1 – تفسير العقد:

يعرض المشروع في المادتين (193 و194) لتفسير العقد، فيتناول في أولاهما تفسير العقد في ذاته، وفي ثانيتهما كيفية تفسير الشك، عندما لا تفلح وسائل تفسير العقد في تبديده. فعبارة العقد، من حيث أنها تتضمن الإرادة المشتركة لطرفيه، وبالتالي المعنى المقصود من العقد، تتخذ إحدى صورتين أساسيتين: فهي إما أن تجيء واضحة في الدلالة على ما قصدته منها الإرادة المشتركة، وإما أن تجيء متسمة في ذلك بغموض أو لبس.

فإذا كانت عبارة العقد واضحة في دلالتها على ما قصدته الإرادة المشتركة، فإنها لا تكون في حاجة إلى تفسير، ووجب على القاضي أن يأخذ بمعناها الظاهر دون أن ينحرف عنه، فلا مساغ للاجتهاد في مورد النص، كما تقول القاعدة الفقهية. وهذا الحكم قننته المادة (193) بفقرتها الأولى. بيد أنه لا يكفي، لكي تتمثل العبارة واضحة، وبالتالي في غير حاجة إلى تفسير، أن تكون واضحة في ذاتها وإنما يلزم أن تكون كذلك بالنسبة إلى دلالتها على ما قصدته الإرادة المشتركة، فقد تكون العبارة في ذاتها واضحة، ومع ذلك يكتنفها الغموض أو اللبس بالنسبة إلى حقيقة مدلولها، كما إذا تعارضت مع عبارة أخرى، فالعقد كل ينظر إليه في مجموعه، ولا ينظر إلى جزئياته مستقلاً بعضها عن البعض الآخر.

أما إذا كانت عبارة العقد غامضة في دلالتها على المعنى المقصود منها، بأن تعذر الوصول من خلالها على قصد المتعاقدين، أو جاءت متسمة بلبس، بأن كان من الممكن تأويلها على أكثر من معنى، تعين الالتجاء إلى التفسير، بغية استجلاء الغموض، وإزالة اللبس، والوصول بذلك إلى حقيقة المقصود. وقد عمد قانون التجارة الكويتي (المواد من 154 إلى 159) إلى إيراد نصوص عديدة تتضمن قواعد هي، في أغلبها بينة الظهور، بحيث أن الحاجة لا تدعو إلى تقنينها كلها، وهو في هذا الصدد قد حذا حذو القانون العراقي (المواد من 155 إلى 165)، وإن لم يبلغ مبلغه في الإطناب، الذي بلغه من بعد القانون الأردني (المواد من 213 إلى 239).
وقد قنع المشروع، في الفقرة الثانية من المادة (193) ببيان الغاية من تفسير العقد، عندما يكون له محل، وهذه الغاية تتمثل في البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين، وذكر عدة أمور عامة يتبعها القاضي، أو يستهدي بها، في الوصول إلى تلك الغاية.

وقد حرص المشروع على أن يوجه القاضي إلى البحث عن القصد الحقيقي للمتعاقدين من مجموع وقائع العقد وظروف إبرامه، اعتبارًا منه بأن شروط العقد أو وقائعه قد يفسر بعضها بعضًا، كما حرص المشروع على أن يوجه القاضي إلى عدم الوقوف بالضرورة عند المعنى الحرفي لعبارات العقد أو ألفاظه، إذ أن العبرة في العقود، كما هي في غيرها، للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني، ويوجه المشروع كذلك القاضي إلى أن يستهدي، في تفسير العقد، بطبيعة التعامل والعادات الجارية وما ينبغي أن يتوافر بين المتعاقدين من أمانة وثقة، فهذه الأمور كلها لها أهميتها في مجال تقصي الإرادة المشتركة للمتعاقدين. والمشروع إذ يورد الأمور التي تساعد القاضي في جلاء ما يعتري عبارات العقد من غموض أو لبس، لا يغفل عن أن التفسير يتمثل، في نهاية المطاف، مسألة فن وذوق وكياسة وخبرة.

