المسؤولية القانونية في تشريع قانون المحكمة الاتحادية
القاضي ناصر عمران الموسوي
يشكل مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية الذي جاء به الفقيه (مونتسكيو ) حالة تنظيمية لوظيفة الدولة حيث ابرزت علاقة جديدة بين هذه السلطات قائمة على اساس التوازن الا ان هذه العلاقة شهدت اختلالا ًواضحا لمصلحة السلطة التنفيذية في كثير من الانظمة السياسية بسبب الدور الذي تلعبه هذه السلطة في ادارتها التنفيذية للسياسات العامة للدولة ونهج ادارة الحكومة الا ان التطورات التاريخية تحدثت ان السلطة التشريعية وجدت لها قوانين وانظمة من خلال تعديلات دستورية واخذ دورها كسلطة مستقلة ترتبط بعلاقات متوازنة ورقابية مع السلطة التنفيذية وكل بحسب طبيعة النظام السياسي سواء اكان رئاسيا او برلمانيا.

ولم تكن السلطة القضائية بأحسن حالا ً فقد كانت هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء واضحه ولكن الامر لم يستمر فقد شهدت التطورات تحقيق القضاء لاستقلاليته عبر الدستور وقد نصت على ذلك الغالبية العظمى من دساتير العالم فقد نص الدستور العراقي الحالي في المادة(19) على أنَّ “القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون” كما نصت معظم الدساتير العربية على هذا المضمون ،والحقيقة ان ذلك لم يأت بشكل عفوي وانما كان نتيجة تأثير دولي وضع منظومته التشريعية عبر المنظمات الدولية فالاستقلال القضائي شرط مسبق لحكم القانون وضمانة أساسية لمحاكمة عادلة. لذلك على القاضي أن يدعم ويكون مثلاً أعلى للاستقلال القضائي في كل من وجهتيه الفردية والمؤسساتية على حد سواء” كما ينص إعلان(بانغلور) كما ان الإعلان العالمي لاستقلال العدالة والذي صدر عن مؤتمر مونتريال العام 1983، بشأن استقلالية القضاء لعام 1985 نص على ان تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية”.

كما ان للتغيرات الداخلية و ما شهده العراق من تطورات ساهمت في استقلالية القضاء عبر تبنيه النظام الديمقراطي المؤمن باستقلالية القضاء فقد أقر قانون الدولة العراقية الانتقالي العام 2003 مبدأ الفصل بين السلطات وإنشاء محكمة اتحادية عليا ا لمراقبة دستورية القوانين، كما تم إقرار ذلك في الدستور الدائم والذي نص في ا لمادة (92):

أولاً:- المحكمة الاتحادية العليا هيئةٌ قضائيةٌ مستقلة مالياً وإدارياً. وقد منحها اختصاصات ، وإذا كان مبدأ الفصل بين السلطات ركناً من أركان بناء الدولة فإنه أيضاً يشكل الصورة الحقيقية للديمقراطية و الضمانة الأولى للحفاظ على استقلالية واذا كان الدستور الدائم قد منح السلطة القضائية الاستقلالية في المادة (87)والتي تنص :السلطة القضائية مستقلة،وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفقاً للقانون وان قضاتها وطبقا لنص المادة (88) مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة . وكل ذلك معززة لنص المادة (47) من الدستور والتي تتبنى الفصل بين السلطات فان ما اثاره تشريع قانون المحكمة الاتحادية في مشروعها المقدم من رئاسة مجلس الوزراء الى مجلس النواب في دورته الحالية وما تلاه من قراءة اولى وما تمخض عن ذلك من رؤى وافكار ونقاشات برلمانية وسياسية وما تم طرحه من قبل المحكمة الاتحادية من ملاحظات على مشروع القانون فأننا نرى بان هناك ثوابت لابد من تحققها عند تشريع هذا القانون من اهمها المحافظة على استقلالية القضاء.

