توزيع وظائف الدولة كآلية لحماية الحريات
القانون الجنائي أنموذجاً
د. الهادي أبو حمرة
كلية القانون جامعة الفاتح

إذا تركنا الجدل الدائر في الفقه الدستوري بشأن تنظيم السلطة في ليبيا، وهل أن ذلك مبني على وحدة السلطة أو الفصل بين السلطات أوجماعية السلطة.

وحاولنا مناقشة ذلك في إطار التشريع الجنائي، فإننا نجد أن هناك، من حيث المبدأ، توزيعاً للوظائف وفصلاً فيما بينها. فبالرجوع إلى المبادئ الأساسية التي تحكم التشريع الجنائي، نجد أنه مبني على فكرتين أساسيتين: الفكرة الأولى تتمثل في كون الأصل في الأشياء الإباحة، ولا يمكن إخراج فعل من الإباحة وإدخاله في دائرة التجريم وفرض عقوبة توقع على مرتكبه إلا بتدخل أداة التشريع. ذلك لأن تنظيم الحريات والحقوق الذي يفضي إلى فرض قيود عليها هو وظيفة المشرع الذي يقع عليه واجب إيجاد قانون محدد ومعروف لما هو محظور إتيانه أو الامتناع عنه.

لذلك فإنه لاتجريم ولا عقاب إلا من قبل المشرع. والفكرة الثانية تتمثل في كون الإنسان ولد حراً مبرأًً من الخطيئة ودنس المعصية، وأنه يظل كذلك إلى أن يثبت العكس بأدلة جازمة بناءً على حكم قضائي صادر من محكمة مختصة. وبالتالي فإن إقرار الإدانة هو اختصاص القاضي فليس للقاضي سلطة إنشاء الجرائم والعقوبات، وليس للمشرع أن يتدخل في الوظيفة القضائية بإقرار الإدانة. كما أنه ليس لأداة التنفيذ الحد من الحريات الذي تحتكره أداة التشريع ولا إسقاط البراءة وتوقيع عقوبة جنائية لم يصدر بشأنها حكم قضائي.

وإذا كان الأمر كذلك ، فإن مبدأ الشرعية الجنائية وأصل البراءة يمثلان أساساً لتوزيع وظائف الدولة والفصل فيما بينها في التشريع الجنائي.

هذا التوزيع للوظائف وتحديد نطاق كل منها يمكن الوصول إليه بكل يسر وسهولة من خلال الاطلاع على الوثائق الدستورية والقوانين الأساسية الليبية والمبادئ العامة للقانون الجنائي التي تتناولها هذه الورقة.

في المقابل، فإنه من خلال الاطلاع على نصوص قانون العقوبات والإجراءات الجنائية والقوانين المكملة لهما، نجد أن هناك تداخلاً بين وظائف الدولة الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية).
حيث إن هناك نصوصاً قانونية تعطي لأداة التنفيذ دوراً في مجال إنشاء وتعديل القواعد الجنائية الموضوعية منها والإجرائية . كما أن هناك نصوصاً أخرى لا تتفق مع احتكار القاضي وظيفة إثبات الإدانة.

هذا التداخل في اختصاصات أداة التشريع وأداة التنفيذ والقضاء يمكن إيضاحه من خلال مناقشة مبدأ الشرعية الجنائية وأصل البراءة وذلك على النحو التالي:

المطلب الأول / مبدأ الشرعية الجنائية .
المطلب الثاني / أصل البراءة .
المطلب الأول :مبدأ الشرعية الجنائية
وفقاً لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات فإن خلق الجريمة والعقوبة من اختصاص أداة التشريع. فأية واقعة ضارة بمصالح المجتمع لا يمكن اعتبارها جريمة إلا بتدخل من المشرع. فما يعد جريمة وما لا يعد جريمة يرتبط بإرادة المشرع لا بالضرر الذي يترتب أو يمكن أن يترتب علي الفعل.

فالتجريم والعقاب وظيفة يتولاها المشرع بنفسه، وبالتالي ليس للمحاكم ملاحقة أفعال لم يجرمها المشرع وليس لها الحكم بعقوبة لم تحددها النصوص القانونية وإنما عليها أن تلتزم في تفسيرها وتطبيقها لنص التجريم والعقاب بما ورد فيه، وألاّ تطبقه على أفعال ارتكبت قبل دخوله حيز النفاذ وألا تخضع أفعالا أخرى للقياس عليه.”[1]”

كما أنه – وفقاً لهذا المبدأ – لا يكون مصدراً للتجريم والعقاب ما يصدر عن أداة التنفيذ ولا ما يقضي به العرف والدين مادامت أحكامهما لم تفرغ في نصوص تشريعية محددة ومضبوطة صادرة عن أداة التشريع”[2]”، تمكن الفرد من معرفة مقدار ما انتقص من حريته والحد الأعلى للعقوبة الذي يمكن أن يوقع عليه عند ارتكابه ما هو محظور قانوناً.

