هيبة القضاء في خطر

ما ساءني وساء كل غيور على مصلحة الأمة والدولة والمجتمع ما طارت به وسائل الإعلام في الأيام الماضية، ما وصفته بـ (بدء محاكمات القضاة) أو ما وصف بـ (البدء في مقاضاة القضاة في السعودية) وغير ذلك من عبارات لا تحمل الحد الأدنى من الأدب والاحترام الواجب لمرفق القضاء.
وذلك في الحديث عن لائحة التفتيش القضائي الجديدة التي أصدرها المجلس الأعلى للقضاء.

وما تلا ذلك من خبر كفِّ يد قاض وإحالته إلى التحقيق، ومطالبة بعض المحامين رئيس المجلس الأعلى للقضاء بسرعة تطبيق وتفعيل لائحة التفتيش، وشكواهم من تعطيل رؤساء المحاكم هذه اللائحة، وكأنهم يريدون الانقضاض على القضاة!

إن كل هذه الأخبار بوادر سوء وعلامات شر، توحي لكل قاض بأنه يجري الآن إدخالُ القضاء والقضاة في أقفاص الاتهام، وبدء محاكم التفتيش عليهم – والعياذ بالله – وكأن قضاءنا كان طوال السنوات الماضية يرزح تحت وطأة قضاة فاسدين، دون أن يصدر من المجلس الأعلى للقضاء أي توضيح أو بيان للذب عن أعراض القضاة والدفاع عن شرف القضاء، وتوضيح المقصود من هذه اللائحة ومجال تطبيقها.
إن كلَّ دول العالم وحضاراته في القديم والحديث تهتم بقضائها وتعلي شأنه وتصونه عما يدنسه أو يسيء إليه، وتُجرّم ذلك، وهذا لا يعني أن القضاء مقدس ومعصوم، لكنه كما قلت سابقاً (هو عِرض الدولة والأمة) والعرض واجب الحماية من الدس والدنس.

إنه لا يجوز بأي حال أن يُنصب أصحاب الفضيلة من قضاتنا الشرفاء النزيهين غرضاً لكل رام، وأن يوضعوا في موقع المُدافع عن عرضه ونزاهته, فضلاً عن دفاعه عن اجتهاده ورأيه فيما حكم به.

وإذا كانت لائحة التفتيش التي يجري اليوم تهديد القضاة بها ورفعها سيفاً مصلتاً فوق رؤوسهم تهدف إلى إيجاد ضمانة للمتقاضين من حيف بعض القضاة وخروجهم عن واجب الحياد، فإن هذا الحق ليس جديداً كما توحي به وسائل الإعلام وتصفه بـ (بدء مقاضاة القضاة في السعودية).
بل سبق أن قرر نظام المرافعات السابق أحكام رد القضاة وتنحيهم، كما كانت هناك إدارة للتفتيش القضائي في وزارة العدل سابقاً قبل صدور النظام الجديد، وكانت تمارس دوراً فاعلاً في التحقيق والتحقق من كل الشكاوى التي ترد على القضاة، وكانت لهذه الإدارة لوائح تفصيلية تحكم عملها صدرت بقرار وزير العدل رقم 5600 وتاريخ 24/7/1423هـ، وبعد صدور نظام القضاء الجديد نقلت هذه الإدارة إلى المجلس الأعلى للقضاء بمفتشيها، وصدرت هذه اللائحة الجديدة التي تعد تطويراً وامتداداً للائحة السابقة، ما يؤكد أن مسألة التفتيش على القضاة واستقبال الشكاوى التي ترد بحقهم والتدقيق فيها لم تكن في السابق محل فراغ، وكم من قاض في السابق صدرت بحقه قرارات تأديبية لمخالفات ارتكبها.

كما أن في وجود محاكم متعددة الدرجات ما يكفل الرقابة على مدى التزام القاضي بواجباته النظامية، وموافقة حكمه الصواب من عدمه.

إن القضاة في المملكة يعانون ضغوطا وهموما كبيرة تتطلع إلى من يلتفتُ إليها بعين المعالجة وإيجاد الحلول، وإنه كان الأولى بنا عندما نريد تطوير القضاء ألا نبدأ بالهياكل الشكلية للمحاكم وندع القضاة في واقعهم المرير، فولاة الأمر في هذه البلاد ـ وفقهم الله ـ يؤكدون مراراً أن أي عمل للتطوير أو النهضة لا يرتكز على الفرد والمواطن فمصيره الفشل.

وإن من يعتقد أن التطوير يكون في الخطط وعلى الأوراق، وفي الأنظمة والأجهزة، دون التفات إلى الموظف الفرد الذي يقوم على تطبيق هذه الأنظمة والتعامل مع تلك الأجهزة، والبحث عن حاله وما يعترض حُسن أدائه لعمله من عوائق، وتهيئة البيئة المناسبة للإبداع بين الموظفين وعلى رأسهم القضاة، مخطئ في اعتقاده خاسر في توقعاته.

إن إصلاح القضاء لا يكون بإرهاب القضاة وبخس حقوقهم، والتجني على هيبة القضاء وزعزعتها. وإن إصلاح القضاء لا يكون بقتل الروح المعنوية للقاضي وإبداله بكلمة الشكر والامتنان كلمات التوبيخ والتقريع.

وإن إصلاح القضاء لا يكون ببث روح الشك وسلب الثقة وقرع القوارع فوق رؤوس القضاة، بل بالتأييد لهم وحمل العامة والخاصة على هيبتهم واحترامهم لا لأشخاصهم وإنما لجلالة المحل الذي أنزلهم فيه ولي الأمر، وأوجب الله له حق الطاعة والامتثال.

وفي هذا المقام فمن الواجب الإشادة بمعالي وزير العدل الدكتور محمد العيسى وبوزارته – وفقهم الله – الذين تتبعت ما صدر عنهم من تصريحات أو ردود على أطروحات إعلامية تناولت القضاء والقضاة، فكان الوزير ووزارته حاملين لواء الذب عن أعراض القضاة، وبيان شيء من جهودهم وإنجازاتهم، والمطالبة بدعمهم بما يحتاجون إليه فعلاً من كوادر مساعدة وأعوان مؤهلين يخففون عنهم الحمل ويرتقون بأداء المحاكم، فجزاهم الله على هذه الوقفة خير الجزاء وأحسنه.

إن القاضي حين يعاني ضغوط الغربة، ويحتمل صنوف الأذى، ما بين جهل الجاهل، وحمق الأحمق، وفظاظة الفظِّ. وحين يجد نفسه يواجه سيلا غير متناهٍ من القضايا المتنوعة التي تنطوي على صنوف المشكلات والنزاعات، وينظر في الوجه القبيح للحياة، ما بين خيانات العهود، ونكث العقود، وقبائح الجرائم والمعاصي، وحين يسمع أقذع الكلمات، وأحط َّ الاتهامات بين زوج وزوجته، أو بين شريك وشريكه، أو بين أب وابنه، أو غير ذلك، ومع كل هذه الشناعات لا يجد بداً من أن يفصل فيها بحكم قضائي يتوخى فيه أن يوافق شريعة الله، ويطفئ لهيب الخصومات، ويساعد على مكافحة الفساد، وحماية أمن المجتمع ودينه وعقيدته وأخلاقه.

أقول أيها القارئ العزيز: حين يواجه القاضي كل هذه الآلام؛ ما المقابل الذي يجنيه من ذلك في نظرك؟

هل تراه يا قارئي العزيز يحتمل كل هذه الآلام لأجل المال؟

إن قلت نعم, فأنا أؤكد لك أنني وغيري من القضاة الذين تركوا كرسي القضاء، إنما تركناه لأسباب أحدها السعي إلى مستوى معيشي أفضل.

أضف إلى هذا أن القاضي ليس له بدل سكن ولا تأمين طبي ولا أي ميزة يحصل عليها كثير من موظفي القطاعات الحكومية والخاصة ممن هم أقل منهم شأناً وخطراً وأهمية.

وليت الأمر يقف عند هذا الحد؛ بل يعاني القاضي سياط رقابة المجتمع التي تجعل من المحرم عليه أن يعيش كغيره من الناس، يمارس المباحات وينطلق في الحياة ، فلو رآه أحد يمارس الرياضة في ميدان عام لسخر به وانتقصه وكأنه ملَك من الملائكة لا ينبغي له أن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق!

إن حماية القضاء وصيانته من أي فساد أو تقصير، وحمل القضاة على القيام بأعبائهم المنوطة بهم في تحقيق العدل ونصرة المظلوم وفصل الخصومات، يقتضي أن يتم إغناؤهم عما في أيدي الناس، وقضاء حوائجهم الضرورية التي لا يستغني عنها إنسان عادي.

إنه إذا ما احتاج القاضي إلى أي خدمة من أحد المرافق العامة من كتابة عدل أو جوازات أو مرور أو أحوال مدنية أو غيرها ، فهل يؤمَّن له من يقضي هذه الحاجة نيابة عنه ليتفرغ لنظر قضايا الناس، ويسلم من إضاعة وقت أولى به أصحاب القضايا؟ أم أنه يغلق باب مكتبه ويمتطي سيارته ويعطل قضاياه ليزاحم في صفوف المراجعين، أو يضطر إذا أراد اختصار وقته أن يريق ماء وجهه أمام أحد المسؤولين ويتقرب إليه باسم القضاء فإما أن يحظى بشيء من الاحترام من ذلك المسؤول فيقضي له حاجته، ثم يحتسبها يداً له عند القاضي يطالبه بالوفاء بها عند الحاجة! وإما أن يقابل المسؤول هذا القاضي بصلف ويقول له باللهجة الدارجة (امسك سرا زي الناس).

إن هذا الواقع الذي يعايشه القضاة ويواجهونه يؤكد أن لائحة التفتيش القضائي ينبغي ألا تكون الخطوة الأولى لإصلاح القضاء والنهوض به، بل يجب أن يسبقها خطوات كثيرة تبعث روح الأمل، بل روح الصبر والمواساة في نفوس القضاة، وتعينهم على استشعار المسؤولية وتحمل الأمانة والقيام بها، أو حين صدرتْ تلك اللائحة، لم يكن من المناسب أن تكون مصحوبة بكل هذه الضجة الإعلامية التي توهم بفساد عريض يراد إلصاقه بقضائنا وقضاتنا وهم منه براء .
كما لا يجوز أن تتجه القرارات التأديبية التي يصدرها المجلس الأعلى للقضاء إلى صفحات الصحف ووسائل الإعلام كما صدرت من المجلس حرفياً، فو الله ما كان هذا ما يستحقه قضاؤنا وقضاتنا الذين تحملوا هذه الأمانة العظيمة وهم في حاجة إلى الدعم والمؤازرة .

لقد كان في منهج قادة القضاءِ من علماء المملكة السابقين وعلى رأسهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله – ما يعدُ نبراساً في التعاطي مع مثل هذه الملفات الشائكة، في الجمع بين حمل الناس على احترام القضاء وهيبة القضاة وعدم إغفال محاسبة من يثبت تقصيره أو خطؤه أو حتى خروجه عن النزاهة أو الحياد، لكن دون تشهير ولا إتاحة الفرصة للتشفي به لأن المقصود هو العدل والمصلحة الشرعية لا غير.

وختاما لعل أحداً يظن بي محاباة القضاة أو مجاملتهم، ففي مراجعة مقالاتي السابقة وما فيها من نقد للقضاء أو القضاة، ما يبعد عني هذه التهمة، لكنه نقد أرجو أن يكون موضوعياً يهدف إلى الإصلاح لا التأليب أو الإساءة، أما هذا المقال فو الله إنه جاء رد فعل طبيعي يوجبه الخوف على صورة القضاء القائم على تحكيم الشريعة الإسلامية وما توفيقي إلا بالله هو حسبي ونعم الوكيل.