تنظيم القانون السوري لجريمة الرشوة والجرائم المخلة بالوظيفة عموما

إعادة نشر بواسطة محاماة نت 

تناول قانون العقوبات السوري الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة في الباب الثالث، وتحت عنوان الجرائم الواقعة على الإدارة العامة التي تقوم بتنظيم الطاقات البشرية وتنسيقها لأجل وضع السياسة العامة للدولة موضع التنفيذ.

وتحقيق هذا الهدف بصورة مُرضية مرهون بقيمة العاملين فيها؛ وتناول ما يرتكبه الموظف؛ وما يُرتَكب بحقه من أفعال غير مشروعة، حيث أورد القانون مفهوم الموظف العام في المادة (340)، وأتبعها بالجرائم المخلة بواجبات الوظيفة في كامل الفصل الأول من الباب الثالث؛ بهدف الحفاظ على الوظيفة العامة وحماية سمعتها وكرامتها، وضمان هيبتها ورفع مستواها؛ لإحقاق الحق ومساعدة أصحاب الحاجات المشروعة في الوصول إلى غاياتهم الشريفة عبر قناة الوظيفة التي لا تفرق بين شخص وآخر،

فضلاً عما تلحقه بالدولة في حال فساد الوظيفة وإفسادها، كما تهدف إلى حث الموظف العام على الاتصاف بالنزاهة والاستقامة والإخلاص والولاء في أثناء ممارسته لأعماله الرسمية الوظيفية وبسببها، والابتعاد عن المواقف والممارسات التي تنال من كرامته وشخصه وتُعرِّضه للمساءلة المسلكية والمساءلة الجزائية. وتسعى أيضاً تلك النصوص إلى إشاعة الثقة لدى المواطنين في صدق الوظيفة وتجردها بوصفها هيئة معنوية عبر القائمين بها.
كذلك تهدف إلى صون الأموال العامة والخاصة الموضوعة في عهدة الموظف وحراسته؛ ومنعه من استثمار ما أوكل إليه واختلاسه؛ وإبعاده عن تقصي المنفعة المادية الشخصية؛ والحؤول دون الإضرار بخزينة الدولة أو بمال الغير من دون سبب مشروع. وإذا كان القانون يحمي الوظيفة من الموظف؛ فإن ذلك مقابل لما يمنحه الدستور ويكرسه القانون من حماية الموظف نفسه ضد أي اعتداء قد يقع عليه بسبب وظيفته، مما يعلو به عن الأفراد العاديين.
وتتعدد الجرائم الواقعة على الوظيفة العامة بسبب تنوعها ونوعيتها، لكنها مترابطة ومتوافقة مع بعضها؛ إذ إن الصفة الاعتدائية على الوظيفة العامة تخلق الصلة المشتركة بينها، ولعل المشرع جعل من جريمة الرشوة مقياساً ومدلولاً لسائر الجرائم، فأنزلها منزلة الدائرة التي تتمحور حولها الأفعال الباقية التي قد تنطبق في طبيعتها مع جريمة الرشوة.
أولاً- الرشوة :
الرشوة أمر واقع حاضراً ومستقبلاً، وهي مرض مزمن من أمراض الإدارات والسلطات العامة في معظم البلدان، وتعدّ نوعاً من أنواع المتاجرة بالوظيفة لتوفير كسب غير مشروع؛ وشكلاً من أشكال الإخلال بواجبات الوظيفة الذي يؤدي إلى القضاء على ثقة الأفراد بأجهزة الدولة، ويزعزع قناعتهم بها ويحدو بهم إلى الاستجابة لرغبات المرتشين؛ ومساومة مستقيمي السلوك؛ للتأثير في نفوس ضعفاء الضمير والإرادة منهم.

1- مفهوم الرشوة وطبيعتها القانونية:
والرشوة لغة: الجُعْلُ، والجمع رُشاً ورِشاً.
والرشوة بالمعنى العام: هي اتفاق بين شخصين يعرض أحدهما على الآخر جُعلاً أو فائدة فيقبلها لأداء عمل أو الامتناع عن عمل يدخل في وظيفته أو مأموريته. ولم يعرِّف قانون العقوبات العام أو قانون العقوبات الاقتصادي في سورية جريمة الرشوة، ويخلو الاجتهاد القضائي السوري من أي تعريف.
أما الرشوة في مفهومها الأصلي فقد عرفها فقهاء القانون بأنها: اتجار موظف في أعمال وظيفته عن طريق الاتفاق مع صاحب المصلحة أو التفاهم معه على قبول ما عرض على الأخير من فائدة أو عطية نظير أداء عمل أو الامتناع عن أداء عمل يدخل في نطاق وظيفته أو دائرة اختصاصه.

والرشوة قانوناً: عقد غير مشروع مخالف للنظام العام، ينشأ ويتم عن طريق الرضا والقبول – على سبيل القياس – باتفاق إرادة شخصين، هما: الراشي أي صاحب المصلحة الذي يعرض على الموظف المعني هدية أو عطية؛ مالاً أو مقابلاً؛ مقدماً أو واعداً، أو يوافق على تقديم المنفعة التي يلتمسها الموظف منه، فيتجاوب معه.
والمرتشي أي الموظف العام، أو من هو بحكمه. وله الخيار بقبول المنفعة التي عُرضت عليه فيوافق ويقوم بما طُلِبَ منه، أو أن يلتمس شخص منفعة معينة من صاحب الحاجة الذي يقبل أو يرفض.
كل ذلك – وفي الحالتين – لقاء القيام بعمل أو الامتناع عن عمل كُلِّف به.

يستنتج مما تقدم أن لجرم الرشوة وصفاً مزدوجاً وهو:
 الرشوة الإيجابية، أي الرشوة، وتنطبق على موقف صاحب المصلحة الراشي.
 الرشوة السلبية، أو الارتشاء، وتنطبق على الموظف العام، المرتشي.
ولكن غالبية العلماء الجزائيين لم تعتمد هذا التفريق، وعدّت أن واقع حال كل قضية يفرض نفسه على قاضي الموضوع، وأن الرشوة لا تقوم إلا على التراضي، لذلك فمن الضرورة التقاء العنصرين لتكوين الفعل الجرمي. وذهب بعض العلماء الجزائيين إلى أبعد من هذا التحليل خاصة لجهة التفريق الذي قد يؤثر في حال اعتماده في تعريف الجريمة نفسها، وهذا اقتضى وجود نظامين لجريمة الرشوة هما:

أ- نظام الجريمة الواحدة :
يعدّ أنصار هذا النظام أن وحدة الجريمة هي أهم ضمان لمعالجة الرشوة وملاحقتها ومعاقبتها، وتقتضي بالضرورة وجود الراشي والمرتشي معاً في المساهمة الجنائية؛ بحيث يكون الموظف العام المرتشي فاعلاً أصلياً، وصاحب المصلحة شريكاً معه في إتمام الفعل الجرمي على غرار جرائم التزوير؛ إذ يُعد الموظف فاعلاً والمساهم شريكاً، بعد أن سقطت في مثل هذا الموضوع نظرية التدخل، ومن أهم الآثار القانونية التي تترتب على هذا الاتجاه أنه في حالة طلب الموظف الرشوة، أو عرضها من صاحب المصلحة؛ فإن الجريمة تتحقق بفعل مساهمين اثنين هما الراشي والمرتشي معاً، وإن الطلب وحده، والعرض وحده كذلك يُعدّان فعل شخص واحد لا عقاب عليه كجريمة تامة، وهذا لا يتنافى مع ملاحقة الحالة الجرمية. ولكن قد يتساءل بعضهم عن درجة كل من الفريقين، والجواب على ذلك أن الموظف العام المرتشي يعدّ محور التصرف الجرمي وجوهره، وتبدأ الملاحقة الجزائية منه شخصياً لأنه أوجد الجريمة وكرَّسها وأخلَّ بواجب الوظيفة، ثم لتنال الراشي الذي يعد صاحب المصلحة الذي يرقى إلى درجة الموظف المرتشي؛ مع كونه غريباً عن الوظيفة؛ وذلك نظراً لأهمية دوره، وقد يكون أكثر إجراماً من الموظف نفسه، أو يكون قد أوقع الموظف مستثمراً وضعه عن طريق الإغواء والإغراء والتدليس والتمويه.

لكن الغاية الأساسية من الإصرار على كينونة الجريمة الواحدة هي أنه تصح ملاحقة الراشي والمرتشي معاً، وليس من خيار في الدعوى العامة بين أحدهما من دون الثاني؛ إذ لا تستقيم الجريمة إلا بوجود طرفيها، لأن من يعرض الرشوة، أو يقبل التماسها من الغير هو بحكم من يطلبها ويتوخاها ويسعى إليها، فإذا مُنِعَت المحاكمة عن أحدهما؛ استتبع ذلك الكفُّ عن التعقبات بحق الآخر؛ نظراً للتضامن الجزائي المستمد من الاتفاق الجرمي الأصلي فاستوجب المساهمة.

وتتحقق جريمة الرشوة بصورة مبدئية في اجتماع العناصر التالية:
 تقديم الهدية أو العطية.
 تسلم العرض، أو الالتماس من الموظف العمومي لنفسه أو للغير الذي يسميه.
 أداء الموظف عملاً معيناً متفقاً عليه من أعمال وظيفته أو الامتناع عن عمله.
فإذا اقتصر الأمر على أحد هذه العناصر أو على حالتين منها لا تكون الجريمة قد تمت.

وهذا النظام يتعرض لعدة انتقادات علمية منها:
(1) يساوي في المسؤولية الجزائية بين الراشي والمرتشي من دون تمييز في نسبة تحمل التبعة لدى كل من طرفي العقد الجرمي، ويشكل مخالفة صريحة لمبدأ فردية العقاب.

(2) تطبيق مبدأ الإعارة في التجريم غير صحيح من الناحية القانونية؛ وإن كان معمولاً به في الاجتهاد القضائي، ويتناقض مع وضع التزوير مجال تطبيق المبدأ المذكور لتوافر وحدة الجرم فعلاً ونية وهدفاً؛ إذ ليست الرشوة كجريمة التزوير.

(3) مخالفته بعض الأحكام الأساسية في قانون العقوبات خاصة لجهة التدخل الجزائي؛ مادام الراشي والمرتشي شريكين مساهمين في الجريمة، وبالتالي فإن هذا النظام متناقض ومتعارض مع القانون الذي ينص على الوسيط ودوره.

(4) في بعض التشريعات الجزائية التي تعدّ جريمة الرشوة من نوع الجنحة العادية ولو كانت مشدَّدة العقاب لا يمكن معاقبة الشروع؛ حال كون الفعل واحداً؛ إن لجهة الراشي أو لجهة المرتشي لعدم النص، في حين يكون هذا الأمر ممكناً في حال استقامة الجريمتين؛ إذ يشكل الفعل المسند إلى الراشي أو المرتشي جرماً ناجزاً من دون الحاجة إلى بحث المحاولة لعدم توافرها؛ بسبب إحلال الفعل التام محلها، فتصبح بدورها جريمة قائمة بذاتها.

(5) يتجاهل القائلون بهذه النظرية الحالة الخاصة بالموظف المرتشي في حال إقدامه على التماس المنفعة المادية من دون أن يلاقي هذا الالتماس قبولاً؛ إذ في هذه الحال لا يلاحق صاحب المصلحة لعدم ارتكابه أمراً مخالفاً، وبالتالي تقتصر الملاحقة على الموظف وحده بما يتنافى مع وحدة الفعل الجرمية.

(6) وهي نقيض النقطة السابقة وتتعلق بالراشي الذي يعرض الرشوة ولا يلاقي قبولاً من الموظف، فتقوم الحالة الجرمية بحق الراشي بسبب اختلاف الإرادتين.

(7) في هذا النظام لا يمكن تفسير جواز ملاحقة الفاعل الأصلي – الموظف العام – وحده بمناسبة الاستدراج بأمر من السلطة العامة، فيكتفى بملاحقة الموظف وحده من دون الذي قام بعملية الاستدراج.

ولتلافي عيوب نظام وحدة الرشوة قام أكثر المشرعين في الدول التي تبنت هذا النظام بإصدار نصوص خاصة تخرج على القواعد العامة، فقد نص المشرع السوري على تجريم الراشي عندما يعرض رشوة على موظف عام لم تلقَ قبولاً بنص المادة (345) من قانون العقوبات، وقد نهج النهج ذاته نظام مكافحة الرشوة في المملكة العربية السعودية، وتسمى هذه الجريمة في الفقه «جريمة العرض الخائب للرشوة». ولعدم تفلت الموظف الذي يطلب رشوة لم تلقَ استجابة من صاحب المصلحة؛ فقد نص المشرع السوري في المادتين (341 و342)على المساواة بين فعل الالتماس وفعل قبول الهدية أو قبول الوعد بها أو أي منفعة أخرى، فيعدّ مرتشياً الموظف الذي يرتكب أحد هذه الأفعال، وهذا النص الشامل لكل أفعال الموظف التي يقوم بها في سبيلالاسترشاء؛ استلزمته طبيعة جريمة الرشوة؛ وما تشكله من خطورة. لذلك فإن الاتفاق بين الموظف وصاحب المصلحة ليس ضرورياً، فإن طلب الموظف الرشوة وأعطاه صاحب الحاجة مراده لوحق الموظف بجرم الرشوة وعوقب شريكه الراشي بالعقوبة ذاتها، وإن لم يستجب له صاحب المصلحة لوحق الموظف وحده، وإن عَرَضَ صاحب المصلحة رشوة على موظف فقبلها لوحق الأخير بجرم الرشوة، وكذلك يعاقب شريكه الراشي بالعقوبة نفسها، ولكن إن لم يستجب الموظف له؛ عند ذلك يلاحق الراشي بجرم «عرض رشوة»، وهي غير جريمة الرشوة، وعقوبتها غير عقوبة الرشوة في قانون العقوبات السوري.