فكما يقول بكاريا…” القوانين التي يتولي إصدارها المشرع بنفسه الذي يمثل المجتمع بأسره بمقتضي العقد الاجتماعي هي وحدها التي يمكن أن تحدد عقوبات الجرائم” .”[3]”

هذا المبدأ وما يقتضيه من استئثار أداة التشريع بالتجريم والعقاب يشكل سياجاً لحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية لكونه يحميها من هوى الإدارة وتعسف القضاء. لذلك نص عليه الميثاق العالمي لحقوق الإنسان 1948 في الفقرة الثانية من المادة الحادية عشرة التي يجري نصها علي النحو التاليلا يدان أي شخص من جراء أداء عمل أو الامتناع عن أداء عمل إلا إذا كان ذلك يعتبر جرماً وفقاً للقانون الوطني أو الدولي وقت الارتكاب، كذلك لا توقع عليه عقوبة أشد من تلك التي كان يجوز توقيعها وقت ارتكاب الجريمة) .

كما ورد –أيضاً- في الفقرة الأولي من المادة الخامسة عشرة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966 التي نصت على أنهلا يدان أي فرد بأية جريمة بسبب فعل أو امتناع عن فعل لم يكن وقت ارتكابه يشكل جريمة بمقتضي القانون الوطني أو الدولي. كما لا يجوز فرض أية عقوبة أشد من تلك التي كانت سارية المفعول في الوقت الذي ارتكبت فيه الجريمة، وإذا حدث بعد ارتكاب الجريمة أن صدر قانون ينص على عقوبة أخف، وجب أن يستفيد مرتكب الجريمة من هذا التخفيف).

في المقابل ، فإن بعض الدساتير والقوانين الوطنية تضمنت تحويراً لمضمون مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات. فلم يعد هذا المبدأ يعني احتكار سلطة التشريع للتشريع في مجال التجريم والعقاب . بل أصبح يتضمن تقاسماً لسلطة التجريم والعقاب بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. ففي التشريع الفرنسي، بالرغم من أن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ورد مطلقاً بما يفيد اختصاص السلطة التشريعية وحدها بالتجريم والعقاب في إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789″[4]”.

إلا أن الدستور الفرنسي لسنة 1958 نص في مادته الرابعة والثلاثين على أن ما تختص به السلطة التشريعية دون غيرها في مجال التجريم والعقاب يقتصر على تحديد الجنايات والجنح والعقوبات المقررة بشأنها”[5]”.

وتطبيقاً لذلك جاء قانون العقوبات الفرنسي في مادته 3-111 ونص على أنهيحدد القانون الجنايات والجنح والعقوبات التي توقع على مرتكبيها، وتحدد اللائحة المخالفات والعقوبات التي توقع على مرتكبيها وفقاً للضوابط التي يحددها القانون)”[6]”.

وبالتالي فإن للسلطة التنفيذية في فرنسا فرض قيود على الحريات الفردية بشرط أن يكون ذلك في إطار الحدود التي رسمها المشرع (م 2-111)”[7]”. وهذا يعني أن مجال التجريم والعقاب أو بمعنى آخر مجال تنظيم الحريات هو مجال لا تعمل فيه السلطة التشريعية بشكل منفرد.

نفس الأمر نجده في التشريع المصري. فالسلطة التنفيذية في الجمهورية المصرية يمكن أن تتخذ قرارات لها قوة القانون (م 108/دستور مصري) وأن تصدر ما يسمي بلوائح الضرورة (م 147/دستور مصري) كما أن لها وفقاً لنص المادة 148من الدستور المصري إعلان حالة الطوارئ، مع كون الأوامر الصادرة تطبيقاً لقانون الطوارئ لها قوة القانون”[8]”.

كما أن الدستور المصري في مادته السادسة والستين نص على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات بالكيفية التالية لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون) الأمر الذي فسرته المحكمة الدستورية العليا المصرية على النحو التاليالمقصود بعبارة بناءً على قانون التي وردت في المادة 66 من الدستور هو توكيد ما جرى عليه العمل في التشريع من أن يتضمن القانون ذاته تفويضاً إلي السلطة التنفيذية المكلفة سن اللوائح في تحديد الجرائم وتقرير العقوبات مما مؤداه أن المادة 66 من الدستور تجيز أن يعهد القانون إلى السلطة التنفيذية بإصدار قرارات لائحية تحدد بها بعض جوانب التجريم و العقاب.

وذلك لاعتبارات تقدرها سلطة التشريع وفي الحدود والشروط التي يعينها القانون الصادر منها)”[9]” لذلك فإن التجريم والعقاب يمكن أن يكون مصدره المباشر القانون الصادر عن السلطة التشريعية أو اللوائح التي تصدرها السلطة التنفيذية متى كانت هذه اللائحة صادرة بناءً علي تفويض تشريعي، مما يعني أن السلطة التنفيذية يمكن أن تنوب عن السلطة التشريعية في فرض قيود علي الحريات والحقوق عن طريق خلقها للجرائم والعقوبات.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن مبدأ الشرعية في عدة تشريعات منها التشريعان الفرنسي والمصري لم يعد يعني احتكار المشرع للتجريم والعقاب.حيث أن السلطة التنفيذية تمتلك عن طريق إصدارها للوائح في حدود الضوابط التي يحددها المشرع معالجة مسائل قد تدخل في اختصاص المشرع وفقاً لمضمون مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي صاغه الفلاسفة بشكل يجعل من تنظيم الحريات مسألة يحتكرها المشرع.

بمعنى آخر، لم يعد المبدأ في هذه التشريعات يعني احتكار سلطة التشريع للتجريم والعقاب بقدر ما يعني منع تدخل السلطة التنفيذية من تلقاء نفسها وبغير تفويض تشريعي في مجال التجريم والعقاب.

لذلك فإن لدينا سلطة تشريعية رئيسية تختص بالتجريم والعقاب أصليةً وسلطة تشريعية فرعية تختص بالتجريم والعقاب في حالة التفويض التشريعي. فالتجريم والعقاب يمكن أن يكون مصدرهما التشريع العادي (القانون) أو التشريع الفرعي (اللائحة) أي أن هناك ما يمكن تسميته ثانية المصدر بالنسبة للتجريم والعقاب Dualité de Source “[10]”.هذا التوافق بين الدساتير وقانون العقوبات الموجود في تشريعات مقارنة لا نجده في التشريع الليبي. حيث إن هناك تباينا بين ما ورد في الوثائق الدستورية والقوانين الأساسية وما ورد في النصوص العقابية.

فوثيقة إعلان سلطة الشعب 1977 في بندها الثالث تنص على أن السلطة لصاحب السيادة وهو الشعب يمارسها دون وسيط ما يعني رفض فكرة التفويض التشريعي.

والقانون رقم(1) لسنة 1369 و.ر (2001) بشأن المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية، الذي هو قانون أساسي وفقاً لمادته الخامسة والخمسين”[11]”، نص في المادة الثانية منه على أن (تمارس المؤتمرات الشعبية الأساسية السلطة والحكم والرقابة بشكل مباشر، وتتولي تسيير شؤون الدولة والمجتمع وإصدار التشريعات اللازمة واتخاذ جميع القرارات التي تنظم شؤون حياتها وهي المرجعية السياسية الوحيدة في ذلك، ولها في سبيل ذلك ما يأتي:

1. وضع السياسات العامة وإصدار القوانين في مختلف المجالات ….).

وإذا كانت المؤتمرات الشعبية الأساسية هي أداة التشريع الوحيدة التي تنفرد بالتشريع انفراداً مطلقاً في جميع المجالات، فإنه لا وجود لسلطة تشريعية فرعية أي لا مجال للتفويض التشريعي . فأداة التنفيذ لا تمارس أي دور تشريعي من شأنه إنشاء قاعدة قانونية.

وبالتالي فإن المختص بالتجريم والعقاب هو أداة التشريع (المؤتمرات الشعبية الأساسية) ولا مجال للقول بتقاسم سلطة التجريم والعقاب بين أداة التشريع وأداة التنفيذ، هذا الأمر يؤكده القانون رقم 1/1369عند بيانه اختصاص أداة التنفيذ (اللجان الشعبية). حيث إنه لم يعط لها إلا امكانية إصدار اللوائح التنفيذية واقتراح مشروعات القوانين (م 34). ومن المعروف أن اللوائح التنفيذية لا يمكن أن تضيف أو تعدل أو تلغي القانون الذي صدرت تنفيذاً له، ما يعني استبعاد أي دور إنشائي بشأنها.

لذلك فإن القانون رقم 1/1369 الذي أصدرته المؤتمرات الشعبية الأساسية باعتبارها سلطة تأسيسية وزع الاختصاصات بين أداة التشريع وأداة التنفيذ بشكل يفصل بين وظيفة كل من الأداتين، ويجعل تنظيم الحقوق والحريات وما يتضمنه من فرض قيود على الفرد اختصاصاً لأداة التشريع لا يقبل التنازل .

كون القانون هو المصدر الوحيد للحد من الحريات وإقرار العقوبات الجنائية يمكن فهمه من خلال قانون أساسي آخر هو قانون تعزيز الحرية رقم 20/1991ف الذي نص في مادته الرابعة عشرة على أنه(لا يجوز سلب أو تقييد حرية أي إنسان أو تفتيشه أو استجوابه إلا في حالة اتهامه بارتكاب فعل معاقب عليه قانوناً وبأمر من جهة قضائية مختصة وفي الأحوال والحدود المبينة قانوناً…)، ونص في مادته الخامسة والثلاثين على أنأحكام القانون أساسية، ولا يجوز أن يصدر ما يخالفها، ويعدل كل ما يتعارض معها من تشريعات).

وإذا كان الأمر كذلك، فإن أي تفويض تشريعي في مجال التجريم والعقاب يرد في القوانين العادية هو تفويض مجرد من أي أساس دستوري لا يتفق مع إعلان سلطة الشعب 1977 ومخالف لتوزيع وظائف الدولة الوارد في القانون الأساسي رقم1/1369 و.ر (2001) بشأن المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية .

أما إذا رجعنا إلى قانون العقوبات والقوانين المكملة له فإننا نجد الأمر مختلفاً. فأداة التشريع لا تحتكر التشريع في مجال التجريم والعقاب. حيث إن لأداة التنفيذ دوراً في ذلك أي أن انفراد أداة التشريع بالتشريع في مجال التجريم والعقاب هو انفراد نسبي .

فقانون العقوبات الذي نص على مبدأ الشرعية الموضوعية في مادته الأولى بقولهلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) والذي حدد النص مصدر التجريم والعقاب بكونه نصاً قانونياً في المادة الثانية منه التي تنص على أنهلا يعاقب على الجرائم إلا بمقتضي القانون المعمول به وقت ارتكابها) وفي المادة السابعة والثلاثين التي تنص على أنهلا تقرض التدابير الوقائية إلا بناء علي نص قانوني وفي حدود ذلك النص).

تضمن –في الوقت نفسه- نصوصاً تعطي لأداة التنفيذ دوراً في مجال التجريم والعقاب، ما يستبعد استئثار أداة التشريع بالتشريع في مجال تنظيم الحريات .

فهناك نصوص قانونية تعطي أداة التنفيذ إمكانية خلق الجريمة وتحديد العقوبة، وأخرى تعطيها إمكانية تكملة عناصر الجريمة أو تعديلها. والأمثلة علي ذلك كثيرة منها :
1. نصت المادة 507 ع.ل على أنهكل من خالف لوائح البوليس الصادرة من جهات الإدارة العامة أو البلدية أو المحلية يجازى بالعقوبات المقررة في تلك اللوائح بشرط ألاّ تزيد مدة الحبس على أسبوع والغرامة علي عشرة جنيهات، فإذا كانت العقوبة المقررة في اللائحة زائدة عن هذه الحدود وجب إنزالها إليها، فإذا كانت اللائحة لا تنص على عقوبة عوقب من يخالفها بغرامة لا تجاوز جنيهاً واحداً).

فالمادة 507 هي تفويض تشريعي صادر عن أداة التشريع لجهات الإدارة بإمكانية فرض قيود على الحريات العامة عن طريق إنشاء جرائم وإقرار عقوبات سالبة للحرية أو مالية بشأنها بشرط ألاّ تتجاوز الأولى أسبوعاً والثانية عشرة دنانير .

وبالتالي فإن إضفاء الصفة التجريمية على الأفعال لا يرتبط دائماً بإرادة المشرع. فجهة الإدارة –أيضاً- لها سلطة نقل فعل ما من الإباحة وإدخاله في دائرة التجريم.

2. نصت المادة السابعة من القانون رقم 23/1369و.ر بتعديل وإضافة بعض الأحكام للقانون رقم 7/1990 بشان المخدرات والمؤثرات العقلية على أنه: (ويجوز بقرار من أمين اللجنة الشعبية العامة للعدل والأمن العام إضافة مواد أو بيانات أخرى إلى الجداول المرفقة).

وبالتالي فإن الجداول المرفقة بالقانون المشار إليه المحددة للمخدرات والمؤثرات العقلية التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من القانون وعنصر من عناصر الجرائم الواردة بالقانون رقم 7/1990 يمكن أن تكون محلاً للتعديل بقرار إداري بالإضافة.

وفي حالة إضافة مادة للجدول رقم (1) الذي يحدد المخدرات أو الجدول رقم (2) الذي يحدد المؤثرات العقلية بقرار إداري فإن هذا القرار ينشئ جريمة، لأن أحكام القانون رقم 7/1990 وتعديلاته تسري بشأن هذه المادة المخدرة المضافة، وبالتالي تعتبر حيازتها أو إحرازها أو تصديرها أو جلبها أو زراعتها أو استخدامها أو التعامل بها بأية صورة من صور التعامل بقصد التعاطي أو الاتجار أو أي قصد آخر جريمة يعاقب عليها القانون بعقوبة قد تصل إلي الإعدام.

ولأن الأمر كذلك، فإن المادة السابعة من القانون رقم 23/1369 تعطي أمين العدل والأمن العام سلطة التوسيع في التجريم الوارد في القانون رقم 7/1990 وتعديلاته، وهذا ما يشكل تفويضاً تشريعياً يتجاوز حدود التفويض التشريعي بشأن المخالفات المنصوص عليها في المادة 507 ع.ل .

3. قد يتدخل المشرع لتجريم فعل ما دون أن يحدد كافة عناصر الجريمة مع تفويضه لجهة أخرى بتكملة القاعدة الجنائية. ومن ذلك ما ورد في المادة الأولى من القانون رقم 10/1369 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 13/1425 ميلادية بشأن إقامة حدي السرقة والحرابة التي نصت في فقرتها الثانية على أنه يشترط في السرقة المعاقب عليها حداً (أن يكون المال المسروق مملوكاً للغير ،وأن تبلغ قيمته نصاباً يصدر بتحديده قرار من المجلس الأعلى للهيئات القضائية).

وبالتالي فإنه لا يمكن الاكتفاء بما صدر عن أداة التشريع لمعرفة هل السرقة حدية أم تعزيرية ؟ حيث يجب الرجوع إلى ما يقرره المجلس الأعلى للهيئات القضائية للإجابة عن هذا السؤال.

وبما أن السرقة الحدية لا وجود لها إلا إذا بلغ المال المسروق النصاب، وبما أن النصاب يحدده المجلس الأعلى للهيئات القضائية، فإن للمجلس الأعلى للهيئات تحديد طبيعة الفعل المجرم والعقوبة المقررة له بنقله من التعزير إلى الحدود أو العكس وذلك بتحديد النصاب أولاً ثم بالتدخل لزيادته أو إنقاصه ثانياً.

بمعني آخر، كون فعل السرقة يخضع لقانون العقوبات أو للقانون رقم 13/1425 بشأن حدي السرقة والحرابة لا يرتبط بإدارة المشرع بل بإرادة المجلس الأعلى للهيئات القضائية .

4.هناك نصوص قانونية تحدد العقوبة وتحيل بشأن الجريمة إلى ما يصدر عن أداة التنفيذ، مع كون الأمر يتعلق بالجنح، مثل ذلك:

– المادة الثالثة من القانون رقم 4/ 1425 م بتجريم اقتصاد المضاربة التى تنص على أن :” … يعاقب على مخالفة أحكام هذا القانون والقرارات الصادرة تنفيذاً له بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف دينار.” .

– المادة 42 من القانون رقم 19/1369 بشأن إعادة تنظيم الجمعيات الأهلية التي تنص على أن:”يعاقب كل من ارتكب مخالفة أخرى لأحكام هذا القانون أو لائحته التنفيذية أو القرارات الصادرة بمقتضاه بغرامة لاتقل عن خمسمائة دينار.”.

– المادة 14 من القانون رقم 18/1428 بشأن تنظيم النقل البري التي تنص على أنه:”مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها أي قانون آخر، يعاقب بغرامة لا تقل عن خمسين ديناراً ولا تزيد على خمسمائة دينار كل من يخالف أحكام هذا القانون أو اللوائح الصادرة بمقتضاه.”.
وإذا كان هذا هو حال مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في التشريع الليبي فإن حال مبدأ الشرعية الإجرائية لا يختلف كثيراً عن ذلك.

فمبدأ الشرعية الإجرائية يعتبر ضمانة أساسية لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية لكونه يجعل من القانون المصدر الوحيد لإجراءات التحقيق والمحاكمة ولتحديد المحكمة المختصة. أي أن القانون هو الذي يحدد الإجراءات الجنائية منذ تحريك الدعوى الجنائية إلى حين صدور حكم بات فيها ويحدد الجهات القضائية المختصة بتطبيق هذه الإجراءات.

ذلك لأن قانون الإجراءات الجنائية مبني على توازن بين الحريات الفردية ومصلحة مكافحة الجريمة لا يمكن أن يقدره إلا المشرع “[12]”. وأغلب التشريعات التي تقبل بفكرة مشاركة السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية في مجال التجريم والعقاب ترفض فكرة التفويض التشريعي بشأن تحديد إجراءات التحقيق والمحاكمة والمحكمة المختصة. مثال ذلك ما نصت عليه المادة الرابعة والثلاثون من الدستور الفرنسي التي أوردنا نصها في الهامش رقم (7). فكل ما يمكن أن تقوم به أداة التنفيذ في مجال الإجراءات الجنائية هو التنظيم اللائحي لما يقرره القانون”[13]”.

أما بالنسبة للتشريع الليبي، فإن مبدأ الشرعية الإجرائية، شأنه شأن مبدأ الشرعية الموضوعية، يجد أساسه في احتكار أداة التشريع للتشريع المقرر بالوثائق الدستورية والقوانين الأساسية السابق الإشارة إليها.

في المقابل، إذا رجعنا إلى قانون الإجراءات الجنائية، فإننا نجد أن الإجراءات الجنائية لا تتخذ فقط وفقاً لإرادة المشرع. ذلك لأنه إذا كان مبدأ الشرعية الجنائية يقضي بضرورة أن يحدد المشرع قواعد الاختصاص وفقاً لمعايير عامة مجردة تستبعد الاعتبارات الشخصية بحيث يكون للخصومة الواحدة قواعد موحدة في مجال اقتضائها أو الدفاع عنها أو الطعن في أحكامها أو المحكمة المختصة بنظرها، فإن ذلك ليس الوسيلة الوحيدة لتحديد المحكمة المختصة في القانون الليبي.

حيث يمكن تحديد المحكمة المختصة وفقاً لما يراه النائب العام أو لما تراه أمانة مؤتمر الشعب العام، بشكل يستبعد وجود قاعدة موضوعية عامة ومجردة، ما يشكل انتهاكاً لأهم ضمانات حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ومنها المساواة أمام القانون التي يجب أن يكون قانون الإجراءات الجنائية مبنياً عليها.

فالمادة الثالثة من قرار المجلس الأعلى للهيئات القضائية رقم (3) لسنة 1428 ميلادية بإنشاء محاكم ونيابات تخصصية تنص على أن(تنشأ بدائرة اختصاص المحكمة الابتدائية التخصصية المنشأة بموجب أحكام المادة السابقة محكمة جزئية مقرها مدينة طرابلس وتتحدد دائرة اختصاصها بدائرة اختصاص المحكمة الابتدائية المذكورة.

وتختص بالفصل في الدعاوى المحالة عليها من النيابة التخصصية أو غرفة الاتهام الابتدائية التخصصية).والمادة الرابعة من نفس القرار تنص على أن (تنشأ بدائرة المحكمة الابتدائية التخصصية نيابة كلية تخصصية يكون مقرها في مدينة طرابلس وتختص بالتحقيق ومباشرة الدعوى العمومية في الجرائم التي تحال عليها من النائب العام).

فالمحاكم التخصصية أنشئت بموجب قرار صادر من المجلس للهيئات القضائية دون أن يكون لها اختصاص معين بقاعدة عامة ومجردة تضمن المساواة بين المواطنين وتستبعد الاعتبارات الشخصية. فالأشخاص الذين يوجدون في ظروف مشابهة ومتهمون بارتكاب جرائم مماثلة قد يقدمون إلى محاكم مختلفة إذا ما قرر النائب العام إحالة بعضهم إلى النيابة الكلية التخصصية.

إمكانية نزع الدعوى من القاضي الأصيل المختص بنظرها وفقاً لقواعد الاختصاص المحدودة بالقانون وإحالتها إلى قاض آخر، نجده أيضاً في القانون رقم 8/1991م بتعديل القانون رقم 5/1988 بشأن إنشاء محكمة الشعب التي ألغيت بالقانون رقم 7/ 1373و.ر. حيث نصت الفقرة العاشرة من المادة الثالثة من هذا القانون على أن محكمة الشعب تختص بنظر أي قضايا أخرى تحال إليها من أمانة مؤتمر الشعب العام دون تحديد ضوابط عامة ومجردة. وهذا ما يرفضه المنطق القانوني رفضاً باتاً، ويتناقض مع مبدأ الشرعية الجنائية الذي يقضي بضرورة تحديد المحكمة المختصة بقانون.

والمشرع الليبي بتبنيه مثل هذا النص كان أعطى أمانة مؤتمر الشعب العام إمكانية توسيع دائرة اختصاص محكمة الشعب، وتضييق دائرة اختصاص المحاكم العادية متى أرادت ذلك.

في المجال الإجرائي، لدينا أيضا قرار إداري ينظم عمل المحاكم ويحدد إجراءات نظر بعض الطعون. هذا القرار هو قرار أمانة مؤتمر الشعب العام رقم 65/1373و.ر بشأن لائحة نظام عمل المحاكم الشعبية وإجراءات النظر في الطعون المتعلقة بعملية الاختيار الشعبي المنشور بالعدد الثامن من مدونة التشريعات السنة الخامسة (31/8/1373و.ر) .

إضافة إلى ذلك كله، قد يتخلى المشرع عن تنظيمه الحقوق والحريات بتفويضه أداة التنفيذ. حيث كان القانون رقم 4 / 1985ف. قبل تعديله بالقانون رقــــم 9/1989ف ينص في مادته الثانية عشرة على أنه:“يجوز إصدار مستند السفر لطالبه أو سحبه منه في الحالات التالية:…3/ الحالات الأخرى التي تحددها اللائحة التنفيذية.”،

ما يعنى أن العمل اللائحي يمكن أن يحدد حالات أخرى لإصدار مستند السفر وحالات أخرى لسحبه. وهذا ما كان أعطى أداة التنفيذ إمكانية وضع وقيود على حرية التنقل، الأمر الذي يجب أن يكون دوماً من اختصاص المشرع.

المطلب الثاني : أصل البراءة
إذا كان نفي وصف المباح عن الفعل وإضفاء الصفة التجريمية عليه هو حسب الأصل من اختصاص أداة التشريع ، فإن نفي أصل البراءة واعتبار الشخص مذنباً هو من اختصاص القاضي. فكما أن القاضي ليس له أن يجرم فعلاً لم يجرمه المشرع.

فإنه –أيضاً- لا وجود للإدانة ولا للعقوبة الجنائية بقوة القانون ولا بقرار إداري.”[14]” حيث إن الحكم القضائي هو الوسيلة الوحيدة لاستبعاد أصل البراءة، وبالتالي لإقرار الإدانة وتوقيع العقوبة.

فوفقاً لنص المادة الحادية عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية (كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانوناً بمحاكمة علنية تؤمن فيها كافة الضمانات الضرورية للدفاع عنه).

ووفقاً لنص المادة السابعة عشرة من قانون تعزيز الحرية رقم 20/1991م (المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته بحكم قضائي، ومع ذلك يجوز اتخاذ الإجراءات القانونية ضده مادام متهماً).

فأنه وإذا كان مبدأ الشرعية الجنائية يحدد وظيفة المشرع، فإن أصل البراءة يحدد وظيفة القاضي. أي أن كلا منهما يضع حداً فاصلاً بين اختصاص المشرع واختصاص القاضي.

فإعطاء سلطة التجريم والعقاب للقاضي يتنافي مع مبدأ الشرعية الجنائية، وإقرار الإدانة أو توقيع العقوبة بقوة القانون لا يتفق مع أصل البراءة الذي جعل اختصاص إثبات الإدانة للقاضي لا للمشرع. وللقاضي في سبيل ذلك أن يستعين بكافة طرق الإثبات للبحث عن الحقيقة، وأن يزن كل دليل ويقدر قيمته الإثباتية”[15]”. ومن ذلك جاءت قاعدة (حرية القاضي الجنائي في تكوين عقيدته) التي نصت عليها قوانين الإجراءات الجنائية، كقانون الإجراءات الجنائية الفرنسي في مادته 427 التي تنص علي أنه (تثبت الجرائم بكافة طرق الإثبات ، ويحكم القاضي تبعاً لاقتناعه الخاص)، ومادته 428 التي تنص على أن: (الاعتراف، كغيره من وسائل الإثبات، يخضع للسلطة التقديرية للقاضي.).

“[16]” وقانون الإجراءات الجنائية المصري الذي نص في مادته رقم 302 على أنهيحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته)، وقانون الإجراءات الجنائية الليبي في مادته 275 التي يجري نصها على النحو التالييحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته، ومع ذلك لا يجوز أن يبني حكمه على أي دليل لم يطرح أمامه في الجلسة)، والذي ينص أيضاً في مادته رقم 264 على أنهللمحكمة أن تأمر، ولو من تلقاء نفسها أثناء نظر الدعوى ، بتقديم أي دليل تراه لازماً لظهور الحقيقة).

مع ملاحظة أن سلطة القاضي في إثبات الواقعة ونسبتها إلى المتهم ومن ثم الحكم بالإدانة ليست سلطة مطلقة، حيث إنها محكومة بعدة ضوابط تحول دون تعسف القاضي في استعماله سلطته في البحث عن الحقيقة، وتضمن المحافظة على التوازن بين المصالح المتعارضة. فكما أن هناك ضوابط تقيد المشرع في استعماله سلطته التقديرية في التجريم والعقاب كضرورة العقوبة وتناسبها مع الجريمة وشخصيتها، هناك أيضاً، ضوابط تحكم المشرع في بحثه عن الحقيقة القضائية كمشروعية الدليل مع كونه قد طرح في الجلسة.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن تقييد القاضي في حكمه بالإدانة بأنواع معينة من الأدلة دون أخذ مدى اقتناعه في الاعتبار هو بمنزلة إحلال اقتناع المشرع محل اقتناع القاضي، و تدخل للمشرع في مجال لا يملكه وفقاً لمبدأ أصل البراءة.”[17]”

فتحديد القيمة الإثباتية للدليل مسألة واقع، تختلف باختلاف ظروف الدعوى، تشكل جزءاً من الوظيفة القضائية. وسلب هذا الاختصاص من القاضي بقيام المشرع بدور إيجابي في عملية الإثبات الجنائي عن طريق تحديد القيمة الإثباتية للدليل وفرضها على القاضي يعني تحويل دور هذا الأخير إلى مجرد دور آلي يتمثل في مراعاة توافر الأدلة وشروطها القانونية، وهذا ما لا يتفق مع كون إثبات الإدانة هو صلب اختصاص القاضي وفقاً لمبدأ أصل البراءة.”[18]”

من جهة أخرى، فإن إنشاء المشرع قرائن الإدانة ونقل عبء الإثبات إلى المتهم واستبعاد كون الشك يفسر لمصلحة المتهم يتنافى، أيضاً، مع أصل البراءة، ويعتبر تدخلاً من المشرع في الوظيفة التي يجب أن تكون حكراً على القاضي. فاختصاص أداة التشريع بالتجريم والعقاب لا يخولها التدخل بفرض قرائن قانونية للإدانة. والقول بعكس ذلك يؤدي إلى تداخل الوظيفة التشريعية مع الوظيفة القضائية شأنه شأن إعطاء القاضي دوراً في مجال التجريم والعقاب.

وبالرغم من أن مبدأ أصل البراءة، شأنه شأن مبدأ الشرعية الجنائية، هو أساس لتنظيم السلطة في القانون الجنائي، ما يقتضي عدم تدخل المشرع في مجال الإثبات الجنائي عن طريق إقرار قرائن قانونية للإدانة، فإن أغلب التشريعات المعاصرة تتضمن مثل هذه القرائن.
فالمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تقولمع أن كل الأنظمة القانونية تعرف قرائن قانونية للإدانة إلا أن على الدول الأعضاء عدم تجاوز الحدود المعقولة مع الأخذ في الاعتبار جسامة المسألة وضرورة الاحتفاظ بحق الدفاع)، أي إمكانية إثبات عكس هذه القرائن من قبل المتهم.”[19]”

ومن أمثلة قرائن الإثبات التي نصت عليها التشريعات المقارنة ما نص عليه قانون العقوبات الفرنسي من افتراض ارتكاب جريمة القوادة في حالة عدم استطاعة المتهم الذي يعيش مع شخص اعتاد ممارسة البغاء أو كانت له علاقة معتادة معه تبرير موارد رزقه (م 6-225 ع ف ).”

