مقال قانوني هام عن علاقة الدولة المدنية بالدستور

للمستشار الدكتور/ عماد النجار

رئيس محكمة الاستئناف الأسبق

مقدمة

ثارت فى الآونة الأخيرة وخاصة بعد الغاء دستور سنة 1971 فكرة تحديد مقومات الدولة فى ظل دستور جديد يتعين وضعه طبقاً لما ورد فى المادة ( 60 ) من الاعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس سنة 2011 ، فأثار التيار الاسلامى طرحا يهدف إلى تبنى فكرة الدولة الدينية الاسلامية فى الدستور ، ورفضت طائفة أخرى أن تكون الدولة دينية ولا بد أن تكون دولة مدنية قائمة على الديمقراطية والحرية والمساواة .

وفى هذه الصفحات نكشف الستار عن حقيقة الدولة المدنية واصلها ، وأن الدولة الدينية قد انتهى وجودها بقيام دولة الاسلام التى تقوم على المنطق والحجة والبرهان وصولاً الى المصلحة العامة التى ينشدها المجتمع وأنه إذا كانت تلك الدولة بعد الخلفاء الراشدين قد استحالت الى دولة مستبدة يتسيد فيها الولاه على حساب المواطنين فإن وقت العودة الى حقيقة الدولة المدنية التي رسمها الإسلام قد حان ؛ حيث المساواة والديمقراطية والكرامة لكل أنباء المجتمع – ذلك أن الدولة الدينية تقوم على نفى المساواة بين الناس واحتكار مفهوم الدين من قبل البعض من الناس ورفض أى فكر آخرلآن مايقول به هو من عند الله كما يعتقد – ويجعل النصوص حاكمة للمجتمع حيث يحتكر معناها بصرف النظر عن مخالفتها للعقل وعدم استجابتها لمصالح العباد – ومن ثم ندعو الى قيام دولة مدنية يمكن للمجتمع فيها ان يرقى ويتقدم ويسود العقل والمساواة والديمقراطية والعلم والعمل والعدل فتتقدم الامة ويزدهر المجتمع وتصبح دولة معاصرة تستعيد بجهد أهلها مكانتها التاريخية كاعظم دولة فى التاريخ القديم.

لمحة تاريخية :-

مرت على الدولة العديد من الديانات أولها الديانة المصرية السماوية الأولى في التاريخ الانسانى على يد النبى ” إدريس عليه السلام ” كأول خطاب سماوى الى الارض فى مصر القديمة سنة 9500 قبل الميلاد وقد ورد ذكره فى القرآن الكريم حيث يقول الله فى سورة ” مريم ” ” واذكرفى الكتاب ادريس انه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا ” وهذه المكانة مستمدة من سبقه للأنبياء والرسل في التاريخ الانسانى وكانت شريعته شفوية لانه وجد قبل معرفة الكتابة بالفين وخمسمائة سنة وخلاصة رسالته الحق والعدل والاستقامة وقد صورها قدماء المصريين فى شكل تمثال يرتديه الناس على الرأس معبرا عن هذه القيم الثلاث التى اتى بها ادريس واختصرت هذه القيم الثلاث فى كلمة واحدة هى ماعت ثم جاءت رسالة “موسى” في أرض مصر حيث التوراه وهى كلمة عبرية معناها الشريعة حيث تسلم وصاياه فى أرض مصر داخل سيناء لدى عودته وزوجته من مهربه في أرض مدين جنوبى الاردن الأن ، وظل اليهود قبل ذلك فى مصر ومنهم ” موسى” حيث طلب الخروج وآهله من اليهود من مصر ليعبدوا الله فى أرض كنعان التى هى فلسطين الآن ولكن ملك مصر رفض خروجهم باعتبارهم عبيداً لدى المصرين حتى خرجوا هاربين الى ارض سيناء ، حيث مات ” موسى وهارون ” قبل وصولهم إلى ارض كنعان ثم احتكم كبيرهم شاؤول مع خصومه الكنعانين الى شخص من كل طرف يتعار كان وتكون نتيجة المعركة ملزمة للطرفين وانتصر ممثل اليهود داود عليه السلام وقامت الدولة اليهودية فى أرض كنعان وظلت بعض الوقت كذلك حتى جاءهم البابليون وقضوا على الدولة اليهودية وأبادوها وبدأ عصر التيه لليهود وانتشارهم فى العالم مايقرب من الفى عام حتى عادوا فى ظروف سياسسة عالمية سنة 1948.

ولكن ليس لليهود دعوة لنشر الدين اليهودي فهو دين محصور بين من تتناسل من أم يهودية وبالتالى فلا تقوم مشكلة دينية فى الدولة الحالية بسبب الدين اليهودي القاصر على أهله دون سواهم – ومع ذلك يدعون فى هذا الزمن رغبتهم فى جعل دولة فلسطين هى دولة لليهود على أساس دينى وهى سياسة خادعة ليجدوا بها وسيلة لطرد الفلسطينين من غير اليهود منها ، ثم جاءت بعد ذلك الديانة المسيحية فى أرض فلسطين حيث الناصرة التى ولد فيها المسيح وعاش ومات المسيح دون أن يكون له دولة تعتنق ديانته وظل الأمر كذلك حتى وجدت الغالبية العظمى فى الدين المسيحى وسيلة لتحقيق طموحاتهم فى الآخرة حيث جنات النعيم المحرومين منها في دنياهم بسبب فقرهم وهو انهم – فأقبل هؤلاء على اعتناق هذا الدين لينالوا فى الآخرة جزاء ما يلاقونه من بؤس و شقاء في الدنيا ولما أصبحوا كثرة اعتنق الامبراطور الرومانى الدين المسيحى وهو الامبراطور قسطنطين في أوربا وفرض الديانة المسيحية على جميع بلاد الإمبراطورية الرومانية ومنها بلاد الشرق الأوسط التابعة له على مدى العصور الوسطى ثم تولى الكهنة المسيحيون حكم البلاد بعد ذلك حيث كانت سيطرتهم على الملوك والنبلاء سلطة لا حدود لها – حتى أن الملك ليس فى وسعه أن يحكم دون مباركة البابا كبير الكهنة وقد حدث فى التاريخ الرومانى أن وقف أحد الملوك خمسة أيام أمام باب البابا دون أن يسمح له بالدخول حتى يظفر ببركة البابا – والحق أن هذه هى بداية الدولة الدينية حيث كانت تعنى أن يكون رجال الدين هم الحاكمون أو فوق الحاكمين ولا يملك أى حاكم أن يخرج على طاعتهم في أي مجال من المجالات بسبب اعتقادهم أنهم أقرب إلى الله من سائر البشروأنهم المتحدثون باسم الله .