لذلك يتبين أن المشرع السوري ومثله المصري قد استطاعا تلافي القصور الذي يتعرض له نظام وحدة الرشوة بإدخال بعض النصوص الخاصة في نطاق تجريم الرشوة، وتوخيا بذلك تجنب أي نقد يوجّه إليهما.

ب- نظام الجريمة المزدوجة: إن القوانين الجزائية لم تلحظ هذه الجريمة بصورة واضحة ومحددة، ولكن بعض التشريعات ذكرتها ضمناً بما يشبه الصراحة، إضافة إلى أن الرأي العلمي الجزائي قد خطا خطوات جبارة في هذا الاتجاه، والاجتهاد القضائي اعتمد هذه النظرية الواسعة الرؤيا، فجاءت القرارات والأحكام تعزز المواقف الفقهية.
وهذا النظام يفرق بين الفعلين المكونين لجريمة الرشوة: فعل الراشي، وفعل الموظف العام المرتشي. وعمل كل منهما يشكل مقارفة جريمة مستقلة عن جريمة الآخر، فلا اشتراك أو ترابط أو علاقة أو اتصال بينهما؛ إذ إن كلاً من المجرمين أعلاه يعدّ فاعلاً أصلياً، ومسؤولاً جزائياً – وحده – عن عمله الشخصي، وهذا النظام يتصف بخاصية قانونية تتضح فيما يأتي:

 إن جريمة الارتشاء السلبية تصب في خانة الجرائم المخلة بواجب الوظيفة العامة وقناتها مباشرة، لارتباط جريمة الراشي بها؛ إذ إن هذا الأخير هو غريب عن الوظيفة وبعيد منها، ولو كانت النصوص لا تفيد ذلك صراحة، مع أن الفقه الجزائي أنزل جريمة الرشوة في منزلة الاعتداء على الشيء العام، فعدّ فعل الراشي واقعاً على السلطة العامة بالتوازي مع فعل المرتشي. وهذا التمييز يساعد على الفصل بين الجريمة السلبية العائدة إلى الموظف المرتشي، وبين الجريمة الإيجابية المرتدة إلى صاحب المصلحة الراشي؛ إذ إن الأولى أشد وصفاً وعقاباً من الثانية ولو كانتا مترابطتين، لأن غاية المشرع هي تكريس الواقع الشخصي الفردي الذي قد يختلف بين مجرم وآخر، ثم الانطلاق من الدور الخاص لكل منهما.

 ويترتب على هذا النظام؛ أي استقلالية جريمة الراشي عن جريمة المرتشي نتائج قانونية متعددة، أهمها:
(1) لا يتعارض هذا النظام مع الأحكام العامة الأساسية، خاصة لجهة المساهمة الجزائية، ولاسيما التدخل، بعد أن تحققت لكل فريق الجريمة الخاصة به، فأضحى فيها فاعلاً أصلياً مع إمكانية قيام المساهمة الجرمية.
(2) إن افتراض استقلالية جريمة المرتشي عن جريمة الراشي ينفي قيام المساهمة الجزائية في العلاقات المتبادلة بين هذين الشخصين، ويجعل من الثابت أن المشاركة في الجرم تنطبق على الأشخاص المتدخلين، مما دفعهم إلى المناورات الاحتيالية لتسهيل المتاجرة بالوظيفة، مما يجعل قبول هذا التدخل أمراً ضرورياً.
(3) يوفر هذا النظام أمر ملاحقة كل من الراشي أو المرتشي وحده دون الآخر، مهما كانت الأسباب الداعية إلى ذلك.

وقد استقر الاجتهاد القضائي الفرنسي على هذا الاتجاه، ومنه تمكن من معاقبة الموظف العام المرتشي بقطع النظر عن وضع الراشي الذي قد لا يلاحق. وعلى العكس تمكن من ملاحقة الراشي ومعاقبته من دون الحاجة إلى تجريم الموظف.
(4) في حال منع المحاكمة أو إبطال التعقبات عن الراشي أو المرتشي لأي سبب كان؛ لعدم توافر النية الجرمية؛ تبقى ملاحقة الآخر ممكنة في جميع الأحوال؛ إذ لا يستفيد مجرم من غياب عنصر قانوني غير خاص به، وإنما بآخر.
(5) يعاقب الراشي ولو لم تلقَ الرشوة قبولاً.
(6) إن أسباب الإعفاء من العقاب تنصرف إلى الراشي من دون المرتشي.

– ومن الثابت – نتيجة ما تم ذكره آنفاً- أن كلاً من النظامين يسير في الاتجاه الخاص به ويسعى نحو الاستقلالية التامة، وقد لاقى كل من هذين النظامين معارضة غالبية العلماء الجزائيين، إذ إنه مع الإشارة إلى الانتقادات الموجهة إلى نظام الجريمة الواحدة المدرجة أعلاه؛ فقد شكا الفقهاء من أن نظام الجريمة المزدوجة يحمل على تأويل نية المشرع في غير ما أراد، وقد يلحق إجحافاً بحق أحد فرقاء النزاع في أثناء نظر الدعوى؛ من غير طرفي العقد الجرمي، كذلك يتعارض مع حسن سير العدالة.

وقد وضع المشرع الفرنسي لكل من جريمتي الراشي والمرتشي أحكاماً خاصة به، مع أنه جعل العقوبة للاثنين واحدة.

وقد انتقد الشراح الفرنسيون هذه الخطة قائلين: إنها لا تتفق مع المنطق ولا المبادئ القانونية.

وقد اتخذ الاجتهاد القضائي البلجيكي كما التشريع الجزائي الفرنسي موقفاً موضوعياً تدريجياً. وأوضح قانون العقوبات المغربي خياره في صورة صريحة؛ إذ نص على عنوان الفصل المعني «جريمة ارتشاء الموظف السلبية» وفي المادة (248) منه على جرم الموظف، وفي المادة (51) على جرم الراشي معتبراً أن فعل كل من الراشي أو المرتشي يؤلف جريمة خاصة مستقلة، ولكنه بالوقت نفسه يتقبل ارتباط الجريمتين معاً وفي آن واحد.

لكن المشرع اللبناني لم يلتزم صراحة وكلياً بأحد هذين النظامين، ولم يقتبس نصوصه من القانون الفرنسي كما هو الحال في بعض التشريعات العربية، وإنما كان أكثر جنوحاً وميلاً نحو الاتجاه الذي سلكه المشرع الإيطالي في حالات خاصة، ولاسيما لجهة اعتباره جريمة الرشوة واحدة وموحدة، وعدّ الرشوة جريمة موظف عام أصلاً وأساساً، ولكنه جعل للراشي دوراً على سبيل الاستطراد، وبذلك اتخذ موقفاً معتدلاً، آخذاً في عين الاعتبار شخص كل من الموظف المرتشي والراشي ودوريهما.

ويبدو أن المشرع المصري قد لحظ انتقاد الفقهاء فلم يحذُ حذو القانون الفرنسي في طريقة تحريره، ولم يضع لكل من الراشي والمرتشي أحكاماً خاصة، بل عرَّف الرشوة وبين عقوبة الراشي والمرتشي ومن يتوسط بينهما، وبالتالي لم يفصل بين فعل الراشي وفعل المرتشي، بل عدّ الفعلين مكونين لجريمة واحدة هي جريمة الرشوة.
أما الشخص الذي يتوسط بين الراشي والمرتشي فلم يضع له الشارع الفرنسي حكماً خاصاً، وهو عند الفقهاء الفرنسيين والمحاكم الفرنسية شريك لمن كلفه الوساطة. لكن الشارع المصري نص عليه في المادة (108) من قانون العقوبات في معرض تقرير العقاب، وعدّه شريكاً للراشي والمرتشي أو فاعلاً أصلياً معهما في جريمة واحدة.

وقد أخذ قانون العقوبات العام السوري بقاعدة استقلال جريمة الراشي عن جريمة المرتشي، فنص على عقاب المرتشي في المواد (341 و342 و345) منه، وخص الراشي بالمواد (343 و344 و345) منه. وبذلك يكون لفعل الراشي أركان خاصة به، ولفعل المرتشي أركان خاصة به أيضاً؛ وإن كانت العقوبة بالنسبة إليهما واحدة، شأنها في ذلك شأن العقوبة في جريمة التزوير واستعمال المزور. وقد جاءت أحكام الرشوة فيه صريحة، واضحة، شاملة، كاملة، منسجمة، ومتناسقة، تحوي جميع الأفعال المعتبرة من قبيل الرشوة، أو المشبهة بها، أو المشابهة لها، من دون حاجة إلى إضافة، فقد تناولت جميع الصور والحالات والوقائع والأشخاص والعقوبات، لذلك بقيت ولا زالت صالحة للتطبيق من دون إصلاح أو تعديل جوهري؛ سوى ما ورد من أحكام في قانون العقوبات الاقتصادي رقم (37) لعام 1966 المعدّل بالمرسوم التشريعي رقـــــــــــــــــم (40) لعام 1977، والتي لا تختلف عما ورد في قانون العقوبات العام بالنسبة إلى شرح الأفعال التي تعدّ من قبيل الرشوة؛ سوى تشديد العقوبة، مع ملاحظة خلوه من أي نص يتصل بالراشي، كما لم يتعرض لتقديم رشوة لم تلقَ القبول.

2- عناصر جريمة الرشوة:
ولابد لقيام جريمة الرشوة من توافر عناصرها وهي:
صفة الفاعل، العطية أو الوعد، العنصر المادي، العنصر الفعلي، العنصر القانوني، العنصر المعنوي.
أ- صفة الفاعل: الرشوة في جوهرها جريمة خاصة «بالموظف العام» تمثل الانحراف بالخدمات والمرافق العامة، وتمتعه بسلطات الوظيفة يعطيه وحده قدرة الاتجار فيها؛ إذ إن الجريمة لا تتحقق إلا إذا كان الموظف أحد عضويها بالصفة الرئيسية في الملاحقة الجزائية، فإذا فقد هذا العنصر لأي سبب انعدمت جريمة الرشوة، وحلَّ مكانها الوصف القانوني لجرم آخر.

وقد افترض المشرع السوري لوقوع جريمة الرشوة أن يكون المرتشي موظفاً عاماً أو من في حكمه، وبذلك لم تعد جريمة الرشوة خاصة «بالموظف العام» بالمعنى الاصطلاحي له، وإنما توسع ليمتد نطاقها بحيث شملت طوائف متعددة ممن لا يتقلدون وظيفة عامة، فقد ورد تعريف الموظف بالمعنى المقصود في الباب الثالث المتعلق بالجرائم الواقعة على الإدارة العامة، فنصت المادة (340) على أنه كل موظف عام في السلك الإداري أو القضائي وكل ضابط من ضباط السلطة المدنية أو العسكرية أو فرد من أفرادها وكل عامل أو مستخدم في الدولة أو في إدارة عامة، وهذه المادة لها ارتباط وثيق بالمادة الأولى من قانون العقوبات الاقتصادي فقرة (ج) التي عدت جميع العاملين في الدولة مشمولين بتطبيق أحكام المرسوم (37) لعام 1966.

وقد سار الاجتهاد القضائي في سورية على النهج نفسه، فقد أدخل المستخدم في مفهوم الموظف المقصود في قانون العقوبات (نقض سوري، جنحة 2566 قرار 2679 تاريخ 24/10/1964).
كما جعل في اجتهاد آخر الموظفين في مصلحة حصر الدخان التي هي من الإدارات ذات المنفعة المشتركة بينها وبين الدولة؛ من موظفي الدولة (نقض سوري، جنحة 436 قرار 732 تاريخ 9/5/1951).
وفي اجتهاد آخر حمّلت المختار مسؤولية الموظف وجعلته متمتعاً بضماناتها (نقض سوري، جنحة 5264 قرار 4250 تاريخ 9/11/1963).

ولم يسبغ على المحامي صفة الموظف بالمعنى المقصود في المادة (340) من قانون العقوبات وإن كان قانون مزاولة مهنة المحاماة قد نص على معاقبة المعتدي على المحامي – في أثناء ممارسته المهنة وبسببها – بالعقوبة التي يعاقب بها فيما لو كان الاعتداء على قاضٍ (نقض سوري، هيئة عامة 14 تاريخ 27/4/1981).

وعدّ المشرع في المادة (341) وما بعدها من قانون العقوبات في حكم الموظفين العموميين لتطبيق جريمة الرشوة طائفة من الأشخاص وهم:

(1) الموظفون والمستخدمون والعمال في المصالح التابعة للحكومة أو الموضوعة تحت إشرافها أو رقابتها.
(2) أعضاء المجالس النيابية أو المحلية سواء أكانوا منتخبين أم معينين.
(3) المحكمون والخبراء ووكلاء التفليسة والمصفون والحراس القضائيون.
(4) كل شخص ندب إلى خدمة عامة، وقد عرَّف القانون الأساسي للعاملين في الدولة الجهة العامة بأنها إحدى الوزارات أو الإدارات أو الهيئات العامة أو المؤسسات أو الشركات أو المنشآت العامة أو إحدى البلديات أو المؤسسات البلدية أو وحدات الإدارة المحلية، أو إحدى جهات القطاع العام الأخرى. أما الوظيفة فهي كل عمل دائم وردت تسميته في ملاك الجهة العامة الصادر وفق أحكام هذه القانون. وأما العامل فهو كل من يعين في إحدى الوظائف الملحوظة في الملاك العددي للجهة العامة.
(5) أعضاء مجالس إدارة، ومديرو المؤسسات والشركات والجمعيات والمنظمات والمنشآت وموظفوها؛ إذا كانت الدولة أو إحدى الهيئات العامة تسهم في مالها بنصيب ما بأي صفة كانت.

ولا يحول دون توافر صفة الموظف العام أن يكون الموظف في إجازة أو موقوفاً عن العمل بما أنه لا يزال يشغل بصفة فعلية وظيفته العامة. ولا يشترط خضوع الموظف العام للقانون الخاص بنظام العاملين المدنيين بالدولة، فهناك طائفة من الموظفين يخضعون لأنظمة خاصة كأعضاء الهيئة القضائية وأعضاء هيئة التدريس بالجامعات وأفراد القوات المسلحة والشرطة وأعضاء السلك الدبلوماسي.

وبالنظر إلى غالبية التشريعات الجزائية يتبين أنها قد نصت على صفة الموظف وقت ارتكاب الجريمة؛ واستمراريتها؛ وبقائها بعد انتهاء خدمته، إذا كانت هي التي سهلت له ارتكاب الجريمة أو مكنته من تنفيذها.
كما أن الاجتهاد القضائي الجزائي قد استقر واستمر بإعطاء الأولوية للموظف بوصفه عنصراً أساسياً يجب التثبت من توافره، وفي حال تخلُّفِه يضطر القاضي إلى تعليق الملاحقة حتى استثبات ذلك، وتعد هذه المسألة واقعة قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض.

وبناءً على ما سبق يتضح أنه من الصعب وضع قائمة مفصلة ودقيقة بمن يعدّ موظفاً ومن لا يُعد كذلك؛ بسبب تشعب الأوضاع القانونية التي يوجد فيها أي مستخدم أو موظف على حالة الوظيفة الحاضرة؛ وتنوع الخدمات التي قد يقوم بها؛ وعدم وضوح الضوابط والثوابت المتحكّمة في تدخل الدولة الذي يتطور ويتشكل وفقاً لظروف الواقع غير مكترث بالشكليات والأنماط القانونية الجامدة، فيبدو من الضروري إتباع بعض المقاييس والمعايير التي تساعد – إلى حد ما- على تحديد مفهوم الوظيفة والموظف، الأمر الذي يجيز لقاضي الموضوع أن يأخذ في عين الاعتبار أكثر من عنصر واحد في تقرير وجود صفة الموظف العام أو انتفائها.

لذلك فإن الوصف القانوني للموظف العام يثير الكثير من المناقشات الاجتهادية والعلمية، والقوانين نفسها مستقلة عن بعضها في دلالة مصطلحاتها؛ إذ إن مفهوم الموظف العام يختلف – على سبيل المثال- بين القانون الإداري وبين القانون الجزائي؛ إذ لكل منهما زاوية ينظر فيها بكثير من الاختلاف إلى تعيين مدلول الموظف العام.

وقد تفرد قانونا العقوبات اللبناني والسوري بإنزال المحامي منزلة الموظف في بعض وجوه من جريمة الارتشاء، وورد النصّ على ذلك بصراحة في المادة (352/2) من قانون العقوبات اللبناني والمادة (342/2) من قانون العقوبات السوري، أما في غير قوانين – وبسبب عدم لحظ هذه الحالة – فقد اضطرت المحاكم الجزائية إلى الاستعانة بالاجتهاد القضائي والرأي العلمي.
أما المتطوع لخدمة عامة فلا يعدّ موظفاً في المفهوم القانوني ولا يُسأل عن جرائم الوظيفة التي يقترفها من الناحية الجزائية؛ إلا إذا كان فعله بأمر من السلطة العامة.

وفي ختام هذا العنصر لابد من التنويه بأن مؤسسات القطاع الخاص التي يُعهد إليها القيام ببعض خدمات الدولة – مثل إنجاز عمل من الأعمال، أو صيانة مرفق ما أو نظافته مثل قصر العدل أو المطار الدولي – لا يعدّ الموظفون الخصوصيون التابعون فيها لشركات الالتزام موظفين عموميين أثناء قيامهم بالعمل.

ب- العنصر المادي: الفقه القانوني متفق على جوهر الركن المادي لجريمة الرشوة، وهو فعل معين يقوم على وعد أو إعطاء يعرضه الراشي على المرتشي فيقبله، إذن: فهو قبول الموظف لفائدة أو وعد بها، أو طلب شيء من ذلك لنفسه أو لغيره من صاحب مصلحة ليؤدي له أمراً يدخل في أعمال وظيفته، أو يزعم الموظف أن أداءه من اختصاصه، أو يعتقد خطأً أنه مختص به، فصور الفعل المادي على درجة كبيرة من التعدد والسعة بحيث تشمل كل أوجه الاتجار في الوظيفة أو استغلالها، إذ إن الفعل يتم بمجرد أن يأخذ الموظف عطية، أو يقبل وعداً بها، أو يطلب شيئاً من ذلك، والفائدة التي يتعلق بها قد تكون من الماديات، وقد تكون فائدة غير مادية.

والمستفيد منها قد يكون شخص المرتشي، وقد يكون شخصاً آخر عينه لذلك، أو علم به ووافق عليه. ومقابل الفائدة يؤدي الموظف لصاحب المصلحة عملاً يدخل في اختصاصه فعلاً أو زعماً؛ وسواء كان المطلوب القيام بعمل بحق أم الامتناع عنه؛ يعد إخلالاً بواجبات الوظيفة أو الخدمة؛ فإذا وقع الفعل في إحدى صوره فلا عبرة لتحقيق الأمر الذي قدمت العطية من أجله أو عدم تحقيقه؛ لأن الجريمة عند ذلك الحد قد تمت، وبالتالي فإن عدول الموظف بعد أخذه أو قبوله أو طلبه فائدة أو وعداً بها يكون لاحقاً لوقوع الجريمة ولا ينجيه من استحقاق العقاب، ويتجلى العنصر المادي بعدة صور تتمثل بنشاط معين يبذله المرتشي، ولهذا النشاط في القانون السوري عدة صور هي: الأخذ أو القبول أو الطلب، يقابله مساهمة من الراشي بالإعطاء أو الوعد.

(1) الأخـذ: وهو التناول الفوري المعجل للعطية، فالعادة هي قيام المرتشي بتقاضي ثمن اتجاره في وظيفته عطية حاضرة، وهو ما يسمى بالأخذ، وهي الصورة الغالبة في أفعال الارتشاء؛ بصرف النظر عن نوع العطية أو الكيفية التي قدمت بها، و قد وُفـــــــــــــــق المشرع السوري عندما نـــــــــــــــــــص في المادة (341) والتي عُطفت عليها المادتان (342 و345) من قانون العقوبات «كل من التمس أو قبل لنفسه أو لغيره هدية أو وعداً أو أية منفعة أخرى…» إذ استعمل لفظ النكرة، وتجنب اللجوء إلى صلب التعريف بما خص الأشياء المذكورة بنص المادة، وبذلك أفسح المجال أمام النظرة الواسعة بالنسبة إلى طبيعة الهدية أو العطية وسواهما. وقد تُقدَّم العطية إلى المرتشي في شكل هدية لإخفاء قصد الرشوة أو تأدباً معه، ويكون المقابل من أعمال الوظيفة أمراً مفهوماً ضمنياً، وقد تُقدَّم إليه على أنها ثمن للعمل المطلوب صراحة.

(2) القبـول: يقصد بالقبول الرضا بالدفع المؤجل، ويكتفي المرتشي بقبول وعد بتقديم العطية في المستقبل، وليس للقبول شكل خاص، فقد يقع بالقول أو بالكتابة أو الإشارة، وقد يكون صريحاً أو ضمنياً، وتتم جريمة المرتشي بهذا القبول؛ بصرف النظر عما إذا حصل بعد ذلك على الفائدة أم لم يحصل عليها ومهما كانت الأسباب؛ لأن إتمام جريمة الرشوة لا يتطلب أن يكون المرتشي قد قبض بالفعل ثمن العمل المطلوب منه، بل تقوم على مجرد قبول الموظف الاتجار في وظيفته أو استغلالها، ولو لم يحصل على فائدته من ذلك، ولا يشترط قيام الموظف بتنفيذ الفعل أو الامتناع الذي بذل صاحب الحاجة الوعد من أجله.

وقد جاء في قرار لمحكمة النقض السورية: «تنفيذ العمل الذي حصلت الرشوة من أجله ليس من أركان جريمة الرشوة، إنما ثبوت قبول الموظف بإجراء الأعمال المنافية لوظيفته مع تناوله وقبوله الوعد بالمنفعة الشخصية لقاء قيامه بذلك، أو لقاء تأخير أو إهمال ما كان عمله واجباً عليه بحكم وظيفته؛ يكفي لتكوين عناصر الجريمة»(جناية 998، قرار 986 تاريخ 27/12/1955).

ويشترط أن يكون القبول جدياً وحقيقياً، فقد جاء قرار محكمة النقض السورية مؤكداً هذا الشرط حيث نص على: «أن الرشوة لا تتم إلا بإيجاب من الراشي وقبول من المرتشي بنية العبث بواجب الوظيفة التي اؤتمن عليها ليؤدي عملها بوحي ذمته وصفاء ضميره، وكان لكل جريمة عنصر زوجي لا تتوفر أركانه إلا إذا قصد الفاعل ارتكاب ذلك الجرم، وهذه النية الجرمية لا تتم في الرشوة إلا إذا كان القبول جدياً يرمي إلى الغرض المقصود منها، فإذا تبين أنه غير حقيقي فلا وجود للرشوة، وتأسيساً على ذلك فإن المرتشي إذا تظاهر بالقبول ليسهل على أولي الأمر القبض على الراشي في حالة الجرم المشهود دون أن يكون جاداً في هذا القبول لمصلحة نفسه؛ فإن العناصر المكونة للقبول الذي تتم به الجريمة تكون معدومة، وفي هذه الحالة كما في حالة الرفض الصريح لا يكون هناك اتجار بالوظيفة، ولا مساومة على العبث بها من جانب الموظف لمصلحة الراشي، ولا يبقى في القضية إلا عرض للرشوة من قِبَل الراشي دون أن يصادف قبولاً من الموظف المختص». (نقض سوري، جناية 369، قرار 348 تاريخ 19/5/1964).

(3) الطـلب: هو تعبير عن مبادرة الموظف إلى الحصول على منفعة أو وعد بها من صاحب المصلحة، من دون تدخل إيجابي من هذا الأخير، وهو ما يسمى بالاستعطاء، وطلب الوعد بها بالاستيعاد. ويقع الفعل بمجرد الطلب، ولو تم الرفض من جانب صاحب المصلحة؛ لأن الموظف بهذا الطلب يكون قد قارف ما يحرمه القانون، وهو إنزال الوظيفة منزلة السلعة يتجر فيها. والطلب بهذه الصورة يجعل الموظف العام مرتكباً جريمة تامة، سواء باشر العمل الذي طلب الرشوة مقابلاً له فأنجزه؛ أم لا، ولا يعدّ فعل المرتشي – في هذا الحال – محاولة أو شروعاً.

ولا يلزم لتحقيق جرم المرتشي أن يكون الطلب أو الهدية أو المنافع الأخرى أو الوعد بها لتحقيق نفعاً شخصياً للموظف، فقد يهدف إلى تحقيق نفع للغير، وهذا يكون في حالتين:

أ- أن يطلب الموظف لمصلحة الغير فائدة أو وعداً بها مقابلاً للعمل المطلوب، كأن يطلب سداد قسط جامعي لابنه، أو خاتماً لزوجته، أو تذكرة طائرة لأخيه أو ترقية قريب له أو صديق.
ب- أن تكون الهدية أو المنفعة لقاء العمل غير المشروع لأحد ذوي قربى الموظف كعقد لزوجته، أو ساعة معينة لابنه، فيعلم الموظف بذلك ويوافق عليه.

ويشترط لتجريم الموظف في هذه الحالة أن يعلم بمن تلقى الهدية أو المنفعة أو الوعد بهما، وسببها، وأن يوافق على ذلك، أما إذا ظل جاهلاً فلا سبيل إلى مؤاخذته؛ لأن قبول من تلقى العطية أو الوعد لا يغني عن علم الموظف وقبوله هو نفسه (المادة 341 من قانون العقوبات السوري).
وقد سارت التشريعات في التجريم والعقاب بين طلب الشخص الرشوة لنفسه أو لغيره.

(4) العطـاء أو الوعـد: نصت المادة (343) من قانون العقوبات السوري على معاقبة الراشي بالعقوبات المنصوص عليها بالمادتين (341 و342)؛ لكونه أحد طرفي الجريمة، وهو الذي يقوم بإغراء الموظف العام عن طريق تقديم العطاء سواء أكان نقداً أم عيناً، وقد توافقت التشريعات الجزائية الأوربية على الصيغة ذاتها بما خصَّ العطية، كأن يوفر الراشي للمرتشي امتيازاً أدبياً أو مركزاً اجتماعياً أو إنالة انتخابية أو فائدة اقتصادية أو خدمة سياسية أو وظيفية؛ كالعمل أو المساعدة على نقله من دائرة حكومية إلى غيرها أو ترقيته، وليس بالضرورة ذكرها صراحة بنص القانون، مادام المشرِّع قد عناها ضمناً.

ولكن الصورة الغالبة للشيء موضوع الرشوة تقع على الأموال المنقولة القابلة للتداول، ومنها النقود عيناً ومنها أيضاً السندات لأمر أو الشيكات أو فتح اعتماد أو عمليات مصرفية أو أي ورقة مالية.
وقد تكون العطية حليّاً ومصاغاً ومجوهرات وذهباً وفضة أو أي شيء مصنوع من هذين المعدنين، أو طوابع هواة أو أشياء أثرية أو سجاداً ذا قيمة وخلافه.

كما يمكن أن تكون بضائع أو تجهيزات منزلية، أو خدمات، أو إيفاء دين مترتب على الموظف المرتشي تجاه الغير، أو إشراك المرتشي في عملية تجارية أو إشراكه بالنصيب (نقض سوري تاريخ 16/6/1953).

ولا يشترط في مقابل الرشوة أن يكون مشروعاً، بل قد يكون هذا المقابل غير مشروع في ذاته: مواد مخدرة أو مسكرة، أو أشياء مسروقة، أو شيك من دون رصيد (نقض مصري تاريخ 25/4/1967، مجموعة أحكام محكمة النقض س 18، رقم 114، ص 581).