[20]” واعتبار مالك المركبة الآلية مسئولاً عن وضعها في مكان محظور الوقوف فيه ما لم يثبت إن شخصاً آخر قام بذلك أو أن هناك قوة قاهرة دفعته لذلك (م-1-121 من قانون المرور الفرنسي)”[21]”، وما نص عليه القانون الإنجليزي من أن مالك المركبة الآلية هو المسئول عن جريمة القتل الخطأ التي ارتكبت بواسطة مركبته الآلية إلا إذا أثبت غيابه.”[22]”

يلاحظ أن قرائن الإثبات التي قد تدحض قرينة البراءة هي قرائن بسيطة قابلة لإثبات العكس. وللمحافظة على التوازن داخل قانون الإجراءات الجنائية مع وجود هذه القرائن، يتحدث الفقه المقارن عن حق المتهم في الدليل.

هذا الحق نص عليه القانون الإيطالي الصادر في 28/07/1989 بشأن تطبيق مدونة الإجراءات الجنائية في مادته الثامنة والثلاثين التي تسمح للمحامي بأن يبحث عن الشهود مثلاً”[23]”.

كما أن هناك ما يسمى بتحقيق الدفاع Enquéte défnsive المعمول به في بعض دول أمريكا الشمالية والذي يعتبر وسيلة هامة للحد من اختلال التوازن الذي تحدثه قرائن الإدانة، ولهذا السبب أوصت لجنة العدالة الجنائية وحقوق الإنسان الفرنسية بإدخاله في القانون الفرنسي.”[24]”

في المقابل، فإن الرقابة الدستورية على القوانين هي الوسيلة التي تكفل عدم إسراف المشرع في هذه الاستثناءات وعدم تجاوزه الحدود المعقولة وانتهاكه حق الدفاع .

فالمحكمة الدستورية العليا المصرية في حكم لها صدر في 02/02/1992ف حكمت بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة الثانية عشرة من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم 66/1963م التي تنص على افتراض العلم بالتهريب إذا لم يقدم من وجدت في حيازته البضائع بقصد الاتجار المستندات الدالة على أنها قد سددت عنها الضرائب الجمركية المقررة. وقالت المحكمة في حكمها:إن افتراض العلم في هذه الحالة يجاوز ضوابط المحكمة المنصفة التي كفلها الدستور.”[25]”

والمحكمة الدستورية الإيطالية في حكم لها رقم 48/94 حكمت بعدم دستورية إلزام المتهم بإثبات المصدر المشروع لأمواله الوارد في القانون الصادر سنة 1992م المتعلق بمكافحة الفساد والجريمة المنظمة.”[26]”

هذا النقل لعبء الإثبات الذى حكمت بعدم دستوريته المحكمة الدستورية الإيطالية نص عليه القانون رقم 10/1423 بشأن التطهير في الفقرة الثانية من المادة السادسة التي يجري نصها علي النحو التاليكما يعد سرقة وكسباً غير مشروع كل زيادة تطرأ على الذمة المالية بعد تولي الوظيفة أو قيام الصفة متى كانت هذه الزيادة لا تتناسب مع موارده أو موارد زوجته أو أولاده القصر وعجز عن إثبات مصدر مشرع لها).

ووردت هذه القرينة في القانون الليبي رقم 3/1986م بشأن من أين لك هذا؟ الذي نص في مادته الأولى على أنهلا يجوز لأي شخص أن يكتسب مالاً أو منفعة أو مزية مادية أو معنوية بطريقة غير مشروعة، ويعتبر الكسب غير مشروع إذا كان مصدره المحاباة أو التهديد أو مخالفة القانون أو إساءة استعمال الوظيفة أو المهنة أو المكانة أو التأثير أو كان مجهول المصدر أو السبب أو لا يتناسب مع الموارد المشروعة للشخص). فوفقاً لهذا النص كون الكسب مجهول المصدر أو عدم تناسبه مع الموارد المشروعة للشخص يكفي لاعتباره كسباً غير مشروع بدون الحاجة إلى أي إثبات آخر.

المحكمة الكندية –أيضاً- حكمت بعدم دستورية النص الوارد بشأن المخدرات الذي يقضي بأن مجرد حيازة المادة المخدرة دليل على توافر قصد الاتجار بها وعلى المتهم إثبات قصد آخر غير قصد الاتجار.

وقالت في معرض تأسيسها للحكم:إن هذا النص يتعارض مع المادة الحادية عشرة من الميثاق الكندي لحقوق الإنسان ومع أصل البراءة. كما أن المحكمة أكدت على أن المادة الأولى من ميثاق حقوق الإنسان الكندي التي تسمح باستثناءات على الحقوق الواردة في هذا الميثاق توجب أن يكون ذلك في الحدود المعقولة، وهذا ما لا يتوافر بشأن افتراض قصد الاتجار.”[27]”

هذا النص الذي حكمت بعدم دستوريته المحكمة الكندية تبناه المشرع الليبي في التعديل الأخير لقانون المخدرات والمؤثرات العقلية. فالقانون رقم 23/1369 بتعديل وإضافة أحكام للقانون رقم 7/1990م بشأن المخدرات والمؤثرات العقلية نص – في إطار تعديله للمادة 35- علي أن قصد اتجار يتحقق ولو كان موضوع الجريمة كمية ضئيلة وكذلك إذا عجز الجاني عن إثبات قصد أخر من ارتكاب الجريمة .

مع ملاحظة أن الأمر يتعلق بافتراض القصد الجنائي في جريمة تصل عقوبتها للإعدام .