فقد حسم الدستور امر المحكمة وطبيعتها القانونية فنص على انها هيأة قضائية وان الرقابة على دستورية القوانين هي رقابة قضائية وزاد المشرع العراقي في منح المحكمة الاتحادية العليا صلاحيات اوسع من تلك الصلاحيات التي قررها الدستور الامريكي فقد اعطى المشرع الحق للمحكمة الاتحادية الغاء القوانين والقرارات والانظمة والتعليمات والقرارات الصادرة من اي جهة تمتلك حق اصدراها عندما ترى المحكمة الاتحادية انها غير دستورية في حين لا يتم الغاء ذلك وانما تمتنع المحاكم عن تطبيقه ويظل القانون قائما ً في القضاء الامريكي وهذه الاستقلالية لاتقف عند استقلاليتها في العمل القضائي فحسب وانما يجب ان ينسحب ذلك الى تعيين قضاة المحكمة الاتحادية عن طريق القضاة انفسهم واي تدخل في اختيار او ترشيح قضاة المحكمة من قبل السلطة التشريعية او التنفيذية او اي جهة اخرى هو انتهاك لاستقلالية القضاء ومبدا الفصل بين السلطات كما ان مشروع قانون المحكمة الاتحادية المنشور في موقع مجلس النواب تضمن تدخلا ً في العمل القضائي حين اعتبر خبراء الفقه الاسلامي وفقهاء القانون في القضايا المتعلقة بالدين وثوابت الديمقراطية جهات معطلة للحكم القضائي وتضمن المشروع خلطا واضحا ً بين تكوين المحكمة الاتحادية

والتي نصت عليها المادة 92/ثانياً:- تتكون المحكمة الاتحادية العليا، من عددٍ من القضاة، وخبراء في الفقه الإسلامي، وفقهاء القانون، يُحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانونٍ يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب. وبين تشكيل المحكمة ابان تصديها للدعوى واصدار قراراتها فالتشكيل عمل قضائي والتكوين عمل اداري.

فالمحاكم تتكون من مجموعة من الموظفين والمعاونين القضائيين والباحثيين الاجتماعيين والموظفين المختصين بوظائف ادارية وحسابية لكنهم لا علاقة لهم بتشكيل المحكمة واجراءات المرافعة وصولا الى القرار فالدستور حين نص على ان المحكمة الاتحادية تتكون من القضاة وخبراء في الفقه الاسلامي وفقهاء في القانون لا يعني تشكيل المحكمة والتصدي للإجراءات القضائية وصولا لإصدار القرار فالعمل برمته عمل قضائي بحت والتدخل في العمل القضائي يعتبر انتهاكا ً لاستقلالية القضاء ومبدا الفصل بين السلطات وان عبارة الخبراء الواردة في الدستور بالنسبة لخبراء الفقه الاسلامي وفقهاء القانون لا تعني البته انهم اعضاء في تشكيل المحكمة انما هم اعضاء في تكوين المحكمة بصفة خبراء ومفهوم الخبير وطبيعة عمله واضحة وهي تقديم الخبرة المطلوبة في القضايا التي تدخل ضمن اختصاص عملهم كفقهاء في الدين الاسلامي او فقهاء في القانون.

كما ان مشروع القانون تضمن عند اختيار اعضاء المحكمة الاتحادية مراعاة المكونات وهو نص لا ينسجم مع مفهوم المساواة بين المواطنين ويؤدي الى (المحاصصة ) وان مشروع القانون تضمن كذلك نصوص لا تنسجم مع النص الدستوري والرؤية الدستورية مثاله التباين في عدد خبراء الفقه الاسلامي وفقهاء القانون اضافة الى تعطيل الاحكام القضائية على موافقة هؤلاء الفقهاء في القضايا الخاصة بثوابت الاسلام والقضايا الخاصة بالحقوق والحريات واسس الديمقراطية ان المسؤولية القانونية تتطلب تشريع قانون للمحكمة الاتحادية يشكل هرمية قانونية مؤسسة لحكم القانون ودولة المؤسسات وضمانة حقيقية للحقوق والحريات وحماية الخصوصيات العقائدية والشخصية وذلك لا يتحقق الا من خلال استقلالية العمل القضائي وتجسيد الرقابة القضائية وقد قيل اذا كان الدستور هو روح الامه فان القضاء هو القيم على هذه الروح والضامن لكفالة الحقوق والحريات للمواطن والداعم لدولة القانون والمؤسسات .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت