الإباحة

الإباحة في اللغة رفع الحظر عن الشيء وإطلاقه، وهو المعنى الذي يتصل بالمصطلح الشرعي العام للكلمة، وتأتي الإباحة أيضاً بمعنى الإظهار فيقال: أباح سره أي أظهره، والإباحة في الاصطلاح عند الأصوليين هي الحكم الشرعي الذي يفيد تخيير المكلف التام بين الأخذ بالشيء وتركه. ويتفق الفقهاء مع الأصوليين في أصل المعنى، وقد يختلفون في الألفاظ والتعابير كقول الفقهاء: الإباحة أن يجيز الشارع للمكلَّف فعل الشيء أو تركه بلا استحقاق ثواب أو عقاب.

غير أن الخلاف ينبثق بين الاصطلاحين عند تتبع الفروع الفقهية المنبثقة عن حكم الإباحة. فالأصوليون لم يهتموا بما وراء المعنى الكلي للكلمة، إذ كان بحثهم متعلقاً بالإباحة من حيث هي حكم شرعي معين، ومن حيث الحاكم الذي قضى بذلك وهو الله عز وجل. أما الفقهاء فقد كان مجال بحثهم تطبيق حكم الإباحة على الوقائع والجزئيات المتنوعة واستظهار الأحكام والآثار الناجمة عن وصف الإباحة فيها. والفرق بين «الإباحة» و«الإيجاب الاختياري» واضح. فإن الإيجاب الاختياري هو تعلق الأمر الإلهي بواحد من شيئين أو عدة أشياء فلاينفك الطلب عن واحد منها، أما الإباحة فتخييرٌ مطلقٌ لايصحبه طلب شيء.

الإباحة والمباح
إن الإباحة تعبير عن الحكم الذي يتضمنه خطاب الله تعالى للعباد، وهو التخيير التام بين الفعل والترك، فهو إذن حكم شرعي، أما المباح فهو الشيء الذي تعلَّق به هذا الحكم كاليقظة والرقاد والطعام وسائر الأفعال التي خيّر الله الناس بشأنها فعلاً أو تركاً.

صيغ الإباحة
إن الصيغ التي يفهم منها حكم الإباحة كثيرة ومتنوعة. فمنها التعبير بنفي الحَرَج أو الجُناح أو الإثم أو المؤاخذة. ومنها نفي التحريم أو الإثم عن الشيء المباح. ومنها الأمر بالشيء بعد النهي عنه. على أن الإباحة قد تفهم بدلائل أخرى من وراء الصيغ والألفاظ، وهي في جملتها لاتعدو واحداً من أدلّة ثلاثة: أفعال الرسول e أو تقريراته أو كل ما سكتت عنه النصوص الشرعية فلم تعطه حكماً تكليفياً معيناً، وهو ما يدخل في الإباحة الأصلية اعتماداً على القاعدة الأصولية: «الأصل في الأشياء الإباحة» المستندة إلى قوله تعالى: ]هُوَ الَّذي خلق لكُم ما في الأرضِ جَمِيعاً[ [البقرة 29]. هذا وإنما تفهم الإباحة من الدلائل اللفظية وغيرها بشرط أساسي لابد منه وهو عدم وجود دليل خارجي يصرف دلالة الإباحة إلى غيرها من ندب أو كراهة أو وجوب أو تحريم.

أحكام الإباحة
تختلف أحكام الإباحة، بحسب اختلاف المصدر الذي صدرت عنه. والإباحة، وإن كانت في أصلها حكماً شرعياً متعلقاً بأفعال المكلفين، والحاكم هو الله وحده – كما يقول الأصوليون – إلا أنها قد تصدر عن الناس بعضهم تجاه بعض، وذلك بموجب حكم أساسي صادر عن الله عز وجل.

وعلى هذا، فالإباحة تنقسم – من حيث منشأ الإذن فيها – إلى قسمين: إباحة منشؤها الشارع مباشرة، وذلك عن طريق النصوص أو استنباطات المجتهدين، وإباحة منشؤها الناس، وذلك من خلال تعاملهم بعضهم مع بعض.

فأما القسم الأول: فإما أن تكون الإباحة فيه متعلقة بالأفعال، أو بالأشياء. فما كان منها متعلقاً بالأفعال، كالحركة والسكون واليقظة والنوم والأخذ والإعطاء، فإنما له حكم واحد، هو عدم استحقاق الفاعل لأي ثواب أو عقاب على كل من الفعل أو الترك. وما كان منها متعلقاً بالأشياء، كالماء والكلأ والأماكن والطرقات ونحوها، فالإباحة تنقسم فيها إلى إباحة استهلاك وإباحة استعمال. وذلك بحسب طبيعة الشيء الذي تعلقت به الإباحة وبحسب صلاحه لأحدهما.

فما كانت الإباحة فيه إذناً بالاستهلاك انحصر وجه الاستفادة الأساسية منه في الاستهلاك، كصيد البر والبحر، وكالماء والكلأ والملح، وكإحياء الموات [ر]، مع ملاحظة بعض الفرق بين هذا الأخير والأمثلة التي قبله.

وحكم الإباحة في هذه الأشياء وأمثالها، جواز استعمالها على وجه الاستملاك والاستهلاك، أما ما كانت الإباحة فيه إذناً بالاستعمال وحده، فهو كل ما كان الوجه الأساسي في الاستفادة منه يتمثل في الاستعمال على الوجه الذي أُعدَّ له: كالشوارع والمساجد والمرافق العامة، والحدائق وما قد يكون فيها من لعب الأطفال.

وحكم الإباحة في هذا النوع، هو ثبوت حق الاستعمال له من دون أي تصرف بأعيانها لا على وجه الاستملاك ولا على أي وجه آخر..

وأما القسم الثاني: وهو الإباحة السارية بين الناس بعضهم مع بعض، فلها صورتان أيضاً:
أولاهما، أن تتعلق الإباحة بأموال خاصة يبيحها مالكها لعامة الناس أو فئة خاصة منهم، كإباحة الرجل طعاماً للضيفان وما قد ينثر بين الناس من الأموال والحلوى في الأفراح والأعراس.

الثانية، أن تتعلق الإباحة بمنافع الأموال لا بأعيانها، أو بحقوق معنوية يأذن مالكها في الاستفادة منها، كأن يأذن إنسان لآخر بأن يركب سيارته أو يبيت في منزله أو يتنزه في حديقته. وسيّان أن يكون المبيح لذلك مالكاً لأعيان هذه الممتلكات أو مالكاً لمنافعها فقط، كأن يكون مستأجراً لها.

وحكم الإباحة في هذا القسم الثاني يتلخص في أن الصورة الأولى منه، وهي ما تعلقت الإباحة فيها بالأعيان ذاتها، يترتب على الإباحة فيها جواز استهلاك تلك الأموال للمباح له، من دون أن يتملكها تملكاً تاماً فيتمكن من التصرف بها على الوجه الذي يريد. فالضيف الذي أباح له صاحب الطعام تناوله لايملك ذلك الطعام، ومن ثم فلا يحق له أن يتصرف فيه ببيع أو صدقة أو نحو ذلك، وإنما يتصرف فيه بحدود ما أذن له فيه وهو الأكل.

والزوجة التي ينفق عليها زوجها يوماً فيوماً على وجه التمكين والإباحة، إنما تملك استهلاك ما أنفقه عليها على الوجه الذي تم لها الإذن فيه، ولذا فإن هذه النفقة تسقط بفوات مدتها، ولا تصير ديناً في ذمة الزوج لها. إلا إن أعطاها النفقة على وجه التمليك وذلك كأن يفرضها القاضي عليه بعد خصومة بشأنها، فإنها تتملكها بالقبض وتتصرف بها عندئذٍ كما تشاء، ولاتسقط بمضي الزمن، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء.

الفرق بين الإباحة والتمليك
لعل الفرق بين الإباحة والتمليك يصبح واضحاً من خلال الأحكام المتنوعة التي تنبثق عن الإباحة.

فالتمليك يسوّغ حق التصرف بالعين وبالمنافع تصرفاً تاماً لايضيّق منه إلا فقد الأهلية عند المتملك أو نقصانها.

أما الإباحة فإن كانت من الشارع، وكانت متعلقة بأعيان لاتتم الاستفادة منها إلا باستهلاكها، فهي مصدر من مصادر التمليك ومن ثم تترتب عليها سائر حقوق الملكية وامتيازاتها. وأما إن كانت متعلقة بأعيان تنحصر الاستفادة منها بالاستعمال فقط، كالطرقات والمساجد والمرافق العامة، فإباحتها لاتسوّغ أكثر من استعمالها فيما قد أعدت من أجله.

وأما الإباحة السارية بين الناس، بعضهم مع بعض، فهي لاتفيد إلا الإذن بالانتفاع، في كل ما تعلقت الإباحة بمنفعته لا بعينه. وهي تفيد حق الاستهلاك على ذمة المبيح وضمانه في كل ما تعلقت الإباحة بعينه. فهي على كلا الحالين لاتفيد تمليكاً، ومن ثم فلايترتب عليها حق التصرفات والامتيازات التي يتمتع بها المالك.

الفرق بين الإباحة والرخصة
يرى الشاطبي وفريق من العلماء أن الرخصة سبب من أسباب الإباحة، ذلك لأن الترخيص من الشارع إباحة طارئة لشيء كان من مقتضى القواعد أن لايكون مباحاً. أو هي حالة طارئة تمنع الإثم مع بقاء الفعل حراماً، توسعة وتسهيلاً للناس، كرخصة أكل الميتة للمضطر. أما الإباحة فقد تكون على وجه الرخصة، وقد تكون حكماً ثابتاً من الأصل، كأصل إباحة الطيبات. وعلى هذا فالرخصة أخص من الإباحة، إذ هي نوع منها.

غير أن كثيراً من علماء الأصول يقسمون الرخصة إلى مباحة كعقود السلم والإجارة، ومندوبة كقصر الصلاة للمسافر، وواجبة كأكل المضطر المشرف على الهلاك الميتة. وعلى هذا فبين الرخصة والإباحة عموم وخصوص وجهي.