تعرف على النظرية الماركسية في نشأة الدولة

أ/ عبد الله كامل محادين

تقوم الماركسية كإيديولوجية و كمذهب سياسي على أساس التفسير المادي (أو بالأحرى الاقتصادي) للتاريخ، أو ما يعرف بالمادية التاريخية. فالتاريخ البشرى هو صراع دائم بين الطبقات : الطبقة المسيطرة و المستغلة، و الطبقة المقهورة أو المستغلة. حسب ماركس الدولة من البنى الفوقية في المجتمع، أي هي نتاج و انعكاس للبنية التحتية التي أساسها طرق الإنتاج. فطرق الإنتاج هي التي تحدد العلاقات بين الطبقات الاجتماعية، و هذه العلاقات وضعت فيما بعد في أطر البنية الفوقية (الدولة، القانون، الأخلاق، الدين، الإيديولوجية)، و كان هدفها الأول تحديد هذه الأطر و جعلها ملزمة و معاقبة خرقها. الدولة بهذا المفهوم هي أداة في يد الطبقات المستغلة (المستثمرة) للمحافظة على سيطرتها. فالدولة هي أداة اضطهاد ليس إلا.

و لذلك من أجل إعادة حرية الإنسان و كرامته، لابد من اختفاء الدولة بشكلها هذا. فماركس يريد هدم الدولة، و ذلك من خلال مهاجمة الأسباب التي أدت إلى ظهور الدولة، أي عن طريق تغيير طرق الإنتاج من خلال إلغاء الملكية الفردية كأداة أو وسيلة للإنتاج. ففي اليوم الذي تصبح ملكية أدوات الإنتاج جماعية تختفي الطبقات المستغلة، و الدولة لم تعد أداة للاضطهاد، و بالتالي لم يعد لوجود الدولة سبب، و لذلك لا بد من زوال الدولة. ماركس من خلال نظريته الداعية لزوال الدولة، لا يعلن زوال الدولة بشكل كامل و لكن فقط زوالها بوظيفتها السياسية و التغيير الجذري في طبيعتها : فالدولة بمفهومها التقليدي هي أداة لحكم الناس، وهو يريد من خلال نظريته جعلها حكومة لإدارة الأشياء.

لقد أضاف لينين الكثير إلى النظرية الماركسية المشار إليها بالنسبة لمفهوم الدولة. فحسب ماركس يجب أن تحدث الثورة الاشتراكية في بلد صناعي متطور، في حين أن روسيا لم تكن كذلك. فكان على لينين أن يواجه مسألة التصنيع، هذه المرحلة من المفترض حسب ماركس أن تكون قضية منتهية. كذلك حسب ماركس إن الثورة الاشتراكية يجب أن لا تحدث في بلد واحد و إنما في محيط واسع يضم عدة بلدان فالثورة تجتاح العالم شيئاً فشيئاً، في حين أن روسيا في عام 1917 كانت البلد الوحيد الذي قامت فيه الثورة الاشتراكية. و بالتالي كان على لينين أن يدافع عن هذه الثورة ضد المحيط المناوئ لها. نظراً لهذين الاعتبارين و اعتبارات أخرى فإن مسألة زوال الدولة التي طرحها ماركس لم تكن مقبولة، بل يجب على العكس من ذلك تدعيم الدولة و تقويتها من أجل مواجهة عمل كبير و ذلك على مستويين :

مسألة التصنيع و مشكلة الدفاع عن الثورة. لذلك فإن لينين عمل على بناء نظريته المؤسسة على ديكتاتورية البروليتاريا، و التي تؤكد بأن الدولة كأداة اضطهاد في خدمة الطبقة المسيطرة يجب أن تبقى و لو بشكل مؤقت. فحسب لينين ليس من الضروري تغيير طبيعة الدولة كأداة اضطهاد، و لكن فقط وضع قوة الاضطهاد في خدمة الطبقة المسيطرة الجديدة و هي البروليتاريا التي يجب أن تمارس الاضطهاد ضد الطبقات القديمة المستغلة حتى الاختفاء التام لهذه الطبقات.

و هذه البروليتاريا الجاهلة من الناحية السياسية و لا تزال خاضعة لأفكار الطبقات السابقة المستغلة لابد لها، من أجل قيادة المجتمع نحو بناء الشيوعية، من أن تقاد من قبل حزب شيوعي. فمفهوم و تنظيم و دور الحزب الشيوعي يعتبر أهم ما أضافه لينين إلى النظرية الماركسية المتعلقة بمفهوم الدولة. فحسب لينين الحزب هو الطليعة المنظمة لطبقة العمال و الفلاحين الكادحة.

هذا الحزب المستند إلى التعاليم و الفكر الماركسي، يتوجب عليه السهر الدائم على كل هيئات الدولة السوفيتية و على كل التنظيمات الشعبية التي ينتمي إليها الشعب السوفيتي. و من أجل القيام بهذه المهمة، يجب تنظيم الحزب بشكل دقيق، بحيث يكون الانضباط أمراً أساسياً. و لكن يجب أيضاً أن يكون تنظيمه ديمقراطياً. إن التوفيق بين هذين المطلبين : الانضباط و الديمقراطية يتم عن طريق اعتماد مبدأ المركزية الديمقراطية. و ككل تنظيم ديمقراطي يجب أن تكون المستويات العليا منتخبة من قبل المستويات الدنيا، و تقدم لها كشف حساب بشكل دوري. و بهذا الشكل تكون الديمقراطية موجودة في الحزب، و هذا الأخير يعبر عن أماني الجماهير، و لذلك فإن لينين اعتقد بأن ديكتاتورية البروليتاريا “هي أكثر ديمقراطية مليون مرة من الديمقراطية الغربية البرجوازية”، و ذلك لأمرين بديهيين : الحزب هو التعبير الأصدق لأماني الجماهير، و الديمقراطية هي ديمقراطية حقيقية داخل الحزب. و لكن في الحقيقة إنّ هذه الديمقراطية لم تكن موجودة إلا بشكل محدود في عهد لينين و بعد موته في كانون الثاني 1924 و وصول ستالين إلى زعامة الحزب لم يعد لهذه الديمقراطية أي وجود.

بوصول ستالين إلى منصب الأمين العام للحزب، سمح له هذا المنصب بتطهير جهاز الدولة من خصومه و تنصيب مقربيه في المواقع الأساسية للسلطة و ذلك كله باسم اللجنة المركزية للحزب، معتمداً في ذلك على فهمه لعقلية الجماهير التي لا تستطيع أن تفهم أصحاب النظرة العالمية و يرونهم مغامرين مثل تروتسكي و مؤيديه. فبعد أن أبعد هذا الأخير و مناصروه سنة 1929، عمل ستالين في السنوات اللاحقة على إبعاد أو تصفية بعض الذين أيدوه في البداية و الذين رآهم خطرين على سلطته لاحقاً. فمثلاً أبعد بوكارين الذي كان يعتبره لينين من أفضل منظري الحزب الشيوعي، كذلك أبعد ريكوف الذي خلف لينين في منصب رئيس مجلس لجان الشعب (أي الحكومة في ذلك الوقت).

بهذا أصبح ستالين سيد البلاد بعد تصفيات جسدية لمناوئيه خاصةً بين أعوام 1935-1939 . و نتيجة لذلك سيطرت نوع من البيروقراطية داخل الحزب، بحيث أصبحت القيادات بمعزل عن أية رقابة من قبل القاعدة التي يطلب منها نوع من الخضوع التام. هذا من الناحية العملية، أما من الناحية النظرية فإن ستالين لم يضف إلا القليل إلى النظرية الماركسية. فخلافاً للنظرة الشمولية للثورة الاشتراكية و ضرورة تصديرها بشكل فوري إلى بقية دول العالم، فإن ستالين يفضل تمركز الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، عاملاً بنفس الوقت على تقوية الدولة. فنظرية زوال الدولة الماركسية لم تستبعد كلياً، و لكن تحقيقها غير محدد بفترة معينة. فحسب ستالين: الدولة يجب أن تدعم، أن تدعم بشكل دائم، وأن تدعم بدون توقف.

لمواجهة فكرة ستالين المفرطة في الدعوى للتدعيم المستمر لسلطة الدولة، حاول خريتشوف -بدون نجاح- منذ وصوله إلى السلطة عام 1953 العمل للتخفيف من هذه الفكرة. فبعد أن سلط الضوء مندداً في المؤتمر العشرين للحزب المنعقد في شباط 1956 بالاستبداد الذي مارسه ستالين، أطلق خريتشوف نظريته المتمثلة بفكرة دولة كل الشعب. فحسب خريتشوف أن الدولة السوفيتية، بعد أربعين عاماً من ديكتاتورية البروليتاريا، تمكنت عملياً من القضاء على الطبقات المستغلة و حتى تمكنت من تغيير العقلية المغروسة في نفوس الأفراد. و رغم ذلك فإن الوحدة الكاملة للشعب لم تتحقق بعد، بحيث لا يزال يوجد طبقتان إلى ذلك الوقت : العمال و الفلاحون. و لكن مصالح هاتين الطبقتين ليست متعارضة و يمكن، بل يتوجب، إيجاد اللحمة بينهما بأقرب وقت . و من هنا فإن الدولة أصبحت دولة كل الشعب و لم يعد لها أي دور في التصدي لأعداء الجماهير في الداخل، فلذلك لا بد أن يبدأ زوال الدولة. و لكن زوال الدولة يجب أن لا يتم إلا بصورة بطيئة و تدريجية، لأنه يبقى أمامها مهمة الدفاع عن الثورة ضد العدو الخارجي، إضافةً لمهمة إنهاء بناء القاعدة المادية الكافية للشيوعية.

فمرحلة دولة كل الشعب اعتبرت و كأنها مرحلة انتقالية بين مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا و مرحلة زوال الدولة. هذه المرحلة تتميز بإنشاء مؤسسات تسمح بتجمع المواطنين في تنظيمات جماهيرية تستطيع أن تمارس مباشرة بعض المهام التي ما زالت تمارسها الدولة حتى هذا الوقت، بشكل يمهد لمرحلة زوال الدولة. هذه النظرية المتمثلة بفكرة دولة كل الشعب خلقت نوعاً من الانفتاح في النظام السوفيتي الذي ترجم من خلال الدستور الجديد للاتحاد السوفيتي .

هذه المشاريع المعلنة من قبل خريتشوف تمس بشكل خطير مراكز و مزايا أعضاء الجهاز الحاكم. و لذلك استفاد هؤلاء من فشل سياسة خريتشوف الزراعية، و تمكنوا من عزله عام 1964. بعد هذه المرحلة الخريتشوفية، عاد الحزب الشيوعي السوفيتي إلى إيديولوجيته القديمة و غرق في البيروقراطية. و رغم أن دستور عام 1977 تمسك بنظرية دولة كل الشعب كأساس للنظام في الاتحاد السوفيتي، فإنه لم تتخذ الإجراءات الكفيلة بوضع هذا المفهوم موضع التطبيق و ذلك حتى تاريخ زوال الاتحاد السوفيتي كدولة.

فالنظرية الماركسية لمفهوم الدولة، التي اعتمدت على العامل الاقتصادي كأساس لها، تبقى نظرية افتراضية قاصرة. فالدولة لا تقوم على العامل الاقتصادي، على الرغم من أهميته، المتمثل في الصراع بين الطبقات المستغلة و الطبقات المستغلة، بدون أي اعتبار للعوامل الثقافية و الدينية و الاجتماعية. و مرحلة زوال الدولة المرتبطة بزوال الصراع بين هذه الطبقات عن طريق تحقيق المساواة الكاملة في ظل مجتمع الشيوعية، هي فكرة طوباوية ساذجة، و تاريخ تطبيق هذه النظرية في الكثير من الدول يؤكد وجهة نظرنا : فالاتحاد السوفيتي المهد التطبيقي للنظرية الماركسية، مر بالصراعات الإيديولوجية، التي أشرنا إليها سابقاً، حول مفهوم الدولة، إلى أن آل به المطاف إلى البيريسترويكا Perestroïka أو إعادة البناء الغوربتشوفية، و هي التي أجهزت على الدولة السوفيتية، و أغلب الدول التي كانت تدور في فلكها.