حكم عقد الزواج
بواسطة التقنيات المعاصرة
وسائل الاتصال المسموعة والمرئية أنموذجًا

إعادة نشر بواسطة محاماة نت 

بحث مقدَّم لندوة الأنكحة المستحدثة في واقعنا المعاصر

المنعقدة في رحاب قسم الشريعة والدراسات الإسلامية

بجامعة الإمارات العربية المتحدة

إعداد

الدكتور عبدالعزيز شاكر حمدان الكبيسي

الأستاذ المشارك بقسم الشريعة والدراسات الإسلامية

كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة البحث:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة، وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإنَّ العالم اليوم يشهد تغيرات سريعة، وتطورات ضخمة في عالم الاتصالات، ودنيا التقنيات، ويعيش انفجارًا معرفيًّا هائلًا، وثورة نوعية كبرى في مجال المعلومات.

وقد استطاعت التقنية الحديثة فرْضَ حضورها المادي والمعنوي بقوة في حياتنا المعاصرة، على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية؛ وذلك نتيجةً للتطور الهائل الذي وصل إليه الإبداع التقني في هذه المرحلة.

ودخلَت هذه التقنيات ووسائل الاتصالات الحديثة مفرداتِ الحياة اليومية، وتعاملات الأفراد فيما بينهم، سواء أكان ذلك في البيت أم الشارع أم السوق أم مكان العمل.

لقد تخطَّت تلك الوسائل الأبعاد الزمانية والمكانية، والحدودَ الجغرافية، فأسهمت في تقريب البعيد، واختصار المسافات، وساعدت في تطوير عمليات إجراء العقود التي كانت تُعقَد في مجلس واحد عن طريق تلاقي الأبدان والاجتماع بين المتعاقدين، فحوَّلَتها إلى عقود تجري عبر المراسلة الخطية التي ينقلها الفاكس، أو الهاتف المحمول، أو المراسلة الكلامية التي ينقلها الهاتف الأرضي أو الهاتف النقال، أو المحادثة الكتابية في غرف الدردشة المعروفة بـ “الشات”، أو عبر ما يعرف بالمسنجر أو “الواتس أب”… وغيرها، فأدى ذلك إلى شيوع ما يعرف بـ “العقود التجارية الإلكترونية” و”الزواج الإلكتروني”، وغيرها.

ولم يتوقف الأمر عند هذا فقط، بل تعداه إلى إجراء فسخ العقود عبر الوسائل نفسها، فأضحت العقود تُفسخ عبر مكالمة هاتفية، أو رسالة إلكترونية، ترسل عبر شبكة المعلومات الدولية “الإنترنت”[1].

وهكذا نجد أنَّ هذه الوسائل الحديثة قد ألقت بظلالها على تعاملات الناس المختلفة؛ من إجراء العقود وفسخها، وغير ذلك.

ومن هنا فقد أحببت أن يكون موضوع بحثي في هذه الندوة الميمونة بعنوان:

“حكم عقد الزواج بواسطة التقنيات المعاصرة.. وسائل الاتصال المسموعة والمرئية أنموذجًا”

وقد اشتمل هذا البحث على فصلين:

الفصل الأول: تعريف الزواج والوسائل التي تقوم مقام التلفظ به.

وقد قسمتُه إلى مبحثين:

المبحث الأول: تعريف الزواج في اللغة والاصطلاح.

المبحث الثاني: الوسائل التي تقوم مقام اللفظ في الزواج.

وأما الفصل الثاني: فقد تحدثت فيه عن: صور الزواج بواسطة الوسائل الحديثة المسموعة والمرئية، وقد اشتمل على ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: حكم عقد الزواج عن طريق المحادثة الهاتفية.

المبحث الثاني: حكم الزواج عن طريق المحادثة الشفهية المباشرة من خلال شبكة المعلومات الدولية “الإنترنت”.

المبحث الثالث: حكم الزواج عن طريق المحادثة المسموعة المصحوبة بالرؤية.

داعيًا المولى عز وجل أن يوفقنا جميعًا لما فيه خدمة شريعته الغراء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

الفصل الأول

تعريف الزواج والوسائل التي تقوم مقام اللفظ في انعقاده

ويتضمن مبحثين:

المبحث الأول: تعريف الزواج.

الزواج في اللغة بمعنى الصنف والنوع واللون، ومعناه الارتباط والاقتران، ومنه قوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ﴾ [الدخان: 54]؛ أي: قرَنَّاهم [2].

واصطلاحًا: عقد يَلتزم فيه العاقدان بمقتضاه تنفيذ ما اتفقا عليه إيجابًا وقَبولًا على وجه مشروع [3].

وعرَّفه قانون الأحوال الشخصية الإماراتي بأنه: “عقد يفيد حِلَّ استمتاع أحد الزوجين بالآخر شرعًا، غايته الإحصان وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوج، على أسس تكفل لهما تحمُّل أعبائها بمودة ورحمة”[4].

المبحث الثاني: ما يقوم مقام اللفظ في الزواج.

ذكر الفقهاء في كتبهم عددًا من الوسائل التي يُعبَّر بها عن النكاح بدلًا من التلفظ به، وبيَّنوا مدى إمكانية قيام تلك الوسائل مقام اللفظ في الزواج، وحكم انعقاده بواسطتها.

وهذه الوسائل هي:

أولًا – الإشارة:

ميَّز الفقهاء بين إشارة الأخرس وغيره، حيث عدوا إشارته معتبَرة شرعًا، وأنها تقوم مقام عبارة الناطق فيما لا بد فيه من العبارة، وبيَّنوا أنه يصح إيجاب الأخرس وقَبولُه النكاحَ بإشارته إذا كانت الإشارة مفهومة يَفهمها العاقدُ معه، ويفهمها الشهود؛ لأنَّ النكاح معنى لا يُستفاد إلا من جهته، فصح بإشارته كبقية عقوده، وهذا باتفاق الفقهاء[5].

إلا أنهم اختلفوا في بعض الشروط؛ مثل شرط كونه عاجزًا عن الكتابة أو قادرًا عليها، ومثل شرط أن يكون قد وُلِدَ أخرسَ، أو طرَأ عليه الخرس[6].

ثانيًا – الكتابة:

الكتابة إما أن تكون من الأخرس أو من غيره.

فأمَّا الأخرس: فقد ذهب الفقهاء إلى أن النكاح يصح، وينعقد بالكتابة من الأخرس؛ لأنها أولى من الإشارة.

وأما القادر على النطق: فإمَّا أن يكون حاضرًا في مجلس العقد أو غائبًا عنه، أما الحاضر فلا ينعقد نكاحه بالكتابة عند الحنفية، والمالكية، والحنابلة في الصحيح، والشافعية في المذهب[7].

وفي قولٍ عند الشافعية: ينعقد[8].

وأما الغائب فقد اختلف الفقهاء في انعقاد النكاح بالكتابة إليه:

فعند الحنفية: ينعقد النكاح بالكتاب كما ينعقد بالخِطاب[9].

وقال الشافعية: إذا كتب بالنكاح إلى غائب أو حاضر لم يصح، وقيل: يصح في الغائب، وليس بشيء؛ لأنه كناية، ولا ينعقد بالكنايات، ولو خاطب غائبًا بلسانه، فقال: زوجتك بنتي، ثم كتب فبلغه الكتاب، أو لم يبلغه وبلغه الخبر، فقال: قبلتُ نكاحها – لم يصحَّ على الصحيح، وإذا صحَّحنا في المسألتين، فشرطُه القَبول في مجلس بلوغ الخبر وأن يقع بحضرة شاهِدَي الإيجاب[10].

قال النووي: لا يَكفي في المجلس، بل يُشترط الفور[11].

والأظهر عند الحنابلة صحة عقد النكاح بالكتابة مع غيبة العاقد[12].

ثالثًا – الرسول:

اتفق الفقهاء في الجملة على صحة عقد الزواج بهذه الوسيلة، وهناك تفريعات في المذاهب الفقهية؛ منها ما ذهب إليه الحنفية، أنه لو أرسل الرجلُ إلى امرأةٍ رسولًا، أو كتب إليها كتابًا قال فيه: تزوجتُك، فقبلَت بحضرة شاهدين، سمعا كلام الرسول أو قراءةَ الكتاب – جاز ذلك؛ لاتحاد المجلس من حيث المعنى؛ لأن كلام الرسول هو كلام المرسل؛ لأنه ينقل عبارته، وكذا الكتاب بمنزلة الرسول، فكان سماع قول الرسول أو قراءةُ الكتاب سماعَ قول المرسل أو كلامِ الكاتب معنًى.

وإن لم يَسمعا كلام الرسول أو قراءةَ الكتاب لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمدٍ رحمهما الله تعالى، وقال أبو يوسف: إذا قالت المرأة: زوجتُ نفسي يجوز، وإن لم يَسمعا كلام الرسول أو قراءة الكتاب؛ بناءً على أن قولها: زوجت نفسي شطرُ العقد عند أبي حنيفة ومحمد، والشهادة في شطرَيِ العقد شرطٌ؛ لأنه يصير عقدًا بالشطرين، فإذا لم يسمعا كلام الرسول وقراءةَ الكتاب فلم يوجد شطرُ الشهادة على العقد. وقول الزوج بانفراده عقدٌ عند أبي يوسف، وقد حضر الشاهدان.

وقد وافق الشافعيةُ والمالكيةُ والحنابلةُ أبا حنيفة ومحمدًا في قولهما هذا[13].

قال الكاساني: “النكاح كما ينعقد بهذه الألفاظ بطريق الأصالة؛ ينعقد بها بطريق النيابة بالوكالة والرسالة؛ لأن تصرف الوكيل كتصرف الموكل، وكلام الرسول كلام المرسل”[14].

رابعًا – المعاطاة:

وقد صرَّح الحنفية والحنابلة بأن النكاح لا ينعقد بالتعاطي؛ لخطر أمره، فلا يصح العقد فيه إلا بلفظ صريح، أو كناية[15].

الفصل الثاني

صور الزواج الإلكترونية المسموعة والمرئية، وبيان الحكم الشرعي لها

إن من أهم إفرازات التطور التقني الحديث في مجال الحوسبة والاتصالات دخولَ الأجهزة الإلكترونية في كل مجال من مجالات الحياة اليومية؛ للأفراد والشركات والمؤسسات على حد سواء.

وما شهدَته السنوات القليلة الماضية من تطور سريع للتقنيات كان له تأثير على الطريقة التي تتم بها معاملات الناس وعقودهم، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فحَسْب، بل تعدَّاه إلى إجراء انشاء العقود، وفسخها، عبر الوسائل نفسها، فأضحَت العقود تعقد عبر مكالمة هاتفية، أو رسالة نصية، أو إلكترونية.

وكان مما ظهر في السنوات الأخيرة ما يُعرف بالزواج الإلكتروني، وهي مسألة جديدة تواجِه دور الإفتاء، والقضاء الشرعي ومَحاكمه، وتستدعي النظر في بيان أحكامه؛ ولذلك حاولت في هذا البحث تناوُلَ هذا النوع من العقود، من خلال وسائله المتنوعة في عالم اليوم، مركِّزًا على الوسائل المسموعة والمرئية منها، وبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بها، وذلك في المباحث الآتية:

المبحث الأول: حكم عقد الزواج عن طريق المحادثة الهاتفية.

ولمعرفة حكم إنشاء عقد الزواج بواسطة الهاتف لا بد لنا من التعريف به أولًا؛ وذلك لأنَّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره.

فالهاتف – أو التليفون – كلمة مشتقَّة من أصل يوناني، وهو آلة أو جهاز يُستخدَم لنقل الصوت بشكل فوري، بين مكانَين متصلين، بخط هاتف من خلال البدَّالة، ويوجد هاتف على كل طرَف منهما[16].

وتتلخَّص فكرة عمله في جهاز إرسال أو استقبال موصَّل بأسلاك، مع مقسم رئيسي يربط بين عدد من المشتركين باستخدام دوائرَ إلكترونية مركبة في مقسمات رئيسة، تتغذى بتيار ثابت، مقداره 48 فولت، تولد هذه الدوائرُ ما يُعرف بالخطوط الهاتفية التي يتم برمجتها بأرقام تميِّز المشتركين عن بعضهم، وتمكِّنهم من الاتصال فيما بينهم؛ من خلال توليد نغمة الاتصال التي يسمعها كل مشترك عند رفعه سماعة الهاتف[17].

وأما الهاتف المحمول أو الخلوي أو المتحرك فهو: أداة اتصال لاسلكية، تَعمل خلال شبكة من أبراج البث موزَّعة لتغطِّيَ مساحة معينة، ثم تترابط عبر خطوط ثابتة أو أقمار صناعية.

ويعد جهاز الهاتف – ولا سيما المحمول منه – من أكثر وسائل الاتصال الحديثة انتشارًا ورواجًا في عالمنا المعاصر؛ وذلك لتميزه بسرعة الاتصال، وسهولة الاستخدام، وكون التخاطب عن طريقه فوريًّا ومباشرًا.

كما نجد شغف الناس به على اختلاف مَشاربهم، حتى وصل الأمر بهم إلى حدِّ الهوس، ولا سيما مع الطَّفرة الكبيرة التي طرأت عليه بظهور الهواتف الذكية المتنوعة.

إذا عرفنا هذا نقول:

إنَّ الفقهاء القدامى لم يتعرضوا لمسألة حكم الزواج عن طريق المحادثة الهاتفية؛ وذلك نظرًا لتأخر ظهور هذا الجهاز وحداثته، ولكننا ربما وجدنا في كتبهم شيئًا قريبًا من صورة الزواج بواسطة المحادثة الهاتفية؛ ومن ذلك ما ذكَره الإمام النوويُّ من عقد البيع بين مُتنادِيَين، بأن يكون العاقدان في مكانين يَسمع كلٌّ منهما نداء الآخر، شاهدَه أو لم يشاهدْه، وفي ذلك يقول رحمه الله: “لو تناديا وهما متباعدان وتبايَعا، صحَّ البيع بلا خلاف”[18].

وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: يجيز إجراء عقد الزواج مشافهة عن طريق وسائل الاتصالات الحديثة ومنها الهاتف، ومن أبرز مَن ذهب هذا المذهب الشيخ مصطفى الزرقا، ود. وهبة الزحيلي، ود. محمد عقلة، وغيرهم[19].

القول الثاني: يمنع عقد الزواج بطريق الوسائل الإلكترونية الناقلة للكلام نُطقًا، كما ذهب إلى ذلك أكثرُ فقهاء مجمع الفقه الإسلامي بجُدَّة في المملكة العربية السعودية[20].

والذي يبدو لي: جواز إجراء عقد النكاح بوسائل الاتصالات الحديثة الناقلة للكلام نطقًا، ومنها شبكة الهاتف على اختلاف انواعها؛ وذلك لتوفر شروط النكاح:

1 – من تلفظ بالإيجاب والقبول.

2 – وسماع كل من العاقدين للآخر، ومعرفته لـه.

3 – ووجود الولي والشهود.

وأما مسألة كون العاقدين غائبَين فلا حرج فيه؛ فالعاقدان غائبان بشخصَيهما، ولكنهما يعقدان عقد الحاضرين، يسمع كلٌّ منهما الآخر، كما يسمعهما الشهود حين نُطقهما بالإيجاب والقبول.

وأما قول بعض المانعين: إنه قد يحصل خداع أحد الطرفين للآخر، وإن عقد الزواج يُحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره.

فيُرد على ذلك أنه يمكن أن يرى المتعاقدان بعضُهما البعض عبر الهاتف الذي يُظهر صورة كلٍّ من المتحادثين مع وجود المَحرَم، وبهذا ينتفي الخداع، كما أن هناك الشاهدين اللَّذين يَعرفان المتعاقدين، والله أعلم [21].

كما يمكن إصدار بطاقة “هوية إلكترونية شخصية” من جهة معتمَدة تبيِّن اسم العاقد وأهليته، وديانته وجنسيته، ومكان إقامته… إلخ؛ وذلك حمايةً للطرفين من تغرير أحدهما بالآخر.

وأما ما علَّل به مجمَع الفقه الإسلامي بجُدَّة للمنع بعدم وجود الإشهاد فغير مقبول؛ فالشهود يَسمعون الخطاب، وهم يشهدون على ما سمعوا، وهم يَعرِفون المتعاقدين أيضًا.

وهذه المسألة مبنيَّة على مسألة: حكم شهادة الأعمى على ما سمعه من الأصوات.

وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: حيث يرى الحنفية والشافعية عدم قبولها، بينما يرى المالكية والحنابلة قبول تلك الشهادة إذا تيقن الأعمى الأصوات[22].

وبهذا يترجح لديَّ إجراءُ عقد الزواج بواسطة الهاتف مشافهةً، إذا توفرت الشروط السابقة الذِّكر، والتحققُ من شخص الزوج والولي، وسمع الشاهدان الإيجابَ والقبول، وانتفى التلاعب والتدليس، ويمكن أن يُطلب من المتعاقدين معلوماتٌ عن إثبات هويتهما بذِكر رقم الهوية وتاريخها ومكان صدورها، وليكن ذلك في إطار بطاقة (هوية إلكترونية شخصية) من جهة معتمَدة تبيِّن اسم العاقد وأهليته، وديانته وجنسيته ومكان إقامته… إلخ؛ وذلك حماية للطرفين من تغرير أحدهما بالآخر، فضلًا عن وجود التوثيق الإلزامي لأرقام الهواتف لدى الجهات المختصة في مختلف الدول، والتي تثبت هوية صاحب الهاتف.

هذا ولم تتطرَّق قوانين الأحوال الشخصية في الدول العربية – ومنها قانون الأحوال الشخصية الإماراتي – إلى حكم الزواج بواسطة هذه الوسيلة، ومنَع قانونُ المعاملات والتجارة الإلكترونية الصادر في إمارة دبي سرَيان أحكامه على قضايا الأحوال الشخصية من الزواج والطلاق والوصايا[23].

ولعل اليوم هناك حاجة ماسة إلى ضرورة تضمين هذه المسألة في قانون الأحوال الشخصية، وبيان الموقف منها.

المبحث الثاني ويتضمن مطلبين:

المطلب الأول: حكم عقد الزواج عن طريق المحادثة الشفهية المباشرة، بواسطة شبكة الإنترنت.

يوجد على شبكة المعلومات الدولية “الإنترنت” بعض البرامج التي تتيح للشخص تبادل الحديث مع الآخرين بالصوت بشكل فوري؛ كما هو الحال في (مسنجر الهوتميل)، أو (مسنجر ياهو) أو (سكايب)… وغيرها.

وتُخوِّل مثل هذه البرامج من المحادثة المباشرة بين الطرفين مثل ما يحدث في الهاتف تمامًا؛ بحيث يمكن أن يصدر الموجب إيجابه، فيسمعه القابل فيصدر قبوله، ومِن ثَم يتم التعاقد بينهما.

ويتميز عقد النكاح عبر الإنترنت – من خلال البرامج السابقة – بكونه مشابهًا لعقده مشافهة وجهًا لوجه، ومن ثَم يتمكن كِلا الطرفين من إجراء مفاوضات عقد النكاح بينهما بصورة لا تختلف كثيرًا عن اجتماعهما في مجلس واحد.

ولكن في الوقت نفسه له جملة من العيوب التي قد تجرُّ إلى منازعات وخصام، منها:

1. إمكانية تقليد الأصوات ومحاكاتها أثناء إجراء مفاوضات العقد.

إذ إنه توجد حاليًّا برامجُ عديدة يمكن تحميلها على جهاز الحاسب الآلي، تتيح هذه البرامجُ معالجة الصوت وتغييره، بشكل شبه كامل أثناء المحادثة عبر الإنترنت، بالإضافة إلى أنه يمكن التلاعب في الصورة وتغييرها أيضًا، بطرقٍ قد لا تستبين للطرف الآخر.

2. احتمال وجود بعض العوارض الفنية التي تؤدي إلى انقطاع المكالمة بعد صدور الإيجاب من الولي وسماعه من الخاطب؛ وذلك إما لخلل في شبكة الإنترنت المحلية أو الدولية، أو لخلل في جهاز الحاسب، أو في التوصيلات، أو غير ذلك.

وقد تَطول فترة الانقطاع ساعاتٍ أو أيامًا، ومحلُّ الإشكال هنا أن الولي قد يتراجع عن إيجابه لأمرٍ ما، فيدَّعي الخاطب أنه أصدر القَبول فور سماعه، ولكن المكالمة انقطعت[24].

فما هو الحكم الشرعي لعقد الزواج بواسطة هذه الوسيلة المسموعة؟

وللجواب عن ذلك نقول: إن الخلاف الفقهي في هذه الصورة كسابقتها.

والذي يظهر لي جوازُ عقد الزواج بعد إثباته وتوفُّر الشروط السابق ذكرها؛ وذلك لأنَّ (الكمبيوتر) في هذه الصورة يتحول إلى هاتف مسموع، والله تعالى أعلم.

هذا، ولم يتعرض قانون الأحوال الشخصية الإماراتي لهذه الصورة من صور عقد الزواج بواسطة هذه الوسيلة، وسكت عن ذلك، وكذلك الحال في جميع قوانين الأحوال الشخصية في البلاد العربية؛ حيث لم تتعرض لـذلك في حدود علمي أيضًا.

المطلب الثاني: حكم عقد الزواج عن طريق المحادثة المرئية المباشرة، بواسطة شبكة الإنترنت.

وقد اختلف فقهاء العصر في حكم عقد الزواج من خلال هذه الوسيلة الإلكترونية المعاصرة التي تجمع بين الصوت والصورة ما بين مُجيزٍ ومانع أيضًا، وإن كانت دائرة الخلاف هاهنا تكاد أن تضيق؛ بسبب وجود الصوت والرؤية معًا.

والذي يترجح لديَّ جواز إجراء عقد النكاح من خلالها، في حالةِ أُمِنَ التدليس وانتفى التلاعب في الصورة أو الصوت، حيث يمكن لطرَفَي العقد والشهود من الاشتراك في مجلس واحد حكمًا، وإن كانوا متباعِدين في الحقيقة، حيث يسمعون الكلام في الوقت نفسه، فيكون الإيجاب، ويليه القَبول على الفور، والشهود يسمعون ويرَون الولي والزوج، ويسمعون كلامهما في الوقت نفسه.

ومن حالات الزواج التي عُقدت بهذه الواسطة ما نقَلَته “صحيفة الرياض” السعودية تحت العنوان الآتي:

“العريس في أمريكا.. والعروس في المدينة.. والعقد في جُدَّة.. لأول مرة زواج سعودي عن طريق الماسنجر”.

وأردفَت الصحيفة قائلة:

“علامات الاستغراب تملأ المكان، وتعلو الدهشةُ كلَّ من حضر هذه الليلة، ومشاعر الفرح والابتسامة تُراود الحاضرين على استحياء، ليلة حضر فيها كل الأطراف؛ والد العريس، ووالد العروس، وأقاربهم مع المأذون الشرعي باستثناء العروسين! حالة غريبة، وزواج يستحق أن يُروى للأجيال القادمة؛ فالعريس يَدرس في أمريكا، والعروس تعيش في المدينة المنورة، وعقد القِران حدث في مدينة جُدة بواسطة التقنية الجديدة.

وسط هذه الأجواء تم عقد قران العريس أحمد جميل رجب (26) عامًا على خطيبته وفاء السحيمي (24) عامًا، عبر تقنية الاتصال المرئي (الماسنجر)، وتعتبر هذه الحالة.

هي الأولى من نوعها بالنسبة للوسَط السعودي، الذي يَعتبر مثل هذه الأمور من المستحيلات.

العريس أحمد يدرس في أمريكا، جامعة (ماري مونت) بولاية فرجينيا الأمريكية، طرأَت في ذهنه فكرة الزواج ووافَقه عليها الأهل، إلا أنه واجَه صعوبة كبيرة في العودة إلى السعودية لعقدِ قِرانه؛ بسبب مشكلة تجديد تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة للطلاب السعوديين، فيقول: احترتُ بين أمرين: المحافظة على مستقبلي الدراسي بعد أن قضيتُ سنتين في أمريكا، أو العودة إلى السعودية لعقد قراني، واحتمالية عدم عودتي مجددًا لمواصلة دراستي بسبب التأشيرة.

وأضاف بأنه ولضمان مستقبلي الأكاديمي جاءتني فكرة (زواج الماسنجر)، وأقنعتُ أهلي بها بعد رفضهم لها في بداية الأمر[25].

ولا بد لنا من التنبيه في هذا المقام إلى أنَّ القول بجواز هذا النوع من الزواج الإلكتروني بالطرق السابقة – لا يَعني التوسع في العمل به، وإنما ينبغي أن يقتصر على الأفراد الذين لا تَسمح لهم ظروفهم باللقاء في مجلس العقد.

كما لا يمنع القول بالجواز مِن منعه في بعض الظروف والأحوال، وذلك من قبيل السياسة الشرعية، وسد الذرائع.

وفي نهاية المطاف نُشير إلى آخر بدعة تقنية سرَت إلى عالم القضاء، وقد انتشرت مؤخرًا في البرازيل من خلال برنامج حاسوبي يَعتمد على الذكاء الاصطناعي، أطلق عليه اسم “القاضي الإلكتروني”.

ويَهدف هذا البرنامج الذي يوجد على جهاز حاسوب محمول إلى مساعدة القُضاة المتجوِّلين في تقويم شهادات الشهود والأدلة الجنائية بطريقة علمية في مكان وقوع الجريمة، ثم يقوم بعد ذلك في المكان نفسه بإصدار الحكم بالغرامات إن اقتضت الجريمة ذلك، وقد يوصي بالسجن أيضًا.

وقد خضع البرنامج قبل تسويقه لاختبار ثلاثة قضاة في ولاية (إسبيريتو سانتو) كجزء من خطة أطلق عليها “العدالة على عجلات”، التي تهدف إلى تسريع البتِّ في القضايا المتراكمة في البرازيل، وذلك بالحكم الفوري في الحالات غير المعقَّدة.

وأوضح القاضي (فالس فيو روزا) – عضو محكمة الاستئناف العليا في الولاية، ومصمم البرنامج – أن معظم المواطنين يشعرون بالسعادة عند البتِّ في القضايا في الحال، مشيرًا إلى أن الفكرة لا تَعني أن يحُلَّ البرنامج محلَّ القضاة الحقيقيين، ولكن ليجعل أداءهم أكثر كفاءة.

وقال: إن معظم حالات الحوادث الصغيرة التي يُطلب فيها البتُّ بسرعة تتطلَّب بعض الأسئلة البسيطة فقط، دون الحاجة إلى تفسير القانون؛ ذلك أن عملية تحديد الحكم تعتمد على المنطق المحض حال وصول فريق العدالة المحمولة إلى موقع الحادث خلال 10 دقائق.

وأشار القاضي (فيو روزا) في مجلة (نيو ساينتست) البريطانية إلى أن البرنامج الجديد يقدِّم للقاضي عدة أسئلة بأكثرَ مِن خيار للجواب عنها؛ مثل: “هل توقَّف السائق عند ظهور الضوء الأحمر؟، وهل كان السائق قد تَعاطى المشروبات الكحولية فوق المعدَّل الذي حدَّده القانون؟”، وغيرها من الأسئلة التي لا تحتاج إلا الإجابة بنعم أو لا، ثم يصدر الحكم بعد ذلك.

ونوَّه إلى أن البرنامج يَطبع مبرِّرات الحكم إلى جانب الأحكام البسيطة، مؤكدًا إمكانية تجاوز الحكم الذي يُصدِره البرنامج إن اختلَف مع رأي القاضي البشري.

وقد أكد متحدثٌ باسم مكتب وزير العدل البريطاني في تعليق له على هذا البرنامج أن على السلطات القضائية أن تقتنع أولًا بخُلوِّه من أي خطأ قبل أن يُستخدَم في المحاكم البريطانية، ويبحث القاضي (فيو روزا) مع شركات التأمين الأمريكية فكرة وضع نظام محمول لحل الخلافات التي تنشأ على الطرق بسبب حوادث المرور[26].

فيا ترى؛ هل سنرى المأذون الشرعي الإلكترونيَّ في محاكمنا الشرعية بدلًا من المأذون الشرعي التقليدي؟

ولعل قادم الأيام كفيلة بالإجابة على هذا السؤال.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المصادر والمراجع

1- الأم؛ للإمام أبي عبدالله محمد بن إدريس الشافعي – مطبعةالشعب – القاهرة.

2- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ لعلي بن سليمان المرداوي، أبي الحسن، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، لبنان.

3- بدائع الصنائع؛ للكاساني، الطبعة الأولى، القاهرة، مصر.

4- التاج والإكليل للمواق لمختصر خليل؛ لمحمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري الطبعة الثانية، دار الفكر – بيروت – 1398هـ.

5- التعريفات؛ لعلي بن محمد بن علي الجرجاني، تحقيق: إبراهيم الأبياري، الطبعة الأولى، دار الكتاب العربي – بيروت – 1405 هـ.

6- جواهر الإكليل؛ للإبي.

7- حاشية رد المحتار لابن عابدين على الدر المختار؛ للحصفكي، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة.

8- حكم إجراء العقود بوسائل الاتصالات الحديثة؛ للدكتور محمد عقلة، دار الضياء للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، عمان، المملكة الأردنية الهاشمية 1404هـ – 1986م.

9- الذخيرة؛ لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: محمد حجي، دار الغرب – بيروت – 1994م.

10- روضة الطالبين وعمدة المفتين؛ للنووي، الطبعة: الثانية، المكتب الإسلامي – بيروت – 1405 هـ.

11- الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك؛ لأحمد بن محمد بن أحمد الدردير العدوي.

12- قانون الأحوال الشخصية الإماراتي لسنة 2005.

13- كشاف الإقناع عن متن الإقناع؛ لمنصور بن يونس بن إدريس البهوتي، تحقيق: هلال مصيلحي مصطفى هلال، دار الفكر – بيروت – 1402هـ.

14- لسان العرب؛ لابن منظور، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى.

15- المجموع؛ للنووي، دار الفكر – بيروت – 1997م.

16- المدونة الكبرى؛ للإمام مالك بن أنس، رواية سحنون التنوخي، مطبعة الصادق، القاهرة – مصر.

17- المغني؛ لابن قدامة، دار المنار، القاهرة، الطبعة الثالثة.

18- مغني المحتاج شرح المنهاج؛ للخطيب الشربيني، البابي الحلبي، مصر.

19- الموسوعة الفقهية الكويتية؛ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لدولة الكويت.

20- الهداية شرح بداية المبتدي؛ لأبي الحسن علي بن أبي بكر بن عبدالجليل الرشداني المرغياني، المكتبة الإسلامية – القاهرة – مصر.

الصحف والبحوث والمقالات:

1 – حكم إبرام عقود الأحوال الشخصية والعقود التجارية عبر الوسائل الإلكترونية؛ لمحمد بن يحيى بن حسن النجيمي.

2 – رسائل المحمول.. اتصال وبيزنس وبينهما ثقافة؛ لفاروق محمد عجم، مقال منشور على موقع إسلام أون لاين.

3 – جريدة الرياض السعودية الصادرة يوم الخميس 16 رجب 1430هـ – 9 يوليو 2009م – العدد 14990.

المواقع الإلكترونية:

1 – موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية.

2 – موقع وكالة قدس برس الإخبارية.

3 – موقع هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي.

[1] ومن بحوثي في ذلك: بحث “أثر التقنيات الحديثة في الأقضية الشرعية.. الطلاق الإلكتروني أنموذجًا”، قُدِّم لندوة القضاء الشرعي في العصر الحاضر، المنعقدة في رحاب كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة، بتاريخ 11 – 13 أبريل 2006 م.

[2] انظر: لسان العرب؛ لابن منظور: 2/ 61، التعريفات؛ للجرجاني: 121.

[3] انظر: حاشية رد المحتار؛ لابن عابدين، 3/ 3، جواهر الإكليل؛ للإبي 1/ 274، مغني المحتاج؛ للشربيني: 3/ 24، المغني؛ لابن قدامة: 3/ 333.

[4] قانون الأحوال الشخصية الإماراتي لسنة 2005، المادة 19.

[5] انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية: 41/ 240.

[6] انظر: المصدر السابق.

[7] انظر: الشرح الصغير؛ للدردير: 2/ 350، روضة الطالبين؛ للنووي: 7/ 37، الإنصاف؛ للمرداوي: 8/ 49، حاشية ابن عابدين 12/ 3.

[8] حاشية ابن عابدين 2/ 265، التاج والإكليل 4/ 58، روضة الطالبين 8/ 39 وما بعدها، 7/ 37، الإنصاف 8/ 50. وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية: 41/ 240.

[9] انظر: حاشية ابن عابدين: 2/ 265.

[10] روضة الطالبين: 7/ 37، 38.

[11] المصدر السابق: 7/ 38.

[12] الإنصاف: 8/ 50.

[13] انظر: الأم 5/ 73؛ للشافعي، المدونة الكبرى؛ للإمام مالك بن أنس، رواية سحنون التنوخي 4/ 24، كشاف القناع 5/ 10، الموسوعة الفقهية الكويتية: 3/ 95 – 96، و 41/ 242.

[14] بدائع الصنائع؛ للكاساني: 2/ 231.

[15] حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2/ 265 – 271، كشاف القناع 5/ 40، 41.

[16] انظر: موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية، مادة هاتف.

[17] المصدر السابق.

[18] المجموع؛ للنووي: 9/ 181.

[19] انظر: حكم إجراء العقود بوسائل الاتصالات الحديثة؛ لمحمد عقلة 113، مجلة مجمع الفقه الإسلامي: 2/ 867، 888.

[20] انظر: قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي بجدة – المملكة العربية السعودية، الدورة الأولى، ص 10.

[21] انظر: حكم إبرام عقود الأحوال الشخصية والعقود التجارية عبر الوسائل الإلكترونية؛ لمحمد بن يحيى بن حسن النجيمي.

[22] انظر: الهداية؛ للمرغيناني 3/ 121، الذخيرة؛ للقرافي: 10/ 164، روضة الطالبين: 11/ 261، الإنصاف: 12/ 11.

[23] انظر: الفقرة أ من المادة الخامسة من الفصل الأول من قانون رقم (2) لسنة 2002 بشأن المعاملات والتجارة الإلكترونية لإمارة دبي.

[24] انظر: عقد الزواج عبر الانترنت؛ لعبدالإله بن مزروع المزروع: 5.

[25] جريدة الرياض السعودية الصادرة يوم الخميس 16 رجب 1430هـ – 9 يوليو 2009م – العدد 14990.

[26] أوردت الخبر وكالة قدس برس الإخبارية، وإذاعة بي بي سي البريطانية على موقعها الإلكتروني.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/96725/#ixzz5lpJJFZlb