وظل رجال الدين المسيحى على هذا النحو يمرحون في النعيم الذين يحصلون عليه من المواطنين فى مقابل الغفران عن الذنوب ومنح البركات والموافقة على الزواج وقبول الطلاق بل حتى وصل بهم الأمر إلى بيع الغُُفران فيما يسمى بصكوك الغفران التى كانت محل سخرية ونقدمن المجتمع الاوربى المسيحي وقد قاد المفكر الشهير “مارتن لوثر” هذا التسلط من قبل رجال الدين ومايحيط بهم من ثروات وأنفاق متزايد على الرفاهية والنعيم على حساب غالبية الشعب من الفقراء واكد ذلك انصراف رجال الدين عن الاستقامة فى السلوك والبعد عن الاخلاق الفاضلة حتى قالت القديسة “كاترين السينائية ” إنك أينما وليت وجهك سواء نحو القساوسة أو الأساقفة أو غيرهم من رجال الدين أو الطوائف الدينية المختلفة أو الاحبار من الطبقات الدنيا والعليا سواء كانوا صغاراً فى السن أو كباراً لم تر إلا شراً ورذيلة تزكم أنفك رائحة الخطايا الآدمية البشعة – إنهم جميعاً ضيقواً العقل شرهون بخلاء تخلوا عن رعاية الارواح واتخذوا من بطونهم إلهاً لهم يأكلون ويشربون فى الولائم الصاخبة حيث يتمرغون فى الاقذار ويقضون حياتهم في الفسق والفجور ويطعمون أبناءهم من مال الفقراء ويفرون من الخدمات الدينية فرارهم من السجون ( وول ديور رانت قصة الحضارة صـ 32 تحت عنوان أخلاق رجال الدين صـ 182 ) .

ويضيف فى ذات الموقع ان الراهبات كن مرحات رشيقات فى البندقية بنوع خاص حيث كانت أديرة الرجال والنساء متقاربة قرباً يسمح لمن فيها بالاشتراك من حين لآخر فى فراش واحد – وتحتوى سجلات الأديرة على عشرين مجلداً من المحاكمات بسبب الاتصال الجنسى بين الرهبان والراهبات .

وحاول بعض المسيحيين إصلاح هذه الأحوال السيئة فى الدولة المسيحية فأنشاوا تنظيماً يدعو للاصلاح أطلقوا عليه تنظيم الاخوان المسيحيين .

ولكن هذا التنظيم لم يحقق غايته ولم يتغير الأمر فى الدولة المسيحية وظلت الدولة المسيحية على حالها .

وفى ظل هذا العصر كانت الدولة دينية بحته حيث لا يبرم أمر من الأمور إلا إذا أذن به الكهنة وعلى رأسهم البابا ذلك أن الدولة الدينية هى الدولة التى يحكمها ويتولى أمورها رجال الدين حيث أن صاحب الكون أنزل شريعته على عباده وتركهم لتطبيقها ورعاية مصالحهم المشروعة طبقاً لمقتضيات هذا الدين – أما التدخل فى كل صغيرة وكبيرةمن رجال الدين وألا يبرم أمراً إلا بموافقة رجال الدين حيث يفرضون مفاهيمهم على الكتب المقدسة دون سائر البشر بدعوى أنهم فوق البشر وأنهم أقرب إلى الله من عباده وأنهم وكلاء عن الله يأمرون البشر ويحللون ويحرمون لهم مايشاؤون فذلك جوهر الدولة الدينية – ولأن سلوك رجال الدين قد علم القاصي والداني حقيقة أمرهم فكان لابد من الثورة على الدولة الدينية وهنا حل عصر النهضة على أوربا وتصدى “مارتن لوثر” وغيره من المفكرين فى مواجهة الدولة الدينية وقال “مارتن لوثر” في ثورته على الدولة الدينية يجب أن يكون الكتاب المقدس مرجعنا الأخير للعقيدة والشعائر وليس رجال الدين فالكتاب المقدس لا يقدم أية بينة على حق البابا المطلق فى دعوة المجلس المقدس اذا كان ينشر الحرمان من غفران الكنيسة أو المس بحقوق أي إنسان فان ذلك أمر غير مقبول ، والأولى بدعوة المجلس هو فحص المفارقة الفظيعة فى أن زعيم العالم المسيحى يعيش فى ترف دنيوى يفوق ما يحلم به أى ملك ولابد أن يضع هذا المجلس حداً لاستيلاء رجال الدين الايطالى على التبرعات الألمانية وألا يحققوا دخلا دون أن يؤدوا عملاً ويعيشون بصفة أساسية على الاموال التى يسلبونها من العوام الفقراء – وعلى ذلك فلا بد من الاستغناء عن وساطة رجال الدين بين الناس وخالقهم .

وأن يلغى التحريم والحج وشعائر القداس على أرواح الموتى ويجب أن يلغى القانون الكنسى ويطبق قانون واحد على الناس جميعاً وعلى رجال الدين كسائر المواطنين سواء بسواء .

وانتشرت دعوة “مارتن لوثر” في كل بلاد أوربا الغربية وكان من نتيجة هذه الثورة أن سقطت الدولة الدينية وحلت محلها الدولة المدنية التى يكون الناس فيها على قدم المساواة ولهم رأى فيما يتخذ من تدابير وقرارات .

وهكذا كانت الدولة الدينية هى الدولة التى يتحكم فيها رجال الدين وليس فيها من قول قبل أن يقول رجال الدين وليس لأحد كذلك من قول بعد ما يقول رجال الدين – وهكذا بدت الدولة دولة دينية بحق لا سلطان فيها لغير رجال الدين مهما كانت مكانة الأفراد فيها من علم وجاه وسلطان فالملوك لا يعملون إلا مايراه رجال الدين والعلماء لا قول لهم إلا إذا وافقهم رجال الدين ومازلنا نذكر “جاليليو” عندما قرر بعلمه أن الأرض تدور حول الشمس فقضى عليه بالاعدام وعند تنفيذهذا الحكم قال بتهكم ولكنها تدور وثبت صحة ماقاله بعد ذلك بصرف النظر مما ورد فى الكتاب المقدس وماقال به رجال الدين .

الدولة المدنية في الإسلام

وعندما قامت دولة المسلمين كانت لاتعرف لرجال الدين ميزة عن غيرهم من الناس حيث تساوى الناس ولم يتفاضلوا بالقرب من الله وهذا مرفوض فى شريعة الاسلام إذ يتفاضل الناس بالتقوى والأعمال الصالحة لافرق بين شخص وآخر .

ولم تكن دولة الاسلام تمنح لمتولى أمورها ميزة خاصة يتميز بها عن سائر المواطنين فليس من وال أو خليفة يحتكر الصواب وحده دون سائر المواطنين- فالكل سواسية كأسنان المشط وها هو عمر يعلن: “أصابت المرأة وأخطأ عمر” عندما تحدث عن الدعوة الى تقليل المهور وها هو أبو بكر يقول “اذا أخطأت فقوموني فقالوا له بل نقومك بحد السيف” – لأن هذه المساواة لاوجود فيها للدولة الدينية حيث لا رأى لأحد فى هذه الدولة الدينية إلا لرجال الدين ولا تعرف دولة الاسلام رجال الدين كي يكونوا وسطاء بين الله والناس بل أن المسافة بين الله وكل فرد مسافة واحدة وهو مايعنى المساواة وعدم التميز بين الناس بسبب الدين أو الثروة أو العرق أو لأي سبب آخر ذلك أنما المؤمنون أخوة لافرق بين انسان وآخر إلا بماتقدمه يداه .

غير أن الدولة الاسلامية انتكست بعد الخلفاء الراشدين وأصبحت حكماً عضوضاً متسلطاً يتمايز الناس بحسب قربهم من السلطان أوبعدهم عنه وذلك فى الدولة الأموية والعباسية وماتلاها حتى الآن حيث سمحت بوراثة الملك وعدم المسئولية عما يفعلون وباتت دولة المسلمين كغيرها من الدول المستبدة المتسلطة بل تشابهت مع الدولة الدينية المسيحية على نحو ماسلف بيانه في أوربا تماما كما حدث فى الدولة العثمانية.

وليس في الإسلام ما يناقض الدولة المدنية ، وإنما طبيعة التطور ، وتغير الأحوال هي التي توجب تطور الأحكام ، فمثلا في شأن عدم الحرب خلال الأشهر الحرم وهى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب هذه الشهور يحظر فيها الحرب والقتال وذلك لقوله تعالى ” إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهراً فى كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة أشهر حرم” سورة التوبة آية 36 والآية الأخرى تقول “فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم” سورة التوبة آية 5 – ذلك لأن القبائل متحاربة دائماً ففرض الاسلام عدة أشهر للراحة والاستعداد والتوقف عن الحرب – وهو حكم وجدفى ظروف خاصة بالمجتمع الذى نزلت فيه هذه الاحكام ولكن تغاير الأزمان اقتضى تغير الأحكام فلو أن عدواً هاجم المسلمين فى أى دولة اسلامية هل لا ترد عليه إلا خارج هذه الأشهر؟ لا يمكن التسليم بذلك ويتعين النزول على مقتضى الحال والغاية هى مصلحة المجتمع وحيثما تكون المصلحة فثم شرع الله .

وكذلك الشأن فى الزام غير المسلمين بدفع الجزية وهو حكم صريح فى القرآن الكريم ولكن علة هذا النص هو أن الدولة الإسلامية قى بدايتها تستهدف نشر الدين الاسلامى وليس من المعقول ولا من المقبول أن يشارك غير المسلمين فى هذه الغاية – ومن ثم فقد أعفوا من الجهاد لهذا الغرض اكتفاء بالجزية التى يسددوها للدولة مقابل حمايتهم فيها – أما بعد انتشار الاسلام واصبحت غاية الدولة هى الحفاظ على حدودها واقليمها وأصبحت هذه غاية جميع المواطنين على اختلاف اديانهم فقد بات حتما ان يشارك غير المسلمين فى الجهاد لحماية الوطن وهو أمر منطقى بحسب ان الوطن ملك لجميع المواطنين رغم اختلاف اديانهم ] الاستاذ الدكتور / عبد الحميد متولى فى مؤلفه الشريعة الاسلامية وانظر ايضا كتاب الجزية فى مصر للدكتور / ايمن أحمد محمود طبعه للمجلس الأعلى للثقافة[، ومن ثم وجدنا قائداً للجيش الثالث يدافع عن الوطن فى حرب 1973 وهو أحد الاخوة المسحيين وذلك إعمالاً لقاعدة المواطنة – وحق المواطن فى الدفاع عن وطنه – وهكذا يبدو أن تغير الأزمان يقتضى تغير الأحكام لآن الغاية الأساسية للدين هى مصلحة العباد وحيثما تكون المصلحة فثم شرع الله .

الدولة المدنية في العصر الحديث

ثم كان العصر الحديث وتاثر الناس بما استجد من أمور تحمى الانسان وتذود عن مصالحة وآرائه وممتلكاته وعادت الناس الى المساواة والإخاء ولا يتفاضل الناس الا بأعمالهم وهذه هى مبادئ الدولة المدنية الحديثة وقد اكسبها العصر كثيراً من المبادئ الحامية للانسان بوصفه انسانا حتى و لولم يكن لها أصل من شريعة أو دين وذلك استجابة لآراء الفلاسفة فى العصر الحديث حيث استعاد الناس فى العصر الحديث فكرة المساواة بين الحاكم والمحكوم وعدم تمييز الحاكم عن المحكومين إلا بقدر مايحقق لهم النفع ويدفع عنهم الضرر استجابة لأبيقور الفليسوف اليونانى فى القدم وماتبناه فى العصر الحديث من أمثال جون لوك وجان جاك روسو حيث اتجهت أفكارهم إلى الأتفاق على عقد اجتماعى بين المحكومين والحكام يتم بموجبه الزام الحاكم بالسهر على حماية الوطن واحترام حقوق الأفراد فيه وتبنى الاخاء والمساواة بين الناس مهما اختلفت أهواؤهم وآراؤهم ودياناتهم حيث لا تميز بين الناس بسبب اللون أو الجنس أو الدين أو الثروة أياكان وضعه الاجتماعى حاكماً أو محكوماً .