وتعرض المادة (194) للحالة التي يعمد فيها القاضي إلى تفسير شرط من شروط العقد، من غير أن يصل إلى حقيقة ما قصدته منه الإرادة المشتركة للمتعاقدين، على نحو يطمئن هو إليه. فتفسير العقد يصل بالقاضي إلى أحد أمرين، فهو إما أن يؤدي إلى جلاء غموض عبارته، واستخلاص ما قصدته النية المشتركة للمتعاقدين، على شكل يقيني قاطع يطمئن هو إليه، وإما ألا يؤدي به إلى ذلك، فيبقى عند شك في حقيقة مدلول عبارة العقد.

ولا صعوبة في الحالة الأولى حيث يعمل القاضي المعنى الذي استخلصه من عبارة العقد، سواء أكان من شأنه نفع هذا المتعاقد أم ذاك، أما في الحالة الثانية، وهي حالة وجود شك في مدلول عبارة العقد، فتثور بعض الصعوبة. وقد جرت القاعدة، في هذا الصدد، وربما بتأثير من مدونة نابليون، على أن الشك يفسر في مصلحة المدين، ووجدت هذه القاعدة مكانها في تقنينات بلاد كثيرة، كما هو الشأن في القانون التونسي (المادة 99) والقانون المغربي (المادة 472) والقانون اللبناني (المادة 369) والقانون النمساوي (المادة 915)، وجاء القانون المصري متضمنًا نفس القاعدة (المادة 151/ 1)، وسايره في ذلك القوانين العربية التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 160).

والقول بأن تفسير الشك يكون في مصلحة المدين، بالمعنى الفني لهذا الاصطلاح، وإن كان سليمًا في الحالات الغالبة في العمل، وهي تلك التي يكون من شأن إعمال الشرط الغامض تحميل المدين بالالتزام أو تشديد عبئه عليه، إلا أنه يتمثل غير صحيح على إطلاقه، ولم يلتزمه الفقه ولا القضاء في شموله وعمومه. فهناك حالات من المسلم فيها أن الشك يفسر ضد من يتحمل عبء الالتزام أي المدين، وهذه، على وجه الخصوص، هي حالات الإعفاء من المسؤولية على نحو ما يقضي به القانون، سواءً أكانت هذه المسؤولية ناجمة عن عمل غير مشروع، أو عن إخلال بالتزام ناشئ من العقد، فلو أن المضرور – وهو الدائن بالتعويض – اتفق مع محدث الضرر – وهو المدين بالتعويض – على إعفاء هذا الأخير من المسؤولية وثار شك في مدلول الشرط القاضي بهذا الإعفاء، في وجود أو في مداه. فإنه من المسلم فقهًا وقضاءً أن الشك يفسر في المعنى الذي يُضيق من الإعفاء أي أنه يفسر لمصلحة المضرور، وهو الدائن بالتعويض، وليس لمصلحة محدث الضرر، وهو المدين بالتعويض، وكذلك الشأن تمامًا في حالة الإعفاء من المسؤولية عن العجز في الشيء المبيع أو الشيء المؤجر، حيث يفسر الشك لمصلحة المشتري أو المستأجر، برغم أنه الدائن في الالتزام بالتسليم، وهذا ما دعا بعض القوانين، كالقانون الإسباني (المادة 1289) والقانون البرتغالي (المادة 685) إلى النص على أن الشك يفسر، في عقود المعاوضات، على النحو الذي يتمشى أكثر مع التبادل في المصالح. وهو ما دعا البعض من الفقهاء إلى القول بتفسير اصطلاح (المدين) في القول (بأن الشك يفسر لمصلحة المدين) على أنه يعني من يكون في إعمال الشرط إضرار به، أو هو المدين في الشرط، وليس بالضرورة المدين في الالتزام، ولعل ذلك هو ما قصدته المادة (1162) فرنسي بقولها إنه، عند الشك، يفسر الاتفاق ضد من وضع الشرط.

وقد حرص المشروع أن يضمن المادة (194) القاعدة السليمة في تفسير الشك الذي يتمخض الشرط الغامض عنه، ولا تفلح وسائل التفسير في تبديده، وهو في ذلك يقضي، في الفقرة الأولى، بأنه إذا تعذر تبديد الغموض، فإن الشك يفسر لمصلحة المتعاقد الذي يتفق مع الوضع العادي للأمور أو مع القواعد القانونية العامة التي يراد بالشرط إملاء حكم يخالفها. وتجيء الفقرة الثانية تقرر تطبيقًا تشريعيًا للحكم الذي تورده الفقرة الأولى، قاضية بأن الشك يفسر لمصلحة المدين، إذا كان من شأن إعمال الشرط الغامض أن يحمله بالالتزام أو يجعل عبأه عليه أكثر ثقلاً. وتأتي الفقرة الثالثة تتحفظ في شأن تفسير عقود الإذعان، الذي سبق للمادة (82) أن أوردت الحكم في شأنه، ومؤداه أن الشك يفسر دومًا في مصلحة الطرف المذعن، دائنًا كان أم مدينًا.

2 – مضمون العقد:

وإذا كان من الظاهر والميسور القول بأن العقد يتضمن الأحكام التي تجيء بها شروطه، وتلك التي يقضي بها القانون ويكون من شأنها أن تسري عليه، فإن ثمة سؤالاً طرح نفسه على الفكر القانوني، فقهًا وقضاءً، حول ما إذا كان العقد يقف عند هذه الأحكام وتلك، مقتصرًا عليها وحدها، أم أنه من الممكن أن يدخل فيه غيرها.

وتواجدت، في هذا الخصوص، نزعة تعمد إلى الحد والقصر، استنادًا إلى الرغبة في تسويد مبدأ سلطان الإرادة بالوقوف عنده وعدم الخروج عليه، ولكن هذه النزعة لم يُكتب لها النصر، وما كان ليكتب لها، على الأخص بعد أن أخذت تتغلغل في ثنايا العصر الذي نعيشه فكرة العدالة الاجتماعية، وسرعان ما استقر الفكر القانوني على شيء معقول من التوسعة في مضمون العقد، من غير إسراف أو شطط، ومؤدى هذه التوسعة أن يدخل في مضمون العقد، إلى جانب الأحكام التي يجيء بها عاقداه وتلك التي يقضي بها القانون في شأنه، ما يعتبر من توابع العقد ومستلزماته.

ووجدت هذه التوسعة مكانها المرموق بين دفات المدونات القانونية المعاصرة، أجنبية كانت أم عربية، ولم يتخلف قانون التجارة الكويتي الحالي عن الركب، فجاء بدوره يتضمنها، في المادة 149/ 2، نقلاً عن القانون المصري (المادة 148/ 2).

ولم يسعَ المشروع إلا أن يأتي بالمادة (195) ليساير هذا الاتجاه المحمود في التوسعة في مضمون العقد على النحو الذي يجعله متضمنًا، إلى جانب الأحكام الواردة فيه أو السارية عليه، ما يعتبر من مستلزماته، وفقًا لما تجري عليه العادة وما تمليه العدالة، ومع مراعاة طبيعة التعامل. وما يقتضيه من شرف ونزاهة، وهو إذ يفعل ذلك، يقدر ما أدته هذه التوسعة، عبر السنين، من جليل النفع، وما الالتزام بضمان السلامة، الذي أدخل بادئ ذي بدء في نطاق عقد العمل، ثم بعد ذلك في نطاق عقد النقل، والتزام العامل بعدم إفشاء سر العمل، والتزامه بالامتناع عن منافسة رب العمل في تجارته، إلا مجرد أمثلة لما أضفته تلك التوسعة على عالم القانون من يافع الثمار.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .