بحث قانوني كبير حول التقديرات المالية و اثرها على الاحكام القضائية الشرعية

بقلم
أ . د . علي محيى الدين القره داغي

أســــتاذ بكلية الشــــــريعة بجــامــعة قــطـــر
والحـائـــــز على جائـــزة الدولة ، والخبير بالمجامع الفقهية
وعضـــــو المجلـــــــس الأوربـــي للإفتاء والبحوث
ونائب رئيس مجلس الادارة لجمعية البلاغ الثقافية ” إســلام أون لاين “

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى اخوانه من الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله الطيبين ، وصحبه الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وبعد
فإن مستجدات العصر ، ونوازله المتجددة المتغيرة تقتضي النظر الصائب ، بل وإعادة النظر بين فترة وأخرى في الأحكام القضائية الشرعية ، وذلك لأنها تتطلب العدل المطلق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .

إن أي خلل في المعلومات ، والتقديرات ، والأعراف ، والتغييرات ـ مهما كان قليلاً أو صغيراً فإنه يؤثر في الحكم الصادر بشأن القضية المعروضة ، وهذا مصداق لما أقره أهل العلم في كل التخصصات من أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، وتابع له ، وأن التصور إنما يتحقق إذا شملت المعرفة الدقيقة العميقة للجزئيات ، والوحدات والمفردات ، والروابط داخل كل جملة .
وبما أننا مأمورون في شريعتنا بالعدل مع الجميع حتى مع الأعداء ، فإن البحث عن مستجدات العصر ومتغيراته بصورة دقيقة شاملة أمر مطلوب ، تفرضه الشريعة وتقتضيه الضرورة .
ومن هنا تأتي أهمية المؤتمر القضائي الشرعي الدولي بمحاوره السبعة ، من حيث الموضوعات ، ومن حيث الوصول إلى النتائج التي تخدم القضاء وتحقق له ما يصبو إليه من تحقيق العدل الذي قامت عليه السموات والأرض ، ونزلت به جميع الشرائع السماوية .

وقد طلب مني سماحة قاضي القضاة الأستاذ الدكتور أحمد محمد خليل ، بأن أكتب بحثاً حول المحور الرابع الذي يتحدث عن التقديرات المالية وأثرها في الأحكام القضائية الشرعية من حيث تغير القيمة الشرائية للنقود ، وأثره على المهمور المسماة ، ومن حيث التداخل بين الدية والتعويضات المالية الأخرى ، وغير ذلك مما يتعلق بالموضوع ، ولم يسعني أمام هذا الطلب الكريم إلاّ الاستجابة والمساهمة ببحث متواضع يتناول هذا الموضوع ومحاوره على ضوء ما ذكره فقهنا الاسلامي العظيم ، وما يمكن أن يجتهد فيه بالنسبة للمستجدات ، والنوازل والقضايا المعاصرة ، وذلك من خلال ثلاثة مباحث تستوعب هذه المسائل .
والله أسأل أن نوفق جميعاً فيما نصبو إليه ، وأن يكتب لنا التوفيق في شؤوننا كلها ، والعصمة من الخطأ والخطيئة ، في عقيدتنا ، والاخلاص في أقوالنا وأفعالنا ، والقبول بفضله ومنّه لبضاعتنا المزجاة ، والعفو عن تقصيرنا ، والمغفرة لزلاتنا ، إنه حسبنا ومولانا ، فنعم المولى ونعم الموفق والنصير .
كتبه الفقير إلى ربه
علي محيى الدين القره داغي
الدوحة / رجب الخير 1428هـ

المبحث الأول : التعريف بالموضوع ، وضوابط التقدير :

التعريف بالموضوع :

أ ـ التقديرات :

جمع تقدير ، وله معان كثيرة ، منها : قياس الشيء بالشيء ، ومناه التدبر ، ومنها إصدار الحكم ، ومنها التروية ، والتفكير في تسوية أمر ، ومنها تبيين كمية الشيء ، وغير ذلك ،
وقد استعمل الفقهاء المقدرات في باب الجنايات ، فقالوا : العقوبات المقدرة ، وهي : الحدود والقصاص ، والديات المقدرة ، وهي : التي قدرها الشرع ، والمقدرات في مجال الأموال هي التي تتحدد مقاديرها بالكيل ، أو الوزن ، أو الذراع ، أو العدّ ، وهو ما يسمى في وقتنا الحاضر : الوحدات القياسية العرفية التي تعامل الناس بها في العصور السابقة ، فقد جاء في المادة ( 132 ) من مجلة الأحكام العدلية النص على أن : ( المقدرات : ما تتعين مقاديرها بالكيل ، أو الوزن ، أو العدد ، أو الذراع ، وهي شاملة للمكيلات ، والمزونات ، والعدديات ، والمذروعات ) .

مواقع بحث التقديرات المالية لدى الفقهاء :

وقد تناول الفقهاء موضوع التقديرات المالية في عدة كتب ، وأبواب ، منها ما ذكروه حول موضوع : المكيلات ، والموزونات ، والمعدودات ، والمذروعات ، في أبواب : البيع ، والوكالة ، والتعويضات في الفقه الاسلامي ، وكذلك في أبواب : النكاح ، والطلاق ، والخلع والنفقات ، وأبواب الديات والأروش ونحوها .
فقد تطرق ابن الهمام في فتح القدير إلى أن : تقدير الثمن من الوكيل الأول إذن وإلى تقدير القاضي للنفقة الزوجية وكيفية تقدير مهر المثل .
وذكر ابن عابدين المقدرات بشيء من التفصيل ، وذكر الزرقاني كيفية تقدير الجناية بشيء من التفصيل ، كما ذكر ابن قدامة مقادير الأوقية ، والرطل ، والمثقال ، والدرهم ، والمد والصاع والوسق ، والفَرَق وغيرها .

المصطلحات القريبة من ” التقديرات المالية ” التي تناول الفقهاء بعض محتواها :
هناك مصطلحات أخرى قريبة من العنوان ، وهي :

1 ـ التقويم : لغة : مصدر قوّم ، ومن معانيه : التقدير ، فيقال : قوّم السلعة ، أي قدرها بثمن ، وقوّم المتاع إذا قدره بنقد وذكر له قيمته .
والتقويم في اصطلاح الفقهاء لا يخرج عن هذا المعنى اللغوي .
وقد تحدث الفقهاء عن التقويم في أبواب كثيرة من الفقه مثل : أبواب الزكاة ، وعروض التجارة ، وجزاء الصيد ، والجوائح ، والقسمة ، ونصاب السرقة ، وفي تقويم حكومة العدل ـ ـ وإتلاف البهائم الزروع ونحوها ، وأبواب الضمانات ، وغير ذلك .

2 ـ التعويض : لغة : مصدر مزيد فيه من العوض ، وهو البدل ، فيقال : عوضته تعويضاً إذا أعطاه بدل ما فاته .
وفي اصطلاح الفقهاء : دفع ما وجب من بدل مالي بسبب الحاق ضرر بالغير حيث تناولوه في أبواب الضمانات والاتلافات ، والأوقاف ، وفي عقود الأمانات في حالات التعدي والتقصير ومخالفة الشروط ، وفيما تتلفه الدواب ، وغير ذلك .

3 ـ التضمين : لغة : مصدر ضمّن الشيء تضميناً فتضمنه ، أي التزمه بتغريمه وضمانه فالتزمه ، وأصله من الضمان ، وهو يطلق في اللغة على عدة معان ، منها : الالتزام ، فيقال ضمنت المال ، ومنها الكفالة ، فيقال : ضمنت فلاناً ، أي كفلته .
وفي اصطلاح الفقهاء يطلق على : كفالة النفس ، وكفالة المال عند جمهور الفقهاء ما عدا الحنفية ، وعلى غرامة المتلفات ، والغصوب ، والتعييبات والتغييرات الطارئة ، كما يطلق على ضمان المال ، والتزامه بعقد ، أو بغير عقد ، وغير ذلك .

4ـ التثمين : لغة : مصدر ثمنه تثميناً ، أي جعل له ثمناً بالتقدير والتخمين .
والفقهاء أطلقوه في هذا المعنى اللغوي وخصصوه بالمعاوضات المالية .

5ـ الأرش : لغة : هو أرش الجراحة أي ديتها ، ويطلق كذلك على الخدْش ، وما نقص من الثوب ، والخصوصية ، وما يدفع بين السلامة والعيب في السلعة وأصله من الهرش .
والفقهاء استعملوه بمعنى المال الواجب في الجناية على ما دون النفس ، سواء كان فيه دية مقدرة من الشارع أم لا ، وقد يطلق على بدل النفس .

6ـ حكومة العدل : وهو مصطلح فقهي يقصد به : الواجب الذي يقدره حاكم ، أو محكم ، في جناية ليس فيها مقدار معين من المال ، قال ابن عاشر : ( اتفقت الأنقال ـ جمع النقل ـ على أن المراد بالحكومة الاجتهاد ، وإعمال الفكر فيما يستحقه المجنى عليه من الجاني ) .
وسبب التسمية أن استقرار المال للمجنى عليه يتوقف على حكم حاكم ، أو محكم معتبر ، ومن ثم لو اجتهد فيه غيره لم يكن له أثر ، ولا يسمى : حكومة عدل .

ب ـ المالية :
نسبة إلى المال ، وهو لغة من المول وفي اصطلاح الفقهاء له تعريفات كثيرة ، رجحنا تعريفه بأنه هو : كل ما هو له قيمة بين الناس ، ومنفعة حسب العرف .

المقصود بعنوان البحث :

بعد هذا الاستعراض نستطيع أن نعرف بالتقديرات المالية المقصودة في البحث ، والمطلوب الخوض في تفاصيلها هي : ما يدخل ضمن سلطة قاضي الموضوع في موضوع تحديد المال الواجب دفعه للمستحق ، سواء كان هذا التحديد جاء من خبير عدل فأقره القاضي ، أو هو قدره بناء على معطيات معينة .
فالتقديرات المالية هي : تبيين مقدار المال الواجب دفعه للمحكوم له باجتهاد القاضي وتقديره .
وبالتالي فهي تشمل المجالات الآتية :
1ـ تقدير المال عند التعويضات المالية في نطاق الجنايات ما عدا الديات التي هي مقدرة من الشرع ، مثل دية النفس ، وديات الأعضاء والجروح المقدرة بنص ثابت . أي ما يدخل في حكومة العدل ، ونحوها .
2ـ تقدير المال عند التعويضات المالية بسبب الإضرار ، سواء كان الضرر مادياً ، أم معنوياً ، أو بسبب الاعتداء ، أو التقصير ، أو مخالفة الشروط في عقود الأمانات ، أو الهلاك ، أو التعييب في غير عقود الأمانات ـ على تفصيل ليس هذا محل بحثه ـ .
3ـ تقدير النفقات .
4ـ تقدير ما للمرأة من حقوق مالية في حالة استمرار الزواج أو بعد الطلاق أو الموت خلال فترة العدة .
5ـ حالات المهور التي قدرت باموال تحتاح إلى الاجتهاد في تقديرها وذلك بسبب تغير القيمة للعملة التي حدد بها المهر .

ضوابط حكم القاضي في التقديرات المالية :

إن القاضي وإن كانت له سلطة تقديرية ، ولكن هذه السلطة ليست مطلقة دون قيود وشروط وضوابط ، ولذلك نرى أن الضوابط لصحة تقديرات القاضي المالي هي بالاضافة إلى شروط وضوابط القاضي من حيث الأهلية والعدالة ما يأتي :

أولاً ـ أن يكون المتلف مالاً متقوماً ، أو شرع فيه التعوض كما في حالة الجنايات على الإنسان .

ثانياً ـ أن يتحقق موجب المال المقدر من تحقيق ضرر سواء كان بإتلاف عين أو منفعة ، أو بالجناية على النفس ، أو ما دونها ، حيث إن من القواعد المقررة أن لا تعويض إلاّ في مقابل ضرر .
وأما التعويض عن الضرر المعنوي فهو أمر مستحدث اختلف فيه المعاصرون ، سيأتي الحديث عنه .

ثالثا ـ أن يكون التقدير المالي قائماً على العدالة ، بعيداً عن أية مؤثرات خارجية .

رابعاً ـ أن يكون التقدير المالي قائماً على عوض المثل ، وهذا يحتاج إلى شيء من التفصيل نحاول إيجازه بقدر الامكان .
المقصود بعوض المثل في اصطلاح الفقهاء هو : بدل مثل شيء مطلوب بالشرع غير مقدر فيه ، أو بالعقد لكنه لم يذكر مقداره فيه ، أو ذكره لكنه فسد المسمى ، أو كان بسبب عقد فاسد ، أو نزع جبري مشروع للملكية .
فعلى هذا يشمل :

1ـ ما إذا لم يذكر في عقد النكاح مهر ، أو ذكر ولكنه لم يعتد به الشارع مثل أن يكون المسمى شيئاً محرماً ، أو لا يعتبر مالاً متقوماً ، وهذا ما يسمى بمهر المثل .
2ـ وما إذا كان بين العاقدين اتفاق ، ولكنه لم يذكر فيه المسمى ، أو أصبح المسمى معدوماً ، أو فاسداً ، او أصبح العقد فاسداً أو مفسوخاً ولكنه ترتب عليه أن أحد العاقدين كان قد نفذ من العقد شيئاً ، أو أهلك المعقود عليه ، أو كان العقد قرضاً ووجب فيه رد القيمة ، أو نحو ذلك مما سيأتي تفصيله ، وهذا يدخل فيه : أجر المثل في الاجارة الفاسدة ، أو المضاربة الفاسدة أو نحوهما ، وكذلك يدخل فيه : ثمن المثل ..
3ـ وما كان نتجية نزع جبري مشروع لملكية خاصة من قبل الدولة ، وهذا ما يسمى بتمليك المثل .
4ـ وما كان نتيجة اتلاف لكنه لم ينص الشارع على تحديد مقدار الضمان فيه وهو ما يسمى بضمان المثل سواء كان في الحج أو غيره من الضمانات المالية الأخرى .
وقبل أن ندخل في في تفاصيل هذه المسائل لا بدّ أن نذكر كيفية الوصول إلى عوض المثل ومعياره .

أهمية الاعتماد على عوض المثل :

وقد عني الفقه الاسلامي بمختلف مذاهبه ومدارسه ، بتطبيقات عوض المثل في أكثر أبواب الفقه سواء ما يتعلق منها بالمعاملات أو بأحكام الأسرة ، أو بالضمان والتعويض والتمليك بالمثل ، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية : ( عوض المثل كثير الدوران في كلام العلماء ، وهو أمر لا بدّ منه في العدل الذي به تتم مصلحة الدنيا والآخرة ، فهو ركن من أركان الشريعة مثل قولهم : قيمة المثل ، وأجرة الثل ، ومهر المثل ونحو ذلك …. ويحتاج إليه فيما يضمن بالاتلاف من النفوس والأموال والأبضاع والمنافع … ) بل إن العلامة ابن القيم جعل مدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين ، والفرق بين المختلفين .

معيار عوض المثل :

1. العدالة المطلقة ، أي دون تأثر بالمؤثرات
2. القياس والاعتبار للشيء بمثله
3. العرف السائد فيه ، فلكل شيء عرفه بين الناس ، ملاحظاً فيه الزمان والمكان والاعتبارات الشخصية من الرغبات ، والأحوال فمثلاً إن قيمة قارورة من المياه في الصحراء غير قيمتها في المدينة ، وهكذا .
4. في حالة التقدير لحكومة العدل فالمعيار فيها إحدى الطريقتين الآتيتين :

  • الطريقة الأولى : على تقدير كونه عبداً مسلماً غير مجروح ، ثم يقوّم على تقدير كونه عبداً مجروحاً ، فينظر ، كم نقصت الجناية من قيمته ، فإذا قدر النقص بالعشر مثلاً وجب على الجاني عشر دية النفس ، وذلك لأن الحرّ لا يمكن تقويمه ، فيكون الاعتبار بديته .
    والمقصود بهذا المعيار مدى تأثير الجرح في المجنى عليه من حيث القدرة والتأثير ، واليوم والحمد لله قد انتهى عصر العبودية الفردية ، ولكن نستفيد من هذا المعيار في موضوعيته ومرونته ، بحيث ننظر إلى موضع الجرح وتأثيره ، وإلى أهمية المكان المجروح ، فمثلاً فالجرح في اليد بالنسبة للخياط تختلف عن الجرح في يد الحارس ، بل إن أي خلل في يد الطبيب الجراح وأصابعه يختلف تقديره وتقويمه حتى بالنسبة للطبيب الباطني ، وهكذا ، والمرجع في ذلك أهل الخبرة .
  • الطريقة الثانية : تقدير الجرح بنسبته من أقل جرح له أرش مقدر وهو الموضحة ، ومقدارها شرعاً نصف عشر الدية الكاملة ، فيكون مقدار دية هذا الجرح بمقدار نسبته من الموضحة ، وهذا قول الكرخي من الحنفية ، وعند الشافعية أن تقويم النقص يكون بالنسبة إلى العضو الذي وقعت عليه الجناية إن كان لها أرش مقدر ، فإن لم يكن لها أرش مقدر تقوّم الحكومة بالنسبة إلى دية النفس .
    وهذا المعيار ذاتي لا يلبي في اعتقادي المرونة المطلوبة ، ولذلك فالراجح هو المعيار الموضوعي السابق المرن ، أو الاعتماد مباشرة في هذه المسألة على رأي الخبراء من الأطباء ونحوه في تقدير نسبة العجز ، وبذلك يكون هذا الاختيار الأخير الطريقة الثالثة بالنسبة لحكومة العدل .

خامساً ـ مراعاة خصوصيات بعض العقود ، فمثلاً يراعى في مهر المثل ، إضافة إلى الأمور الثلاثة السابقة عناصر أساسية مؤثرة مثل النسب ، والشرف ، والجمال ، والوقت والمكان ، إضافة إلى الرغبات .

سادساً ـ مراعاة الظروف المشددة كما في حالة الغصب والاتلاف العمدي ، حيث يتم التقدير ، بتقدير المال المتلف بالأكثر قيمة من يوم الغصب إلى يوم التلف عند الشافعية ، والحنابلة ـ وعلى تفصيل بين الفقهاء ـ في حين أن بقية المتلفات تقوّم بقيمتها يوم التلف أو يوم الخصومة .

سابعاً ـ مراعاة حالة المستحق للتعويض ، كما هو الحال في تقويم عروض التجارة ، حيث يجب أن تقوّم بما هو أنفع للفقراء نصاباً ومقداراً عند الحنفية والحنابلة .

ثامناً ـ في حالة تقدير الجنايات بحكومة العدل يشترط فيها ما يأتي :
‌أ) أن لا يبلغ التقدير في حكومة العدل إلى دية العضو نفسه فمثلاً ، فمثلاً حكومة اليد لا يجوز أن تصل إلى نصف الدية ، هذا إذا كان العضو فيه أرش مقدم ، أما إذا لم يكن له أرش مقدر كالظهر ، والكتف ، والفخذ فيجوز أن تبلغ حكومته دية عضو مقدر كاليد ، بل تزيد علياه ، ولكن لا يجوز أن تبلغ حكومة عضو واحد من الأعضاء المذكورة دية نفس كاملة .
‌ب) أن يتم التقدير والتقويم للحكومة بعد اندمال الجرح وبرئه ، لاحتمال السراية التي تؤثر في التقدير .

ما يتم به التعويض :

يتم التعويض في حالة الاتلاف الكلي بالمثل إن كان المتلف مثلياً أي من المكيلات أو الموزونات ، أو المعدودات التي لا تختلف أحاده كالبُّر والشعير ، وبقيمته إن كان قيمياً ، أما إذا كان الاتلاف جزئياً ففيه أرش النقص ، ويرجع في تقديره إلى أهل الخبرة .
وبالنسبة للجنايات على الإنسان التي تتربت عليها التعويضات فإنها تخضع لأحكام الديات ، والأروش ، وحكومة العدل ـ كما سبق بإيجاز ـ .
وقد اختلف الفقهاء اختلافاً كبيراً في تعريف المثلي ، والقيمي ، بحسب الحالات التي تطرقوا إليهما فيها ، فنجدهم أن المثلي عندهم في باب البيع هو غيره في باب الاحرام في حالة جناية المحرم على حيوان مثلاً ، لذلك توصلنا إلى معيار عام للمثلي وهو : كل ما كان له شبه بآخر بحيث يكون الرد به ، أو اعتباره يحقق العدالة ، ولذلك فالمعيار هو ما يحقق العدالة ، وعلى ضوء ذلك نرى كثيراً من المسائل تدخل حسب الظاهر في المثلي مع أن الفقهاء نصوا على أن الرد فيها بالقيمة ، وما ذلك إلا لاعتبار العدالة ، فمثلاً ان الماء من المثليات ، وبالتالي فالمفروض أن يكون الرد ، أو التعوض بالمثل ، ولكن إذا غصبه إنسان في مفازة أو استقرضه فيها ، فلا يرده بالمثل ـ كما هو الأصل ـ بل يجب رده بالقيمة ، وكذلك الذهب فهو من المثليات ، ولكن إذا دخلته الصنعة أخرجته من المثليات ، بحيث لو أتلفه شخص تجب عليه القيمة .

مسائل مهمة في التقدير والتقويم :

المسألة الأولى : بما يكون التقويم والتقدير ؟
ذهب الفقهاء إلى أن التقويم في عوض المثل يكون بغالب نقد البلد ـ أي البلد الذي تم فيه التصرف الموجب لعوض المثل ـ قال النووي : ( مهر المثل يجب حالاً من نقد البلد كقيمة المتلفات) وقال السيوطي : ( فلا تقويم بغير النقد المضروب ) وقال ابن نجيم : ( يجب …. من جنس الدراهم والدنانير ) وكذلك قال غيرهم ؛ لأن القاعدة العامة هي أن التقويم يكون بنقد البلد الغالب .
وقد أثار الفقهاء ما إذا كان في البلد نقدان يتعامل بهما على قدم المساواة فبأي منهما يكون التقويم ؟ فذهب بعضهم إلى رعاية الأقل قيمة ، وبعضهم إلى رعاية الأكثر ما دام أحدهما أغلى من الآخر .
فالذي يظهر رجحانه أن الأمر في ذلك يعود إلى المقومين أو القاضي مع ملاحظة الظروف والملابسات التي تحيط بالقضية .

المسألة الثانية : مدى اشتراط العدد ؟
اختلف الفقهاء في مدى اشتراط العدد في المقومين ، فهل يشترط كونهم أكثر من واحد ، أم يكتفى بواحد عدل ؟
ذهب جماعة منهم الشافعية إلى اشتراط العدد ، في حين ذهب آخرون منهم الحنفية في قول ، والمالكية إلى عدم اشتراطه ، وأنه يكتفى فيه بشخص واحد .
وسبب الخلاف أن الفريق الأول اعتبروا التقويم بمثابة الشهادة ، ولذلك ألحقوه بها في حين نظر الفريق الثاني إلى حقيقة التقويم واعتبروه بالحَكَم ، فكما لا يشترط التعدد في القضاء والحكم فكذلك لا يشترط في التقويم .
والراجح هو اشتراط التعدد ( في غير الحاكم والمحكم ) بأن لا يكون عدد المقومين أقل من اثنين ، وذلك لأن القرآن الكريم حكم في جزاء قتل الصيد في حالة الاحرام أن يحكم بمثل ما قتل رجلان عدلان فقال تعالى : (…ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم …) وقد فهم من هذا النص وجوب وجود الحكمين الخبيرين العدلين في هذه المسألة ،وهو أصل صالح لمسألتنا في التقويم ، وذلك لأن التقويم مما تختلف فيه وجهات النظر فلاد بدّ من وجود عدلين لترجيح رأي على آخر ، كما أن القيم تختلف على حسب الأحوال والأزمان والأماكن فلا بدّ من وجود اثنين .
وهذا إذا لم يتراض أصحاب الشأن بتحكيم شخص لتقويمه ، أما إذا تراضوا وتنازلوا على حكمه فلا أرى مانعاً لذلك ، وكذلك إذا تراضوا بينهم بالمعروف على عوض المثل فلا يوجد مانع من جواز ذلك أيضاً .
ومن الجدير بالتنبيه عليه هو أنه يشترط في المقوم أن يكون عدلاً خبيراً بقيمة الشيء المقوم .

المسألة الثالثة : اختلاف المقومين والمقدرين في عوض المثل :

فقال بعضهم : يقدر بكذا ، وقال الآخر : يقدر بكذا .
في هذه الحالة اختلف الفقهاء أيضاً ، فذهب بعضهم إلى ترجيح ما هو الأكثر ، وبعضهم إلى ترجيح الأقل ، لأن المتيقن ، والزائد مشكوك فيه فلا يلزم بالشك ، في حين ذهب فريق ثالث إلى التفصيل فقالوا : يؤخذ في الغرم بالأقل ، وفي غيره مثل الغصب بالأكثر .
والذي يظهر لي رجحانه أن المقومين الخبراء إذا اختلفوا في التقويم فيرجح جانب الأكثرية لأن رأي الاثنين ـ في الغالب ـ أفضل من رأي واحد ، وإذا كانوا متساويين من حيث العدد فيضاف إليهم خبير آخر ، أو تشكل لجنة أخرى لتبت في الموضوع .
ثم إنه لا يشترط الوصول في التقدير إلى القطع والتحديد ، بل يكفي الظن والتقريب ، قال الزركشي : ( إن ما توقف على التقويم ، وعرض على أهل الخبرة وحكموا بالتقويم تقريباً ، فهو المتبع في سائر الأبواب ، وان تطرق إليه تقدير النقصان ظناً إلاّ في باب السرقة فإنه لا يعتمد عند المحققين لسقوط القطع بالشبهة ، فلا يجب الحد ما لم يقطع المقومون ببلوغها نصاباً ) .

المسألة الرابعة : ثبوت التقويم والتقدير غير العادل :
وقد أثار الفقهاء ما إذا قام المقومون بتقدير معين وقُضي به ، ثم قامت بينّة على أن التقدير غير عادل فهل ينقض التقدير الأول وما ترتب عليه ؟ ذكر السيوطي أن العلامة ابن الصلاح الشهرزوري سئل عن ملك اليتيم ، احتيج إلى بيعه ، فقامت بينة بأن قيمته مائة وخمسون ، فباعه القيّم بذلك ، وحكم الحاكم بصحة البيع ، ثم قامت بينة أخرى بأن قيمته حينئذ مائتان ، فهل ينقض الحكم ويحكم بفساد البيع ؟
فأجاب ـ بعد التمهل أياماً والاستخارة ، انه ينقض الحكم ، لأنه إنما حكم بناء على البينة السالمة عن المعارضة بالبينة التي مثلها ، وأرجح ، وقد بان خلاف ذلك ، وتبين استناد ما يمنع الحكم إلى حالة الحكم .
ونازعه في ذلك السبكي في فتاويه ، ومنع النقض ، قال : لأن التقويم حدس وتخمين ، ولا يتحقق فيه التعارض إلاّ إذا كان في وقت واحد ، وان سلمنا المعارضة فهي معارضة للبينة المتقدمة وليست راجحة عليها …. وكيف ينقض الحكم بغير مستند راجح …. وكما لا يقدم على الحكم إلاّ بمرجح فكذلك لا نقدم على نقضه إلاّ بمرجح ، ولم يوجد .
ثم إن قول ابن الصلاح : ( وقد بان خلاف ذلك ) ممنوع لأنه لم يبن خلافه بل أكثر ما فيه أنه أشكل الأمر علينا ، ولا يلزم من اشكال الأمر علينا أن نوجب النقض .
فعلى ضوء هذا أن الراجح هو أن التقويم الثاني إذا لم يكن معه ما يرجحه فلا يرجح على التقويم الأول الذي تعضد بحكم القاضي أما إذا وجدنا ما يرجحه ، ودلت القرائن على وجود الفرق بين التقديرين من حيث الواقع فإن التقويم الأول ينقض ، وينقض معه كل ما ترتب عليه .
هذا إذا كان التقويم الأول قد تعضد بحكم الحاكم ، أما إذا كان الأمر قبل الحكم فإن القاضي يأخذ بأي من التقويمين يحقق العدالة ، حيث يعمل فيه نظره واجتهاده ، وإذا ثبت له أن التقويم غير عادل فإنه لا يحكم به ، وإذا كان قد حكم به فإنه ينقضه ، كما سبق .

المسألة الخامسة : مدى تأثير الزيادة على ثمن المثل :
إذا كانت الزيادة كثيرة على ثمن المثل ، والبون شاسعاً بين قيمته وما قدر له ، أو على ضوء تعبير الفقهاء : كانت الزيادة فاحشة فإنها تؤثر على تفصيل فيه ، غير ان الخلاف قد ثار في الزيادة اليسيرة قال السيوطي : ( الزيادة اليسيرة على ثمن المثل لا أثر لها في كل الأبواب إلاّ في التيمم إذا وجد الماء يباع بزيادة يسيرة على ثمن مثله لم يلزمه مطلقاً في الأصح ، قال في الخادم : ومثله شراء الزاد ونحوه في الحج ، وأما الزياة الكثيرة ، وهي التي لا يتغابن الناس بمثلها ، ففيها فروع :
الأول : المسلم فيه تحصيله ولو باع بأكثر من ثمن المثل إذا لم يوجد إلاّ به ولا ينزل منزلة الانقطاع ، جزم به الشيخان ـ أي الرافعي والنووي ـ قال السبكي في فتاويه : وعلى قياسه إذا لم يوجد من يشتري مال المديون إلاّ بدون قيمته يجب بيعه والوفاء منه.
الثاني : إذا تلف المغصوب المثلي ولم يوجد مثله إلاّ بأكثر من ثمن المثل ، ففي وجوب تحصيله وجهان ، رجح كلا منهما مرجحون ، وصحح النووي عدم الوجوب ، لأن الموجود بأكثر من ثمنه مثله كالمعدوم ، قال السبكي : وفي تصحيحه نظر …
الثالث : الرقبة في الكفارة لا يلزم شراؤها بأكثر من ثمن المثل عى المذهب واختار البغوي خلافه .
الرابع : إبل الدية إذا لم توجد إلاّ بأكثر من ثمن المثل لا يجب تحصيلها ، بل يعدل إلى قيمتها ، كذا جزم به الشيخان ، وبحث بعضهم : أن يجري فيها خلاف الغاصب ، قال البلقيني … فلو كانت الزيادة يسيرة فيحتمل الوجوب كالتيمم … والأول أقرب .
وذكر ابن نجيم الحنفي مسائل قريبة مما ذكره السيوطي .

المبحث الثاني : تغير القيمة الشرائية للنقود وأثره على المهور المسماة :

تمهيد

إن من مستجدات عصرنا اعتماد العالم كله على النقود الورقية في تعاملاتها والتزامها ، وفي رد الحقوق والالتزامات ، تاركاً النقود المعدنية ( الدنانير الذهبية ، والدراهم الفضية ) منذ أكثر من قرن ، بل قد ترك حتى الغطاء الذهبي منذ عام 1971، حينما تبرأت أمريكا عن هذا الغطاء ، وإنما تستمد هذه النقود قوتها من القانون والعرف .
ولا مانع شرعاً من اعتبار النقود الورقية نقوداً لأن مبنى ذلك أعراف الناس ، فمتى اتفق الناس على جعل شيء مقياساً للقيم ، ومخزوناً للثروة ، ومعياراً للمدفوعات الآجلة فقد أصبح نقداً معتبراً ، لأن العلة في النقدية هي الثمينة ، وأن التعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب ، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية : ( والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية ….. والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب ، لأن المقصود من الأثمان أن تكون معياراً للأموال ، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال ….. ) .
وقبل الإمام ابن تيمية رحمه الله ، قال الإمام مالك رحمه الله كلاماً رائداً ورائعاً حول الموضوع وهو : ( لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة ) بل إن الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه فطن لذلك ، حيث همّ أن يتخذ النقود من جلود الإبل ، فقيل له : إذا لا بعير ، فأمسك .

وهذا الرأي قد اعتمده قديماً جماعة من الفقهاء ـ بالاضافة إلى مالك وابن تيمية ـ منهم محمد بن الحسن الشيباني ، والشافعية في قولهم الثاني ، والحنابلة في المعتمد . قالوا ذلك في وقت كانت النقود الشائعة تنحصر في الدنانير الذهبية والدراهم الفضية .
وهذا ما أقرته المجامع الفقهية بدءاً من مجمع البحوث الاسلامية التابع للأزهر الشريف ، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الاسلامي ، ومجمع الفقه الاسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي ، حيث جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي : قرار رقم 21(9/3) ما نصه : ( أولاً ـ بخصوص أحكام العملات الورقية : أنها نقود اعتبارية ، فيها صفة الثمنية كاملة ، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا ، والزكاة ، والسلم ، وسائر أحكام ) .

ولذلك لا عبرة بما يقوله بعض : من أن نقودنا الورقية ليست نقوداً يريد بذلك إباحة النظام البنكي القائم على الربا ، والا فيسأل هو نفسه : بأي شيء يتعامل في السوق ؟ يشتري ويبيع ؟ وبأي شيء تحدد مهور الزوجات والبنات والأخوات ؟ وبأي شيء تقوّم عروض التجارة في العالم كله ؟ وبأي شيء تتم ميزانيات الدول ، والشركات والمؤسسات ؟ بل إن قوله يؤدي إلى القول بأن العالم اليوم بدون نقود ولا أثمان ؟ فهذا القول يجافي الحق والحقيقية والواقع ، ويصطدم بالتطبيق في كل البلاد والعباد ؟!!!! كما أنه لا يجوز قياس نقودنا الورقية على الفلوس وما جزى فيها من خلاف ، لأنها لم تكن نقوداً مستقلة أبداً ، وإنما كانت مساعدة لشراء بعض الأشياء البسيطة التافهة .

والحق أن عملاتنا الورقية نقود اعتبارية ـ كما قال المجمع ـ لها صفة الثمنية كاملة ، وتطبق عليها أحكام الربا ، ونحوها من الأحكام الخاصة بالتعامل بالدنانير الذهبية والدراهم الفضية .
هذا هو الأصل العام ، والمبدأ العام المعتبر ، والقاعدة الكلية المقررة ، فلا يجوز الاستثناء منها إلاّ بأدلة معتبرة ، وموجبات مؤيدة بمبدأ العدل ومقاصد الشريعة الغراء ، مثل حالات الانقطاع ، والكساد ، والتضخم ، والانكماش .
ومن هنا فنحن نبحث ـ بإيجاز شديد ـ ثلاثت حالات للمهمور المسماة ونحوها عند الكساد ـ والانقطاع ، والتضخم أو الانكماش .

الحالة الأولى : حالة الكساد ، وهو أن تقوم الدولة بإلغاء النقود المتداولة ، وإحلال نقد آخر مكانها .
وذلك بأن حدد المهر بالروبية ، كما في الخليج أيام الاستعمار البريطاني ، ثم لما انتهى الاستعمار تبنت كل دولة عملتها الخاصة مثل الريال ، والدينار ، والدرهم ، أو كان المهر بالفرنك الفرنسي ، أو العملة الايطالية أو الهولندية أو الاسبانية ، أو بالجنيه الذهبي ، او الجنيه العادي كما هو الحال بالنسبة لمعظم بلادنا الاسلامية المستعمرة من قبل هذه الدول ، أو قامت الدولة نفسها بتغيير عملتها من حيث النوع ( من الفضة إلى الذهب أو بالعكس ) ، أو حتى الوزن والجودة ، كما كان في السابق .
وقد تطرق الفقهاء إلى آثار الكساد على العقود والحقوق والالتزامات بالنسبة لنقودهم السائدة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : بطلان عقد البيع الذي تم مؤجلاً بهذا النقد الذي أبطل ، وأما غيره مما ترتبت على الذمة من قرض ومهر مؤجل فيجب رد المثل ، وهذا قول أبي حنيفة .
القول الثاني : الرد بالمثل من الكاسد لا الجديد مطلقاً ، وهذا رأي الأكثرية من الفقهاء ولا يترتب على هذين القولين السابقين ظلم للدائن ، لأنهما في النقود المعدنية التي لها قيمة ذاتية سواء كانت دنانير ، أو دراهم ، ولذلك لا يمكن في نظري تنزيلها على نقودنا الورقية التي إذا ألغيت ذهبت كل قيمتها ، لأن قيمتها بقوة القانون والعرف ، وبالتالي فالقول برد النقد الملغي يترتب عليه ظلم كبير لا أعتقد أن أحداً من الفقهاء يقول به .
القول الثالث : الرد بالقيمة يوم الكساد ، وقال ابن عابدين : ( وهو المختار ) وهو رأي الحنابلة .

الحالة الثانية : حالة الانقطاع وهو كما يقول ابن عابدين : ( أن لا يوجد النقد في السوق ، وإن كان يوجد في أيدي الصيارفة وفي البيوت ) .
وأيا ما كان فإن حكم الانقطاع والكساد واحد كما في كثير في من كتب الحنفية :
قال ابن عابدين : ( والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب ، لكن قال في المضمرات : فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع ، وهو المختار ) .
ثم قال : ( وبه علم أن في الانقطاع قولين : الأول : فساد البيع كما هو في صورة الكساد ، والثاني : أنه تجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع وهو المختار ) وهذا على قول أبي حنيفة ، وسيأتي تفصيل لرأي أبي يوسف ومحمد .
والخلاصة : أن النقد الذي جعل ثمناً لبيع إذا كسد فسد العقد عند أبي حنيفة وإذا انقطع ففيه قولان : فساد العقد أو القيمة ـ كما سبق ـ وهناك تفصيل في حالتي الكساد قبل قبض الثمن وبعده ، حيث جاء في جواهر الفتاوى : أنه إذا باع شيئاً بنقد معلوم ، ثم كسد النقد قبل قبض الثمن فإنه يفسد البيع ، ثم ينتظر إن كان المبيع قائماً في يد المشتري يجب رده عليه وإلاّ فيجب رد مثله إن كان مثلياً ، وقيمته يوم القبض إن كان قيمياً .
وإن كان العقد السابق إجارة ـ مكان البيع ـ فإنه تبطل الإجارة ، ويجب على المستأجر أجر المثل ، وإن كان قرضاً ، أو مهراً يجب ردّ مثله ، هذا كله على قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف : يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل ، وقال محمد : يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس ، قال القاضي : الفتوى في المهرو والقرض على قول أبي يوسف ، وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة .
ومذهب الحنابلة واضح بخصوص حالة الالغاء والانقطاع ، قال ابن قدامة : ( وإن كان القرض فلوساً ، أو مكسرة فحرمها السلطان ، وتركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتها ، ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها ، لأنها تعينت في ملكه ، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة ، وقال : يقومها كم تساوي يوم أخذها ، ثم يعطيه ، وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيراً ، قال القاضي : هذا إذا اتفق الناس على تركها ، فأما ان تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزم أخذها …. ) ثم استدل لمذهب أحمد بأن تحريم السلطان لها منع انفاقها ، وأبطل ماليتها ، فأشبه كسرها ، وأو تلف أجزائها ) .
وأما الشافعي فمذهبه على أنه ليس له إلاّ مثل فلسوه ، أو دراهمه التي سلف ، أو باع بها وإن أبطلها السلطان .

أي وقت يعتبر للقيمة ؟

ثم إن القائلين برعاية القيمة اختلفوا في الزمن المعتبر للقيمة على أربعة آراء :
1- ذهب بعضهم إلى أن العبرة بالقيمة في يوم العقد سواء كان بيعاً أو قرضاً أو غيرهما ، باعتبار أن ذلك هو اليوم الذي انشغلت فيه الذمة .
2- وذهب فريق ثان إلى أن العبرة هو يوم حلول الدين ، لأنه قبل حلول الأجل ليس للدائن الحق في مطالبة المدين ، وإذا لم يكن له هذا الحق فلا يتصور تقويم ما لاحق له في المطالبة به .
3- وذهب فريق ثالث إلى أن العبرة بيوم انقطاع السكة أو إلغائها وظهور نقد جديد .
4- وذهب بعض آخر إلى أن المعتبر هو يوم التحاكم فيها .

الحالة الثالثة : تغير قيمة النقود بالغلاء والرخص ، وهو ما يسمى في عصرنا الحاضر بالتضخم في حالة انتقاص قيمة العملة ، وبالانكماش في حالة زيادة قيمتها .

فقد اختلف الفقهاء في أثر تغير قيمة النقود بالغلاء والرخص على العقود والالتزامات الآجلة :

ـ فذهب جمهورهم إلى : أن الرد يكون بالمثل ، وأن لا عبرة بالرخص والغلاء في ردّ المثليات ( ومنها الدراهم والدنانير ، والفلوس ).
ـ وذهب جماعة منهم أبو يوسف ، ومحمد في بعض الأحوال ، وبعض فقهاء المالكية ، ووجه للشافعية ، وبعض الحنابلة ، إلى : اعتبار القيمة وقيدها البعض بحالة تغير القيمة تغيراً يؤدي إلى الظلم ـ سيأتي لذلك تفصيل ـ .

هل تنزل هذه النقول السابقة على النقود الورقية ؟

أعتقد أن معظم هذه النقول والنصوص الفقهية على الرغم من أهميتها لا يمكن تنزيلها بصورة كاملة على نقودنا الورقية ، إذ إن النقود السابقة كانت من معادن ذهبية ، وفضية ، ونحاسية ، فتبقى حتى بعد إلغائها قيمتها المعدنية ، في حين أن النقود الورقية لا تبقى بعد إلغائها أية قيمة ، بل ولا يستفاد منها كورق ، فقيمتها في قيمتها المعتبرة في السوق ، ولكنه مع ذلك فإن أقرب شيء إليها هو الفلوس لذلك يمكن الاستئناس بما قاله الفقهاء حول الفلوس ، وأحكامها ، وأرى أن الفلوس أحسن حالاً من نقودنا الورقية ، فإذا كان بعض كبار فقهائنا السابقين قد قالوا برعاية القيمة في الفلوس ، فإن هذا الحكم لا بدّ أن يسحب على نقودنا الورقية بطريقة أولى في حالة الانهيار والتغير الفاحش.

تأصيل القضية ، وبيان المعايير والحالات الاستثنانية :

إذا سرنا على اعتبار أن الوفاء بالمثل هو الأصل والمبدأ ، والقاعدة العامة ، بحيث لا نخرج عنها إلاّ عند حالات استثنائية ، فحينئذ ينبغي البحث عن هذه الحالات وبيان نوع من المعيارية لهذه الحالات .
ثم إن هذا الخروج عن الأًصل إنما يتحقق في الديون والالتزامات الآجلة والعقود التي تؤجل آثارها عنها ، وذلك مثل القرض والحساب الجاري في البنوك ، والبيع الآجل ، والإجارات المؤجلة والمهور ، والرواتب والأجور ، وعقود المقاولات والاستصناع التي تؤجل أثمانها أو بعضها إلى مدد آجلة.
فالأصل والمبدأ العام والقاعدة العامة في كل ذلك هي : الرد بالمثل ، وأن العبرة في الرد إنما هي بالنقد الذي تم الاتفاق عليه جنساً وكماً وكيفاً إلاّ إذا حدث تغير بين قيمة النقد وقت نشوء الالتزام والعقد ، وقيمته وقت الدفع والأداء .

معيار التغير المؤثر :

إن معياره في نظري هو تحقق انهيار للنقد ، أو غبن كبير فيه ، يسميه الفقهاء بالغبن الفاحش ، وبعبارة أخرى فإن الشخص المدين إذا ردّ له مثل نقده فقد ظلم ظلماً بيناً ، إذن فالتغير في قمية النقود ( التضخم ) يؤثر في نظري في حالتين فقط :

الحالة الأولى : حالة الانهيار كما حدثت للمارك الألماني بعد الحرب العالمية الثانية ، والدينار العراقي الذي كانت قيمته قبل غزو العراق للكويت تساوي حوالي ثلاثة دولارات ، ثم بعد هزيمة العراق والحصار الاقتصادي وصلت قيمة الدولار الواحد إلى أربعة آلاف دينار عراقي .
ففي هذه الحالة يجب مراعاة التغير ( التضخم ) ويكون الرد بالقيمة ، أو بالتصالح والتراضي ـ كما سيأتي تفصيله ـ .

الحالة الثانية : حالة التغير الشديد ( التضخم الكبير ) بأن تصل نسبة الفرق بين قيمة النقد يوم القبض أو الالتزام ، وبين قيمته يوم وجوب الدفع الثلث أو أكثر .

ففي الحالتين نطرح الحلول الآتية :

الحل الأول :
رعاية قيمة النقد يوم عقد النطاح بالنسبة للمهر ، ويوم قبض القرض ، أو ثبوت الالتزام بالأجل في العقود الآجلة ، كالبيع الآجل ، والإجارة الآجلة ، ونحوهما .

الحل الثاني :
وجوب توزيع الضرر على المتعاقدين ( بالصلح الواجب ) :

ذهب ابن عابدين ( الفقيه الحنفي المعروف ) وشيخه العلامة سعيد الحلبي إلى أن الضرر الناتج من تغير قيمة النقود ( في غير الذهب والفضة ) لا بدّ أن يتحمله الطرفان ( البائع والمشتري والدائن والمدين ) ، فقال : ( وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من الضرر على شخص واحد ) .
ويمكن الافادة من هذه الفتوى من عدة اعتبارات لها وجاهتها ، وهي :
1ـ أن ابن عابدين قال معلالاً ترجيح قوله هذا بأن : ( المسألة غير منصوص عليها بخصوصها ، فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش ) .
وعلى ضوء ذلك نقول في موضوعنا هذا الخاص بالنقود الورقية : إنها غير منصوص عليها بعينها ، بل هي جديدة ومستحدثة فيجب النظر إليها والاجتهاد فيها على ضوء مقاصد الشريعة ومبادئها العامة من تحقيق العدالة والمساواة بين طرفي العقد ، وعدم الاضرار والضرار .
2ـ إن نقودنا الورقية هي مثل القروش التي ذكرها ابن عابدين ، حيث يتعين بالتعيين ، حيث قال : ( وإنما الشبه فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة ، فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص ) .
ومن هنا يمكن الاستئناس بالفتوى الشائعة في عصر ابن عابدين عام 1230هـ التي استقرت على : ( دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعين المتبايعان نوعاً والخيار فيه للدافع …. ) ، فالذي اعترض عليه ابن عابدين هو أن يكون الخيار فيه للدافع ، وأن يختص الضرر بالبائع ، ولكن يستفاد منه دفع القيمة يوم العقد من حيث الجملة في النقود الورقية وهذا ينفعنا في القول بأن النقود الورقية ليست مثلية دائماً .
3 ـ يستفاد من مجموع ما ذكره ابن عابدين نظرية الأخذ بسلة العملات عند التقويم ، والأخذ بالأوسط منها ـ كما سنوضحها ـ .
4ـ كما يستفاد منه أيضاً نظرية الربط بمؤشر معين للقروش ، أي النقود غير الفضية والذهبية ـ كما سيأتي .
5 ـ إن العقود لا بدّ من رعاية الرضا الحقيقي ـ كما قال بعض المفتين ـ وكذلك التساوي بين العاقدين في الحقوق ، وفي توزيع الإضرار عليهما إن تحققت دون تخصيص أحدها بالآثار السلبية بدون الآخر .

الحل الثالث :
ربط النقود بأوسط القيم للنقود السائدة عند التعاقد :
ذكر ابن عابدين في موضوع ورود الأمر السلطاني بتغير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص أن الفتوى استقرت على ما ذكرناه في الفقرة السابقة ، ثم قال : ( فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ، ويدفع من أوسطها نقصاً ، لا الأقل ، ولا الأكثر كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري ) ، ثم رد على بعض المفتين في زمانه الذي أفتوا بأن تعطى بالسعر الدارج وقت الدفع ، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلاً فقال : ( ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري ) ، وكلام ابن عابدين هنا منصب على ما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ، ودفع غيرها بالقيمة فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص).
ففكرة الأوسط من قيم النقود السائدة فكرة جديرة بالبحث والدراسة والقبول ، وعلى ضوء هذا يمكن أن نقول أنه في حالة تغير قيمة النقود الورقية ننظر إلى معظم النقود السائدة من دولار ، وجنيه استرليني ، ومارك ونحوها مع نقد البلد فنأخذ بأوسط الأسعار أو بمتوسط القيم ، تحقيقاً للعدالة والوسطية وعدم الإضرار بأحد العاقدين .

الحل الرابع :
الفرق بين حالتي المطل وعدمه :
فقد ذكر بعض الفقهاء منهم الوانوغي والمشذالي وابن غازي ـ من المالكية ـ إلى أنه إذا ماطل المدين دائنه حتى بطل التعامل وجب على المدين القيمة .
حيث ذكر العلامة الزرقاني أن ظاهر المدونة الاطلاق ، أي التسوية بين حالة المماطلة وعدمها ـ ولكن الوانوغي قيد المدونة بما إذا لم يكن هناك مطل ، وأقره المشذالي وابن غازي .
وقال العلامة الصاوي : ( وقال بعضهم : هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل وإلاّ كان لربها الأحظ من أخذ القيمة أو بما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة على القديمة ، وهذا هو الأظهر لظلم المدين بمطله ، قال الأجهوري : ( كمن عليه طعام امتنع ربه من أخذه حتى غلا فليس لربه إلاّ قيمته يوم امتناعه ) .
وقد سجل ذلك ناظم المنهج لميارة الفاسي فقال :
للأول القيمة ، والثانـي مثل وشـــــــــــهد الثاني نعم به العمل
لكــنه مــــقيـــــد بـــــمـا إذا لم يحصل المـــطل فقال : يا حبذا
وإن يكن فأوجبن عليه مـــا آل لــه الأمر لظلم قــــد ســـــــــما
قلت:وهذا ظاهر إن كان ما آل إليه الأمــر رفــيـعـــاً فاعــلما

التراضي باب مفتوح :

كل ما قلناه إذا كان هناك عناد من أحد الطرفين ، أما إذا تراضيا عند سداد الدين أو الوفاء بالثمن ، أو المهر ، أو نحو ذلك تراضياً بالمعروف على الزيادة ، أو النقصان ، فإن أحداً من الفقهاء لم يمنع ذلك ، بل هذا ما دعا إليه الاسلام ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة في ذلك ، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم : أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه بعيراً ، فقال : ( أعطوه ) فقالوا : لا نجد إلاّ سنّاً أفضل من سنه ، فقال : ( أعطوه ، فإن خياركم أحسنكم قضاءً ) .
فعلى هذا إذا حل الأجل وجاء المدين ورأى أن المبلغ الذي يرده الآن لا يساوي شيئاً بالنسبة لقيمة المبلغ الذي أخذه ، وقدرته الشرائية ، فطاب خاطر الدائن ونفسه بالزيادة في المقدار ، أو بسلعة أخرى فقد فعل الحسن ، وطبق السنة ، بل إنني أعتقد أن لا تبرأ ذمته في حالات التغير الفاحش لقيمة العملة محل العقد إلا بإرضاء صاحب الحق ، لأن مبنى الأموال وانتقالها في الاسلام على التراضي وطيب النفس بنص القرآن الكريم : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ ان تكون تجارة عن تراض منكم ….. ) .
فكيف تطيب نفسه عندما يقع الظلم عليه ، ويرجع إليه ماله وقد اقتطع منه أجزاء ، وأفرغ من كثير من محتواه ؟ صحيح أن مبنى القرض على التطوع والتبرع ، ولكنه تطوع وتبرع بالوقت الذي أمهله دون مقابل محتسباً أجره عند الله تعالى ، أما أن ينقص ماليته فلا ، ولذلك نرى الفقهاء يجيزون رد العين المستقرضة إلى المقرض ، ما دامت لم تتعيب بعيب ينقص من ماليته ، أما إذا تعيبت فلا يصح ردها ، فكذلك الأمر هنا .
وقد ذكر الإمام ابن السبكي جواز أخذ القيمة في المثلي ، إذا رضي الطرفان ، فقال : ( لو تراضيا على أخذ قيمة المثلي مع وجوده ، وجهان أصحهما عند الوالد رحمه الله : الجواز ) ثم ذكر أنه يعلل الجواز بأنه اعتياض عما يثبت في الذمة من المثلي .
فلا شك أن مسألة التراضي تحل كثيراً من مشاكل مجتمع قائم على العدل والاحسان والايثار ، مثل المجتمع الاسلامي الذي يقوم على معيار دقيق ، وهو : ( أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك ، وتكره لأخيك ما تكره لنفسك ) .
فهل يرضى الإنسان أن يعود إليه دينه ، او يعطي لها مهرها ، وقد أصبح لا قيمة له بعد أن كان ذا قيمة جيدة ، فهل يرضى أحد أن يعود إليه ليراته اللبنانية ، أو السورية ، أو التركية الآن مع أنها حينما خرجت من يديه كانت لها قيمة وقدرة شرائية ممتازة ؟ هذا السؤال موجه إلى كل مؤمن ، وذلك لأن الاسلام لا يعتني بالجانب الظاهري القانوني فقط ، بل يعتني أيضاً بالجانب السلوكي ، ولذلك فالعذاب فيه ليس دنيوياً فقط بل هو في الدنيا والآخرة ، والأحكام لا تقتصر على الصحة والبطلان الظاهرين ، بل هناك الحل والحرمة ، والذي يراقب الله تعالى يخاف من عذاب الله في الآخرة أكثر من العذاب الدنيوي .
اعتراضات ودفعها :

الاعتراض الأول :
إن هذا القول يؤدي إلى زيادة في بعض الأموال ، وهي ربا ، وهو حرام بنص القرآن الكريم ، مثل أن يقرض شخص قبل عشر سنوات عشرة آلاف ليرة ، فلوا قدرنا القيمة يمكن أن يساوي مائة ألف ليرة ، وهذا عين الربا .
الجواب عن ذلك : أن ذلك ليس زيادة ولا ربا لما يأتي :

أولاً ـ أن الربا هو الزيادة دون مقابل ، والزيادات الموجودة هنا ليست في الواقع إلا زيادة من حيث الشكل والعدد وهذا ليس له أثر ، فالزيادة التي وقعت عند التقويم وهي ليست زيادة وإنما المبلغ المذكور أخيراً هو قيمة المبلغ السابق ، وبالتالي فالمبلغان متساويان من حيث الواقع والحقيقة والقيمة .

ثانياً ـ ان الربا هو الزيادة المشروطة ، وهنا لم يشترط الدائن مثلاً أية زيادة ، وإنما اشترط قيمة ماله الذي دفعه ، ولذلك قد تنقص في حالة ما إذا ارتفع سعر النقد الذي أقرضه ـ مثلاً ـ وأصبحت قوته الشرائية أكثر من وقت العقد والقبض .
ثالثا ـ أنه يمكن أن نشترط أن يكون الرد بغير العملة التي بها العقد في حالة الزيادة وهذا هو الراجح ، وفمثلاً لو كان محل العقد ليرة لبنانية ، فليكن الرد عند الزيادة ، أو النقص بالريال ، أو بالدولار ، أو بالجنيه وهكذا ، فاستيفاء الدراهم بدلاً من الدنانير ، وبالعكس أمر معترف به عند جمهور الفقهاء ـ منهم الحنفية والمالكية والشافعية ، والحنابلة ـ واستدلوا على جوازه بأدلة ، منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال : ( كنت أبيع الابل بالبقيع ، فأتييت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في بيت حفصة ، فقلت يا رسول الله : رويدك أسألك : إني ابيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير ، وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير ، آخذ هذه من هذه ، واعطي هذه من هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا بأس ان تأخذها بسعر يومها ، ما لم تفترقا وبينكما شيء ) قال الخطابي : ( ذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه ، ومنع من ذلك أبو سلمة بن عبدالرحمن وابن شبرمة ، وكان ابن أبي ليلى يكره ذلك إلاّ بسعر يومه ، ولم يعتبر غيره السعر ، ولم يبالوا ذلك بأغلى ، أو أرخص من سعر اليوم …) قال الحافظ السندي : ( والتقدير بسعر اليوم على طريق الاستحباب ) وقد ورى النسائي عن بعض التابعين أنهم لا يرون بأساً في قبض الدراهم مكان الدنانير ، وبالعكس ، في جميع العقود الآجلة بما فيها القرض ) .

قال ابن قدامة معلقاً على حديث ابن عمر : ( ولأن هذا جرى مجرى القضاء ، فقيد بالمثل كما قضاء من الجنس ، والتماثل ههنا من حيث القيمة لتعذر التماثل من حيث الصورة ) .
ثم إن هذه المسألة ليست بدعاً في الأمر ، ولا هي في المسائل التي لا نجد فيها نصاً لفقهائنا السابقين في أشباهها ، بل نجد لها مثيلات كثيرة في فقهنا الاسلامي نذكر بعضها هنا :
يقول الإمام الرافعي : ( وإذا أتلف حلياً وزنه عشرة ، وقيمته عشرون ، فقد نقل أصحابنا وجهين فيما يلزمه :

أحدهما : أنه يضمن العين بوزنها من جنسها ، والصنعة بقيمتها من غير جنسها سواء كان ذلك نقد البلد ، أو لم يكن ، لأن لو ضمنا الكل بالجنس لقابلنا عشرة بعشرين وذلك ربا .
وأصحهما عندهم : أنه يضمن الجميع بنقد البلد ، وإن كان من جنسه ) .
ونجد أمثلة كثيرة في كل المذاهب الفقهية في باب ضمان المتلفات ـ كما سبق ـ ونجد كذلك في باب العقود عند مالك ، حيث أجاز أن يعطي الإنسان مثقالاً وزيادة في مقابل دينار مضروب ، وكذلك أجاز بدل الدينار الناقص بالوزن ، أو بالدينارين ، وروي مثل ذلك عن معاوية رضي الله عنه ، يقول ابن رشد : ( وأجمع الجمهور على أن مسكوكه ، وتبره ، ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلاً ، لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك إلاّ معاوية فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر ، والمصوغ ، لمكان زيادة الصياغة ، وإلاّ ما روي عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب ، ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه ، وأو دراهمه ، فقال : إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك ، فأرجو ألا يكون فيه بأس ، وبه قال ابن القاسم من أصحابه ) .
والمقصود بهذا النص أن الزيادة ما دام لها مقابل ، لا تعتبر ربا ، لأن الربا هو ( الفضل المستحق لأحد العاقدين في المعاوضة الخالي عن عوض شرط فيه ) .

الاعتراض الثاني :

إن القول برعاية القيمة يؤدي إلى تحطيم النقود كنقد ، وبالتالي تترتب عليه مشاكل لا عدّ له ولا حصر؟
الجواب عن ذلك : أننا لا نسلم أن ذلك يؤدي إلى تحطيم النقود ، وإنما يؤدي إلى أن يكون دورها بحيث لا تؤدي جميع وظائفها الأربع المعروفة وهذا لا يضر ، حيث اعترف كثير من الاقتصاديين بأن نقودنا لا تؤدي هذه الوظائف جميعها ، أو لا تؤديها على شكل مقبول ، كما أنهم الآن وسعوا مفهوم النقد ، ليشمل انواعاً كثيرة لا يؤدي بعضها إلاّ وظيفة واحدة ـ كما سبق ـ مع أن ذلك لا يتعارض مع نقديتها ، وسبق أن الفقهاء الذين قالوا بان الفلوس ثمن ، ومع ذلك لم يثبتوا لها جميع الأحكام الخاصة بالذهب ، أو الفضة .
ومن جانب آخر أن ذلك إنما يحصل إذا لم توضع معايير دقيقة ، ولكنا ما دمنا نعترف بالنقود الورقية بأنه نقود ـ وإن كانت لا تؤدي جميع الوظائف ـ وتربط إما بمعيار الذهب ، أو معيار السلعة ، فإنه في الحقيقة لا تحدث أية مشكلة تذكر ، بل هي تحقق العدالة ، بالاضافة إلى أننا لا نلجأ إلى عملية التقويم دائماً ، فلا نلجأ إليه في جميع العقود التي يتم فيها قبض الثمن مباشرة ، وكذلك لا نلجأ إلى التقويم في العقود التي يكون الثمن مؤجلاً إلاّ في حالة الغبن الفاحش أو انهيار قيمة النقد ، كما سبق .

الاعتراض الثالث :

لماذا لم نعتد بالرخص والغلاء في الذهب والفضة ، والحنطة والشعير ونحوهما في الوقت الذي نعتد بهما في النقود الورقية ؟
الجواب عن ذلك : أن هذه القضية تتعلق بالمثلي والقيمي ، حيث لا ينظر في المثلي إلى القمة ، وأما القيمي فيلاحظ فيه القيمة ـ كما سبق ـ ونحن قلنا : إن النقود الورقية لا يمكن اعتبارها مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام ، كما أنه لا يصح القول بإلغاء نقديتها ، وإنما الحل الوسط هو ما ذكرناه .
ومن هنا فهي وإن كانت مثلية ـ كقاعدة عامة ـ لكنها عند وجود الفرق الشاسع يلاحظ فيها القيمة ، كالماء الذي أخذه الإنسان في الصحراء ، فلا يرجع له الماء ، وإنما عليه قيمته في ذلك المكان .
وهذا الحل ليس خاصاً برد القرض ، بل هو عام في جميع الحقوق التي تؤدى بالعملات الورقية ، فنرى ضرورة ملاحظة القيمة في الاجارات والرواتب والأجور ونحوها ، وهذا ما تلاحظه الدول المتقدمة عندما يكون التضخم كبيراً ، فليس من العدالة أنك لو استأجرت بيتاً بألف ليرة لبنانية ـ أو نحوها ـ عام سبعين أن تدفع نفس المبلغ اليوم ، فألف في 1970 كان يساوي 500 دولار تقريباً وألف اليوم يساوي دولارين فقط ، وكذلك الرواتب والأجور والله أعلم .
وفي الختام هذا ما اطمأنت إليه نفسي ، وأدى إليه اجتهادي المتواضع ، فإن كنت قد أصبت فمن الله ، وإلاّ فعذري أنني بذلت كل ما في وسعي ، ولم أرد له إلاّ وجه الله تعالى .
ومع ذلك فما أقوله عرض لوجهة نظري ، أرجو أن تنال من الباحثين الكرام النقد والتحليل ، للوصول إلى حل جذري أما هذه المشكلة .
وكلمة أخيرة أكررها هي أنه ليس هناك من محيص للخروج من هذه الأزمات الجادة إلاّ بالرجوع إلى النقدين الذاتيين ، أو على الأقل ربط نقودنا الورقية بالغطاء الذهبي ، وهذا ما يدعو إليه كثير من الاقتصاديين ، بل بعض المؤتمرات ـ كما سبق ـ فلا شك في أن ربط النقد الورقي بالذهب إنما هو إعادة إلى أصله الذي تأصل عليه ، فإلى أن نعود إلى هذا النظام فلا بدّ من أن نلاحظ القيمة في نقودنا عندما تقتضيه الضرورة والحاجة ، حتى تتحقق العدالة ( دون وكس ولا شطط ) .

المعيار المعتمد في التقويم والتقدير لقيمة النقد :

وبعد هذا العرض لتلك الحلول نجد أن أمامنا أربعة معايير وهي :

المعيار الأول :
الاعتماد على السلع الأساسية مثل الحنطة والشعير واللحم والأرز ، بحيث لا نقوّم المبلغ المطلوب من النقود الورقية عند إنشاء العقد : كم كان يشترى بها من هذه السلع الأساسية ؟ ثم نأتي عند الرد أو الوفاء إلى القدر الذي يشترى بها الآن من هذه السلع ، فحينئذ يتضح الفرق ، وهذا ما يسمى بسلة السلع والبضائع ، وهي معتبرة في كثير من الدول الغربية يعرفون من مخلالها التضخم ونسبته ، ويعالجون على ضوئها آثار التضخم ، ولا سيما في الرواتب والأجور ، ويمكن الاعتماد على السلعة الغالبة في البلد .
ويشهد على هذا الاعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل دية الانسان ـ وهو أغلى ما في الوجود ـ الإبل مع وجود النقدين ـ الدراهم والدنانير ـ في عصره .
ويقال : إن السبب في ذلك هو أن الإبل كانت السلعة الغالبة لدى العرب ، فجعلها الرسول صلى الله عليه وسلم الأصل ، وقوّمها عليهم بالذهب أو الفضة ، كما ذكر العلماء أن الإبل قد عزّت عندهم ، ومع ذلك لم يجعل الذهب أو الفضة أصلاً في الدية ، ومن هنا زاد القدر حسب قيمة الإبل ، فقد ورى أبو داود وغيره بسندهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : ( كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني مائة دينار ، وثمانية آلاف درهم …. فكان ذلك حتى استخلف عمر فقام خطيباً فقال : ( ألا إن الإبل قد غلت ) قال : ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً .
قال الخطابي : ( وإنما قوّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القرى ، لكون الإبل عزت عندهم فبلغت القيمة في زمانه من الذهب ثماني مائة ، ومن الورق ثمانية آلاف درهم فجرى الأمر كذلك إلى أن كان عمر ، وعزت الإبل في زمانه ، فبلغ بقيمتها من الذهب ألف دينار ، ومن الورق اثني عشر ألفاً ) .

والواقع أن هناك روايات أخرى تدل على أن قيمة الإبل حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مستقرة استقراراً تاماً ، وإنما كانت تباعة لغلاء الإبل ورخصها ، فقد روى أبو داود ، والنسائي والترمذي بسندهم : ( أن رجلاً من بني عدي قتل ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً ) .

كما روى الدارمي ان الرسول صلى الله عليه فرض على أهل الذهب ألف دينار .
ورى النسائي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل الإبل ، إذا غلت رفع قيمتها ، وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان ، فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار ، او عدلها من الورق ) وروى البخاري بسنده في قصة شراء النبي صلى الله عليه وسلم ناقة جابر قال ابن جريح عن عطاء وغيره ، عن جابر : ( أخذته بأربعة دنانير ) وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة دراهم .
كل ما ذكرناه يدل بوضوح على أهمية اعتبار السلع الأساسية وجعلها معياراً يرجع إليه عند التقويم ، ومن هذا المنطلق يمكن أن نضع سلة لهذه السلع ونقيس من خلالها قيمة النقوم ـ كما ذكرنا ـ ولذلك نرى الأستاذ القرضاوي يثر تساؤلاً حول إذا ما هبطت قيمة الذهب أيضاً : فهل من سبيل إلى وضع معيار ثابت للغنى الشرعي ؟ فيقول : ( وهنا قد نجد من يتجه إلى تقدير نصاب النقود بالأنصبة الأخرى الثابتة بالنص ) ثم ذكر عدة خيارات داخل السلع الأساسية ، مثل الابل ، والغنم ، والرزوع والثمار ، ثم رجح كون الابل والغنم المعيار الثابت ، حيث إن لهما قيمة ذاتية لا يتنازع فيها أحد .

المعيار الثاني :

الاعتماد على الذهب واعتباره في حالة نشأة العقد الموجب للنقود الورقية ، وفي حالة القيام بالرد ، وأداء هذا الالتزام ، بحيث ننظر إلى المبلع المذكور في العقد كم كان يشترى به من الذهب ؟ فعند هبوط سعر النقد الورقي الحاد أو ارتفاعه الحاد يلاحظ في الرد ـ وفي جميع الحقوق والالتزامات ـ قوته الشرائية بالنسبة للذهب ، فمثلاً لو كان المبلغ المتفق عليه عشرة آلاف ريال ويشترى به ألفا جرام من الذهب ، فالواجب عند الرد والوفاء بالالتزام المبلغ الذي يشترى به هذا القدر من الذهب ، وذلك لأن الذهب في الغالب قيمته أكثر ثباتاً واستقراراً ، وأنه لم يصبه التذبذب والاضطراب مثل ما أصاب غيره حتى الفضة ، ولذلك رجح مجمع البحوث الاسلامية الاقتصار ـ في التقويم بخصوص النصاب في عروض التجارة والنقود الورقية ـ على معيار الذهب فقط ، لتميزه بدرحة ملحوظة من الثبات ، ويشهد لاعتبار الذهب دون الفضة في التقويم أن الذهب لم يقوّم بغيره في حين أن الفضة قد قوّمت به في مسألة نصاب السرقة ، يقول السيوطي : ( الذهب والفضة قيم الأشياء إلاّ في باب السرقة ، فإن الذهب أصل ، والفضة عروض بالنسبة إليه ) نص عليه الشافعي في الأم ، وقال : ( لا أعرف موضعاً تنزل فيه الدراهم منزلة العروض إلاّ في السرقة ) .
ثم إذا حصل توافق بين الطرفين على القيمة فبها ونعمت ، وإلاّ فيرجع الأمر فيها إلى القضاء ، أو إلى التحكيم ، وتنطبق على هذه المسألة حينئذ جميع القواعد العامة في الدعوى والبينات والقضاء .

الجمع بين المعيارين :
ويمكن لقاضي الموضوع ، أو المحكم أن يجمع بين المعيارين بأن يأخذ في اعتباره متوسط قيمة النقد للذهب والسلع الأساسية يوم إنشاء العقد .

المعيار الرابع :
الاعتماد على عملة مستقرة نوعا ما مثل الدولار ، أو الجنيه الاسترليني ، أو الين الياباني ، وأولى منه الاعتماد ، على سلة العملات الدولية ، وذلك بأن يعتمد في وقت الأداء على قيمة النقد الذي تم عليه التعاقد في يومه بمقابل الدولار الأمريكي ، والجنيه الاسترليني ، والمارك الألماني ، والين الياباني ، والفرنك الفرنسي ، فيؤخذ متوسط الأسعار يوم العقد فيجع المعيار في قيمة النقد وقت الأداء وقد ذكرنا في الحل الثاني ، والحل الثالث تأصيلاً فقهياً لهذا .

الخلاصة في تطبيق أثر تغير القيمة الشرائية على المهور المسماة :

يظهر لنا مما ذكرناه من الخلافات الفقهية والتأصيل أن المهور المسماة ( كذلك الالتزامات الآجلة ) تتأثر بتغير القيمة الشرائية للنقد الذي سمى به المهر في ثلاث حالات :

الحالة الأولى : حالة الكساد وإبطال النقد السابق المسمى بنقد آخر كما هو الحال بالنسبة لمعظم البلاد الاسلامية التي تغيرت عملتها بعد التحرير ، أو لأي سبب آخر ، ففي هذه الحالة تكون العبرة بقيمة تلك العملة في يوم عقد النكاح وتسمية المهر ، ويكون المعيار لاعتماد هذه القيمة أحد الأمرين :
1. الذهب ، لأنه أكثر استقراراً ، حيث لو فرضنا أن المهر المسمى لفاطمة عشرون روبية انجليزية ( هندية ) في عام 1940 ، وأن قيمتها ـ مثلاً ـ عشرون جراماً من الذهب فحينئذ نحكم على أن مهرها عشرون جراماً من الذهب ، وهكذا ….
ويرجع في معرفة قيمة الروبية ـ مثلاُ ـ في عام 1940 في مثالنا السابق إلى كل الوسائل الممكنة لتحديد قيمتها أمام الذهب ، مثل البورصة ، والجرائد ، والسجلات القديمة ، ونحوها .
2. الاعتماد على أهم السلع المتاحة في عام 1940 في مثالنا السابق ، بحيث ننظر من خلال الوسائل المتاحة أن عشرين روبية كم كانت تشترى بها من السلع الأساسية في البلد مثل الحيوانات ، أو اللحوم ، والحبوب ( القمح والأرز ) ونحو ذلك ، وحينئذ فلو فرضنا أن عشرين روبية كانت تشترى بها خمس إبل من متوسطي الإبل ، لحكمنا لها بقيمة خمس إبل في عصرنا الحاضر حسب متوسطي أسعار الإبل اليوم ،،، وهكذا .

الحالة الثانية : التغير الكبير بحيث تصل نسبة التضخم 33% مقارنة بين قيمة المهر يوم العقد ، وقيمته يوم القبض ففي هاتين الحالتين نعرض عدة حلول من أهمها :
الحل الأول : وهو حل اختياري تابع لتقدير القاضي ، وهو الأخذ بالصلح الواجب ـ كما سبق شرحه ـ وهذا يعني بإيجاز وجوب توزيع الضرر على المتعاقدين بالتساوي ، أي أن تتنازل المرأة عن جزء من قيمة مهرها ، وإن كان الأفضل للزوج أن يكون أكرم ، فيكون العفو من طرفه فيعطي للمرأة كل حقها .
الحل الثاني : وهو الحل العام ، وهو مراعاة قيمة العملة يوم عقد الزواج وتسمية المهر .
ولكيفية تنفيذ هذا الحل نعتمد على أحد المعايير الآتية :
1) الاعتماد على الذهب ـ كما سبق ذكره في الحالة الأولى ـ ، فمثلاً لو أن مهر مريم كان عشرة آلاف دينار في 1970 ، والآن تطالب به ، فننظر إلى أن هذا المبلغ كان كم يشترى به في هذا العام من الذهب ، وهو سهل لأن قيمة الدينار العراقي في عام 1970 ثلاثة دولارات وهذا يعني أن قيمة العشرة هي ثلاثون ألف دولار ، ثم ننظر في السجلات والدفاتر والبورصات لمعرفة قيمة الذهب أمام الدولار وحينئذ تعرف كمية الذهب التي كانت تشترى بهذا المبلغ ، وحينئذ يحكم القاضي بقيمة الكمية المساوية لثلاثين ألف دولار .
2) الاعتماد على السلع الأساسية ـ كما سبق ذكره في الحالة الأولى أيضاً ـ فمثلاً لو أن مهر عائشة في عام 1970 عشرة آلاف دينار فننظر حينئذ كم كانت تشترى من السلع الأساسية ( الحيوان ، والحبوب…. ) بهذا المبلغ ، فلو اعتبرنا أن هذا المبلغ كان يشترى به عشرون ناقة ، فيحكم القاضي لعائشة بقيمة عشرين ناقة من متوسطي النوق اليوم .
3) الاعتماد على سلة العملات الرئيسية ، ولنضرب لذلك مثالاً ، بأن مريم كان مهرها في عام 1970 عشرة آلاف دينار عراقي ، ولم تستلمها إلى الآن 2007 ، فننظر إلى أن هذا المبلغ كم كان يشترى به من العملات الرئيسية ( الدولار ، والجنيه الاسترليني ، والفرنك الفرنسي ، والدوج مارك ) وحينئذ يحكم القاضي بهذه النتيجة ، ومن المعلوم ان الوصول إليها ليس صعباً ، لأن أسعار العملات العالمية مسجلة منذ فترة طويلة قد تصل إلى بداية القرن العشرين .
4) الاعتماد على الدولار وحده ، باعتباره العملية العالمية ، وأن معظم العملات العربية مرتبطة به ، ولذلك ففي مثالنا السابق لو حكم القاضي لصالح مريم بعشرة آلاف دولار لما جافى الحق والحقيقة ،، والله أعلم .

المبحث الثالث : التداخل بين الدية والتعويضات المالية الأخرى :

يقصد بهذا العنوان العلاقة بين وجوب الدية ، والتعويضات الأخرى أمران أساسيان هما :

1. التداخل بين الديات المقدرة ، والأروش ، وحكومة العدل
2. التداخل بين الديات المقدرة والتعويضات المدنية الأخرى سواء كان التعويض مادياً أم معنوياً .
وسنتحدث عن هذين الموضوعين بإيجاز شديد :

أولاً ـ التداخل بين الديات المقدرة ، والأروش ، وحكومة العدل :

فالدية هي المال المقدر بسبب جناية على النفس ، أو ما دونها يسقط فيها القصاص .
وهي بهذا التعريف تشمل المال الواجب بسبب الجناية على النفس ، أو ما دونها ، وهذا رأي الحنفية ، والحنابلة ، والأظهر في مذهب الحنفية ورجحه بعض المالكية ، وأما معظم المالكية ، ومعظم الحنفية خصصوا الدية بما يقابل النفس .
والذي يظهر لي رجحانه هو رأي الجمهور ، إذ لا دليل على تخصيصه بالنفس .
وعلى ضوء ذلك فالأرش هو المال المقدر الواجب في الجناية على ما دون النفس يكون أخص من الدية ، ولكن جماعة من الفقهاء أطلقوه على بدل النفس أيضاً و حينئذ يكونان مترادفين.

وأما حكومة العدل فهي المال الذي يقدره القاضي أو المحكم في جناية وليس فيها مقدار معين من المال ، وحينئذ تختلف تماماً عن الدية والأرش من حيث أنهما يطلقان على مال مقدر معين من الشرع ، فتكون العلاقة التباين حسب اصطلاح المناطقة.
ونحن لا ندخل في تفاصيل وأحكام هذه المصطلحات الثلاثة التي لا يسع لها هذا البحث ، وإنما نتحدث عن التداخل فيما بينها ، بأن تكون جناية أحدثت دية كاملة ، ومع ذلك أحدثت ما يوجب الأرش ، وما يوجب حكومة العدل ، وذلك بأن قام شخص بقطع رجل شخص ، ثم قتله أو سرى إلى قتله ، أو قام بقطع رجله ، وإحداث جرح ليس فيه دية ، ولا أرش وإنما يوجب حكومة ثم قتله ، أو سرى إلى قتله ، أو قام بإحداث جرح لا يوجب دية ولا أرشاً ولكن يوجب حكومة عدل ، ثم قطع العضو فوجبت عليه دية هذا العضو كاملة ، أو سرى الجرح إلى تلف العضو تلفاً كلياً .

ففي هذه الحالات هل نقول بالتداخل ، وبالتالي فيكتفى بدية النفس فقط ؟ أو العضو فقط ؟ أم نقول بعدم التداخل فتؤخذ هذه الديات كلها مع قطع النظر عن النتيجة ؟

وقبل أن أجيب عن هذه الأسئلة أذكر ما ذكره الفقهاء في هذا المجال لأصل إلى ما هو الراجح من أقوالهم .
فقد تطرق الحنفية إلى موضوع التداخل بالتفصيل حتى ذكر ابن نجيم ست عشرة صورة ، لا يسع المجال لذكرها وخلاصتها أن الحنفية يقولون : بأن الجنايات على النفس والأطراف إذا تعددت كما لو قطع عضواً من أعضائه ، ثم قتله ، فإنها لا تتداخل إلاّ في حالة اجتماع جنايتين على واحد ولم يتخللهما برء .
وأما المالكية فيقولون بالتداخل : إذا كانت الجناية عمداً وقتل فيها الجاني حيث يكتفى بقتله ، ولا يجب عليه شيء آخر حتى لو قطع يد شخص آخر ، فلا تقطع يده إلاّ إذا قصد الجاني عليه بجنايته على الطرف مثلة فحينئذ فلا يندرج الطرف في القتل حيث يقتص من الطرف ثم يقتل .

أما إذا لم يتعمد الجاني الجناية على الطرف فإنها لا تندرج في الجناية على النفس ، كما لو قطع يد شخص خطأ ، ثم قتله عمداً وعدواناً ، فإنه يقتل به ، ودية اليد على عاقلته .

وقد لخص الإمام النووي مذهب الشافعية فقال : (فيجوز أن تجتمع في شخص ديات كثيرة، بأن تزال منه أعضاء ومنافع، ولا يسري إلى النفس، بل تندمل، وهذا بيان الديات. الاذنان، أو إبطال إحساسهما، العينان أو البصر، الاجفان، المارن، الشفتان، اللسان أو النطق، الاسنان، اللحيان، اليدان، الرجلان، الذكر، الانثيان أو الحلمتان والشفران، الاليان، العقل، السمع، الشم، الصوت، الذوق، المضغ، الامناء أو الاحبال، إبطال لذة الجماع، إبطال لذة الطعام، الافضاء في المرأة، البطش، المشي، وقد يضاف إليها المواضح وسائر الشجات، والجوائف والحكومات، فيجتمع شئ كثير لا ينحصر، فإذا اندملت هذه الجراحات، وجب جميع هذه الديات، وإن سرت فمات منها، وجب دية واحدة بلا خلاف، ولو عاد الجاني، فحز رقبة المجروح.

أو قده نصفين، فإن كان ذلك بعد الاندمال، وجبت دية الاطراف ودية النفس لاستقرار دية الاطراف بالاندمال، وإن كان قبل الاندمال، فوجهان، الاصح المنصوص: أنه لا يجب إلا دية النفس، كالسراية، والثاني خرجه ابن سريج، وبه قال الاصطخري، واختاره الامام: تجب ديات الاطراف مع دية النفس، هذا إذا اتفقت الجناية على النفس والاطراف في العمد أو الخطإ، فأما إذا كانت إحداهما عمدا، والاخرى خطأ، وقلنا بالتداخل عند الاتفاق، فهنا وجهان، أحدهما: التداخل أيضا، وأصحهما: لا، لاختلافهما واختلاف من يجنيان عليه، فلو قطع يده خطأ، ثم حز رقبته قبل الاندمال عمدا، فللولي قتله قصاصا وليس له قطع يده، فإن قتله قصاصا، فإن قلنا بالتداخل، وجعلنا الحكم للنفس، فلا شئ له من الدية، وإن قلنا: لا تداخل، أخذ نصف الدية من العاقلة لليد، وإن عفا عن القصاص، فإن قلنا بالتداخل، فوجهان، أحدهما: يجب دية نصفها مخففة على العاقلة، ونصفها مغلظة على الجاني، وينسب هذا إلى النص، وأصحهما وبه قطع البغوي: يجب دية مغلظة على الجاني، لان معنى التداخل إسقاط بدل الطرف والاقتصار على بدل النفس لمصير الجناية نفسا، وإن قلنا: لا تداخل، وجب نصف دية مخففة على العاقلة، ودية مغلظة عليه، وإن قطع يده عمدا، ثم حز رقبته خطأ قبل الاندمال، فللولي قطع يده، وإذا قطعها إن قلنا بالتداخل، فله نصف الدية المخففة، لانه أخذ بالقطع نصف بدل النفس، وإن قلنا: لا تداخل، فله كمال الدية المخففة، وإن عفا عن القطع، فإن قلنا بالتداخل، فعلى الوجهين، على النص يجب نصف دية مخففة، ونصف مغلظة لليد، وعلى الآخر دية مخففة للنفس، قال الامام: ولو قطع يديه ورجليه أو أصبعه عمدا، ثم حز رقبته قبل الاندمال خطأ أو بالعكس، وقلنا: تراعى صفة الجنايتين على القول بالتداخل، تنصفت تخفيفا وتغليظا، ولا نظر إلى أقدار أروش الاطراف، لان الحكم بالتداخل مبني على أن الحز بعد قطع الاطراف كسراية الاطراف، فكان الحز مع الجراحات السابقة، كجراحات مؤثرة في الزهوق انقسمت عمدا وخطأ، وحينئذ تتنصف الدية تخفيفا وتغليظا ولا نظر إلى أقدار الاروش ) .

والحنابلة يقولون : بأن الجاني إذا قتل فلا شيء عليه ، أما إذا لم يقتل ، ففيه خلاف ، يقول ابن قدامة : ( الحال الثاني‏:‏ أن يصير الأمر إلى الدية‏,‏ إما بعفو الولي أو كون الفعل خطأ أو شبه عمد‏,‏ أو غير ذلك فالواجب دية واحدة وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم‏:‏ تجب دية الأطراف المقطوعة ودية النفس لأنه لما قطع بسراية الجرح بقتله صار كالمستقر فأشبه ما لو قتله غيره ولهذا لم يسقط القصاص فيه) ويقول : ( قال‏:‏ ‏ ‏وإن كانت الجراح برأت قبل قتله فعلى المعفو عنه ثلاث ديات‏,‏ إلا أن يريدوا القود فيقيدوا ويأخذوا من ماله ديتين‏ أما إذا قطع يديه ورجليه فبرأت جراحه ثم قتله‏,‏ فقد استقر حكم القطع ولولي القتيل الخيار إن شاء عفا وأخذ ثلاث ديات دية لنفسه‏,‏ ودية ليديه ودية لرجليه وإن شاء قتله قصاصا بالقتل‏,‏ وأخذ ديتين لأطرافه وإن أحب قطع أطرافه الأربعة وأخذ دية لنفسه وإن أحب قطع يديه وأخذ ديتين لنفسه ورجليه وإن أحب قطع رجليه‏,‏ وأخذ ديتين لنفسه ويديه وإن أحب قطع طرفا واحدا وأخذ دية الباقي وإن أحب قطع ثلاثة أطراف وأخذ دية الباقي وكذلك سائر فروعها لأن حكم القطع استقر قبل القتل بالاندمال‏,‏ فلم يتغير حكمه بالقتل الحادث بعده كما لو قتله أجنبي ولا نعلم في هذا مخالفا‏) .

الخلاصة أن هناك خلافاً بين الفقهاء لا يسع المجال لذكر أدلة كل فريق مع المناقشة ، ولكن الذي يظهر لنا رجحانه هو عدم التداخل بين الديات والأروش وحكومات العدل ، إلاّ في حالة سراية الجناية إلى ما هو أعلى ، مثل أن تسري جناية توجب حكومة إلى دية العضو نفسه قبل أن تندمل ، فحينئذ يكتفى بدية النفس .
وكذلك إذا سرت جناية على طرف توجب ديته إلى موت الشخص نفسه ، وحينئذ يكتفى بدية النفس ، والسبب في ذلك أن الجناية واحدة وبالتالي بالعبرة بها وبمآلاتها .

وأما فيما عدا ذلك فلا ينبغي القول بالتداخل وذلك لتعدد الجنايات ، وبالتالي فتعدد الديات كل حسب نوعه .
وأيضاً فإن الأصل هو كرامة الانسان وحرمة الاعتداء عليه ، ولذلك جعل الحفاظ على نفس الانسان وأعضائه من مقاصد الشريعة الضرورية ، ومن هنا فإن أي اعتداء على نفس الإنسان أو ما دونها لا يجوز أن يهدر ، لأنه يدخل في حقوق العباد التي يجب الحفاظ على كثيرها ، وقليلها ، في حين أن حقوق الله تعالى يمكن أن يطبق عليها التداخل .
ومن جانب آخر فإنه يمكن قياس ذلك على الاعتداء على المال بطريق القياس الأولى ، حيث يجب الحفاظ على المال قليله وكثيره ، وأن أي اعتداء عليه بالاتلاف يوجب التعويض .
ومن جهة أخرى ان الحكمة في إيجاب الديات ترجع إلى أن إطفاء الألم والغيظ في نفس المجنى عليه ، وذويه ، فيه ترضية لهم ، في مقابل حق الانتقام الشخصي ، ولذلك فيها جانب من العقوبة الأصلية في حالة الخطأ ، أو شبه العمد عند من يقول به ، أو العقوبة التبعية كما في حالة العمد الواجب فيه للقصاص ، كما أن الدية تعويض للآلام النفسية التي تصيب المجنى عليه .
فإذا كان الأمر كذلك فإن القول بالتداخل يترتب عليه عدم العدالة ، وعدم تحقيق هذه الحكم التي شرعت الديات والأروش وحكومة العدل لأجلها .

ثم إن من قطعت أصابعه أولاً ، ثم قطعت يده كيف يتساوى مع من قطعت يده مرة واحدة من حيث الآلام ؟ لا يستويان ، لذلك فإذا عفا الأول ورضي بالدية ، فيأخذ أولاً ديات الأصابع الخمس ، ثم دية اليد كاملة ، وكذلك من قطعت يده ، ثم قتل بطريق آخر ، وليس بالسراية ، ووجبت الدية ، فنرى أنه تجب دية اليد ، ثم دية النفس كاملة .
ويدل على ذلك أيضاً أن دية النفس ليست تعويضاً كاملاً لنفس المجنى عليه ، ولا ثمناً لها بالاجماع ، يدل على ذلك اتفاق الفقهاء على أن من قطع يدي شخص ، فعليه دية كاملة ، ثم قطع رجليه فعليه دية ثانية ، وإذا قطع ذكره أيضاً فعليه دية ثالثة ، وإذا قطع الأنف فعليه دية رابعة ، وإذا قطع لسانه فعليه دية خامسة ، وكذلك القوي والمعانى ، فإذا أدى جنايته إلى تفويت معنى ، أو منفعة على الكمال ففيه دية كاملة ففي مثالنا هذا لو اعتدى على عينه ولم تتأثر عينه ولكن زالت قوتها ففيها دية سادسة ، وكذلك في إذهاب العقل دية كاملة ، وفي إذهاب قوة النطق دية كاملة ، وهكذا الأمر في قوة الذوق ، وقوة الشم ، وقوة السمع ، وقوة الجماع إذا سقط القصاص ، أو أساساً لم يجب إلاّ الديات .
وقد وجدت عندنا في قطر في الشركة الاسلامية القطرية للتأمين حيث إن أحد المشتركين في التأمين التكافلي قد ضرب بسيارته شخصاً باكستانياً أدى إلى الاضرار ببعض اطرافه ، وقواه ، فقضت المحكمة بأربع ديات كاملة مع أن الشخص قد عاش بعد ذلك .

وقصدي من ذلك أن ما ذكرناه من الاجماع على توافر أربع ديات كاملة ، أو أكثر أو أقل في الحالات السابقة ، إن دل على شيء فإنما يدل على أن دية النفس ليست تعويضاً كاملاً عن الانسان ولا قيمة له ، وإلاّ قوّم بدية واحدة في جميع الأحوال .
فإذا كان الأمر ذلك كذلك فيجب أن نمضي مع قاعدة عدم التداخل إلى آخرها إلاّ في حالة جناية واحدة سرت ـ كما شرحناه وبيناه ـ والله أعلم ..

ثانياً ـ التداخل بين الديات المقدرة والتعويضات المدنية الأخرى سواء كان التعويض مادياً أم معنوياً :

المقصود بالتعويضات المدينة ، هي : ما يعبر عنها في القوانين المدنية بالمسؤولية المدنية التي يقوم أساسها على الضرر المادي في القوانين القديمة ، ولكن منذ العقود الأخيرة اعترفت معظم القوانين بالضرر المعنوي .
والمقصود بالضرر المادي هو الضرر الذي يصيب سلامة الجسم ، وما له أثر في الذمة المالية للشخص المضرور ، ويتحدد بعجزه عن مواصلة حياته الطبيعية فيفوته كسب ، وتلحقه خسارة .
وأما الضرر المعنوي ( أو الأدبي ) فهو لا يمس مصلحة مادية أو مالية ، وإنما هو ضرر يصيب المضرور في عاطفته وشعوره ، ويدخل إلى قلبه الغم والحزن .

والسؤال الوارد هنا هو أنه في حالة الحكم بالديات ، أو الأروش ، أو حكومة عدل ، فهل يجوز للمضرور أو ورثته اللجوء للقضاء للمطالبة بالتعويض المدني عما أصابه ، أو أصاب ورثته ؟
وقبل أن أجيب عن هذا السؤال ، أقول : انه لا ينبغي الخلط بين مبادئ القانون الوضعي في التعويض ، لأنها ليست قائمة على أسس دينية فرضت الديات ، كما أن الديات ليس من باب التعويضات المحضة وبين الشريعة الاسلامية التي فصلت القول في الديات والأروش..
ومهما يكن من أمر فإننا نهد للإجابة بالتمهيد الآتي فنقول : إن هناك فرقاً بين أن يكون الطلب بالتعويض لشيء فيه دية منصوص عليها بالاجماع ، وبين ما ليس فيه نص شرعي ثابت أو إجماع ، وكذلك فهناك فرق بين أن تكون المطالبة بالتعويض عن الشيء المعوض نفسه ، وبين أن تكون المطالبة بالتعويض عن الآثار التي ترتبت عن الضرر الأصلي .
إذن فالصور أربع نذكر حكمها بإيجاز :

الصورة الأولى :

المطالبة بالتعويض لشيء فيه دية منصوص عليها مثل النفس والأطراف والقوى التي ثبتت الديات بالنص ، أو بالاجماع .
ففي هذه الحالة لا يجوز الجمع بين الدية والتعويض لا شرعاً ولا قانوناً ، أما شرعاً فلوجود النص أو الإجماع ، وحينئذ لا تجوز الزيادة على النص ، لأن هذه الزيادة بمثابة النسخ أو التخصيص بدون دليل معتبر .
وأما قانوناً فمما استقرت عليه محاكم النقض في مصر ، والأردن ، والعراق ، وسوريا ، وعمان ، وغيرها ، أنه لا يجوز الجمع بين دية النفس والتعويض ، فقد أقرت الهيئة العامة لتوحيد المبادئ بالمحكمة العليا ـ عمان ـ مبدأ عاماً بعدم جواز الجميع بين دية النفس ، وأي تعويض آخر ، وأن الدية تعد تعويضاً عن القتل الخطأ ، كما تعد عقوبة يقصد منها الزجر ، والردع ، وحماية النفس ، وذلك في جلستها المنعقدة يوم الثلاثاء الرابع من شهر يناير 2005 ، وذلك في الطعن رقم 200/2004 ، حيث نص المبدأ على أن الدية شرعاً وقانوناً هي المقابل المالي المقدر من قبل الشرع عملاً بمبدأ تكافوؤ الدم والنفس في الاسلام ….. ، وأن القتل الخطأ لا يستحق لخزانى الدولة ، بل تدخل في ذمة ورثة المجنى عليها ، ولهذا قال الفقهاء : إن في الدية إطفاء للألم والغيض في نفس ذوي المجنى عليه ، وتعويضاً للآلام النفسية التي تصيبهم ، وهي تشمل كافة التعويضات …. ومن ثم رأي الشرع تحديدها للآدمي تمييزاً له عن الأموال ، وقطعاً للطريق كما يقع من مغالاة في طلبها ، وأن عدم تغيير مقدار الدية من شخص لآخر يجعلها تتحد مع عناصر العقوبة الجنائية القائلة بالمساواة ، تحقيقاً للعدالة والمساواة بين جميع الناس أمام القانون ، كما أنه لا فرق في الدية بين كبير وغير قوي ، وضعيف ، لذلك ذهبت الشريعة الاسلامية إلى تحديد المقدار للنفس الذي لا يقبل زيادة ، أو تعويضاً آخر ….. ) .
وهناك رأي لبعض القانونين يجيز الجمع بين التعويض المدني ، والدية ، وأعطوا الحق في المطالبة بالتعويض المدني كاملاً عن الضرر المادي والأدبي ، وعلى هذا بعض قرارات محكمة الاستئناف المختلط بجواز الحكم بالتعويض عن الضرر المادي الذي يصيب من فقد العائل .

الصورة الثانية :

ما إذا كانت الجناية لم يرد في ديتها نص ثابت أو إجماع بتحديد ديته ، مثل الحالات التي فيها حكومة العدل ، ففي هذه الحالة يجوز للقاضي أن يجتهد ، ويوسع دائرة التعويض لتشمل كل ما يحقق العدالة الكاملة مع ملاحظة كل الظروف المحيطة به من أضرار مباشرة ، وغير مباشرة ، مادية أو معنوية .

الصورة الثالثة :

المطالبة بالتعويض مع الدية للجناية نفسها ، فهنا لا يجمع بينهما كما سبق في الصورة الأولى.

الصورة الرابعة :

أن ترد المطالة بالتعويض على غير محل الدية نفسه ، وإن كانت واردة على الآثار الناتجة عن سبب الدية ، وذلك بأن يثبت الشخص المضرور بأنه قد أصابه ضرر آخر بسبب الجناية عليه التي ترتبت عليها الدية ، أو أن ورثة المجنى عليه قد أصابهم ضرر آخر بسبب فقدان معيلهم ، وهذا ما يسمى بالضرر المعنوي أو الأدبي ، وهذا محل خلاف بين علماء الشريعة المعاصرين ، وأهل القانون ، وهو موضوع مفصل توصلنا من خلال بحث لنا حوله إلى : أن الضرر المعنوي إذا كان مصاحباً لضرر مادي فإن القاضي له الحق في رعايته وتقديره مع الضرر المادي ، وأما إن كان منفرداً فالذي يظهر لنا رجحانه اعتباره ولكن دون مبالغة كما يحدث في الغرب وإنما من خلال ميزان دقيق .

هذا والله أعلم بالصواب
وهو الهادي إلى سواء السبيل
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه الفقير إلى ربه
أ.د. على محيى الدين القره داغي