والمشرع لم يحدد مقداراً محدداً للهدية أو المنفعة حتى ينطبق عليها وصف الرشوة؛ إذ ترك تقدير ذلك لقاضي الموضوع بحسب ما يستخلصه من وقائع كل دعوى على حدة مراعياً مدى دلالة المقابل على الاتجار في الوظيفة، فإذا كان ما أُعطي يُمكن تقويمه، إلا أنه ينتفي التناسب بينه وبين العمل الذي يباشره الشخص؛ فلا يمكن عده مقابلاً، مثال ذلك تقديم لفافة تبغ أو قطعة حلوى أو كوب شراب إلى موظف على سبيل المجاملة.
وتنتفي فكرة المقابل في الرشوة إذا توافر مبرر لحصول الموظف على هذا المقابل، ولم تكن له علاقة بأداء العمل الوظيفي؛ كأن يكون ما حصل عليه المتهم بالرشوة سداداً لدين حالّ ومحقق، أو هدية تبررها صلة القرابة بين صاحب المصلحة والموظف.

ج- العمل المطلوب: إن التماس الموظف العام أو من في حكمه منفعة أو فائدة لنفسه أو لغيره لا يكفي لقيام الركن المادي لجريمة الرشوة، بل لا بد من غرض مقصود من الرشوة، فإذا كان الغرض من الرشوة هو القيام بعمل شرعي من أعمال الوظيفة كانت الرشوة جنحة، أما إذا كان الغرض منها هو القيام بعمل ينافي واجبات الوظيفة كانت الرشوة جناية.

وهذا يقتضي وجود رابطة أو صلة بين الموظف الذي هَدَفَ إلى تحقيق الفائدة وبين صاحب المصلحة الذي قدم العرض للوصول إلى غايته، ويكون محل هذه المقايضة هو العمل الوظيفي الذي اؤتمن عليه الموظف، والثمن الذي يملكه صاحب المصلحة، ولكن لا يشترط كما ذكر آنفاً أن ينفذ الموظف ما يطلب منه من أعمال الوظيفة مقابلاً للفائدة؛ إذ يكفي أن يتم الاتفاق عليه، أو أن يكون مفهوماً ضمناً، عند تلقي العطية أو الوعد.

ولا يكفي أن يكون مقابل الفائدة عملاً أو امتناعاً عن عمل، بل يجب أن يكون العمل الوظيفي داخلاً في اختصاص الموظف حقيقة أو زعماً أو توهماً، ووجود علاقة بين العمل أو الامتناع عنه ووظيفة المرتشي، وأن تكون الوظيفة قد سهَّلت اقتراف الفعل أو الامتناع عنه.

وقد بينت ذلك الهيئة العامة لمحكمة النقض السورية بالدعوى أساس (480) قرار (514) لعام 1955 أنه: «لا يكفي لتوافر أركان جريمة الرشوة أن يأخذ الموظف المال، بل يشترط فوق ذلك أن يكون الغرض من الرشوة أداء عمل أو الامتناع عن عمل من أعمال الوظيفة أو التي يدعي الموظف أنها داخلة في وظيفته». وقد صدر قرار مماثل (نقض سوري، عسكرية أساس 306 قرار 42 تاريـــــــــــــــــــــــخ 10/1/1984).

(1) شروط العمل الوظيفي:
¦ يجب أن يكون العمل المطلوب داخلاً في وظيفة المرتشي، فقد جاء في اجتهاد لمحكمة النقض السورية«حدَّدت المادة (341) من قانون العقوبات عقاب كل موظف وكل شخص نُدب إلى خدمة عامة، وكل امرئ كلف بمهمة رسمية؛ التمس لنفسه أو لغيره هدية أو أية منفعة أخرى، ليقوم بعمل من أعمال وظيفته، والظاهر من ذلك أن العمل الذي تمَّت الرشوة من أجله يجب أن يكون داخلاً في وظيفته، لأن الغاية من الرشوة هي حمل الموظف على الإخلال بواجباته إرضاء للراشي، فإذا كان العمل المذكور بعيداً عن الوظيفة فقدت الرشوة عناصرها المكونة» (نقض سوري تاريخ 27/11/1961).

والمهام التي تكون من اختصاص الموظف يسندها إليه القانون مباشرة كالأحكام التي يصدرها القضاة، أو محاضر ضبوط الشرطة القضائية، وهناك مهام تكون بمقتضى النظام الداخلي للمؤسسة الإدارية، أو بموجب أوامر وتعليمات رئاسية، وقد قضت محكمة النقض السورية بأنه: «لا تتم الرشوة إلا إذا توافرت عناصرها المكونة لها، وأهم هذه العناصر أن يكون العمل المطلوب إنجازه داخلاً في وظيفة المرتشي أو يدعي أنه داخل فيها. والقانون وحده هو الذي يبين عمل الموظف وما يجب أن يقوم به، ولا يمكن أن يكلف أحد بأمر لم يجعله القانون من واجباته بحكم الوظيفة» (نقض سوري، جنحة 1100 قرار 1265 تاريخ 27/11/1961).

وجاء في قرار آخر لها بأنه: «لمَّا كان المتهم موظفاً في المستودع البلدي وأقدم على مساعدة موظف آخر في دائرة ضبط الأحوال الشخصية برضاء الموظف المسؤول لأجل تسهيل معاملات أصحاب المصالح، وقد تقاضى رشوة لقاء العمل في الدائرة المذكورة، فلا يُعتبر فعله من قبيل الرشوة؛ لأن صفة الوظيفة التي تحتم عليه العمل في نطاق الدائرة الرسمية المعين لها تمنعه من العمل في أية دائرة أخرى، ويكون الأجر الذي تقاضاه عن عمل لا يدخل في وظيفته، ويُعدُّ من قبيل الاحتيال كانتحال اسم وعمل الوظيفة التي لا علاقة له بها» (نقض سوري تاريخ2/3/1955).

¦ أن تكون وظيفة المرتشي على علاقة ما بالعمل أو بالامتناع المطلوبين منه: فقد تكون وظيفة الفاعل لا تستوعب وحدها كامل الشيء المطلوب من صاحب المصلحة؛ إذ قد يكون عمله فقط المساهمة في أعمال تحضيرية أو استشارية من دون تحقيق النتيجة المطلوبة مباشرة، أو أن يكون الموظف المرتشي مختصاً بالمشاركة الجماعية في إنجاز العمل؛ مثل العضو في لجنة تصحيح امتحانات رسمية، وقد يكون الموظف مختصاً بجزء من العمل أو الخدمة التي يرغب الراشي الحصول عليها؛ كأن تكون الوثيقة أو القرار المرغوب فيه يتوقف على تأشيرة المرتشي وتأشيرة موظفين آخرين،

وقد سار الاجتهاد القضائي المصري بهذا الاتجاه ومنه:«يكفي في القانون، لإدانة الموظف في جريمة الرشوة، أن يكون له نصيب في العمل المطلوب، فإذا كان الطاعن يقرّ بارتباط اختصاصات وظيفته باختصاصات رئيس الحسابات فيما يتعلق بشؤون العمال، مما يفيد اتصال وظيفته في هذه الشؤون؛ فلا يصح منه أن ينعي على الحكم الذي أدانه في جريمة الرشوة مقابل تعيينه عمالاً بالمصلحة التي يشتغل فيها؛ بأنه لم يكن له شأن بهذا العمل ولا اختصاص له فيه». (نقض مصري 10/11/1952).

كذلك جاء في اجتهاد آخر لها أنه: «لا يتطلب القانون لاعتبار العمل المتعلق بالرشوة داخلاً في اختصاص وظيفة المرتشي أن يكون هذا الأخير هو وحده المختص بالقيام به؛ بل يكفي أن يكون له نصيب من الاختصاص فيه»(نقض مصري 3/2/1953).

¦ أن تكون وظيفة المرتشي قد سهّلت له اقتراف الفعل أو الامتناع عنه المطلوبين منه: استقر الاجتهاد القضائي على توسيع مفهوم اختصاص الموظف المعني وصلاحياته ومداهما في الأفعال غير الملحوظة أصلاً، وقد نصت بعض التشريعات على هذه الحالة ومنها القانون الفرنسي والقانون المغربي. وقد جاء الاجتهاد القضائي الفرنسي يعزّز هذا النهج وفقاً للفقه وللنص حيث جاء: «الموظف – في أدنى درجات الوظيفة – الذي يقرأ معاملة سرية على طاولة المدير التابع له، أو يستمع إلى نقاش داخل غرفة الرئيس، ويُطلع عن سوء نية الأفراد الغرباء عن الوظيفة ما يهمهم من الأمور التي جرت« (نقض فرنسي 22/7/1954).

وقد أوضح الاجتهاد القضائي المصري هذا الأمر بقوله: «ليس من الضروري لتوافر أركان جريمة الرشوة المعاقب عليها بمقتضى المادة (49) عقوبات أن تكون الأعمال التي يُطلب من الموظف العمومي أداؤها داخلة ضمن اختصاصه مباشرة، بل يكفي أن يكون غير مباشر، بأن يكون له من وظيفته التي يقوم بها ما يمكن أن يسهل له ارتكاب العمل أو الامتناع». وهناك صور أخرى لهذه الحالة تتجلى باستطاعة الموظف لو شاء إنجاز العمل المطلوب ولو كان غير مختص به حسب نظام توزيع العمل داخل المؤسسة، ولكن عدم إنجاز المرتشي الغرض المطلوب منه لا يعني انعدام الإمكانية من وظيفته. ومنها صورة ما إذا كان الموظف غير مختص أصلاً وقت طلب الرشوة أو عرضها، ثم يصبح مختصاً إذا عُهد إليه القيام بالمهمة فيما بعد. ولكن في كل هذه الحالات والصور يتعين أن يكون للمرتشي دور شخصي في إنجاز العمل أو في الامتناع عنه، أما إذا اقتصر دوره على التدخل لدى الموظف المختص فلا يشكل الفعل جرم الرشوة؛ وإنما اشتراكاً فيه، وإذا أخذ الموظف رشوة للقيام بعمل خارج عن وظيفته فلا يعاقب بعقوبة الرشوة، ولكن تجوز معاقبته بجريمة الاحتيال أو بجريمة أخرى ينطبق عليها الفعل المسند إلى المجرم.

(4) صور المقابل الذي يقدمه المرتشي: نصت المادة (341) من قانون العقوبات السوري على ما يلي: «كل موظف وكل شخص ندب إلى خدمة عامة سواء بالانتخاب أو بالتعيين، وكل امرئ كلف بمهمة رسمية كالحكم والخبير والسنديك التمس أو قبل لنفسه أو لغيره هدية أو وعداً أو أية منفعة أخرى ليقوم بعمل شرعي من أعمال وظيفته عوقب…».

كما نصت المادة (342) منه على ما يلي: «كل شخص من الأشخاص السابق ذكرهم التمس أو قبل لنفسه أو لغيره هدية أو وعداً أو أية منفعة أخرى ليعمل عملاً منافياً لوظيفته أو يدعي أنه داخل في وظيفته أو ليهمل أو يؤخر ما كان عمله واجباً عليه عوقب…» لذلك يتضح من نصوص قانون العقوبات السوري أن صور المقابل الذي يقدمه المرتشي اتجاراً في الوظيفة متعددة، وهي:

¯ أداء عمل مشروع من أعمال الوظيفة: إن الاتجار في أعمال الوظيفة أو استغلالها يقع ولو كان ما يطلب من عمل هو حق، إذن: فمقابل الفائدة قد يكون القيام بعمل واجب ولا يتنافى مع الذمة أو الحق، فالموظف في هذه الحالة يرتشي من أجل القيام بعمل تحتم عليه القوانين والأنظمة أن يؤديه من دون أن يتقاضى شيئاً من صاحب المصلحة، ومثال ذلك الموظف المكلف بتركيب خط الهاتف في أحد المنازل ويتقاضى بدلاً من هذا العمل. وكذلك لو قبل خبير محلل بوزارة الصحة عطية من أحد باعة اللبن ليخرج نتيجة التحليل في مصلحته؛ مع أنه لا غش في عينات اللبن المقدمة للتحليل. ويقصد بأعمال الوظيفة كل عمل يباشره الموظف أو يستطيع مباشرته بحكم وظيفته بصورة قانونية، وأن تكون هذه الأعمال محددة حتى يصح أن تكون مقابلاً للرشوة، وأن يكون نوع العمل قابلاً للتحديد، وقد يكون دور الموظف لقاء الفائدة مجرد إسراع إنجاز مصلحة صاحب الحاجة.

ولكن أداء العمل الوظيفي بالفعل لا يدخل ضمن العناصر المكونة لجريمة الرشوة، ولكن تحديده يفيد في تحديد اختصاص الموظف؛ وفي وضوح الصلة بين مقابل الرشوة والعمل الوظيفي.

وتعد جرائم الرشوة هذه الأكثر انتشاراً بين جرائم الإخلال بواجبات الوظيفة، وإن كانت في الدرجة الدنيا من سلالم الرشوة؛ إذ تبقى الأصعب دليلاً وإثباتاً، لأن ظاهرها القانوني لا يمس سلوكية الموظف الذي يستفيد من شرعية القرار أو المعاملة، ليجني لنفسه أو للغير الذي يسميه عطية أو هدية؛ بحكم العمل الصحيح ونطاقه الذي يشكل في هذه الحالة غطاء للموظف المرتشي ولصاحب المصلحة الراشي.

¯ الامتناع عن عمل مشروع من أعمال الوظيفة: نصت على هذه الحالة المادة (341) من قانون العقوبات السوري، فجاءت واسعة التفسير والتقدير والتحديد؛ إذ تناولت جميع الظروف التي يحصل فيها الرفض عن طريق الامتناع.

وهو أحياناً إيجابي، وفي غالبيته سلبي، والامتناع المشروع: هو أن يمتنع الموظف عن القيام بعمل لا يجوز له أن يقوم به وفق القوانين والأنظمة التي تحكم طبيعة عمله، ومثال ذلك أن شرطي المرور لا يجوز له أن يخالف سائق السيارة المتقيد بالقانون والنظام على نحو دقيق، فإذا طلب هذا الشرطي مالاً أو أي منفعة من السائق في سبيل ألا يحرر بحقه محضر مخالفة سير؛ فإنه يكون قد ارتكب جريمة رشوة وفق حكم المادة (341) من قانون العقوبات، وكذلك كأن يأخذ قاضي عطية ليحكم بالبراءة حيث تكون البراءة واجبة.

ففي هذين المثالين يتضح أن الامتناع عن القيام بالعمل هو امتناع مشروع يوجبه القانون؛ إذ لا يحقق الامتناع إخلالاً بواجبات الوظيفة.
¯ أداء عمل ينافي واجبات الوظيفة: العمل المخالف للوظيفة هو نقيض العمل المشروع من أعمال الوظيفة، وهو الذي يخالف نظامها وواجباتها المحددة والمعددة في التشريعات والأنظمة وأوامر التعيين والتكليف والانتداب الشرعية المتعلقة بها، ويعني أن ما قام به الموظف يشكل خرقاً فاضحاً لاختصاصات هذه الوظيفة ومستلزماتها، وعليه أن يمتنع عنها لتنافي ذلك مع قواعدها السليمة، وهو ما نصت عليه المادة (342) من قانون العقوبات السوري بقولها: «…ليعمل عملاً منافياً لوظيفته أو يدعي أنه داخل في وظيفته…» ومن أمثلة ذلك تقديم عطية إلى شرطي لحمله على إبداء أقوال جديدة غير ما سبق أن أبداه في شأن كيفية ضبط متهمة؛ والميل إلى أن يستهدف في ذلك مصلحتها لتنجو من المسؤولية، ويتضح من العبارة الواردة في النص أنه لا يمكن حصر حالات الأعمال المنافية للوظيفة، وإنما تبقى لتقدير القضاء بعد دراسة تفصيلات كل حالة على حدة وظروفها.

حتى إن الموظف الذي طلب رشوة أو قبل بها لأداء عمل ليس من أعمال وظيفته، وإنما ادعى ذلك؛ لا ينجو من العقاب بذريعة أنه غير مختص بذلك العمل، بل على العكس تكون عقوبته مشددة وفق نص المادة (342) من قانون العقوبات، حتى لو كان العمل الذي ادعى اختصاصه به لا يعد منافياً لواجبات الوظيفة؛ ما دام أنه ادعى أن ذلك العمل يدخل في أعمال وظيفته وتقاضى رشوة في سبيل أدائه.

وهناك حالتان نص عليهما المشرع في المادة (342) من قانون العقوبات تدخل في عداد الأعمال المنافية لواجبات الوظيفة وهما:
حالة إهمال العمل الوظيفي: إن إهمال الموظف لأعمال وظيفته مقابل رشوة، يقصد بها انصراف نية الموظف وعلى نحو مقصود إلى هذا الإهمال؛ لأن صاحب المصلحة الذي دفع الرشوة طلب من الموظف ذلك تحقيقاً لمصلحته، في حين واجبات الوظيفة تحتم عليه عدم الإهمال، ومثال ذلك أن يفوّت محامي الدولة ــــ مقابل رشوة ــــ ميعاد الطعن بحكم صادر ضد الدولة، وذلك بغرض تحقيق مصلحة للراشي، فهذا الإهمال بواجبات الوظيفة التي عليه أداؤها على نحو سليم متعمد، ودافعه إلى ذلك رشوة قُدمت إليه، والعقوبة المفروضة عليه بهذه الحالة جنائية الوصف.

 حالة تأخير العمل الوظيفي: في هذه الحالة يقتصر دور الموظف المرتشي على التأخير في أداء العمل الوظيفي المكلف به عمداً، ولكنه في النهاية يقوم به، بخلاف حالة إهمال العمل الوظيفي المذكورة آنفاً، ومثال ذلك أن يدفع شخص صدر بحقه حكم قضائي غيابي قضى بحبسه؛ رشوة إلى المحضر ليؤخر تبليغه؛ حتى يطيل أمد الاعتراض. وهذه الحالة قد يترتب عليها نتائج خطيرة على مصالح بعض الأفراد، كأن يدفع صاحب المصلحة الذي يملك عقاراً تنوي الجهة الإدارية استملاكه؛ رشوة إلى الموظفين المسؤولين عن ذلك؛ في سبيل تأخير إصدار قرار الاستملاك حتى يتسنى له بيعه لأحد الأشخاص.

د- العرض والطلب:
(1) صور الفعل الذي يقوم به فرقاء جرم الرشوة: جرم الرشوة وفق ما ذكرته المادتان (341 و342) من قانون العقوبات السوري يقتضي بيان صور الفعل الذي يقوم به كل من الراشي والمرتشي والوسيط والغير المستفيد.
t صور الفعل الذي يقوم به الراشي: إذا قام الراشي بعرض الرشوة على الموظف، لكنها لم تلقَ قبولاً من هذا الموظف؛ فإن التكييف القانوني لتصرف العارض أو الواعد طبقاً للقواعد العامة يكون شروعاً في تنفيذ جريمة الرشوة؛ إذ حيل بينها وبين إتمامها رفض العرض أو الوعد من طرف من وجهت إليه؛ لسبب خارج عن إرادة الراشي، ولكن علماء آخرين لم يعدّوها محاولة لجريمة الرشوة، وإنما عدّوها عنصراً أساسياً مكوناً لجريمة تامة، تنطبق عليها أحكام المادة (345) من قانون العقوبات.

أما إذا قدَّم الراشي العطية المطلوبة من الموظف قبل أداء العمل؛ فيكون الأجر في الرشوة معجلاً، أما إذا كان الدفع معلقاً على تنفيذ العمل؛ فإن الاتفاق يكون قد تم بين الراشي الذي طلب والموظف الذي قبل، والعكس صحيح، ويكون الوضع الناشئ من ذلك مؤلفاً لجريمة خاصـــــــــــــــة بطرفيها وبعناصــــــرها، وتنطبق عليــــــــه المادتان (341 و342) من قانون العقوبات؛ نظراً لما ارتضاه الفريقان.

ولكن إذا كان الموظف قد عرض على صاحب المصلحة طلب الرشوة والتمسها وقوبل ذلك الالتماس بالرفض؛ اقتصرت الملاحقة والمعاقبة على الموظف من دون صاحب المصلحة، وإذا تراجع العارض أو الواعد عن عرضه أو وعده باختياره فلا ينجو من العقاب؛ لأن الجريمة أصبحت تامة قبل الرجوع، مع الأخذ بعين الاعتبار القصد المتوافر لدى صاحب المصلحة.

 صور الفعل الذي يقوم به المرتشي: الموظف العام. يعد مرتكباً لجريمة الرشوة التامة مجرّد طلبه أو قبوله هدية أو وعداً أو أي منفعة أخرى، سواءٌ كان لطلبه أثر أم لا، وسواء باشر بالعمل الذي أخذ الرشوة مقابلاً له فأنجزه، أم لا، وسواء قبل صاحب المصلحة عرض الهدية أم رفضه. ولا يعد فعل المرتشي في هذه الحالة شروعاً لأن النص القانوني يجعل من فعله جريمة رشوة تامة، وأحياناً لا يعين المرتشي نوع الرشوة ومقدارها وكيفية تقديمها، ويترك ذلك لصاحب المصلحة يعرض ما يمكن تقديمه، فيتولى الراشي تحديد الطبيعة والمقدار ويبقى للموظف الخيار والاختيار بين قبول العرض أو رفضه؛ تبعاً لنوعه أو مقداره؛ وما اقترن به من تعديل أو تعجيل أو تأجيل،

وفي الشكل يعد الطلب جريمة تامة ويختلف عن طلب العرض حيث يكون صاحب المصلحة هو من يقوم بتعيين المقابل الذي سيقدمه عن طريق الوعد؛ إذ يحدّد الموظف المقابل، كأن يطلب من الراشي أن يعده بأداء مبلغ معين من النقود، أو بتقديم خدمة أو مساعدة في قضية أو عملية معينة أو منفعة أخرى. والإجابة عن طلب الوعد أو رفضه يكفي فيه نعم أو لا لاقتضاب الحال، أما في طلب العرض فلابد من تحقق النوع والمقدار المقابل والاستجابة للعرض.

ولكن الصورة الغالبة للرشوة هي طلب الأداء المعجل قبل بدء المرتشي بتنفيذ ما طلب منه من عمل أو امتناع وقبل إتمامه حيث يكون في مركز القوة، ويستطيع فرض إرادته على صاحب العلاقة الذي يرضخ لمشيئته للحاجة الماسة. وقد يلجأ صاحب المصلحة إلى البدء في تنفيذ جريمة الرشوة، ويكون دور المرتشي إتمام التنفيذ، وبالتالي يكون كل من الراشي والمرتشي مساهمين في إكمال جريمة الرشوة في ظل نظام الجريمة الواحدة الموحّدة بخلاف نظــــــــــــام الجريمة المزدوجة. وقد قررت محكمة العـــــــــــــــــــدل العسكري في المغرب بتاريـــــــــــــــــــخ 22/3/1979: «إن الرشوة بمفهومها التقليدي القائم على وحدة الجريمة؛ يصح معها اعتبار كل من المرتشي والراشي مساهمين فيها، ولكن يصعب إضفاء هذا الوصف عليهما في ظل الصياغة الواردة في نصوص القانون المغربي الذي اعتبر فعل كل من الراشي والمرتشي جريمة متميزة عن جريمة الآخر، وعاقب على كل منها بنص مستقل».

t صور الفعل الذي يقوم به الوسيط: جريمة الرشوة قد تتم بصورة شخصية مباشرة عندما يلتمس الموظف ويقبل الراشي؛ أو في الصور الأخرى السابق ذكرها، وقد تتم بالواسطة عن طريق أحد الأشخاص ممن يتصلون بالموظف أو بصاحب المصلحة أو بالاثنين معاً، ولا فرق إن كان وسيطاً واحداً أو عدة وسطاء، أو قاموا بمبادرتهم طوعاً أو بتكليف، ولكن يشترط أن يكون دورهم بارزاً وفعالاً، وأن تتم الصفقة على يدهم.

ولم يرد في قانون العقوبات السوري ما يشير إلى اهتمام المشرع بجرم الوسيط، فقد أنزله منزلة المتدخل الذي يقوم بالوساطة بين الموظف وبين صاحب المصلحة، وتُحدَّدُ مسؤوليته وفقاً للأحكام العامة وفق الدور الذي قام به، ولا يؤثر تدخله في طبيعة الفعل الذي قام به فريقا جريمة الرشوة ومسؤولية كل منهما، والإعفاء من العقوبة ينال الوسيط كما الراشي فعلاً؛ تشجيعاً لكشف جريمة الرشوة قبل استشرائها، ويفترض أن الوسيط تكون إرادته منصرفة إلى عقد الاتفاق بين الفريقين، ولا يعاقب إلا إذا تحققت جريمة الرشوة أصلاً؛ لأنه يستمد صفته الإجرامية من الفاعل الأصلي، ولكن معاقبة الفاعل الأصلي أو إعلان عدم مسؤوليته لا يعني إبطال الملاحقة الجزائية بحق الوسيط؛ إذ يكفي القيام بالرشوة لمعاقبة الوسيط بقطع النظر عن النتيجة، ويبقى الوسيط مسؤولاً جزائياً؛ سواء أخذ المقابل عن وساطته مبلغاً من المال من الفريقين أم من أحدهما.

 صور الفعل الذي يقوم به الغير المستفيد: وردت هذه الصورة صريحة في جميع التشريعات الحديثة، ومنها قانون العقوبات السوري، وكذلك الاجتهاد القضائي؛ إذ ليس من الضروري أن تتم الرشوة لمصلحة الموظف المرتشي مباشرة، إذ قد يكون ذلك في منفعة شخص ثالث يعينه هذا الأخير صراحة؛ بغض النظر عن طبيعة العلاقة أو الرابطة بينهما، ولا يفرق التشريع بين أن يكون الغير المستفيد شخصاً طبيعياً أو معنوياً، وهذا الغير إذا شارك في إعداد الاتفاق بين الراشي والمرتشي، – والذي عينه هذا الأخير طرفاً في العقد لتسلّم الهدية المتفق عليها- يلاحق بصفته شريكاً في الجريمة الناجزة وفقاً للأحكام العامة، وإذا لم يشارك في الاتفاق وإنما اقتصر دوره على قبول الهدية أو العرض بعد إخباره بالاتفاق، ويكون قبوله قد ساعد على إعطاء الاتفاق صفته النهائية واكتمال الرشوة التي انتهت فائدتها إليه مع علمه بمصدرها الجرمي قبل أداء العمل وتأدية المنفعة؛ يلاحق بصفته متدخلاً في جريمة الرشوة. وإذا تم الاتفاق بمعزل عنه، وكان يجهله عند إتمامه معتقداً أن مصدر المنفعة مشروع؛ فلا يلاحق لعدم المسؤولية.

(2) الإيجاب والقبول: من شروط تطبيق المادتين (341 و342) من قانون العقوبات السوري هو الحصول على الاتفاق بين الراشي والمرتشي على الرشوة قبل قيام الموظف بعمل من أعمال وظيفته أو القيام بعمل ينافي واجبات وظيفته، وقد أكدت ذلك محكمة النقض السورية بقولها: «إن الرشوة عمل يتم باتفاق شخصين ووجود إرادتين وبإيجاب وقبول بين الراشي والمرتشي، فالأول يعرض الرشوة، والآخر يقبلها، ولا تتم بدون ذلك» (نقض سوري، جنحة 1395، قرار 369 تاريخ 6/7/1959).

فإذا انتفى العلم بالرشوة ولم يثبت الاتفاق؛ فقدت الرشوة العناصر المكونة لها، وفي ذلك قالت محكمة النقض السورية في قرارها المؤرخ في 6/7/1959 «لما كان ظاهراً من التحقيق الجاري أن المحكوم عليه موظف في دائرة السجل المدني في… وقد راجعه أحد المواطنين وطلب إليه تسجيل زواجه، فطلب المأمور منه صورتين وطابعاً، وحينئذ أخرج ذلك المراجع صُرَّة من جيبه وناوله إياها، مدعياً أن فيها الصور والطوابع المطلوبة، فوضعها الظنين في جيبه، فشاهده أمين السجل فاشتبه بأمره، وتحرَّاه وعثر على الصور والطوابع وعلى مبلغ زهيد من المال، وقد أفاد المحكوم عليه أنه لم يكن يعلم ما في الصرّة إلا بعد أن أُخرجت من جيبه.