وبذلك قامت الدولة المدنية الحديثة حيث تحددت سلطات الحاكم وحقوق المحكومين بمقتضى الاتفاق على العقد الاجتماعى المنشئ لحقوق وواجبات الطرفين وهو الذى يتمثل حالياً فى دستور البلاد حيث أن الدستور ليس إلا العقد الاجتماعى الذى ينظم العلاقة بين طرفيه وهم المحكومين والحاكم بحيث لا يتميز الحاكم بسلطات ما إلا إذا كانت هى الوسيلة الوحيدة لحماية الوطن والمواطنين ومن جانب آخر يتمتع المحكومون بالعدل والمساواة – ويخضع الجميع لاحكام المحاكم لدى خروج أى من الطرفين على هذه القواعد وهذه الحقوق وهذه الواجبات – وبذلك تكون الدولة قد خطت خطوة آخرى نحو التقدم والتمدين ومن ثم يقال لها الدولة المدنية لأنها لا تستوحى أمورها من سلطة عليا لا قدرة على مواجهتها كالاديان بل تستوحى أمورها من ذلك العقد الاجتماعى المتمثل فى الدستور الذى ارتضته الامة وانعقد اجماعها أو اغلبها على اعتباره الحكم فى تسيير شئون البلاد . – بل ثمة مبادئ تجاوزت الاديان وأصبحت فى مقدمة معتقدات المواطنين – من ذلك مثلاً مبدأ الفصل بين السلطات هو مبدأ أساسي في بناء الدولة المدنية الحديثة رغم أن الشريعة الإسلامية وسائر الديانات السماوية لا تعرفه ولم تنزل عليه بين الأحكام .

وكذلك العدالة الاجتماعية وحقوق الانسان هذه المبادئ الاساسية عولجت فى الشريعية الاسلامية وغيرها من الشرائع السماوية باعتبارها دعوات أخلاقية يصير الدعاء لها والدعوة الى احترامها بمجرد القول – وليس بإنزال قواعد آمره تتبناها الدولة المدنية لكفالة الحقوق الاساسية لكل المواطنين واحترام انسانيتهم وحقهم فى الحياة المادية والأدبية – أما الدولة المدنية فلا تكتفى بمجرد الدعوات الاخلاقية التى تردد في المساجد والمحافل بل تجعلها حقيقة واقعة يشعر بها القاصي والداني وهذه هي الدولة المدنية الحقه حيث يمكنها فرض الضرائب التصاعدية وتشغيل العاطلين وعلاج المرضى المحتاجين وتهيئة السكن لمن لا سكن له وغير ذلك من التدابير التى تجعل العدالة الاجتماعية حقيقة واقعية .

ومن طبيعة الدولة المدنية التسامح الذى هو نقطة وسطى بين التفهم الكامل والرفض المطلق ومن شأن قيام التسامح فى المجتمع هو قبول واحترام الآخر وتقديره بل أن واقع الحال ومصلحة المجتمع اقتضت الخروج على نصوص قرآنية صريحة في الماضي والحاضر ، مثال ذلك سهم المؤلفة قلوبهم الذي ألغاه عمر رغم النص الصريح عليه فى القرآن الكريم واجتهاد عمر في وقف حد القطع فى السرقة وذلك لاعتبارات من العدل والإحسان ، وهو اجتهاد يصلح أن تحمل عليه القوانين المعاصرة ، حيث لو طبقنا حد القطع في هذا الزمان فمن ذا الذى يضبط بهذه الجريمة غير الفقراء البسطاء أما أكابر السراق فلا تمتد اليهم السلطة وبذلك صح ماقاله أشعيا النبي “لقد أصبح الأمراء رفاقاً للصوص وأنهم ليشنقون اللصوص الذين سرقوا التافه من الاشياء ولكنهم يتاجرون مع من يسلبون العالم بأسره “، ويقول كاتو عضو مجلس الشيوخ الروماني” الصغار من اللصوص يزج بهم فى السجون بينما اللصوص الكبار يرفلون فى الحرير ويتحلون بالذهب ” وبذلك فان وقف الحد كان مصلحة أساسية للمجتمع يتعين النزول عليها فلا يطبق الحد إلا إذا توافر للمجتمع بأفراده جميعاً الكفاية فى المأكل والمشرب والملبس والسكنى والعلاج والزواج حيث أن من يفتقد لهذه الحاجات الأساسية لا يمكنه التحكم في سلوكه، كما يقول المفكر الأمريكى وليم جيمس – ومن ناحية آخرى إذا صار قطع يد شخص فمن ذا الذى يعوله وأهله بعد أن فقد القدرةعلى الكسب لابد أن المجتمع يتحمل هذه المأساه ومن ثم كان اجتهاد عمر موفقا وسنة يتعين اتباعها ، ويصلح لأن يكون مدخلا لما تدعوا إليه المجتمعات فى الوقت الحاضر إلى استبعاد العقوبات البدنية واستبدالها بجزاءات اصلاحية لأن العقوبة تستهدف الاصلاح وتحسين سلوك الجانى وليس شله عن الكسب والعيش الطبيعى داخل المجتمع- وهذه هى سمات الدولة المدنية وهذه هى طبيعة الدولة المدنية حيث يكون العدل أساسهاً والتفرقة بين الناس لأى سبب محظورة ، ويكون تسلط من يزعمون قربهم من الله واعتقادهم بأنهم مستودع الحق والفضيلة وماعداهم مشكوك فيهم نزع لمبدأ المساواة بين الناس وهى صفة أساسية فى الدولة المدنية وهو ماينبغى التمسك بها بعيداً عن تسلط رجال الدين وإتباعهم .

وليس معنى ذلك أن تتجرد الدولة المدنية من الجانب الروحي والعقائدي ذلك أنا تؤكد – كما يقول الباحثون- إن فطرة الله في الإنسان كامنة فى جيناته وأننا جميعاً كائنات اجتماعية كان الدين ومازال وسوف يظل عنصر اً اساسياً فيها وبذلك يكون الدين هو الاصل وما كان من الاصل لا محل للحديث حوله أو التنابز بشأنه أو الحرص على النص عليه فى صلب مواثيقنا والدليل على حتمية الدين فى النفس الانسانية أن العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة التى فرضها كمال أتاثورك على تركيا فى عشرينات القرن الماضى حيث أورد فى دستور البلاد عندئد نصا فى المادة 14 منه تقول بحظر “تطبيق القواعد الدينية ولو جزئياً فى كيان الدولة السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعى والقانونى ، ولا يجوز اساءة استخدام المشاعر الدينية فى تحقيق مآرب شخصية أو سلطوية ” وبذلك باتت تركيا هى الدولة العلمانية الوحيدة بين الدول الاسلامية وأغلق المساجد وحظر الاذان باللغة التركية وكذلك الآذان لمن يريد الصلاة أو الآذان فى خلوته – ومالبث الشعور الدينى أن فاض على المجتمع التركى وتبنى تورجت أوزال الدعوة إلى الاعتراف بالدين الاسلامى والدعوة اليه ثم أعلن صراحة عن حتمية الدين الاسلامى ونشأ حزب الرفاه بقيادة أربكان الذى وصل إلى السلطة تحقيقاً لرغبة المجتمع التركى ومن بعده نشأ حزب العدالة والتنمية الذى يحكم الآن برئاسة رجب طيب أردغان وبذلك أعاد الدولة إلى احترام الدين الاسلامى واعتباره ضمن قيم المجتمع ومبادئه – دون ذكر للدولة الدينية أو الى أن الاسلام مرجع وأساس مسيرة المجتمع متخذاً من المصلحة الأساسية للمجتمع هى الغاية وبالتالى فثم شرع الله ، وكذلك الشأن فى الاتحاد السوفيتى حيث أنكر الأديان ثم مالبت المجتمع أن أعاد إلى الدين مكانته فى المجتمع داخل الدولة الروسية لأن الانسان مفطور على التدين بطبعه . – فإذا كانت الدولة المدنية قوامها الديمقراطية والمساواة والتسامح والعدل بين الناس وهو ما نعتقد بوجوب التمسك به، فإن الدولة الدينية أو ذات المرجعية الدينية هى تلك الدولة التى يحتكر فيها رجال بذاتهم معانى تلك النصوص– لتظل حبيسة للنصوص الدينية فتتسيد النصوص على مصالح العباد وهو ما يتنافر مع منطق العقل الذى أورد الله فى شأنه 102 آية قرأنية من التدبر والتعقل والتفكر والتذكر وسائر منجزات العقل حتى أن الامام محمد عبده قال “إذا تخالف النص مع العقل قدم العقل فحيثما تكون المصلحة فثم شرع الله” أما عبادة النصوص دون الوقوف على مراميها البعيدة فى الزمن الملائم لايقاع أحكامها فإنه يصادر دور العقل ، الذى يرتبط بتحقيق المصلحة وهي غاية الشرع وما يستهدفه . واعمال العقل فى النصوص الشرعية هو صميم الدولة المدنية التى ارتقت وأصبحت مستنيرة تقوم على االترفع على الخلافات الصغيرة التى يطيل المتدينون فيها القول من غير فائدة كالحديث عن اللحية وكونها سنة عن الرسول مع أن الرسول لم يأمر بتربية اللحية بعد أن كان الناس يحلقونها – بل إن المجتمع الذى نشأ فيه الرسول كان يرى أن كمال الرجولة أن يكون الرجل ملتحياً ومن لا لحية له فهو مخنث أو أمرد والرسول اطلق لحيته نزولا على هذه الثقافة اما اذا تغايرت ثقافة المجتمع واصبح كمال الرجولة ان يكون الرجل حليقا فهنا شرع الله كما ذكر الامام الجليل الشيخ محمود شلتوت فى فتاويه وهو مصداق لقول الرسول عليه السلام ان الله لا ينظر الى صوركم ولكن ينظر الى قلوبكم – ومع ذلك فهذه حرية شخصية لكل مواطن ولكن دون اعتبار ذلك تديناً أو واجباً دينياً وهذه هى طبيعة الدولة المدنية التى ارتقت وتحضرت وتمدينت وقامت على احترام حقوق الانسان والديمقراطية والمساواة والتسامح وارتقت الدول المتقدمة على هذه المبادئ والغايات لأنها لا تقف عند ظاهرالنصوص لا تحيد عنها بل تراعي مقتضى الحال والنزول على المصلحة العامة التى يستهدفها النص بحيث اذا تخالف النص مع العقل قدم العقل وذلك هو مضمون الدولة المدنية .

هل تتناقض الدولة المدنبة الحدبثة مع الإسلام

لقد صدق المفكر الاسلامى المعاصر الدكتور / أحمد شوقى الفنجرى عندما قال فى مقال له تعليقاً على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام ما يجدد لها دينها “. وأنه ليس المقصود بالتجديد أمور الفقه والشريعة والفتوى ولا المظاهر الشكلية والخارجية كاللحية والجلباب والنقاب والحجاب التى يتصور البعض أنها صلب الدين وليس القصد من التجديد التطرف فى السلوك والعبادة والمغالات فى التدين حيث يقول الرسول “اياكم والغلو فى الدين فان الغلو أهلك من كان قبلكم ” ذلك لان الاسلام أكبر من هذا ، فالاسلام هو الحضارة والعلم والعمل على خدمة الناس ورفع شأنهم علمياً واقتصادياً واجتماعياً ورسول الله يقول ” لأن يمشى أحدكم فى حاجة أخيه حتى يقضها له خير من عكوف فى مسجدى هذا عشر سنين .

ومعنى ذلك أن الاسلام يجعل خدمة الناس والعمل على تحسين معيشتهم ومكافحة الفقر والبطالة ونشر التعليم وانشاء المجالات التى تسد حاجات الأمة كل ذلك جزء مهم من الدين يسبق مكانة الصلاة والصيام والعكوف فى المساجد ذلك لأن خدمة الناس عبادة وتهيئة الظروف المناسبة للحياة هى عبادة تسبق الفرائض المقررة فى الدين ، ذلك أن الدين ينتصر بحكم مزاياه وفوائده وينهزم حتماً بالخروج على قواعد الحق والعدل والاستقامة – وهى قواعد كونية لا خلاف عليها ن والعبادة هى الوسيلة للتوجه نحو الخير العام وتحقيق التنمية فى المجتمع والارتقاء به فى كافة شئونه وهذا هو منطق الدولة المدنية حيث يسود العقل والمصلحة العامة للناس جميعاً مهما كانت النصوص وكانت السوابق وهذا هو منطق الدولة العلمانية من كلمة علم ، والعلم هو جوهر الدين وهى تعنى ان ينفصل الدين عن الدولة فالدين يستهدف الصلة الروحية بين الانسان وربه اما الدولة فتستهدف تحقيق طموحات الشعوب فى التقدم والتنمية وحماية الوطن والمواطنين .

ونحن اذا علمنا جوهر الدين ومبادئه وأصوله لا يهمنا فى قليل أو كثير أن يكون له دور فى السياسة أو نتخذه شعاراً للدولة أو مظهراً لتكاملها ذلك أن الدين سلوك بشرى قويم وهو جزء فى جينات الفرد لا يستطيع التخلى عنه مهما كانت القوانين والدساتير – ولا يمكن حمل الناس عليه اعمالاً لقانون أو نص فى الدستور فهو كيان مستقل فى جوارح الانسان لا ينفك عنه الا بخروج الداعين على أصوله وقواعده ومنهاجه – فليس ثمة علاقة بين ضعف الشعور الدينى وفصل الدين عن الدولة – بل ان الدين باعتباره سلوكا قويماً لدى الفرد يسود وحده دون الدولة وسلطاتها فبلاد كثيرة اعتنقت الاسلام دون حرب أو مصارعة – بل فقط بمجرد حسن المعاملة من جانب المسلمين لغير المسلمين فدولة مثل اندونسيا لم يدخلها الاسلام بالحرب – بل بقناعة الاندونسيين بحسن معاملة المسلمين وعظمة الاسلام كسلوك يؤمن صاحبه ويدعو لاتباعه ولزوم اعتناقه لما فيه من فضائل وتسامح وهكذا كان انتشار الاسلام فى بقاع عديدة من العالم بهذا الاسلوب المتحضر الذى تعارف المسلمون عليه وانتشر الاسلام من وراء هذه الفضائل السائدة .

ولا يعرف الاسلام دولة دينية أو ثيوقراطية كما يعبر المصطلح اللاتيني ولعل من مفاخر الاسلام وعظمته أنه قام على المنطق واعمال العقل السليم والاخذ بالعلل فى كل مايصدرمن قرارات أو اتجاهات هذا العقل هو جوهر الدين فلا دين لمن لا عقل له ولامسئولية على من لا عقل له فهو جوهر الدين والمسئولية فوضع دستور باسم الاسلام يعنى المشاركة فى الحياة العامة على مقتضى العقل والشرع والقوانين السائدة فى المجتمع لا تتخالف مع العقل أو الشرع ومن ثم فان الحديث عن دولة اسلامية هو تحصيل حاصل وذكر لمفهوم فليس فى التشريعات السائدة مايخالف الشرع أو يتعارض معه – أما الاخلاقيات الدينية فهى مهمة الدعاة سواء فيما يتعلق بسلوك الناس أو مظهرهم أوحبهم للخير والسعى الى النمو والارتقاء فهى دعاوى بشرية لا تحتاج الى سلطة أو قانون – لان ذلك هو دور الدولة كسلطة سياسية يلزمها القانون بحماية المجتمع وتقدمه . ومن ثم فدور الدين فى الهداية والنمو الروحى لدى افراد المجتمع وهم أى الدعاة بسلوكهم القويم يمكن أن يكونوا مثلاً يقتدى به ونموذجاً يمكن مجاراته – أما الدولة كسلطة فأمرآخر لا يحكمها الا القانون الذى استقر الشعب على اقراره وتنفيذه عن طريق سلطة الدولة المنوط بها هذا التنفيذ دون تدخل الدين أو الشريعة .

وهكذا نجد أن المصلحة المشروعة هى غاية الدين مهما تخالفت مع النصوص ولو كانت قطعية الثبوت وقطعية الدلالة كما ذكرنا فى أمثلة عديدة نوردها بين جنبات هذا البحث فالدولة الدينية لم تعد محققة لآمال وطموحات أهلها – انما المهم هو مصلحة المجتمع، ومن ثم لا نجد مسوغاً للقول بأن ثمة دستور اسلامى يعد لإعلانه اعمالاً لحكم الدولة المدنية التى يسعى البعض اليها ومن عجب أن جوهر هذا الدستور هو طاعة الامام وحظر التبرج والامر بالمعروف والنهى عن المنكر والطاعة المطلقة لولى الأمر .

وهذه ليست مواضيع دستور يتعلق بنظم الحكم وتداول السلطة وحماية حقوق المواطنين بكل أنواعها وأشكالها وكفالة العيش وسد الحاجات الأساسية للمواطنين فطاعة الامام ليست واجبة إلا ماحقق غاية الوطن والمواطنين والخروج على إمام يضر وطنه هو واجب شرعاً لما فى ذلك من مصلحة للوطن والمواطنين فحيثما تكون المصلحة فثم شرع الله أما حظر التبرج فهو أمر خلقى لا تتناوله القوانين بل تدعو اليه الأخلاق ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو واجب اخلاقى واجتماعى لا يحتاج الى نص يقرره أو قانون يفرضه وهو واجب على المجتمع وليس جهازاً حكومياً تتولاه إلا كما تتولى الشرطة أى اختراق لقوانين البلاد .

هذا فضلاً عن أن كلمة دستور اسلامى يعنى أنه يخص المسلمين وحدهم وعندئذ نتساءل أين دستور الاقباط وأين دستور اليهود الذين قد يتواجدوا على أرض مصر ؟ أن هذه التفرقة لا محل لها وتولد الاحتقان فى المجتمع فى غير ضرورة او علة واضحة الا اذا فهمنا أن الاسلام كلمة تشتمل جميع الاديان حيث تعنى ادراك الحقيقة الالهية والتسليم بها ولذلك يقول الله سبحانه إن الدين عند الله الاسلام ولا يتصور أن يكون الدين الاسلامى وحده هو من عند الله وغيره من الاديان السماوية ليست كذلك وغاية الدين هو الارتقاء بالانسان ودعوته الى حب الخير له وللناس جميعاً والسعى بطلب العلم فى جميع فروعه والعمل واتقانه فى كل أشكاله والعدل والاحسان فى تحقيقه استجابة لمدلول الايمان بالله والثقة فى الخالق والتوسل اليه بالعون فى تحقيق هذه الغايات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ولا يقبل اهمال الدين كعنصر أساسى فى جينات الانسان بل توظيفه فى انعاش الجانب الروحى لحمله ومساعدته على تحقيق غايات الانسان فى الدنيا وهى الخير العام والتقدم والتحضر والتمدين وليس ذلك بأوامر وقوانين وانما بالدعوة الصالحة التى تصدر ممن يؤمن بها ويعمل بمقتضاها ، عندئذ ينتعش الجانب الروحى للدين ويرتقى المجتمع لاعمال قواعد الاله فى التقدم والتحضر والتمدن وهذه المهمة يتولاها المجتمع حيث لا وساطة بين الله وسائر خلقه إلا بالعمل الصالح وصدق رسول الله عندما قال “الدين المعاملة والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده “.

