناك والفقيه الروسي فيشنكي , حيث يرى الفقيهان انه في حالة التباين والتعارض بينهما فالاولوية ستكون للدولة المتمتعة بالسيادة , حيث اكدت العلاقات بين الدول سمو الدولة وسلطانها ولاسلطان يعلوها في علاقاتها مع غيرها طالما ان الرضا كان هو جوهر هذه العلاقات , اما الاتجاه الثاني فهو مذهب سيادة القانون الدولي الذي يؤكد ان القانون الدولي اسمى واشمل من القانون الوطني والتشبث بالقانون الداخلي ماهو الا تمسك بمصالح خاصة قومية على حساب مصالح الجماعة الدولية والسلام العالمي , ولايمكن ان يتحقق التعاون العالمي اذا كان كل طرف يتمسك بمصالحه من منطلق السيادة , هذا ما حذا بالكثير من الفقهاء الى تأكيد ان مذهب السيادة وسمو القانون الوطني لم يعد لهما مجال للتطبيق , لان تأكيد هذه الفكرة سيفضي الى الاستبعاد المتكرر للقانون الدولي وقواعده , ويجعل من الدول دائما في حل من التزاماتها التعاهدية ويصبح انتهاء وانتهاك المعاهدات قاب قوسين او ادنى ” ( ) .

” مع ذلك ينبغي الالتفات الى ان جمهور فقه القانون الدولي المعاصر يسلم بالاستناد الى المعيار الامبريقي ” imprique ” القائم على ملاحظة الواقع بان العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي ليست بهذا النحو من الانفصال الكامل او الوحدة التامة التي تدعيها كل من النظريتين الثنائية والاحادية ” ( )

وقد كانت افكار المدرسة الوضعية بمفهومها الرضائي والتي كان من زعمائها كل من الفقيه الايطالي انزيلوتي والفقيه الالماني تربييل تقوم على اعتبار كلا النظامين القانونين منفصلان ومستقلان احدهما عن الاخر استقلالا تاما ( )
وقد ذهب الفقهاء في البحث حول اساس القوة الملزمة لقواعد القانون الدولي الى مذهبين المذهب الارادي والمذهب الوضعي , وكان من انصار المذهب الارادي الفقيه جان جاك روسو وتقوم فكرة ذلك المذهب الى ان القانون ماهو الا تعبير عن رغبة الجماعة فهو يستند الى ارادتهم , وقد اتجه الفقهاء في تطبيق هذا المبدأ الى اتجاهين : اتجاه يستند الى الارادة المنفردة للدولة , واتجاه يستند الى الارادة المشتركة او الجماعية ( ).

اما المذهب الوضعي , حيث يميل انصار هذا المذهب الى البحث عن اساس القوة الملزمة لقواعد القانون الدولي خارج نطاق الارادة الجماعية وان هناك عوامل خارج تلك الارادة تكسب القانون الدولي صفته الالزامية وانقسم الفقه بهذا الخصوص الى فريقين : فريق تزعمه الاستاذان ” كلسن ” و ” فردروس ” وهم اصحاب المدرسة النمساوية , وفريق ثاني تزعمه الفقيه جورج سل وكان من انصار المدرسة الفرنسية ( ) .
اما موقف الفقه السوفيتي في هذا الصدد كان منهم من اتجه بمناسبة تقديم مجرمي الحرب الالمان الى المحاكمة استنادا الى تصريح لندن لعام 1945 ” الى تحبيذ علوية القانون الدولي على القانون الداخلي ” ( ).
ومازال الخلاف مستمرا حول اساس الالزام للقانون الدولي وهل هناك عوامل خارج هذا القانون حيث تعد اساس قوته الملزمة , ومهما يكن من خلاف فقهي في اساس هذ القانون فقد اكد فقهاء القانون الدولي المعاصر على اساس تمتع القانون بالصفة الالزامية وان قواعده تسمو على جميع النظم القانونية الداخلية , واساسه قائم على الرضا الصريح او الضمني للدول وبالتالي يخضع لاحكام القانون الدولي ( ) .

وخلال فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي برز موضوع العلاقة بين النظام القانوني الدولي والنظام القانوني الداخلي بشكل جديد وذلك من خلال اهتمام فقهاء القانون الدولي والقضاء الدولي , بمسألة علاقة اتفاقية روما المنشئة للسوق الاوربية المشتركة وسموها على قواعد القانون الداخلي داخل دول اعضاء الجماعة الاوربية وفقا انص المادة 189 منها , وكان لمحكمة العدل الاوربية حكم مشهور عام 1978 في مسألة تغليب احكام المعاهدة وقرارات الاجهزة الاوربية على القوانين الوطنية في الدول الاعضاء , حيث قضت محكمة العدل الاوربية ووفقا لمبدأ سمو القانون الاوربي فان احكام المعاهدة والقرارات الصادرة عن اجهزة السوق الاوربية المشتركة للجماعة الاوربية لها قوة القانون وليس فقط من اجل منع تطبيق كل نص مخالف لها في القوانين الداخلية , وانما منع اي قرارات او اجراءات قانونية في المستقبل قد تكون متعارضة مع قانون الجماعة الاوربية ( ) .
ومازال العمل الدولي يقوم على اثبات اهمية وسمو المعاهدات الدولية من خلال الاحكام القضائية الدولية الصادررة من المحاكم الدولية وكانت العديد منها تؤكد على سمو تلك الاتفاقيات الدولية وباتت هذه تكرس المبادئ القانونية الدولية في اطار النظم القانونية الداخلية .

“حيث يمكن الاشارة بنحو خاص الى امثلة محددة من القرارات والاراء الاستشارية للمحكمة الدائمة للعدل الدولي ولمحكمة العدل الدولية القائمة حاليا , حيث اكدت المحكمة الدائمة للعدل الدولي في قضية ” جامعة بيتر بازماني ” على تبنيها لمبدأ سمو القانون الدولي على القانون الداخلي ” ( ), وقد اكدت ايضا محكمة العدل الدولية في حكم صادر لها عام 1932″ انه لايمكن للدولة ان تحتج بتشريعها الداخلي لتحد من مدى التزاماتها الدولية ” ( ) , ولايستطيع القاضي الدولي , باعتباره جهاز النظام القانوني الدولي الا ان يؤكد في جميع الاحوال على تغليب قواعد القانون الدولي عرفيا كان ام اتفاقيا على النظام القانوني الداخلي , وهذا موقف ثابت يدعم مذهب الوحدة مع سمو القانون الدولي , وقد كرس اجتهاد المحاكم سيادة المعاهدة
فقد ساهمت هذه القرارات والاراء الاستشارية في معرفة اهمية المعاهدات وكيفية تطبيقها في النظم القانونية الداخلية وتحديد الالتزامات الواجب اتباعها من قبل الدول الاطراف في تلك الاتفاقيات , ويثار التساؤول اي من هذه القوانين تسمو على الاخرى من ناحية تطبيقها والاخذ بها عندما تتعارض احكام المعاهدة مع النظم القانونية الداخلية , ولمعرفة ذلك انه يجب النظر في دساتير وقوانين الدول الاطراف فيها , وايجاد التطبيقات العملية من خلال القضاء الدولي والقرارات والفتاوى التي تقضي بها في تلك المسائل المتعلقة بتطبيق المعاهدات وتنفيذها في دائرة النظم القانونية الداخلية .

المطلب الثاني : موقف الدساتير من اولوية المعاهدات

يحتل التشريع مرتبة الصدارة في تدرج الهرم القانوني ومن ضمنها القانونيين الداخلي والدولي حيث يمثل الدستور قمة مصادر التشريع الداخلي ، وتحديدا في دول الدساتير الجامدة .
فان الدستور هو الذي يبين حقوق والتزامات السلطات الثلاث الداخلية : تنفيذية وتشريعية وقضائية , عادة تختص السلطة التنفيذية بابرام الاتفاقيات الدولية , ولكن قد يشترط الدستور ضرورة موافقة البرلمان على الاتفاقية , ومن هنا جاءت ضرورة تأكد القضاء الوطني من ان الاتفاقية الدولية قد استكملت جميع الشروط القانونية التي يتطلبها الدستور لسريانها في داخل الدولة , سواء كانت تلك الشروط متعلقة بنشرها في الجريدة الرسمية وفقا للقانون , او متعلقة بضرورة موافقة البرلمان على الاتفاقية ( )

لقد شغلت اشكالية ملائمة الاتفاقيات الدولية مع النصوص التشريعية الوطنية وتطبيقها في النظم القانونية الداخلية اهتمام العديد من الفقهاء والمتخصصين في مجال القانون الدستوري , وقد اختلفت الدساتير الوطنية في تعاملها مع هذا الموضوع يتجاذبها اتجاهين فكريين مختلفين : الاتجاه الاول , يرى ان كل الاتفاقيات مقبولة وتدخل بصورة تلقائية في النظام القانوني الداخلي ما لم تتعارض مع الثوابت الوطنية وخاصة تلك التي تتعلق بمبدا السيادة وبشكل يحفظ خصوصية الدولة ويرىهذ التوجه ان التوازن ضروري حيث يقر بضرورة الانفتاح على القوانين والمواثيق الدولية ولكن بشكل يضمن الحفاظ على السيادة الوطنية فحسب متبني هذا التوجه ان كل الاتفاقيات تعد مقبولة مالم تتعارض مع الثوابت الوطنية والخصوصيات التاريخية للدولة , في مقابل التوجه الاول برز اتجاه ثاني يدعو الى سمو المرجعية الدولية على الدساتير ويدعو الى ملائمة التشريعات الوطنية مع الاتفاقيات الدولية بغض النظر على تعارضها مع الثوابت الوطنية .

“وقد اجاب الدكتورمحمد المجذوب عن التساؤل الذي اثاره في كتابه حول مسألة تفوق القانون الدولي على القانون الداخلي قائلا : نجيب بالايجاب فان الدساتير التي صدرت بعد الحرب العالمية الاولى تؤيد مبدأ التبعية بين النظامين , غير ان قوة هذا التأييد تختلف من دستور الى اخر:

أ‌- هناك دساتير تكتفي باعلان مبدأ خضوع الدولة للقانون الدولي , او التزام الدولة قواعد هذا القانون , دون ان تحسم مسألة التراتبية القانونية بين النظامين .
ب‌- وهناك دساتير تكرس التكامل بين قواعد كل من النظامين وتفرض على المشرع الوطني تحقيق التناسق بين الاحكام الصادرة عنه وبين قواعد القانون الدولي .
ت‌- وهناك دساتير تنص على دمج قواعد القانون الدولي في القانون الداخلي وتعلن بوضوح سمو القانون الدولي , فالمادة 25 من دستور المانيا الاتحادية الصادر عام 1949 , تنص على ان ” القواعد العامة للقانون الدولي تشكل جزءا متكاملا من القانون الاتحادي , وهي تتفوق على القوانين وتنشئ مباشرة حقوقا والتزامات لسكان الدولة ” ( ).

تتباين الدساتير العربية بالنسبة لتحديد القيمة القانونية للمعاهدات الدولية ومكانتها في تلك التشريعات الوطنية فان هناك دساتير لا تحدد القيمة القانونية للمعاهدة مثل الدستور العراقي النافذ لعام 2005 والدستور اليمني لعام 1990 , والدستور الإماراتي لعام 1971, والدستور الفلسطيني لعام 2002 , والدستور اللبناني لعام 1926, والدستور السوري لعام 1973 والدستور السوداني لعام 1996 و 2005, والدستور الأردني لعام 1952 والدستور المغربي لعام 1996 ( )
وكما توجد ايضا دساتيرعربية تجعل المعاهدة ذات قيمة قانونية مساوية للقانون الداخلي اي عندما تعقد معاهدة لاحقة للقانون الوطني تتعارض معها وبالتالي تقوم بالغائه كالدستور البحريني لسنة 2002 ( يبرم الملك المعاهدات بمرسوم ويبلغها إلى مجلسي الشورى والنواب فورا مشفوعة بما يناسب من بيان ، وتكون للمعاهدة قوة القانون ……) , والدستور الكويتي لسنة 1961 ( يبرم الأمير المعاهدات …….. وتكون للمعاهدة قوة القانون بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها في الجريدة الرسمية …….) ( )

والنظام الأساسي العماني لعام 1996 ( لا تكون للمعاهدة والاتفاقيات الدولية قوة القانون إلا بعد التصديق عليها…..) , والدستور القطري لعام 2003 يبرم الأمير المعاهدات والاتفاقيات بمرسوم ، ويبلغها لمجلس الشورى مشفوعة بما يناسب من بيان , وتكون للمعاهدة أو الاتفاقية قوة القانون بعد التصديق عليها ونشرها في الجريدة الرسمية….. ) , والدستور المصري لعام 1971 ( رئيس الجمهورية يبرم المعاهدات ويبلغها لمجلس الشعب مشفوعة بما يناسب من بيان , وتكون لها قوة القانون بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها وفقا للأوضاع المقررة ….)( )

وهناك اتجاه اخر من الدساتير التي تضع المعاهدة في مكانة اسمى من القانون الداخلي واقل مرتبة من دستور الدولة ما يعني أن المعاهدة التي استوفت الإجراءات القانونية والمخالفة للقانون الوطني تنتهي بالضرورة إلى تعديله ، ومن بين الدساتير العربية التي تبنت هذا الاتجاه الدستور الموريتاني الملغى لعام 1991( المعاهدات والاتفاقيات المصدقة أو الموافق عليها كذلك سلطة أعلى من سلطة القوانين وذلك فور نشرها شريطة أن يطبق الطرف الثاني المعاهدة أو الاتفاقية ) والدستور التونسي لعام 1989( المعاهدات لا تعد نافذة المفعول إلا بعد المصادقة عليها ، والمعاهدات المصادق عليها بصفة قانونية أقوى نفوذا من القوانين ) والدستور الجزائري لعام 1996 ( المعاهدات التي يصادق عليها رئيس الجمهورية حسب الشروط المنصوص عليها في الدستور تسمو على القانون ) ( )
اما بالنسبة للدساتير الغربية فانها تختلف في تحديد القيمة القانونية لقواعد القانون الدولي الاتفاقية ( المعاهدة ) حسب دستور كل دولة فان الوضع القانوني في دستور هولند لعام 1963 يختلف عن باقي الدساتير الاوربية مثل الدستور الالماني لعام 1949 , والدستور الفرنسي لعام 1958, وفيما يتعلق بالدستور الهولندي وطبقا للتعديل الدستوري الذي اقر عام 1963 يضع المعاهدة في مرتبة اسمى من الدستور, ومن الجدير بالذكر ان الدستور الهولندي لا يتضمن نصوصا تشريعية متفقة مع القواعد العرفية الدولية()

وتعد المعاهدات الدولية المبرمة في الولايات المتحدة الامريكية حسب نص المادة 6 فقرة 2 من الدستور الامريكي بمثابة القانون الاعلى للبلاد ” The supreme law of the land” وقد عملت المحكمة العليا الامريكية على التسوية بين المعاهدات الدولية والقانون الاتحادي , ويفهم من ذلك وعلى اعتبار القاعدة التي تحكم تنازع القوانين وهي قاعدة ” اللاحق ينسخ السابق ” ان القانون الذي يصدر عن الكونكرس الامريكي يمكن ان يعدل او يلغي اتفاقية دولية سابقة ( ).ويمكن القول ان القانون الدولي العرفي او التعاهدي المصادق عليه من قبل الولايات المتحدة الامريكية يعد جزءا من النظام القانوني للولايات المتحدة ( ) . اما في المملكة المتحدة يعد القانون الدولي العام من حيث الواقع في مرتبة ادنى من القانون الداخلي على الرغم من المساواة الشكلية فيما بينهما , فالمبدأ في انكلترا يقضي بان ” القانون الدولي جزء من قانون البلاد ” International law is part of the law of the land , وترجع اصول هذا المبدأ الى عام 1735 ( قضية Barbuit) وعام 1765 ( التعليقات المشهورة للقاضي Blachstone ( 1723- 1780) ويعد ذلك خطوة متقدمة ساعدت في تعزيز مكانة قواعد القانون الدولي ( ) , وقد جرى العرف في انكلترا على انه اذا كانت المعاهدة تمس الحقوق الخاصة بالافراد , او كانت تتضمن نصوص مخالفة للقانون الانكليزي , ففي هذه الاحوال ينبغي ان يستحصل الموافقة من البرلمان على تلك النصوص الواردة في المعاهدة الدولية , وتصدر هذه الموافقة على شكل تشريع او قرار يبيح تعديل التشريع بما يتفق مع نصوص المعاهدة ( ) .

ويفهم من ذلك ان الدساتير الغربية تتباين في مسألة تطبيقها لقواعد القانون الدولي , وكذلك ما تتمتع به تلك الاتفاقيات الدولية من اولوية على التشريعات الوطنية , فان هناك دساتير تنص على علو المعاهدة الدولية على القوانين الوطنية ودستور الدولة , وايضا توجد دساتير لاتجعل المعاهدة تسمو على القانون الاعلى للدولة ( الدستور) وانما تعدها مساوية لتشريعاتها الداخلية وهكذا فان الوضع يختلف حسب دستور كل دولة .