ولما كانت أحكام المادتين (341 و345) من قانون العقوبات عرَّفت الراشي بأنه هو الذي يعرض الرشوة، والمرتشي بأنه يلتمس العطاء أو يقبل العرض لنفسه أو لغيره.

ولما كان ظاهراً من ذلك أن الرشوة عقد يتم باتفاق شخصين ووجود إرادتين بإيجاب وقبول بين الراشي والمرتشي؛ إذ الأول يعرضها والآخر يقبلها، ولا تتم دون ذلك، ولما كانت الوقائع والأدلة تشير إلى أن المبلغ من المال وُجد خطأً بين الصور والطوابع دون أن يكون لصاحب المصلحة علاقة بالرشوة أو عرض لها، أو التفكير بها، ودون أن يكون للمحكوم عليه علم بوضعها أو قبول منه لها، وكانت الرشوة بهذه الصورة قد فقدت العناصر المكونة لها وأصبحت حادثة طبيعية بخطأ كل واحد في مثل ظروفها».

وعليه فإن جريمة الرشوة تتميز بشروط وقيود تتوافق مع الواقعة القانونية؛ إذ يجب أن يكون كل من العرض والقبول، الالتماس والموافقة، الطلب والاستجابة قد تمَّا بصورة صريحة وحقيقية وبإرادة واعية حرة.

وقد أقرَّ الاجتهاد القضائي السوري بأنه يشترط أن يكون العرض والقبول متوافقين مترافقين زمنياً بين الطرفين قبل بدء الموظف بالعمل المطلوب منه (نقض سوري، تاريخ 1/6/1953).

كما يشترط أن يكون العرض والقبول صريحاً واضحاً سواء تم ذلك بالكلام أم بالكتابة أم بالحركات أم بالإشارات، وقد يكون ضمناً بشرط أن تدل ظروف الحال وتجزم بوقوعه من دون تأويل أو التباس.
كما يشترط أن تكون إرادة كل من الطرفين حرة لا يشوبها غلط أو إكراه، وأن يكون العرض والقبول جدياً، بعيداً عن الهزل والخيال، فإذا كانت النية غير حقيقية انتفى الجرم (نقض سوري في 19/5/1964).

هـ – العنصر المعنوي: الرشوة من الجرائم المقصودة التي يتطلب فيها القانون توافر القصد الجزائي لدى المرتشي؛ أي الموظف العام، أما القصد الجرمي الذي يجب توافره بالنسبة إلى الراشي والمتدخل (الرائش)، فهو قصد الاشتراك في جريمة الرشوة وفق نظام وحدة الرشوة، ولما كان القصد الجرمي من العناصر التي يجب توافرها لقيام جريمة الرشوة، لذلك لا بد من تحديد نوع القصد الجرمي الواجب توافره في جريمة الرشوة، وهل هو قصد عام أم قصد خاص؟

(1) القصد الجرمي العام في جريمة الرشوة: القصد الجرمي العام يتطلب توافر عنصرين هما: الإرادة والعلم بجميع عناصر الفعل المادي المكون للجريمة كما وصفها القانون، ويتجه الرأي الغالب في الفقه إلى اعتبار القصد المتطلب لدى الموظف المرتشي حتى تقوم جريمة الرشوة قصداً عاماً لا خاصاً؛ إذ يكفي أن يطلب الموظف الفائدة أو يقبلها أو يقبل الوعد بها وهو عالم أنها مقابل لأداء عمل أو امتناع عن عمل بصورة مشروعة أو بصورة منافية لأداء العمل الوظيفي؛ حتى يعد مرتكباً لجريمة الرشوة،

لذلك فإن المشرع لا يعتد بالغاية من سلوك الجاني؛ وإنما بنية الاتجار في الوظيفة وهي تمثل علة التجريم، من دون تدخل في تكوينها القانوني، فقد تبين أن المشرع اكتفى بفعل الطلب الذي يصدر عن الموظف لتتحقق جريمة الرشوة المنصوص عليها في المادتين (341 و342) من قانون العقوبات السوري، فلم يشترط المشرع أن يقوم الموظف بالعمل أو الامتناع الذي تعهد به؛ لكن اتجاه إرادة الموظف إلى القيام بهذا العمل هي التي يمكن أن تشكل القصد الخاص في الرشوة، وهو ما لم يشترطه المشرع، حتى إن المشرع المصري قد نص على استحقاق الموظف للعقاب حتى لو قصد عدم القيام بالعمل أو الامتناع عن عمل أو الإخلال بالواجب الوظيفي، مما يؤكد اشتراط توافر القصد العام. أما المشرع السوري فلم يورد نصاً بهذا المعنى، ولكن الملاحظ أن إرادة المشرع السوري مماثلة لإرادة المشرع المصري بهذا الصدد؛

لأن المشرع السوري لم يشترط أداء العمل الذي تعهد به الموظف حتى تتم الجريمة؛ إذ إن الجريمة تتحقق بمجرد الطلب أو القبول، وقد قضي في مصر بأن القصد الجنائي في الرشوة يتوافر بمجرد علم المرتشي عند طلب الوعد أو العطية أو الفائدة أو قبولها أنه يفعل هذا لقاء القيام بعمل أو الامتناع عن عمل من أعمال الوظيفة؛ أو للإخلال بواجباتها؛ وأنه ثمن لاتجاره في وظيفته واستغلالها، ويستنتج هذا الركن من الظروف والملابسات التي صاحبت العمل أو الامتناع أو الإخلال بواجبات الوظيفة (نقض مصري – 20/6/1971 أحكام النقض س 22 ق 119)، كما جاء في اجتهاد آخر أن«الموظف الذي يخل بواجبات وظيفته مسؤول جنائياً حتى ولو لم توجد لديه نية الاتجار بها، لأنه يكفي مجرد استغلال الوظيفة للحصول على فائدة غير مشروعة من ورائها» (نقض مصري ، 19/3/1960 مجموعة أحكام النقض س11 قرار45).

(2) القصد الجرمي الخاص في جريمة الرشوة: رأى بعض الفقهاء اشتراط قصد خاص في جريمة الرشوة، يتمثل بتوافر نية الاتجار في الوظيفة أو نية استغلال الوظيفة، وهو انصراف العلم والإرادة إلى واقعة لا تدخل في عداد ماديات الجريمة، وطبقاً لهذا الرأي لا تقوم جريمة الرشوة إذا انتفت هذه النية لدى الموظف العام. ويستند أصحاب هذا الرأي في تأييد رأيهم إلى أن القانون لا يعاقب على مجرد تلقي الفائدة؛ وإنما باعتباره مقابلاً للعمل الوظيفي، فضلاً عن أن المشرع تدخل لتقرير العقاب مقابل ما سيقوم به الموظف، وفضلاً عن أن المشرع تدخل لتقرير العقاب حتى لو قصد الموظف عدم القيام بالعمل الوظيفي أو الامتناع عنه، وهذا التدخل يقتضي التسليم بأن الرشوة في تقدير القانون من جرائم القصد الخاص، وذلك يعني أن الموظف الذي لا ينوي تنفيذ العمل الوظيفي الذي تلقى الرشوة بسببه لا تتوافر لديه نية الاتجار، مما يؤدي إلى إفلاته من العقاب.

ولكن من الملاحظ أنه لئن كان يكفي توافر القصد الجرمي العام في جريمة الرشوة وفق قانون العقوبات السوري العام؛ فإنه يجب توافر القصد الجرمي الخاص لدى المرتشي وفق أحكام المادة (25 ف2) من قانون العقوبات الاقتصادية، حيث نصت على ما يلي: «وتكون العقوبة الأشغال الشاقة لمدة لا تقل عن خمس سنوات، إذا كان الفاعل يقصد الإضرار بالدولة أو مراعاة فريق إضراراً بالفريق الآخر، أو كان الفاعل يقصد من الإهمال أو التأخير حمل الغير على عرض أو تقديم الهدية أو المنفعة أو الوعد بأحدهما. لذلك فإنه بموجب حكم هذه المادة يجب أن يكون قصد المرتشي قصداً خاصاً ينصب على الإضرار بالدولة، أو أن يراعي فريقاً إضراراً بالفريق الآخر، أو أن يهمل أو يؤخر ما يتوجب عمله ليحمل الغير على عرض الهدية أو المنفعة أو أن يعده بأحدهما، إضافة إلى توافر القصد العام الواجب توافره في جرائم الرشوة على وجه العموم».

وقد أكدت محكمة النقض السورية وجوب توافر القصد الجرمي الخاص، وهو قصد التأثير في الاقتصاد القومي بشأن جرائم الرشوة المنطبق عليها أحكام المادة (25) من قانون العقوبات الاقتصادية رقم (37) لعام 1966؛ إذ ورد في الاجتهاد ما نصه «يجب النظر في جرم الرشوة الذي يرتكبه موظف الجمارك إلى القصد والنية لمعرفة مدى تشكيله للجريمة الاقتصادية، وانطباق قانون العقوبات الاقتصادية عليه» (نقض سوري، الدائرة الجزائية رقم 90 تاريخ 4/6/1967 مجلة القانون، 1967، العدد السابع، ص677).

يقوم هذا القصد ويرتكز على نية الفاعل، وفيه تستوي لدى المرتشي والراشي النظرة إلى المنفعة لهما، وهي المتاجرة في الوظيفة واستثمارها، ولا يعتد بالدافع الجرمي في الرشوة حتى لو كان الغرض منه شريفاً، ويشترط أن يترافق القصد الجرمي الخاص بالمواصفات التاليـة:
× أن يكون واقعاً وقت التماس المنفعة أو قبوله.
× أن يكون مبنياً على صدق إرادة الفريقين.
× ألا يشوبه خطأ أو إكراه.
× أن يكون متبادلاً بحيث يحقق هدفاً واحداً.

وقد عد الاجتهاد القضائي أن العنصر المعنوي يكون معدوماً في الحالات التالية:
v أن يكون الموظف قد نال المنفعة من دون علمه بأن القصد في تقديمها له هو رشوة ليقوم بالعمل المقصود من صاحب المصلحة، ولكن في الواقع هذه حالة نادرة.
v أن يكون الموظف قد نال المنفعة وقبلها، وهو قاصد في قرارة نفسه عدم تنفيذ الغرض الذي رمى إليه صاحب المصلحة، وهذه الحالة محل تنازع في آراء الفقهاء.
v أن يكون الراشي قد تعمد من خلال عرضه المنفعة استدراج الموظف نحو الجريمة، تمكيناً لرجال الضابطة العدلية من القبض عليه، وهذه حالة منصوص عليها.

لذلك يتوجب توافق إرادتي الفريقين في نظام وحدة الفعل الجرمي بآن واحد، وبصورة عفوية، فلو توافر القصد الجرمي لدى أحد الطرفين وحده، فإنه يعد مرتكب الجريمة وحده دون الآخر، ولا أثر للندم اللاحق؛ إذ تعد الجريمة واقعة وتامة ولو أراد أحد الفريقين أو كلاهما- قبل تحقق الجرم عملياً- بمحاولة إيقاف الرشوة، أو إعادة المبلغ، أو قيام الموظف بإبلاغ السلطة؛ إذ إن الجرم يصبح نافذاً عند التقاء الإرادتين، ولا أثر للتصرف اللاحق.

ن- الصور الخاصة بجريمة الرشوة: استكمالاً لبحث صور جريمة الرشوة لابد من عرض بعض الصور الخاصة لجريمة الرشوة على النحو التالي:
(1) جريمة عرض الرشوة: نصت المادة (345) من قانون العقوبات السوري على ما يلي: «من عرض على شخص من الأشخاص الوارد ذكرهم في المادة (341) هدية أو أية منفعة أخرى أو وعده بها على سبيل أجر غير واجب ليعمل أولا يعمل عملاً من أعمال وظيفته أو ليؤخر تنفيذه؛ عوقب إذا لم يلاقِ العرض أو الوعد قبولاً بالحبس ثلاثة أشهر على الأقل وبغرامة لا تنقص عن ضعفي الشيء المعروض».

يستنتج من هذه المادة أن هذه الجريمة خاصة بصاحب المصلحة – الراشي فقط – وفيها يعدُّ الفاعل الأصلي والوحيد من دون مشاركة الموظف الذي يكون موقفه سلبياً، ولا يلاحق جزائياً، وغاية المشرع هو تعقب جميع الأشخاص الذين يسعون إلى إرشاء الموظفين العموميين بوسيلة ما ومعاقبتهم حفاظاً على كرامة الموظفين؛ ولمنع زعزعة الثقة العامة بهم، لذلك يمكن تصنيف جرائم الراشي الخاصة في ثلاثة: اثنتان تم ذكرهما سابقاً، وهما:

أ- جريمة التماس الموظف منفعة مادية ما، وقبول الراشي هذا الالتماس.
ب- جريمة عرض الراشي على الموظف منفعة معينة لقاء عمل مطلوب، وقبول المرتشي ذلك.
والجريمة الثالثة موضوع هذه الصورة، وهي: جريمة عرض الراشي هدية أو عطية على الموظف المعني، من دون أن يلقى العرض قبولاً.

ولتحقق هذه الجريمة يشترط توافر العناصر ذاتها التي تؤلف جريمة الرشوة الأصلية، ولكن بالنسبة إلى الراشي فقط، وتعد هذه العناصر بمنزلة الإطار الخاص للصورة العادية التي تنطبق عليها الحالة الحاضرة المعنية، وإن كانت نادرة الوقوع.

وينتج من ذلك وجود اختلاف بين الجريمة المنصوص عليها بالمادة (345) من قانون العقوبات وبين الجريمة المعرَّفة في المادتين (341 و342) والتي سبق وذكرت آنفاً، وقد بين الاجتهاد القضائي السوري ذلك فقد جاء في قرار محكمة النقض «إن عرض الرشوة ينطبق على أحكام المادة 345 من قانون العقوبات، ويعتبر من نوع الجنحة على كل حال، سواء كانت الرشوة ذات وصف جنحوي وفي سبيل عمل شريف من أفعال الوظيفة وفقاً للمادة 341 أو كانت ذات وصف جنائي، وفي سبيل عمل منافٍ للوظيفة وفقاً للمادة 342 من هذا القانون»(نقض سوري في 19/5/1964).

(2) جريمة القبول بأجر غير واجب: وردت المادة (346) من قانون العقوبات السوري مبينة جريمة ارتشاء الموظف بصورة مختلفة عما سبقها؛ إذ نصت على أن: «كل شخص من الأشخاص المشار إليهم في المادة (341) يقبل بأجر غير واجب عن عمل سبق إجراؤه من أعمال وظيفته أو مهمته؛ يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة أقلها ضعفا قيمة ما قبل به».

وتتحقق هذه الجريمة بتوافر الأركان الأساسية التالية:
أ- إتمام القبول اللاحق من ناحية الموظف بأجر عن عمل سبق له أن قام به مع إخفاء الاتفاق المسبق على ذلك، وهذه الحالة مغايرة لحالة الاتفاق على أجر مسبق؛ لأنه في هذه الحالة تُطبق نصوص المواد (341 و342) من قانون العقوبات، والسبب في تجريم هذا الفعل هو أن كثيراً من الناس يعد أن دفع المكافأة اللاحقة للموظف لا يشكل جريمة، وإنما يعدونها من قبيل العرفان بالجميل الذي أسداه الموظف إليهم، وخاصة أنه عندما أدى تلك الخدمة لهم لم يشترط عليهم أداءه مقابل هدية أو عطية معينة، وبالتالي يقدمونها لهم عن رضا وطيب خاطر، ولكن هؤلاء الناس لا يدركون أنهم بمثل تلك الأفعال يتسببون بتدني كرامة الوظيفة العامة والموظف، ويضعه في منزلة من يأخذ الإكراميات مقابل أداء العمل الذي تم الاستفادة منه، وتجعل الموظف غير بعيد أبداً عن الرشوة عندما يجد أن ذلك العمل الوظيفي هو طريقة للإثراء.

ب- وجوب توافر صفة الموظف العام أو من في حكمه في مرتكب هذه الجريمة ممن عددتهم المادة (341)من قانون العقوبات وفق الضوابط ذاتها التي سبق ورودها في معرض بحث جريمة الرشوة، مما يتعين أن يكون الموظف مختصاً بالعمل أو الامتناع الذي صدر عنه.

ج- وجوب توافر القصد الجرمي الذي يفترض علم فاعلها بأنه موظف عام؛ وأنه مختص بالعمل الذي قام به؛ والذي بسببه قُدمت له مكافأة من صاحب المصلحة، وبالتالي ينتفي القصد الجرمي إذا انتفى العلم، ونتيجة لذلك لا تتحقق الجريمة، كما لو قدمت الهدية أو العطية لغاية أخرى في نفس مقدمها وقابلها على حد سواء؛ كأن تكون اعترافاً بالجميل وإظهاراً للتقدير والإعجاب على نحو يحفز الهمم، ومثاله على ذلك لا توجد جريمة في حق سائق قطار، منحه الركاب قلادة أو هدية؛ لأنه كان على مهارة فائقة في القيادة أنقذت حياتهم من كارثة شبه محققة.

بقي أخيراً ذكر أن عقوبة مرتكب هذه الجريمة وفق قانون العقوبات السوري هي الحبس من شهر إلى سنة وغرامة أقلها ضعفا قيمة ما قبل به، وبالتالي فالعقوبة تعد جنحوية الوصف، كما يجوز الحكم بمصادرة قيمة المكافأة التي قدمها صاحب المصلحة إلى الموظف العام حسب أحكام المادة (69) من قانون العقوبات باعتبارها عقوبة إضافية.

أما بالنسبة إلى صاحب المصلحة المؤداة والذي قام بتقديم تلك المكافأة للموظف فلم يقرر المشرع له أي عقوبة خاصة، وبالتالي يعاقب بالعقوبة ذاتها المقررة للموظف، باعتباره شريكاً له في هذه الجريمة وفق القواعد العامة للاشتراك، ولكن هنا يتبادر إلى الذهن سؤال ملح ألا وهو حكم صاحب المصلحة الذي قدم المكافأة للموظف ولكن هذا الأخير قام برفضها؟ بعضهم يرى أن هذا الفعل هو كجريمة عرض الرشوة، وذلك وفق أحكام المادة (345) من قانون العقوبات السوري، في حين ذهب فريق آخر – وهو في حقيقة الأمر الأقرب إلى الصواب – إلى أنه لا عقوبة على صاحب المصلحة ذي العرض الخائب، ولا يمكن القياس على جريمة عرض الرشوة لأنها استثناء؛ والاستثناء لا يقاس عليه.

(3) الرشوة في القطاع الخاص: من المعروف أن العلاقات التي تنشأ بحكم العمل أو المصلحة الخاصة بين العامل وبين رب العمل في القطاع الخاص تنشئ نوعاً من العلاقة أو الرابطة المشتركة المبنية على أساس الثقة المتبادلة، وتفرض وجود نظام مهني لا يجوز للعمال الشذوذ عنه أو مخالفته منعاً من اختلال التوازن.
ويعدّ التشريع المصري أول قانون في الدول العربية تبنى نظام معاقبة الرشوة في القطاع الخاص، ولكن من حيث الجودة نال التشريع المغربي لقب أفضل القوانين الجزائية في العالم، وجاء القانون اللبناني وأورد هذا الموضوع في المادة (354) من قانون العقوبات والتي نصت على: «كل عامل في القطاع الخاص، مستخدماً أكان أم خبيراً أم مستشاراً، وكل من ارتبط مع صاحب عمل بعقد استخدام لقاء أجر، التمس أو قبل لنفسه أو لغيره، هدية أو وعداً أو أي منفعة أخرى، لكشف أسرار أو معلومات تسيء إلى العمل أو للقيام بعمل أو للامتناع عنه، بقصد إلحاق الضرر المادي أو المعنوي بصاحب أو بصالح العمل، يُعاقب… وتنزل العقوبة نفسها بالراشي».

أما القانون السوري فقد أغفل هذا الموضوع، وحبذا لو أنه أورده لما له من أهمية نظراً لعوامل الرواج والازدهار في أشياء بعض المهن وأسرارها؛ والمصالح الآخذة في الازدياد، والتي تمكن المستخدمين من الاستفادة غير المشروعة باعتماد الطرق الملتوية؛ لنيل أطماعهم المالية على حساب رب العمل عن طريق إيصال المشاريع والالتزامات والمقاولات التي تقوم بها بعض مكاتب الأعمال الإنشائية إلى مكاتب أخرى، مما يسبب المزاحمة والمنافسة بين المكاتب ضد بعضها؛ ولأن ذلك الموظف الخاص قد يكون هو الوحيد الذي اطلع على بعض الأعمال بحكم عمله؛ مع ملاحظة أن لبعض المؤسسات الفردية أهمية تساوي من حيث طبيعتها مؤسسات الدولة؛ وأحياناً قد تكون أهم منها في بعض بلدان العالم المتحضر والمتقدم.

أما عناصر هذه الجريمة فهي على سبيل الإيجاز:
(أ) صفة الشخص المرتشي: هذا العنصر يتوزع في ثلاثة اتجاهات:
× اتجاه موسع: يرى أن تعداد الأشخاص العاملين ورد في النصوص القانونية على سبيل المثال لا الحصر، وبالتالي فإن كل شخص يعمل لدى الغير بغض النظر عن صفته وعن طبيعة علاقته برب العمل.

× اتجاه مضيق: وفيه يطالب أصحاب هذا الاتجاه التقيد الحرفي بنصوص القوانين في معرض تعدادها للأشخاص الذين تربطهم علاقة واضحة برب العمل والاستناد إلى ما يقرره الاجتهاد القضائي كضابط شرعي لصفة العامل، وتحديداً العاملين المختصين.

× اتجاه وسطي: سلك طريقاً وسطاً بين الاتجاهين السابقين آخذاً بعين الاعتبار الأشخاص الذين يعملون في مؤسسات خاصة أضفي على عملها الطابع الرسمي؛ لأنها تقوم بخدمة عامة مثل شركات استثمار الكهرباء والمياه… إلخ، وأشخاصاً يعملون في مؤسسات شبه رسمية، وأشخاصاً تسهل لهم مهمتهم لدى الغير تزويد الآخرين بمعلومات عن المؤسسات التي يعملون فيها.

(ب) وسائل الرشوة: إضافة إلى الوسائل المعتبرة في القطاع العام والموجودة ذاتها في القطاع الخاص؛ هناك وسائل خاصة تتفرد بها حالة الارتشاء في القطاع الخاص، كأن يحتفظ العطاء من الراشي إلى المرتشي بالسرية التامة، وأن يكون سابقاً لتسليم السر وعلى الأقل الأكثر قرباً من العمل أو الامتناع المطلوبين.

(ج) العطاء أو الوعد: يتشابه هذا العنصر بصورة كلية مع العنصر الموجود في رشوة الموظفين العموميين.
(د) العنصر المعنوي: يُكتفى بإدراك الفاعل وعلمه بأنه يقوم بنشاط مخالف للقانون؛ مع إدراكه الكامل بالمنفعة التي يحققها للغير وبالضرر الذي يُلحِقه برب عمله، وبالتالي يجب توافر القصد الجرمي العام من دون الاعتداد بالقصد الخاص أو الدافع وراء هذا الفعل.

(و) عقوبة جريمة الرشوة:
1- عقوبة المرتشي: نص المشرع في المادة (341) من قانون العقوبات السوري على عقاب الموظف المرتشي بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات، وبغرامة أقلها ضعفا قيمة ما أخذ أو قبل به، وهذه العقوبة الجنحيةتفرض على الموظف المرتشي عندما يطلب أو يقبل الرشوة ليقوم بعمل شرعي من أعمال وظيفته. لكن المشرع عندما يجد الفعل على درجة عالية من الخطورة؛ فإنه يفرض على الجرم عقوبة أشد وهو ما نصت عليهاالمادة (342) من قانون العقوبات، حيث جعلت العقوبة جنائية، جزاؤها الأشغال الشاقة المؤقتة وغرامة لا تنقص عن ثلاثة أضعاف قيمة ما أخذ أو قبل به، إذا كان العمل الذي تعهد الموظف القيام به مقابل الرشوة منافياً للوظيفة، أو إذا ادعى أن العمل داخل في وظيفته، أو إذا طلب الرشوة أو قبلها أو قبل الوعد بها؛ ليهمل أو يؤخر ما كان عمله واجباً عليه. فإذا تحققت إحدى هذه الحالات كانت العقوبة مشددة؛ لأن ارتكاب الموظف لجريمته وفق إحدى هذه الحالات يدل على استهتاره بوظيفته وتأصل النزعة الجرمية في كيانه.

كما أن المشرع قد نص على تشديد عقوبة جريمة الرشوة في المادة (25) من قانون العقوبات الاقتصادية، حيث نصت الفقرة الأولى من هذه المادة على أنه: «يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة من يعمل في الدولة ويلتمس أو يقبل هدية أو منفعة أو وعداً بأحدهما لنفسه أو لغيره ليقوم بعمل من أعمال وظيفته أو ليعمل عملاً منافياً لوظيفته أو يدعي أنه داخل في وظيفته أو يهمل أو يؤخر ما كان عمله واجباً عليه».

ويتبين أن هذه المادة قد جمعت حكم المادتين (341 و342) من قانون العقوبات العام وعاقبت عليها بالأشغال الشاقة المؤقتة، في حين أن العقوبة المفروضة في المادة (341) جنحوية الوصف، أما العقوبة المفروضة في المادة (342) من قانون العقوبات العام فهي جنائية الوصف، وهذا يعد تناقضاً بين القانونين من دون مبرر.

كما أن الفقرة الثانية من المادة (25) من قانون العقوبات الاقتصادية قد شدّدت العقوبة، وجعلتها لا تقل عن خمس سنوات إذا كان الفاعل يقصد الإضرار بالدولة أو مراعاة فريق إضراراً بالفريق الآخر، أو كان الفاعل يقصد من الإهمال أو التأخير حمل الغير على عرض أو تقديم الهدية أو المنفعة أو الوعد بأحدهما. ومن هذا النص يتضح أنه يحدد ثلاث حالات، فإذا ما توافرت إحداها فإن الموظف يستحق العقاب الذي نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (25) من قانون العقوبات الاقتصادية،

وهي الأشغال الشاقة مدة لا تقل عن خمس سنوات، إضافة إلى الغرامة المنصوص عليها بالمادة (33) من القانون نفسه، وهي غرامة قدرها ضعفا الضرر الحاصل، وتجدر الإشارة إلى أنه إذا ما ارتكب موظف جرماً ينطبق عليه الوصف ذاته ويعاقب بنص مادتين؛ فيعاقب بالعقوبة الأشد وفق أحكام المادة (204/1) من قانون العقوبات العام، أو بالجمع بين العقوبات المحكوم بها وفق نص المادة (204/2) من قانون العقوبات العام.