ومن هنا يقول سبحانه “إن الدين عند الله الاسلام” ومعنى ذلك أن الاسلام كلمة تشمل جميع الأديان لأن مختلف الأديان تؤمن بالاله الواحد وتسلم به خالقاً وراعياً لهذا الكون بما فيه من مادة ومافيه من البشر ولا يجوز حصر هذا النص على أتباع محمد وحدهم لان الله انزل أدياناً سماوية أخرى كاليهودية والمسيحية ولا تعنى هذه الآية ولا يمكن أن تعنى الغاء هذه الأديان السابقة ونفى صفة الاسلام عنها حيث العقيدة واحدة وأن الشريعة تختلف بحسب الزمان والمكان ونحن فى لغة القانون نقول اذا تغايرت الأزمان تغايرت الاحكام ، أما العقيدة الدينية -وجوهرها الايمان بالله الواحد خالق الكون وراعيه الى يوم الدين- فلا يرد عليها تغيير أو خروج ويقول سبحانه “ولقد كرمنا بنى آدم” ، ويعنى ذلك أنه لم يخص بالتكريم أتباع دين معين وانما شمل تكريمه جميع خلق الله من البشر . ومن أجل ذلك كان جوهر الدين هو الاقرار بالحقيقة الألهية والتسليم بها واعمال قواعد التمدين والعمران واعتبار التسامح أساساً جوهرياً فى الدين . وإذا كان الحديث يجري عن دولة مدنية لها أصول دينية فهذا من قبيل اللف والدوران حول الرغبة فى انشاء دولة دينية- ذلك أن الاسلام لفظ ورد في القرآن بدلالة عامة تشمل أتباع الأديان السماوية قبل شريعة الاسلام وبعده ، خلافا للسنة التي كانت تسيير عليها تلك الشرائع من قبل حيث ينسب اتباع كل نبى إلى نبيهم فالمسيحيون هم اتباع المسيح واليهود هم اتباع يهودا و البوذيون هم اتباع بوذا وهكذا ، وكان المنطق أن يطلق على اتباع محمد المحمديون ولكن القرآن الكريم استعمل عبارة أخرى هى الاسلام والمسلمون للدلالة عليهم جميعا ، وهى كلمة تعنى ادراك الحقيقة الالهية والتسليم بها وبالتالى كان ابراهيم “حنيفاً مسلماً” وكذا سائر الأنبياء موصوفون في القرآن الكريم بأنهم مسلمون أي يدركون الحقيقة الالهية ويسلمون بها ، وهو المعنى الذي قصد إليه الله في القرآن ليكون كتابا بتوحد حوله أتباع الديانات الأخرى وتسعهم سماحته ، وهو التنوع الثرى والفضيلة التى تيسر قيام السلام وتدعم ثقافة السلام ضد ثقافة الحرب ، ولذلك فإن ثقافة التسامح هي مبدأ أرسَاه القرآن الكريم حيث يقول القرآن الكريم عند خطاب النبى للكافرين “لكم دينكم ولى دين” ( سورة الكافرين) . بل ينص القرآن الكريم فى ( سورة الانعام آية 108 ) “ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عَدْوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون” – فيحظر القرآن سب الكافرين وهذا التسامح حتى مع الكافرين الذين يدعون مع الله إلها آخر فمابالنا باصحاب الأديان السماوية بل أن الدولة المدنية تفرض هذه المعانى وتلزم المواطنين بها .

ولقد خلق الله الناس مختلفين فى كل شئ فى ظاهرهم وباطنهم وفى قدراتهم العقلية ومعتقداتهم سواء الدينية أو الدنيوية وهو دليل على عظمة الخالق وتنوع خلقه وهذه مشيئته فى الخلق – ولذلك يقول سبحانه “ولوشاء ربك لجعل الناس أمة واحدة” – وهى اشارة الى حتمية التنوع فى كل شئ والمدنية تقتضى التعامل على هذه الخلافات والتعايش معها دون خلاف أوتوتر فتلك مشيئة الله فى الخلق . وفطرة الله فى الخلق أن يكون الناس مختلفين وفى ذلك يقول سبحانه “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ” سورة المائدة آية 48 – ويقول سبحانه “وَ ما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ” (يونس 19) وهذا المعنى كثير فى طبيعة الخلاف أيا كان نوعه سواء السياسى أو العلمى أو الاجتماعى أو أى مجال من المجالات – والدولة المدنية تكفل حسم الخلاف بالمودة والحسنى واحترام الآخر دون عنت قولى أو فعلى على أن يتجة الجميع إلى غاية اساسية هى المصلحة العامة دون سواها .

إن الخلافات بين الناس لم تقف عند حدود الأحداث الجارية واليومية والسياسات المختلفة بين الحين والآخر – بل إن أتباع كل ديانة معينة سماوية أو غير سماوية اختلف أصحاب الديانة الواحدة إلى مذاهب عديدة وطوائف لا حدود لها مع أن أصل دينهم واحد ومصدره واحد ولكن هذه هى طبيعة البشر كما أرادها الله – وإذا تمدينت المجتمعات وارتقت سمت على هذه الخلافات ولجأت إلى التفاهم والتحاور ولا تتخذ من هذه الخلافات فى الرؤى أساساً للصراعات والحروب وعلى ذلك فنبذ الصراعات والحروب حول هذه الرؤى المختلفة هو التحضر والتمدن والدولة المدنية هى التى تلتزم بهذا الحوار بعيده عن الصراعات والحروب وهذا هو التمدين والارتقاء وهو طبيعة الدولة المدنية .

ولا شك أن هذا التسامح يتسع ليشمل أصحاب دعوى الدولة الدينية بأطيافها ، إذ يحق لهم طرح أفكارهم مهما كان شططها ، ويحق لهم الدعوة إليها ، واستجلاب الانصار لها سواء في إطار الفكر أو العمل السياسي طالما أن طرحهم هذا لم يتعد حدود الدعوة إلى مرحلة فرض الرأي ومصادرة حق الآخرين كذلك في طرح أفكارهم ومقارعة حججهم ، ولنا في ذلك أسوة في تسامح المجتمعات الغربية مع الفكر الشيوعي إبان فترة الحرب الباردة على ما يتضمنه من تناقض صارخ مع الأسس التي تقوم عليها هذه المجتمعات ، وما كانت تمثله الأحزاب الداعية إليها من خطر عليها لما تحويه من تصادم مع معتقداتها التقليدية.

وعلى ذلك فالدولة المدنية هى التى تحترم الحق في الاختلاف سواء فى مجال العقيدة أو الفكر أو الرأى ، ولا تميز ببين المواطنين على أساس اللون أو الجنس أو أى سبب آخر للخلاف – وتتخذ من التسامح حلا عمليا لدعم الدولة المدنية التى يستهدفها الدستور – وهذا يكفى.

ولا يستقيم مع الدولة المدنية أن يرد بالدستور نص على دولة مدنية ذات مرجعية دينية فهو التفاف غير صحيح على الدولة المدنية فأى دين يكون هو المرجع وأى شريعة هى المستهدفة ، ومن ثم فلا محل لهذا الالتفاف لأن ضرره أكثر من نفعه وحسب الدستور أن ينص على دولة مدنية تقوم على المواطنة قال سبحانه إن الدين عند الله الإسلام أما الشريعة فهي القواعد المنظمة للحياة في المجتمع والتي تستهدفها السلطات الحاكمة وعلى ذلك فلا محل للقول بأن تقام دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية أو دينية فالكل لله وكل شخص حر فى تحديد علاقته بربه ولا ننسى أننا وإن كنا كثرة تدين بالاسلام وقلة تدين بالمسيحية فى مصر فإ ن كثيراً من الاقليات المسلمة تعيش داخل دول ذات أغلبية مسيحية أو بوذية فهل نقبل لأخوتنا المسلمين هناك أن يكونوا أقلية منبوذة أو مضارة بسبب دينها – لاشك أن هذا غير مقبول فالكل مسلم والكل يؤمن بالله ورسله والبعث والحساب وماعدا ذلك فالعبرة بتحقيق التقدم فى مجالات العلم والابداع والنهوض بأمتنا بين الأمم . رحم الله شيخنا / أحمد حسن الباقورى وزير الأوقاف الأسبق عندما قال إننى قبطى أعبد الله فى المسجد وغيرى من الأقباط يعبدون الله فى الكنيسة والكل واحد توحده المواطنة أما المجتمع فعليه سَن القواعد الموصلة لخيره وخير مواطنيه حتى ولم لم تكن لها أصول فى الدين فالاديان مثلاً عرفت الرقيق والرق وكان مقبولاً اجتماعياً وجاء الحاضر فأنكره وحرم وجوده رغم وروده فى مختلف الاديان السماوية والتعاطى معه ولكن العصر استنكره وحرمه بل إن نقل الأعضاء البشرية لمعالجة أشخاص مرضى من وراء هذه الجراحة ونقل أعضاء سليمة الى مريض فقد قدرة بعض أعضائه عن أداء مهمتها فى الجسد كان ذلك أمراً محظوراً فى الشرع – ولكن الحاجة دعت إلى تبنيه وصدرت التشريعات الوضعية تقره للاستفادة بهذا العلم فى دعم صحة المرضى إن الدولة المدنية عليها اتباع المصلحة العامة العدل والحق والمساواة واحترام الآخر وحسن المعاملة وعدم التمييز بين الناس لاى سبب على نحو مانصت عليه المادة40 من الدستور الموقوف والمواثيق الدولية – فلا محل للتشدق بمعاني لا لزوم لها – فالدين جوهر في النفس الإنسانية ولا خلاف عليه والنص عليه فى المادة الثانية من ذات الدستور كلنا يعلم الملابسات السياسية التى أدت الى وضعها ولم نكن في حاجة إليها لولا محاربة فريق على حساب فريق آخرن، ثم ان النص يتحدث عن ان مبادئ الشريعة الاسلامية ومراعاتها في سن القوانين – وما هى هذه المبادئ غير الايمان بالله الواحد والايمان بأنبيائه والبعث والحساب وهذه مبادئ لا خلاف عليها وليس من تشريع وضعى يتنكر لها وكما يقال هذا ذكر لمفهوم وتحصيل لحاصل وعلينا احياء دولتنا المدنية على الديمقراطية الحقة والعدل الحقيقي والمساواة الحقيقية واحترام الغير والتسامح والسعى فى البحث عن أسباب التقدم والتحضر . وهذا الذى انتهينا إليه فيما سبق يتلاءم مع ما أورده بيان الأزهر الشريف ونخبة من المثقفين الذى صدر أخيراً والذى جاء فيه “إن الأزهر الشريف يدعم تأسيس دولة وطنيه دستورية ديمقراطية تعتمد على دستور ترتضيه الأمة يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفراد المجتمع على قدم المساواة . “

“وأن النظام الديمقراطى القائم على الانتخاب الحر المباشر الذى هو الصيغة العصرية لمبدأ الشورى الاسلامية بما يضمنه من تعدديه ومن تداول للسلطة ومن تحديد الاختصاصات ومراقبة الأداء ومحاسبة المسئولين أمام ممثلى الشعب – وتوخى منافع الناس ومصالحهم العامة فى جميع التشريعات والقرارات وإدارة شئون الدولة بالقانون والقانون وحده – وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية التامة وحرية الحصول على المعلومات وتداولها . “

وأضاف البيان “وأن الاسلام لم يعرف فى تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه الدولة الدينية الكهنوتية التى تسلطت على الناس وعانت منها البشرية فى بعض مراحل التاريخ – بل ترك الاسلام للناس ادارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم “– وهو ما يتلاءم فى النهاية مع حقيقة الدولة المدنية وهو ما ينشده المجتمع ويسعى اليه وصولا الى التقدم والتنمية وبلوغ المكانة اللائقة بهذا المجتمع العريق فالدين لله والوطن للجميع وذلك هو ماتعنيه الدولة المدنية حيث المساواة والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتسامح والنهضة والتقدم وسبيل ذلك هو العقل- والعقل وهو الذى عظمه القرآن الكريم فى 102 آية من آيات القرآن الكريم يجعلنا نتجه بالدين الى الرقى والمعرفة والديمقراطية والتسامح والعدالة الاجتماعية وهذه هى مهام الدولة المدنية وهذا هو ما تعنيه مدنية الدولة

والخلاصة:-

فإن الدولة الديمقراطية هي الدولة التي تحتكم إلى آراء الشعب ولا تحول دون حقهم في التعبير وإنما الشعب هو الذي يشكل أولوياتها ويحدد برنامجها، ومن ثم فهي دولة مدنية، أما الدولة الدينية فهي دولة تتشكل من معتقدات رجال الدين النافذين فيها، وتضع للشعب قيوداً لا يجوز لهم تجاوزها. وأن الدستور القادم يجب أن ينحاز إلى الدولة المدنية ليفسح للشعب حق التعبير، ويترك له من خلال الانتخابات الديمقراطية تحديد هوية المجتمع في سياق مفتوح لا يحجر على أحد ولا يصادر حقاً لأحد.