المطلب الثالث : موقف القوانين الداخلية من اولوية المعاهدات

يهتم القانون الداخلي في جميع الدول بوضع الحلول المناسبة لمشكلة العلاقة بين النظامين الدولي والداخلي , فهذه الاشكالية تعتبر بالاساس قضية خاصة بكل دولة , وتقر الدول من حيث المبدأ بالصفة الالزامية لقواعد القانون الدولي , وكثير من الدول ما تؤكد على لسان المسؤولين عن العلاقات الدولية فيها وكذلك من خلال المخاطبات الدبلوماسية الصادرة عنها بخضوعها للقانون الدولي , وقد تقر بسمو قواعد القانون الدولي على قواعد القانون الداخلي بنصوص صريحة في اتفاقية دولية ( ) , وقد نصت اتفاقية فينا لقانون المعاهدات لعام 1969 في نص مادتها تحت عنوان ” القانون الداخلي واحترام المعاهدات ” , ” مع عدم الاخلال بنص المادة(46) , لايجوز لطرف في معاهدة ان يتمسك بالقانون الداخلي كسبب لعدم تنفيذ هذه المعاهدة ” ( ), فقد اكد القضاء الدولي على مبدأ سمو القانون الدولي على القانون الداخلي في الكثير من احكامه الحديثة , فاذا حدث تعارض بين احكام القانون الدولي مع القانون الداخلي فعلى الدولة ان تتحذ الاجراءات القانونية المناسبة لحل هذه المشكلة , كان تعدل قوانينها الداخلية بما يتفق مع احكام القانون الدولي والا تحملت المسؤلية الدولية ( ) , ” ففي قضية شورزف صرحت المحكمة الدائمة بما يلي : ” مهما كان اثر القرار الصادر عن محكمة Katowice المؤرخ بتاريخ 12نوفمبر 1927 من وجهة نظر القانون الداخلي , فان هذا الحكم لايمكنه ان يزيل الاخلال باتفاقية جنيف , كما لاحظت ذلك المحكمة الدائمة في قرارها رقم 7 , ولا يستبعد من هذا الحكم احدى الاسس التي انبنى عليها ” , وقد سبق لهذه المحكمة , ان اعلنت بانه يستحيل على حكم صادر عن محكمة وطنية , ان يلغي بكيفية غير مباشرة حكما صادرا عن هيئة دولية ” ( ) .

وقد ادرجت العديد من الدساتير الحديثة الكثير من النصوص القانونية التي تؤكد على سمو المعاهدات الدولية عل القوانين الوطنية , وان مثل هذه النصوص لم يتم وضعها من اجل زخرفتها فقط وانما لغرض تسهيل ومرور المعاهدة وانفاذها ضمن نطاق القانون الداخلي , وادخال قيم جديدة قد لاتكون معروفة من قبل , مثل حماية حقوق الانسان والاهتمام ببعض فئات المجتمع الانساني الضعيقة كالمرأة والطفل وانشاء حقوق معينة في التأمين الصحي والاجتماعي وغير ذلك من الحقوق والمبادئ المدرجة في مواثيق حقوق الانسان والمعاهدات الجماعية ( ).

وقد اعتادت المحكمة العليا الامريكية على التسوية بين المعاهدات الدولية والقانون الاتحادي , فاذا طبقنا المبدأ القائل ” اللاحق ينسخ السابق ” فهذا يؤدي على ان القانون الصادر عن الكونكرس الامريكي يمكن ان يعدل او يلغي اتفاقية دولية سابقة , على ان المحاكم الامريكية الادنى مرتبة درجت على التميز بين المعاهدات القابلة للنفاذ بذاتها Self- executing والمعاهدات غير القابلة للنفاذ بذاتها , وتعد المعاهدات من النوع الاول جزءا لا يتجزأ من قانون الولايات المتحدة الامريكية , اما المعاهدات من النوع الثاني فهي لا تلزم المحاكم الامريكية قبل اصدار التشريع اللازم لتنفيذها ( ) .
” وقد اغلق الكونكرس الامريكي في عام 1988 بقانون مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في نيويورك الذي يحتضن كذلك بعثة المنظمة لدى الامم المتحدة , وذلك خلافا لاتفاقية المقر المعقودة بين الولايات المتحدة والامم المتحدة في عام 1947, وقد كانت هذه القضية محل نظر محكمة داخلية في نيويورك ومحكمة العدل الدولية ” ( )

كما اكدت المحاكم الدولية على سمو قواعد القانون الدولي على قواعد القانون الداخلي في الكثير من احكامها ,” فأن محكمة العدل الدولية الملحقة للامم المتحدة اكدت في احكامها سيادة القانون الدولي , ومن هذه الاحكام ما صدر في قضية المصايد في عام 1951 , وقضية حقوق رعايا الولايات الولايات المتحدة في مراكش عام 1952, كما اكدت المحكمة في قضية حضانة الاطفال عام 1958 ضرورة احترام التشريع الداخلي للاتفاقات الدولية , ولقد بينت بعض الاراء الفردية الصادرة في نفس القضية ان القانون الدولي يعلو على القانون الداخلي حتى في حالة تعلق الاخير بالنظام العام ” ( ) , وقد اتجهت الدول حديثا على عقد اتفاقيات دولية تنص صراحة على اولوية القانون الدولي , مثال ذلك ما تقرره المادة 3 نت الاتفاقية الفرنسية التونسية المعقودة عام 1955 من ان ” الحكومتين تقران بسمو الاتفاقيات , والمعاهدات الدولية على القانون الداخلي ” ( ) ,

الخاتمة

شكلت المعاهدات و الاتفاقيات الدولية جزءً أساسياً وهاماً من القانون الدولي العام، ودول العالم قاطبة وأصبحت جزء من النظام الدولي ولا تستطيع أن تتملص من التزاماتها الدولية كما أن الشعوب في مختلف بلدان العالم تستفيد من بعضها البعض في إطار التعاون الدولي ولها مصلحه في الحصول على حقوقها الأساسية والكثير من المصالح التي لن تتحقق إلا في أطار التعاون الدولي وتطبيق المواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان من خلال مواءمة التشريعات الوطنية مع هذه المواثيق الدولية ومع القانون الدولي بوجه عام
وقد ﺒﺤﺜﻨﺎ ﻤﻭﻀﻭﻉ ادماج المعاهدات الدولية في النظام القانوني الداخلي ، ﻭﻤﻥ ﺨﻼل ﺴﻴﺭ ﺍﻟﺒﺤﺙ ، ﺘﻭﺼﻠﻨﺎ الى ﺠﻤﻠﺔ ﻤـﻥ ﺍﻟﻨﺘﺎﺌﺞ ،ﺍﺠﻤﻠﻨﺎﻫﺎ ﺒﺎﻷﺘﻲ :

1. قاعدة القانون الدولي العام تعلو على قاعدة الدستور الداخلي ، لقد اقرت المحاكم الدولية هذا المبدأ في العديد من القرارات منها قرار التحكيم الصادر في قضية السفينة (بونتيجو) والصادر في 26/تموز/1875 بين كل من كولومبيا والولايات المتحدة الامريكية والذي ثار على اثر استيلاء مجموعة من الثوار الكولومبيين بالقوة على السفينة (بونتيجو) والمملوكة لمواطنين أمريكيين وقاموا باحتجازها في اقليم ولاية بناما الكولومبية ، وقد طالبت الولايات المتحدة الامريكية الدولة الفيدرالية الكولومبية بالتعويض ، ولكن الاخيرة احتجت بان الدستور الفيدرالي لا يعطيها الا حقاً محدداً في التدخل في الشؤون الداخلية للولايات الاعضاء . واعتبرت هذه الحكومة ان المسؤولية تقع على ولاية بناما ولم تقبل ان تتحمل عنها تلك المسؤولية ، واتفقت الدولتان بعد ذلك على احالة النزاع إلى التحكيم الدولي . وقد جاء قرار التحكيم متضمناً الاخذ بمبدأ علو القانون الدولي على دستور الدولة ، حيث اكد قرار التحكيم على ان المعاهدة فوق الدستور وان على تشريع الجمهورية الكولومبية ان يطابق المعاهدة وليس على المعاهدة ان تطابق القانون الداخلي ، وان على الدولة ان تصدر القوانين اللازمة لتطبق المعاهدات، وقد اخذت محكمة العدل الدولية الدائمة بهذا المبدأ بمناسبة الرأي الصادر عنها في الرابع من فبراير عام 1932 بخصوص معاملة المواطنين البولونيين والاشخاص الاخرين الذين هم من اصل بولوني او الذين يتكلمون لغة بولونية ، والذين يقيمون في ارض وانترج الحرة ، فقد ادى تطبيق دستور وانترج إلى انتهاك التزام دولي مفروض على هذه المدينة في مواجهة بولونيا. وذكرت المحكمة ان الدولة لا يمكنها ان تحتج بنصوص دستورها لكي تتخلص من الالتزامات المفروضة عليها في مواجهة دولة اخرى بمقتضى قواعدالقانون الدولي او المعاهدات السارية

2. المحاكم الدولية تعلو على المحاكم الوطنية ، يتحقق محتوى هذا المبدأ عندما تفصل محكمة تابعة لدولة ما في منازعات خاصة بالاجانب الذين اصيبوا باضرار ناجمة عن إعمال تلك الدولة ، حيث انه اذا صادف واعيد عرض هذه المنازعات فيما بعد على محاكم دولية فانها لا تتقيد وفقاً للعرف الجاري باحكام المحاكم الوطنية.

3. إن الاتجاه العام في دساتير الدول هو احترام تلك الدول لتعهداتها الدولية التي صيغت على شكل معاهدات او اتفاقيات دولية مما يعطي لتلك المعاهدات مكانه ساميه ضمن نطاق القانون الداخلي لتلك الدول ولكن يشترط لإعمال هذا السمو أن تكون تلك الاتفاقيات الدولية، بعد مكتملة الشروط اللازمة لنفاذها.وهذا يقتضي القيام بنشر الاتفاقيات الدولية بجميع أحكامها بعد اكتمال وجودها القانوني، مع الإشارة في قرار النشر إلى بدء سريانها على المستوى الدولي.

4. ان الاتجاه الغالب هو الاخذ بنظرية وحدة القانون وسمو القانون الدولي العام بصفة عامة على القانون الداخلي وانه في حالة التعارض بين احكام القانون الدولي مع احكام النظام القانوني الداخلي فعلى الدولة ان تعدل قانونها الداخلي بما يتفق مع احكام القانون الدولي والاتحملت المسؤولية الدولية .

المصادر

1. زيوي خير الدين، إدماج المعاهدات الدولية في النظام القانوني الداخلي الجزائري طبقا لدستور لسنة 1996، رسالة ماجستير، ( كلية الحقوق- جامعة الجزائر )، 2003.
2. يوسف علوان , محمد, القانون الدولي العام , دار وائل للنشر , عمان .
3. العنبكي , نزار , القانون الدولي الانساني , دار وائل للنشر , عمان , 2010.
4. الشافعي , محمد بشير , القانون الدولي العام في السلم والحرب , دار الفكر الجامعي , القاهرة , ط 4 , 1979.
5. ابو الهيف , علي صادق , القانون الدولي العام , منشأة المعارف بالاسكندرية , 1997,.
6. سرحان ، عبد العزيز : مبادئ القانون الدولي العام ، دار النهضة العربية ، القاهرة، 1980.
7. السعدي ، عباس هاشم ” مسئولية الفرد الجنائيه عن الجريمة الدولية ، دار المطبوعات الجامعيه ، الاسكندريه 2002″ .
8. ابو الوفا ، احمد “تعريف الإرهاب الدولى والجهود الدولية لقمعه ومعالجته” المجلس الأعلى للثقافه .
9. جرادة ، عبدالقادر صابر ” القضاء الجنائى الدولى” رسالة دكتوراه 2005 جامعه القاهره .
10. Kelsen (H) Principals of international law , 1952 . P. 212-213
11. العناني ، ابراهيم ” القانون الدولى العام ، الدولة ” الجزء الثانى 1998 .
12. غانم ، محمد حافظ “المسئولية الدوليه” القاهرة 1962 .
13. عامر ، صلاح الدين ” مقدمة لدراسة القانون الدولي ” دار النهضة العربية ، القاهره ، 2003 .
14. سلطان ، حامد ، القانون الدولي العام وقت السلم، 1974 ، الناشر دار النهضة العربية، القاهرة
15. ابراهيم , بن داود , المعاهدات الدولية في القانون الدولي , دار الكتاب الحديث , الجزائر.
16. ابراهيم , علي , النظام القانوني الدولي والنظام القانوني الداخلي صراع ام تكامل , دار النهضة العربية , القاهرة , 1997 .