وبالنظر إلى عقوبة الغرامة المنصوص عليها في المواد (341) وما يليها من قانون العقوبات؛ يتضح أنها بينت الحد الأدنى الواجب الحكم به، أما الحد الأعلى فلم يعينه القانون، وقد تركه لرأي المحكمة من دون التقيد بقيمة ما أخذ أو قبل، وقد جاء الاجتهاد القضائي السوري مبيناً ما ورد بالنصوص المذكورة: «إن المادة (342)من قانون العقوبات نصت على أن: «كل شخص من الأشخاص السابق ذكرهم التمس أو قبل… عوقب بالأشغال الشاقة المؤقتة وبغرامة لا تنقص عن ثلاثة أضعاف قيمة ما أخذ أو قبل به»، وكان يفهم من نص المادة بأن الحد الأدنى الواجب الحكم به بالغرامة يقتضي أن لا تنقص عن ثلاثة أضعاف قيمة ما أخذ أو قبل به، أما الحد الأعلى فلم يعينه القانون، وقد تركه لرأي المحكمة التي لها أن تحكم بالغرامة وفقاً لما يتراءى لها من ظروف الدعوى وملابساتها دون أن تتقيد بقيمة ما أخذ أو قبل إلا فيما يتعلق بالحد الأدنى للغرامة التي ستحكم بها، أما إذا أرادت الخـــــــــــــــــروج عن هذا الحـــــــــــــــــد فهي ليست مقيدة بقيمة المأخوذ أو المقبول»(جناية 386 قـــــــــــــــــرار 271 تاريــــــــــــــــــــخ 22/4/1961).

وقد جاء في اجتهاد آخر: «إن المادة 345 من قانون العقوبات تنص على أن لا تنقص الغرامة عن ضعفي قيمة الشيء المعروض دون أن تحدد منتهاها وإنما تركت ذلك لتقدير قضاة الموضوع» (جناية 322 قرار192 تاريخ 15/2/1967).

2- عقوبة الراشي: إن العقوبات المفروضة على الراشي نص عليها قانـــــــــــــــون العقوبات في المادة (343)التي جعلت العقوبات المنصوص عليها في المادتين (341 و342) تنزل أيضاً بالراشي. وهي على نوعين أيضاً تبعاً لطبيعة العمل أو الغرض الذي دفعت الرشوة من أجله، وبذلك ساوى المشرع بين عقوبة الراشي والمرتشي سواء من حيث الحبس أم الغرامة.

3- عقوبة المتدخل في جريمة الرشوة: نص المشرع السوري صراحة على عقاب المتدخل في جريمة الرشوة كما فعل بالنسبة إلى المرتشي والراشي، بخلاف المشرع المصري الذي نص على عقابه بنصوص خاصة، الأمر الذي يقتضي إعمال القواعد العامة للمتدخل، فإذا كان العمل الوظيفي الذي تدخل به الوسيط (الرائش) مشروعاً؛ فإنه يستحق نصف العقوبة المفروضة في المادة (341) من قانون العقوبات وفق قواعد التدخل العامة المنصوص عليها في المادة (219/2) من قانون العقوبات إذا كان تدخله ثانوياً.

أما إذا كان تدخل الرائش بين المرتشي والراشي من أجـــــــــــــــل أن يقوم المرتشي بأداء عمل منافٍ لواجبات الوظيفة؛ فإن عقوبته تكــــــــــــــون نصف العقوبة المقررة في المادة (342) من قانون العقوبات، وفق قواعد التدخل الواردة في المادة (219/2) أيضاً، ولكن إذا كان دور المتدخل رئيسياً، إذ لولا مساعدته ما ارتكبت الجريمة؛ فإنه يعاقب بعقوبة الفاعل الأصلي أو الشريك نفسها، أي كما لو كان هو نفسه الفاعل. أما في حالة جريمة عرض رشوة لم تلقَ قبولاً – المنصوص عليها بالمادة (345) من قانون العقوبات – فإن المتدخل يعاقب بمثل عقاب صاحب المصلحة؛ عارض الرشوة، أو بنصف عقوبته المقررة بالمادة (345) المذكورة حسب درجة تدخله.
(ي)- الإعفاء من عقوبة جريمة الرشوة: قام المشرع السوري بإعفاء الراشي والمتدخل من العقاب إذا باحوا للسلطة ذات الصلاحية بالأمر، أو قاموا بالاعتراف قبل إحالة القضية إلى القضاء بحسب ما ورد في المادة (344) من قانون العقوبات، والغاية التي أرادها المشرع من ذلك هي حمل الراشي على كشف الرشوة وتوفير الدليل عليها، وذلك لأنه من الصعوبة بمكان إثبات وجود اتفاق بين طرفين إذا بقي هذا الاتفاق سراً؛ لأن المشرع قصد من خلال هذه المادة منح الراشي الإعفاء من العقوبة المقررة على سبيل المكافأة لتحفيزه وتشجيعه على الإقرار بذلك، وهنا لابد من تقسيم الإعفاء إلى قسمين يتناولان الراشي والمتدخل كلاً على حدة.

(1) إعفاء الراشي من العقوبة: نص المشرع السوري في قانون العقوبات وتحديداً في المادة (344) على إعفاء الراشي من العقاب إذا باح بالأمر للسلطات ذات الصلاحية، أو اعترف به قبل إحالة القضية إلى المحكمة؛ مكافأة له على الخدمة التي قدمها للمجتمع من خلال اعترافه بما ارتكبه من جرم، وأيضاً كان للمشرع من وراء ذلك غاية أخرى تتمثل بنشر حالة من الريبة وانعدام الثقة بين الراشي والمرتشي، مما يؤدي إلى رفض تلك الرشوة من قبل الموظف المتردد؛ لأن المشرع أيضاً لم يفتح باب الإعفاء أمام المرتشي لأنه ليس أهلاً للمسامحة بعد أن أساء أمانة الوظيفة الملقاة على عاتقه، واستهتر بواجباتها.

والملاحظ أن القانون قد علّق الإعفاء على البوح بالجريمة أو الاعتراف بها، وبالتالي يكون البوح عن طريق إخبار النيابة وتحريكها بجرم الرشوة، أما الاعتراف فيكون في الأصل بعد كشف جريمة الرشوة، وفي أثناء التحقيق بها بحيث يؤدي إلى كشف الجريمة واكتشاف أطرافها على نحو مطابق تماماً للوقائع كما حصلت حقيقة من دون إيهام أو تضليل.

ويمكن إيجاز ذلك باختصار وذلك بالقول: إنه يجب أن يتوافر في الاعتراف شرطان: الإخلاص والتفصيل. وفي هذا الصدد ورد اجتهاد لمحكمة النقض السورية يوجب على القاضي إعفاء الراشي من العقاب في حال اعترافه من دون أن يناقش بالأمر حيث قالت: «إن المادة (20) من قانون العقوبات قد نصت على تطبيق القانون السوري على الجرائم التي يرتكبها السوريون خارج الأراضي السورية، كما أن المادة (344) من القانون نفسه قد نصت على إعفاء الراشي من العقوبة إذا باح بالأمر أو اعترف به قبل إحالة القضية إلى المحكمة، وقد اعترف المدعى عليه بتقديم الرشوة إلى الجنود الأتراك في الأراضي التركية أمام قاضي التحقيق، وقبل إحالة القضية على المحكمة وبما أن الجرم عبارة عن ارتكاب عمل ممنوع بالقانون تحت طائلة العقاب، ومؤدى ذلك أنه لا جرم بدون عقوبة محددة في نفس القانون، فإذا أعفى المشرع مرتكب إحدى الجرائم من العقاب فمعنى ذلك أن هذا الفعل غير مؤثَّم في نظره، وقد زالت عنه الصفة الجرمية ولا حاجة إلى إحالته إلى المحكمة ذات الاختصاص.

وإن إعفاء الراشي في حالة اعترافه من عمل القانون نفسه ولا يستطيع القاضي أن يقدر هذا الظرف أو يناقش فيه؛ بل عليه أن يقرر منع المحاكمة إذا كانت القضية لا تزال في دور التحقيق؛ أو يقرر عدم مسؤوليته إذا كانت الدعوى أمام المحكمة في حالة اعتراف سابق لإحالتها» (جناية 480 قرار470 تاريخ 27/6/1964).

وجاء أيضاً في اجتهاد آخر يوضح أن الإعفاء من العقاب في حال الاعتراف لا يطبق إذا بقيت الجريمة في حالة الشروع فقد ورد: «إن الشارع قصد من وضعه المادة (344) من قانون العقوبات التي نصت على إعفاء الراشي والوسطاء من العقوبة هو تشجيعهم على مساعدة الدولة في إثبات الرشوة فيما لو أخبروا عن الجريمة أو اعترفوا بها… أما إذا ارتكب الراشي والوسيط جريمة الشروع في الرشوة فلا يكون الإخبار أو الاعتراف الصادر منهما أو من أحدهما سبباً في الإعفاء من العقوبة؛ لأن حكمة الإعفاء هي تسهيل كشف المرتشي والقبض عليه وتصبح متقدمة في هذه الحالة» (جنحة 3371 قرار 3122 تاريخ 10/12/1966).

(2) إعفاء المتدخل من العقوبة: إن المشرع عندما أعفى الراشي من العقوبة أعفى معه أيضاً المتدخل إذا باح بالأمر للسلطات المختصة أو اعترف به، وهنا لابد من توضيح أمر مهم، فالإعفاء الوارد في المادة (344) من قانون العقوبات لا يثير أي إشكال فيما لو كان المتدخل مندوباً من قبل الراشي، ولكن ما حكم المتدخل فيما لو كان مندوباً من قبل المرتشي؟

صراحة لم يشترط القانون في معرض نصه على الإعفاء بالنسبة إلى الراشي والمتدخل، وبالتالي يجب إعمال النص على إطلاقه، فالمتدخل يستفيد من الإعفاء بغض النظر عما إذا كان مندوباً من الراشي أو المرتشي، ولكن يجب التنويه بأن المشرع يعفي من العقاب في حال الاعتراف على جرم عرض الرشوة المنصوص عليه في المادة (345) من قانون العقوبات، فقد ورد في اجتهاد صريح لمحكمة النقض ما نصه: «إن نص المادتين (341-342) عقوبات يتعلق بالعقوبة المفروضة على المرتشي ونص المادة (343) التي بعدها تتعلق بتشميل العقوبة للراشي، ثم جاءت بعد ذلك المادة (344) فأعفته مع المتدخل من العقوبة إذا باحا بالأمر الذي هو دفع الرشوة مما يعلم منه أن المقصود من الإباحة المذكورة هي التي تقع بين الراشي والمتدخل في حالة قبول الرشوة من الجانب المدفوعة إليه، أما في حالة الامتناع والرفض المنصوص عنها في المادة (345) عقوبات فإن اعتراف الراشي غير مشمول به باعتبار أن الغاية من الإعفاء هي الوصول إلى معرفة المرتشين ومعاقبتهم واستئصال هذا المرض وجرثومه بالكلية، وهذا الأمر لا يتصور بالراشين الذين لم يقبل طلبهم والذين يهمهم قبوله ليسهل حالهم من مصلحة قد لا تخلو من ضرر، وقد يكون من مصلحتهم الخاصة الكتمان والحرص على إخفاء الوضع ليستطيعوا إعادة الكرة المرة بعد المرة» (جنحة 2219 قرار2255 تاريخ 30/10/1952).

كما ورد في اجتهاد آخر أن إعفاء الراشي المنصوص عليه في المادة (344) من قانون العقوبات مقصور على حالة قبول المرتشي الرشوة المعروضة عليه ولا يتعداه إلى حالة رفض الموظف قبول الرشوة فقد قالت محكمة النقض: «لما كانت المحكمة مصدرة الحكم المطعون فيه قد أوردت واقعة الدعوى وأوضحت أدلتها فاستثبتت ارتكاب الطاعن الجرم المسند إليه من اعترافه الصريح أمام النيابة العامة ومن أقوال الشاهد الذي قدمت إليه الرشوة فرفضها. ولما كان ما يثيره الطاعن من عدم توفر الأركان القانونية للرشوة بسبب اعترافه بها غير وارد؛ لأن إعفاء الراشي المنصوص عليه في المادة (344) عقوبات مقصور على حالة قبول المرتشي الرشوة المعروضة عليه ولا يتعداه إلى حالة رفض الموظف قبول الرشوة لأن الحكمة من الإعفاء في هذه الحالة تكون منعدمة، وقد استقر الاجتهاد على ذلك. هذا بالإضافة إلى أن المحكمة منحت الطاعن أسباب التخفيف التقديرية مما يجعل الحكم المطعون فيه مستكملاً أسبابه وموجباته القانونية فلا ترد عليه أقوال الطاعن» (أساس 1528 قرار 1454 تاريخ 19/6/1984).

بقي أن ذكر تساؤل أخير يرد في موضوع الإعفاء حول نطاق الإعفاء من العقوبات المنصوص عليها في المادة (344) من قانون العقوبات حيث إنه يقتصر على العقوبة السالبة للحرية والغرامة، ولا أثر له على المصادرة ذلك أن حيازة مقابل الرشوة هو مخالفة للنظام العام، وهذا الأمر هو ما استقر عليه الاجتهاد والفقه والقضاء، إلا أن جانباً من الفقه الجزائي يرى وجوب رد مقابل الرشوة إلى الراشي إن كان ذلك ممكناً من الناحية العملية وذلك لعدة أسباب:

1- الإعفاء يشمل كل عقاب والمصادرة عقوبة شأنها شأن غيرها من العقوبات.
2- إن رد مقابل الرشوة يشجع الراشي أكثر على الإبلاغ عن الجريمة؛ لأن ذلك يجعل له مصلحة مؤكدة بالكشف عن الجريمة لوجود احتمال استرداد الراشي لما دفعه.

3- إن رد مقابل الرشوة إلى الراشي له أثر كبير في الحد من انتشار هذه الجريمة الخطرة؛ لأن الموظف سوف يتردد قبل موافقته على قبول الرشوة؛ لأنه يوقن أنه من مصلحة الراشي الإبلاغ عنه حتى يعفى من العقاب ويسترد ما دفعه ويكون قد أنجز عمله من دون أن يكلفه ذلك أي شيء.

4- لا يوجد أي شيء يحول دون خروج المشرع على القواعد العامة التي تحكم المصادرة كعقوبة تكميلية بالنسبة إلى جريمة خطرة كجريمة الرشوة؛ إذا كان هذا الخروج يساعد على تسهيل كشف هذه الجريمة.