عدم دستورية إلزام المطلق بتهيئة مسكن مناسب لصغاره من مطلقته وحاضنتهم

القضية رقم 5 لسنة 8 ق “دستورية ” جلسة 6 / 1 / 1996

باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت الموافق 6 يناير سنة 1996 الموافق 15 شعبان سنة 1416 هـ .
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين : الدكتور/ محمد إبراهيم أبوالعينين وفاروق عبدالرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور/ عبدالمجيد فياض ومحمد على سيف الدين ومحمد عبد القادر عبد الله
وحضور السيد المستشار/ نجيب جمال الدين علما المفوض
وحضور السيد/ حمدي أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 5 لسنة 8 قضائية “دستورية “
المقامة من
السيد / …….
ضد
1 – السيد / رئيس الوزراء
– السيد / رئيس مجلس الشعب
3 – السيدة / ……
” الإجراءات “
بتاريخ الثامن من مارس سنة 1986 أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالباً الحكم بعدم دستورية المادة (18) مكرراً ثالثاً من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية، المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية .
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة دفعت فيها، أصلياً: بعدم قبول الدعوى ، كما طلبت احتياطياً: رفضها.
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

” المحكمة “
بعد الاطلاع على الأوراق والمداولة .
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن المدعى عليها الثالثة ، كانت قد أقامت الدعوى رقم 57 لسنة 1985 مدنى كلى مساكن الإسكندرية ضد المدعى ، بطلب تمكينها وابنته منها – المحضونة لها – “نجلاء” من مسكن الزوجية المبين بالأوراق. وبجلسة 15/10/1985 – المحددة لنظر تلك الدعوى – دفع المدعى بعدم دستورية المادة (18) مكرراً ثالثاً من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 ببعض أحكام الأحوال الشخصية المضافة بالقانون رقم 100 لسنة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية . وبجلسة 10/12/1985 صرحت محكمة الموضوع للمدعى – بعد تقديرها لجدية دفعه – بإقامة الدعوى الدستورية ، فرفعها.
وحيث إن المدعى ينعى على المادة (18) مكرراً ثالثاً من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985 – المشار إليهما – مخالفتها للمادتين (2، 34) من الدستور، تأسيساً على أن الإسلام – وفقاً لنص المادة الثانية من الدستور – هو دين الدولة ، وأن الشريعة الإسلامية – في مبادئها – هى المصدر الرئيسى للتشريع، وأن الطلاق – وهو مقرر للزوج بنص شرعى – لا يجوز تقييده بما يمس أصل الحق فيه، ذلك أن الحق في الطلاق مكفول لكل زوج حملاً على أحوال المسلمين بافتراض صلاحهم وتقواهم. وهم لا يمارسون هذا الحق إنحرافاً، أو إلتواءً، أو إضراراً.
بيد أن النص المطعون فيه، صاغ القواعد التي قررها، ممالأة منه لفئة لاتعنيها إلا مصالحها الضيقة التي لا يحميها الشرع، مُحَمَّلاً من يباشرون ذلك الحق – وبقصد تقييده – بأعباء مالية ونفسية تدفعهم إلى العدول عنه، ولو قام موجبه، حال أن الطلاق أمر عارض على الحياة الزوجية ، ولا يلجأ الزوج إليه إلا إذا صار استمرارها والتوفيق بين الزوجين – رأبا لصدعها – مستحيلاً أو متعذراً، بما مؤداه: أن النص المطعون فيه لايبلور إلا تياراً دخيلاً يتوخى هدم الحقوق لا إعمالها، توهماً لخصومة بين طرفين، وإهداراً لقوامة الرجل على المرأة ؛ وإنفاذاً لمساواة مغلوطة بينهما؛ وانحيازاً لقيم مستوردة بتغليبها على حقائق الدين، وتهويناً لاستقرار الأسر داخل مجتمعها بقصد إضعافها، وتعقيداً لأزمة طاحنة في الإسكان، بدلاً من الحد منها تخفيفاً لوطأتها، بعد أن أستعر لهيبها، ونشأ عنها نوع من الجرائم لم يكن مألوفاً من قبل، وليس إلزام المطلق بأن يوفر لصغاره من مطلقته سكناً مناسباً، إلا تكليفاً بمستحيل في ظل أزمة الإسكان هذه، التي تحول بضغوطها – التي عَمَّقها النص المطعون فيه – دون مباشرة الرجل للحق في الطلاق ليغدو وهماً. يؤيد ذلك أن حمل المطلق على التخلى عن مسكن الزوجية ، بعد أن أعده مستنفداً كل ما ادخره؛ ناهيك عن الديون التي لا زال يرزح تحتها، يعنى أن يصبح هائماًٍ شريداً. وكان من المفترض – وقد إلتزم شرعاً بالإنفاق على صغاره – أن تكون نفقتهم مبلغاً من المال. غير أن النص المطعون فيه، استعاض عن تمليكها بالتمكين منها، مخالفاً بذلك ماكان عليه العمل من قبل، متجاهلاً حدة أزمة الإسكان، وهو ما قام الدليل عليه من قصره مجال تطبيق الأحكام التي أقرها، على حل رابطة الزوجية بالطلاق دون غيره من فرق النكاح، فكان عقاباً باهظاً واقعاً على المطلق، محملاً إياه بأعباء ينوء بها، متمحضاً إضراراً منهياً عنه شرعاً، لقوله تعإلى “لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده”،وهو مايعنى أن الولد لا يجوز أن يكون سبباً لإلحاق الضرر بأبيه، وقد كان هو سبباً لوجوده، ليكون استقلال الصغار من دون أبيهم بمسكن الزوجية ، إثماً وبغياً.
وفضلاً عما تقدم، فقد أخل النص المطعون فيه بحرمة الملكية ، ذلك أن صغار المطلق يستقلون من دون أبيهم بسكناه؛ ولو كانت عيناً يملكها، ليحرم من الانتفاع بها، وإلى أن يوفر لصغاره وحاضنتهم مسكناً بديلاً عنها، في الآجال التي ضربها المشرع
وحيث إن المادة (18) مكرراً ثالثاً – المطعون عليها – تنص على ما يأتى : “على الزوج المطلق أن يهيئ لصغاره من مطلقته ولحاضنتهم المسكن المستقل المناسب، فإذا لم يفعل خلال فترة العدة ، استمروا في شغل مسكن الزوجية دون المطلق مدة الحضانة . وإذا كان مسكن الزوجية غير مؤجر، كان من حق الزوج المطلق، أن يستقل به إذا هيأ لهم المسكن المستقل المناسب بعد انقضاء مدة العدة . ويخير القاضى الحاضنة بين الاستقلال بمسكن الزوجية ، وبين أن يقرر لها أجر مسكن مناسب للمحضونين، ولها. فإذا انتهت مدة الحضانة ، فللمطلق أن يعود للمسكن مع أولاده، إذا كان من حقه الاحتفاظ به قانوناً. وللنيابة أن تصدر قراراً فيما يثور من منازعات بشأن حيازة مسكن الزوجية المشار إليه، حتى تفصل المحكمة فيها”. وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية ، وذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسائل الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، والمطروحة على محكمة الموضوع.
متى كان ذلك؛ وكانت الفقرتان الأولى والثانية من هذا النص، تكفلان لصغار المطلق وحاضنتهم،الاستقلال بمسكن الزوجية في الآجال والأحوال المبينة بهما؛ وكانت فقرتها الثالثة تقرر إلتزاماً تخييرياً يكون فيه المحل متعدداً، ومن ثم تتضامن هذه المحال فيما بينها، لتبرأ ذمة المدين بالوفاء بأيها – بافتراض استيفاء كل منها للشروط التي تطلبها القانون فيه – سواء أكان الخيار للمدين – وهذا هو الأصل عملاً بنص المادة (275) من القانون المدني – أم كان الخيار للدائن بناء على اتفاق فيما بين العاقدين، أو إنفاذاً لنص في القانون، مثلما هو مقرر بالفقرة الثالثة من النص المطعون فيه، التي تخول الحاضنة – وبافتراض نيابتها عن المحضونين – الخيار بين الاستقلال بمسكن الزوجية ، وبين أن يقدر القاضي أجر مسكن مناسب للمحضونين ولها، وهو ما يفيد إمكان رفضها الحصول على هذا الأجر، وطلبها مسكن الزوجية ، لتقوم المصلحة الشخصية المباشرة للمدعى في الطعن على المادة (18) مكرراً ثالثاً – المشار إليها – بفقراتها الثلاث دون غيرها. ذلك أن فقرتها الرابعة ، تخول المطلق أن يعود بعد انتهاء حضانة صغاره إلى مسكن الزوجية إذا كان من حقه ابتداء الاحتفاظ به قانوناً، وهو ما يتمحض لمصلحته. كذلك فإن فقرتها الأخيرة لا تفصل في موضوع الحقوق المدعى بها، ولكن في منازعات الحيازة التي يكون مسكن الزوجية مدارها، ليكون قرار النيابة في شأنها وقتياً، فاصلاً فيما يستبين لها من أوضاع الحيازة على ضوء ظاهر الأمر فيها، وهو ماتراجعها فيه المحكمة ذات الاختصاص للفصل في ثبوت الحيازة لأحد الطرفين المتنازعين، دون إخلال بأصل الحق المردد بينهما.
وحيث إن البين من مضبطة الجلسة الثامنة والتسعين لمجلس الشعب، المعقودة في أول يوليو سنة 1985، أن آراء عديدة أبداها رئيس المجلس وأعضاؤه في شأن نص المادة (18) مكرراً ثالثاً، سواء بتأييد مشروعها، أو الاعتراض على بعض جوانبه لتقييده. وقد رفض المجلس بوجه خاص اقتراحين قدما إليه، أولهما: ألا يستقل صغار المطلق وحاضنتهم بمسكن الزوجية من دونه إذا كان لها مسكن تقيم فيه، أو كان للصغار مال يكفيهم للإنفاق منه لتدبير مسكن يضمهم مع حاضنتهم. وثانيهما: أن يختص كل من المطلق وصغاره بجزء مستقل من مسكن الزوجية ، توفيقاً بين مصالحهم، ودفعاً لتعارضها.
وجاء بالمذكرة الإيضاحية للنص المطعون فيه، أن وقوع الطلاق يثير فيما بين الزوجين نزاعاً حول مسكن الزوجية ، وهل يخلص لصغار المطلق وحاضنتهم، أم لأبيهم من دونهم باعتباره المتعاقد عليه، وأن ما قرره بعض الفقهاء من أن على أبيهم سكناهم جميعاً إذا لم يكن لمن لها إمساكهم، مسكن، يعنى أن لحاضنتهم أن تستقل معهم -بعد الطلاق- بمسكن الزوجية المؤجر لأبيهم المطلق، إلا إذا هيأ لهم مسكناً مناسباً يقيمون فيه، ليعود إلى المطلق بعد انتهاء حضانتها، أو بعد زواجها، إذا كان من حقه ابتداء الاحتفاظ به قانوناً.
وحيث إن الرقابة على الشرعية الدستورية – وعلى ماجرى به قضاء المحكمة الدستورية العليا – تتناول – بين ما تشتمل عليه- الحقوق التي كفلها الدستور، وأهدرها النص المطعون فيه ضمنا؛ سواء كان الإخلال بها مقصوداً ابتداءً، أم كان قد وقع عرضاً.
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا مطرد كذلك، على أن ما نص عليه الدستور في مادته الثانية – بعد تعديلها في سنة 1980 – من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، إنما يتمحض عن قيد يجب على السلطة التشريعية أن تتحراه وتنزل عليه في تشريعاتها الصادرة بعد هذا التعديل – ومن بينها أحكام القانون رقم 100 لسنة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية – فلا يجوز لنص تشريعى أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هى التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعاً، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادؤها الكلية ، وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلاً أوتبديلاً.
ومن غير المتصور بالتالي أن يتغير مفهومها تبعاً لتغير الزمان والمكان، إذ هى عصية على التعديل، ولا يجوز الخروج عليها، أو الالتواء بها عن معناها. وتنصب ولاية المحكمة الدستورية العليا في شأنها، على مراقبة التقيد بها، وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها. ذلك أن المادة الثانية من الدستور، تقدم على هذه القواعد، أحكام الشريعة الإسلامية في أصولها ومبادئها الكلية ، إذ هي إطارها العام، وركائزها الأصيلة التي تفرض متطلباتها دوماً بما يحول دون إقرار أية قاعدة قانونية على خلافها؛ وإلا اعتبر ذلك تشهياً وإنكاراً لما علم من الدين بالضرورة . ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معاً، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها، ولا تمتد لسواها. وهى بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان، لضمان مرونتها وحيوتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها، تنظيماً لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعاً، ولا يعطل بالتالي حركتهم في الحياة ، على أن يكون الاجتهاد دوماً واقعاً في إطار الأصول الكلية للشريعة بما لا يجاوزها، ملتزماً ضوابطها الثابتة ، متحرياً مناهج الاستدلال على الأحكام العملية ، والقواعد الضابطة لفروعها، كافلاً صون المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
وحيث إن البين من استقراء الأحكام التي بسطها الفقهاء في شأن النفقة – سواء كان سببها عائداً إلى علائق الزوجية ، أم إلى القرابة في ذاتها – وأياً كان نوعها – بما في ذلك ما يقوم من صورها بين الأصول والفروع، أنهم اختلفوا فيما بينهم في عديد من مواضعها، إما لخفاء النصوص المتعلقة بها من جهة اتساعها وتعدد تأويلاتها؛ وإما لتباين طرائقهم في استنباط الأحكام العملية – في المسائل الفرعية والجزئية التي يدور الاجتهاد حولها – من النصوص وأدلتها، والترجيح بينها عند تعارضها، اختياراً لأصحها وأقواها وأولاها، وهو ما يفيد أن النفقة بمختلف صورها؛ وفى مجمل أحكامها – وفيما خلا مبادئها الكلية – لا ينتظمها نص قطعى يكون فاصلاً في مسائلها.
وحيث إن النفقة شرعاً هى الإدرار على الشئ بما فيه بقاؤه، وهى في أصل اشتقاقها تعد هلاكاً لمال من جهة المنفق، ورواجاً لحال من جهة المنفق عليه. ويشمل مصطلحها كل صورها من إنفاق على إنسان أو حيوان أو طير أو زرع، لأن فيها معنى إخراج مال لإيفائهم حاجتهم، وصونها. ولا ينال من ذلك قول أهل اللغة أيضاً، بأنها ماينفقه الإنسان على عياله ونحوهم، فإنه بيان لحقيقة مدلولها، وعلى تقدير أن مسكن الصغير من مشمولاتها.
وإذ كان الأصل أن يقوم الزوج بالإنفاق على زوجته ليوفر لها احتياجاتها؛ ويُعِينها على التفرغ لواجباتها جزاءً لاحتباسها لمصلحة تعود عليه؛ وكان من المقرر كذلك أن للزوجة أن تأخذ من مال زوجها – إذا منعها مُؤْنتها – ما يكفيها هى وأولادها منه معروفاً، وبغير إذنه؛ وكانت علاقة المرء بذوى قرباه – من غير أبنائه – تقوم على مجرد الصلة – ولو لم تكن صلة محرمية – إلا أن الولد ليس إلا زرع أبيه، بل هو من كسبه وجزؤه، وبعض منه، وإليه يكون منتسباً، فلا يلحق بغيره. وهذه الجزئية أو البعضية ، مرجعها إلى الولاد، وليس ثمة نفع يقابلها ليكون فيها معنى العوض، ومن ثم كان اختصاص الوالد بالإنفاق على صغاره أصلاً ثابتاً لا جدال فيه، بحسبان أن قرابتهم منه مفترض وصلها، محرم قطعها بالإجماع. ولأن نفقتهم من قبيل الصلة ، بل هى من أبوابها، باعتبار أن الامتناع عنها مع القدره على إيفائها – حال ضعفهم وعجزهم عن تحصيل حوائجهم – مفض إلى تفويتها، فكان الإنفاق عليهم واجباً، فلا تسقط نفقتهم بفقر آبائهم ولايتحللون منها. بل عليهم موالاة شئون أبنائهم، العاجزين عن القيام بما يكفل إحياءهم وصون أنفسهم، مما يهلكها أويضيعها. وهم كذلك مسئولون عن تكميل نفقتهم، إذا كانوا يتكسبون، وما برحوا عاجزين عن إتمامها، فلا يمنعهم الآباء ما يستحقون، إعما لاً لقوله تعالى “وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف” ولقوله عليه الصلاة والسلام “كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول” ذلك أن نفقتهم تقتضيها الضرورة ، وبقدر ما يكون لازماً منها لضمان كفايتهم على ضوء ما يليق بأمثالهم، فلا تكون إقتاراً، ولاسرفاً زائداً عما اعتاده الناس، ولا تستطيل بالتالي إلى ما يجاوز احتياجاتهم عرفاً. بل إن من الفقهاء من استدل على وجوبها على الأباء، من أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون أولادهم خوفاً من الإملاق، وما كانوا ليخافوه لولا أن نفقتهم عليهم، فنهاهم الله تعالى عن قتلهم. ومن ثم قيل بأمرين، أولهما: أن الإخلال بنفقتهم يكون مستوجباً حبس من قصر في أدائها ممن إلتزم بها، باعتبار أن فواتها ضياع لنفس بشرية سواء في بدنها، أو عقلها، أو عرضها. ثانيهما: أنه إذا كان للصغار مال حاضر، فإن نفقتهم تكون في أموالهم ولا شأن لأبيهم بها، فإذا كان ما لديهم من مال لا يكفيها؛ أو لم يكن لديهم مال أصلاً، اختص أبوهم من دونهم بتكملتها، أو بإيفائها بتمامها، فلا يتحمل غيره بعبئها.
وحيث إن المدعى لا ينازع في أصل الحق في نفقة صغاره، ولا في شروط استحقاقها، ولا في أن نفقتهم غير مقدرة بنفسها، بل بكفايتها. وإنما تثور دعواه الدستورية حول مشروعية القيود التي فرضها النص المطعون فيه على كل مطلق، قولاً بأن هدفها الحد من الحق في الطلاق، وأن إعناتها يتمثل في إلزامهم إسكان صغارهم من مطلقاتهم، بدلاً عن أجرة المسكن التي كان العمل بها جاريا قبل نفاذ النص المطعون فيه، بما مؤداه: أن “عينية ” نفقتهم “لا مبلغها”، هي مدار دعواه هذه، وأن الفصل في دستورية النص المطعون فيه يتحدد على ضوئها؛ “ونطاق تطبيقها”.
وحيث إن إنكار حق صغار المطلق في اقتضاء نفقتهم تمكيناً، مردود أولاً: بأن القاضي وإن كان يقدرها في ظل العمل بأحكام لائحة ترتيب المحاكم الشرعية والإجراءات المتعلقة بها الصادر بها المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 [المادتان (5، 6) منها ومذكرتهما الإيضاحية ] مبلغاً نقدياً يشمل عناصرها جميعاً – بما فيها السكنى ، إلا أن من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا، أن أية قاعدة قانونية – ولو كان العمل قد استقر عليها أمداً – لا تحمل في ذاتها ما يعصمها عن العدول عنها؛ وإبدالها بقاعدة جديدة لا تصادم حكماً شرعياً قطعياً – في وروده ودلالته – وتكون في مضمونها أرفق بالعباد، وأحفل بشئونهم، وأكفل لمصالحهم الحقيقية التي تشرع الأحكام لتحقيقها وبما يلائمها؛ فذلك وحده طريق الحق والعدل، وهو خير من فساد عريض.
ومن ثم ساغ الاجتهاد في المسائل الاختلافية التي لا يجوز أن تكون أحكامها جامدة بما ينقض كمال الشريعة ومرونتها.
وليس الاجتهاد إلا جهداً عقلياً يتوخى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية ، وهو بذلك لا يجوز أن يكون تقليداً محضاً للأولين، أو افتراء على الله كذباً بالتحليل أو التحريم في غير موضعيهما، أو عزوفاً عن النزول على أحوال الناس والصالح من أعرافهم.

وإعمال حكم العقل فيما لا نص فيه، توصلاً لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله ورحمته بين عباده، مرده أن هذه القواعد تسعها الشريعة الإسلامية ، إذ هي غير منغلقة على نفسها، ولا تضفى قدسية على أقوال أحد من الفقهاء في شأن من شئونها، ولا تحول دون مراجعتها، وتقييمها، وإبدالها بغيرها. فالآراء الاجتهادية ليس لها – في ذاتها – قوة ملزمة متعدية لغير القائلين بها. ولا يجوز بالتالي اعتبارها شرعا ثابتا متقررا لا يجوز أن ينقض، وإلا كان ذلك نهياً عن التأمل والتبصر في دين الله تعالى ، وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل في كل اجتهاد. بل أن من الصحابة من تردد في الفتيا تهيباً. ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره. وربما كان أضعف الآراء سنداً، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة ، ولو كان مخالفاً لأقوال استقر عليها العمل زمناً. ولئن جاز القول بأن الاجتهاد في الأحكام الظنية ، وربطها بمصالح الناس عن طريق الأدلة الشرعية -النقلية منها والعقلية – حق لأهل الاجتهاد، فأولى أن يكون هذا الحق ثابتاً لولى الأمر يستعين عليه – في كل مسألة بخصوصها وبما يناسبها – بأهل النظر في الشئون العامة ، إخماداً للثائرة وبما يرفع التنازع والتناحر ويبطل الخصومة ، على أن يكون مفهوماً أن اجتهادات السابقين، لا يجوز أن تكون مصدراً نهائياً أو مرجعاً وحيداً لاستمداد الأحكام العملية منها؛ بل يجوز لولى الأمر أن يشرع على خلافها، وأن ينظم شئون العباد في بيئة بذاتها تستقل بأوضاعها وظروفها الخاصة ، بما يرد الأمر المتنازع عليه إلى الله ورسوله، مستلهماً في ذلك حقيقة أن المصالح المعتبرة ، هي التي تكون مناسبة لمقاصد الشريعة متلاقية معها، وهى بعد مصالح لا تتناهى جزئياتها، أو تنحصر تطبيقاتها، ولكنها تتحدد – مضموناً ونطاقاً – على ضوء أوضاعها المتغيرة . وليس ذلك إلا إعمالاً للمرونة التي تسعها الشريعة الإسلامية في أحكامها الفرعية والعملية المستجيبة بطبيعتها للتطور، والتى ينافيها أن يتقيد ولى الأمر في شأنها بآراء بذاتها لا يريم عنها، أو أن يقعد باجتهاده بصددها، عند لحظة زمنية معينة ، تكون المصالح المعتبرة شرعاً قد جاوزتها. وتلك هى الشريعة الإسلامية في أصولها ومنابتها، متطورة بالضرورة ، نابذة الجمود لا يتقيد الاجتهاد فيها – وفيما لا نص عليه – بغير ضوابطها الكلية ، وبما لا يعطل مقاصدها.
ومردود ثانياً: بأن كلمة النفقة عند إطلاقها، تفيد انصرافها إلى مشتملاتها مما تقوم بها من طعام وكسوة وسكنى ، أو هى – على حد قول الحنابلة – مؤنة الشخص خبزاً وأدماً وكسوة وسكناً وتوابعها، باعتبارها من الحوائج الأصيلة للمنفق عليه. والأصل فيها أن تكون عيناً، فلا يصار حق الصغار بشأنها إلى ما يقابلها نقداً – باعتباره عوضها أو بدلها – إلا إذا كان استيفاء أصلها متعذراً. وليس معروفاً أن يكون إنفاق الوالد على صغاره تمليكاً معلوم القدر والصفة ، بل يتعين أن يكون تمكينا يُعينهم على أمر حوائجهم، ليوفيها دون زيادة أو نقصان. وهذا الأصل قائم على الأخص في مجال العلائق الزوجية لقوله عليه الصلاة والسلام “أطعموهن مما تأكلون وأكسوهن مما تكتسون”، وهو مقرر كذلك في الزكاة لوقوعها في عين أموالها لقوله عز وجل “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها”.
واستصحاباً لهذا الأصل لا تخرج المطلقة من مسكنها طوال عدتها، سواء كان طلاقها من زوجها رجعياً أم بائناً؛ ذلك أن طلاقها رجعياً، يعنى أن علاقة الزوجية لا تزال قائمة ، وأن بقاءها في بيته قد يُغريه بإرجاعها إليه، استئنافاً لحياتهما، فإن كان طلاقها منه بائناً، فإن مكثها في منزل الزوجية يكون استبراء لرحمها. لا استثناء من ذلك في الحالتين، إلا أن تأتى عملاً فاحشاً.
وقد أحال الله تعالى المؤمنين في كفاراتهم إلى عاداتهم قائلاً “فإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم”.
متى كان ذلك، وكان الحق هو الحسن شرعاً، والباطل هو القبيح شرعاً، فإن تقرير حق الصغار في نفقتهم من خلال إبدال مبلغها بعينيتها، لا يكون التواء عن الشرع، ولا ضلا لاً يقابل الحق ويُضَاده.
ومردود ثالثاً: بأن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، كثيراً ما قرروا أحكاماً متوخين بها مطلق مصالح العباد جلباً لنفعهم، أو دفعاً لضرهم، أو رفعاً للحرج عنهم، باعتبار أن مصالحهم هذه لا تنحصر جزئياتها، وأنها تتطور على ضوء أوضاع مجتمعاتهم. وليس ثمة دليل شرعى على اعتبارها أو إلغائها . وإذ لم يعد للنفوس – من ذاتها – زاجراً يردعها عن إنكار حق الصغار في نفقاتهم أو المطل في أدائها – فيما إذا كان قدرها محدداً مبلغاً من النقود – مما قد يحمل حاضنتهم على التردد بهم على ذويها يقبلونهم على مضض، أو يصدونهم، يضيقون بهم ذرعاً، أو يعرضون عنهم، بما يهدد حياتهم وعقولهم وأعراضهم، فقد بات حقاً وواجباً، أن يتدخل المشرع لرد ما قدره ظلماً بيناً، وأن يعيد تنظيم الحقوق بين أطرافها مبيناً طرق اقتضائها، مستلهماً أن الأصل في الضرر أن يزال فلا يتفاقم، وأن الضرر لا يكون قديما، فلا يتقادم، وأن القرابة القريبة ينبغي وصلها، والقبول بأهون الشرين في مجالها توقياً لأعظمهما.
ومن ثم قدر المشرع -بالنص المطعون فيه- أن ينقل حق هؤلاء الصغار من نفقة يفرضها القاضي مبلغاً من النقود، إلى عين محقق وجودها، هي تلك التي كانوا يشغلونها مع أبويهم قبل طلاق أم هم، ليظل حقهم متصلاً بها لا يفارقونها، إلا إذا بوأهم أبوهم مسكناً مناسباً بديلاً عنها. ولا منافاة في ذلك للشريعة الإسلامية سواء في مبادئها الكلية أو مقاصدها النهائية ، بل هو أكفل لدعم التراحم والتواصل بين أفراد الأسرة الواحدة ، بما يرعى جوهر علاقتهم بعضهم ببعض، فلا يقوض بنيانها.
ومردود رابعاً: بأن ما قرره المدعى من أن المطلق يتعذر عليه أن يوفر سكناً لصغاره وحاضنتهم إزاء حدة أزمة الإسكان، وعمق تداعياتها، يعنى أن تقدير نفقتهم مبلغاً من النقود مشتملاً على سكناهم، لن يكون كافياً لتهيئتها، إذ لو كان بوسعهم استيفاء حقهم من السكنى من خلال أجر مسكن يحصلون عليه من أبيهم، لكان الاعتراض على عينية نفقتهم لغواً .
وحيث إن عينية النفقة على ما تقدم، لا تفيد لزوماً انتفاء القيود اللازمة لضبطها، ولا تحول بالتالي دون مباشرة المحكمة الدستورية العليا لرقابتها القضائية في شأن مضمون الحقوق التي خولها النص المطعون فيه لصغار المطلق وحاضنتهم، للفصل في اتفاقها مع الدستور، أو خروجها عليه.
وحيث إن الفقرتين الأولى والثانية من النص المطعون فيه، صريحتان في استقلال الصغار مع حاضنتهم بمسكن الزوجية ، فيما إذا تقاعس المطلق عن أن يعد لهم مسكناً ملائماً يضمهم جميعاً.
بيد أن ربط هاتين الفقرتين ببعضهما، يدل على تبنيهما تمييزا تحكمياً بين فئتين من المطلقين ذلك أنه بينما تلتزم إحداهما – إذا كان مسكن الزوجية مؤجراً – أن توفر لصغارها من مطلقاتهن – مع حاضنتهم – مسكناً مناسباً خلال فترة زمنية لا تجاوز على الإطلاق عدة مطلقاتهن، وإلا ظل الصغار من دون أبيهم شاغلين مسكن الزوجية ، لا يخرجون منه إلا بعد انتهاء مدة حضانتهم بأكملها؛ فإن أخراهما – التي يكون مسكنها هذا غير مؤجر – يكفيها أن توفر لصغارها مع حاضنتهم مسكناً مناسباً يفيئون إليه، ولو كان ذلك بعد انتهاء عدة مطلقاتهن، لا يتقيدون في ذلك بزمن معين.
وحيث إن الأصل في كل تنظيم تشريعى أن يكون منطوياً على تقسيم، أو تصنيف، أو تمييز من خلال الأعباء التي يلقيها على البعض، أو عن طريق المزايا، أو الحقوق التي يكفلها لفئة دون غيرها، إلا أن اتفاق هذا التنظيم مع أحكام الدستور، يفترض ألا تنفصل النصوص القانونية التي نظم بها المشرع موضوعاً محدداً، عن أهدافها، ليكون اتصال الأغراض التي توخاها، بالوسائل إليها، منطقياً، وليس واهياً أو واهناً، بما يخل بالأسس الموضوعية التي يقوم عليها التمييز المبرر دستورياً.
ومرد ذلك، أن المشرع لا ينظم موضوعاً معيناً تنظيماً، مجرداً أو نظرياً، بل يتغيا بلوغ أغراض بعينها، تعكس مشروعيتها إطاراً لمصلحة عامة لها اعتبارها، يقوم عليها هذا التنظيم، متخذاً من القواعد القانونية التي أقرها، مدخلاً لها. فإذا انقطع اتصال هذه القواعد بأهدافها، كان التمييز بين المواطنين في مجال تطبيقها، تحكمياً، ومنهياً عنه بنص المادة (40) من الدستور
وحيث إنه متى كان ذلك، وكان ما قرره النص المطعون فيه من تمييز بين فئتين من المطلقين، لا يعدو أن يكون تقسيماً تشريعياً لا يقيم علاقة منطقية بين الأسس التي يقوم عليها، والنتائج التي ربطها المشرع بها، بل توخى هذا التمييز – وعلى مايبين من مضبطة الجلسة الثامنة والتسعين لمجلس الشعب المعقودة في أول يوليو 1985 – فرض قيود واقعية على الطلاق، كى لا يكون إسرافاً، فجاء بذلك نافياً لكل علاقة مفهومة بين طبيعة الرابطة القانونية التي ارتبط بها المطلق في شأن مسكن الزوجية – إجارة كانت، أم إعارة ، أم ملكاً، أم انتفاعاً، أم حق استعمال، أم غير ذلك من العلائق القانونية – وبين إلتزام هذا المطلق بأن يوفر لصغاره وحاضنتهم مسكناً مناسباً يأويهم كبديل عن مسكن الزوجية ، ذلك أن حق الصغار وحاضنتهم ليس متعلقاً بعين الم كان الذى كان يظلهم مع أبويهم قبل الطلاق؛ بل يقوم حقهم من حصراً في مكان يهجعون إليه، يكون مناسباً شرعاً لأمثالهم، فلا يكون إعداده مقيداً بزمن معين. وإذ كان تنظيم الحقوق لا يجوز لغير مصلحة واضحة يقوم الدليل على اعتبارها؛ وكان غير المتصور أن يكون أمر المطلق رهقاً سواء من خلال تنظيم تشريعى جائر، أو عن طريق إساءة الصغار – أو حاضنتهم- استعمال حقهم في النفقة إضراراً بأبيهم؛ وكان من المقرر أن مسكناً مناسباً يتهيأ لهم من أبيهم سواء قبل انتهاء عدة مطلقته أو بعدها، هو ما تقوم به مصلحتهم في النفقة التي لا يجوز ربطها على الإطلاق بما إذا كان مسكن الزوجية مؤجراً أو غير مؤجر، إذ لا شأن لذلك بحق الصغار في نفقتهم؛ ولا هو من مقاصدها.
متى كان ما تقدم؛ وكان الآباء المطلقون -فى علاقاتهم بأبنائهم – تتماثل مراكزهم القانونية فيما بين بعضهم البعض، وكان النص المطعون فيه، قد مايز بينهم – في نطاق هذه العلائق – بأن حد من حقوقهم في إعداد مكان ملائم لسكنى صغارهم إذا كان مسكن الزوجية مؤجراً، مع بسطها إن كان غير مؤجر؛ فإن هذا التمييز لا يكون منطقياً، قائماً بالتالي على غير أسس موضوعية ، ومنهياً عنه دستورياً، ذلك أن أشكال التمييز التي يناهضها مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون؛ وإن تعذر حصرها، إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد، أو تفضيل، أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق التي كفلها الدستور، أو القانون، أو كلاهما، بما في ذلك تلك التي ترعى بنيان الأسرة ؛ ولا تفرقها، وتصون قيمها وترسيها على دعائم من الخلق والدين، ضماناً لتراحمها وتناصفها.
وحيث إن النص المطعون فيه – فوق هذا – يتمحض إعناتاً بالمطلق، وتكليفاً بما لا يطاق من جهتين أولاهما : أن عموم عبارته وإطلاقها من كل قيد، وكذلك الأعمال التحضيرية التي تكشف عنها مضبطة الجلسة الثامنة والتسعين لمجلس الشعب- المعقودة في أول يوليو 1985 – تدل جميعها على أن ما توخاه المشرع بالنص المطعون فيه؛ هو أن يوفر الأب لصغاره من مطلقته، ولحاضنتهم، مسكناً ملائماً؛ وإلا استمروا من دونه شاغلين مسكن الزوجية ، ولو كان لهؤلاء الصغار مال يكفيهم للإنفاق عليهم. فقد رفض مجلس الشعب اقتراحاً مقدماً من أحد أعضائه مؤداه: أن تهيئة مسكن للصغار من أبيهم بعد طلاق أم هم، ينبغى أن يكون مقيداً بألا يكون لحاضنتهم مسكن يخصها، ولا لصغاره مال ينفقون منه على سكناهم . وقيل تبريراً لهذا الرفض، أن أباهم يقوم الآن بالإنفاق عليهم، ولو ورثوا عن بعض أقاربهم، أو تلقوا عن أم هم، ما لاً.
وإذ كان الأصل المقرر شرعاً أن مؤنة الحضانة تكون في مال المحضون؛ فإن لم يكن للمحضون مال، فعلى من تلزمه نفقته؛ وكان هذا الأصل مردداً بنص الفقرة الأولى من المادة (18) مكرراً ثالثاً من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 – المشار إليه – التي تقضى بأنه إذا لم يكن للصغير مال فنفقته، على أبيه؛ وكان حق الصغار في الإنفاق عليهم، يتوخى إحياءهم، وليس حقاً لحاضنتهم عوضاً عن احتباسها لشئونهم؛ وكان الأصل في نفقتهم أنهم عاجزون بدونها عن تحصيل حوائجهم، وأن استيفاءهم لها بقدر كفايتهم يعد معروفاً، وأن تأسيسها على حاجتهم، يثبتها على أبيهم، حتى مع اختلافهم ديناً؛ وكان استواء آباء الصغار مع أمهاتهم في الولاد؛ لا يسقط نفقتهم عن آبائهم، بل ينفردون بها؛ إلا أن الحق في طلبها مقيد دوماً بأن يكون تحصيلها حائلاً دون هلاكهم، أو ضياعهم. ولا كذلك أن يكون للصغير فضل من مال؛ ذلك أن الإنفاق عليه من مال غيره لا يكون إلا تفضلاً، فلا تكون نفقته واجباً على أحد، ولا يجوز طلبها بالتالي شرعاً من أبيه طلباً لازماً يحتم أداءها، فقد انتفى موجبها، ولم يعد اقتضاؤها ضرورة يختل بفواتها نظام الحياة .
ولئن جاز القول بأن الأبوين قد يفيضان بأموالهما على أبنائهم، صوناً لأموالهم التي بين أيديهم مما قد يبددها أو ينتقص منها، إلا أن حدبهما على أبنائهم بما فطرا عليه، لا ينقض قاعدة شرعية أو ينحيها ويُبِْدلها بغيرها، بل تظل نفقتهم في أموالهم بقدر كفايتهم .
ثانيتهما: أنه وإن كان الأصل أن سكنى الصغار – عيناً- حق، وأنها جزء من نفقتهم بمدلولها لغة وعرفاً، وكان النص المطعون فيه يكفلها للصغار من مال أبيهم، ولو كان لحاضنتهم مسكن تقيم فيه – وينقلون إليه تبعاً لها – فإنه يكون بذلك مرهقاً -ودون مقتض- من يطلقون زوجاتهم – ولو كان الطلاق لضرورة لها موردها شرعاً-؛ مفضى إلى وقوعهم كارهين في الحرج، ليكون إعناتهم منافياً للحق والعدل، ومشقتهم بديلاً عن التيسير عليهم، ليقترن الطلاق بالبأساء والضراء التي لا مخرج منها. وما لذلك تشرع الأحكام العملية التي ينبغي أن تستقيم بها شئون العباد ومصالحهم، إذ لا يجوز أن يكون عبؤها فادحاً من خلال تكليفاتها، ولا مضمونها عُتُواً مجافياً لرحمة فتح الله تعالى أبوابها للمؤمنين، بل هوناً وقواماً، وهو ماعبر عنه ابن عابدين في حاشيته “رد المحتار على الدر المختار” التي أو رد فيها أن أباً حفص حين سئل عمن لها إمساك الولد وليس لها مسكن، أفاد بأن على أبيهم سكناهما جميعاً، وهو ما يعنى عند بن عابدين أن الصغار لا يحتاجون إلى مسكن من أبيهم، إذا كان لحاضنتهم مسكن تقيم فيه يأويها مع المحضونين، ليكون انتقالهم معها أرفق بالجانبين، وأوفق لمصالحهم، ومن ثم ينبغي أن يكون عليه العمل.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان ما قرره أبو حفص مما تقدم – وكذلك من خَرَّج عليه – لا يعدو أن يكون اجتهاداً، وكان الاجتهاد في المسائل الخلافية ممكناً عقلاً، ولازماً ديانة ، ومفتوحاً بالتالي ، فلا يصد اجتهاد اجتهاداً، ولا يقابل اجتهاد على صعيد المسائل التي تنظم الأسرة بغيره، إلا على ضوء أوضاعها وأعرافها، وبما لا يناقض كمال الشريعة ، أو يخل بروح منهاجها؛ وكان ما ذهب إليه البعض من أنه إذا اختار ولى الأمر رأياً في المسائل الخلافية ، فإنه يترجح، مردود بأن الترجيح عند الخيار بين أمرين، لا يكون إلا باتباع أيسرهما مالم يكن إثماً، فلا يشرع ولى الأمر حكماً يضيق على الناس، أو يرهقهم من أمرهم عسراً، لتكون معيشتهم ضنكاً وعِوَجا، بل يتعين أن يكون بصيراً بشئونهم بما يصلحها، فلا يظلمون شيئاً؛ وكان من المقرر أن سكنى صغار المطلق ضرورة ينبغي أن تقدر بقدرها؛ وكان ثابتاً كذلك أن من مقاصد الخلق جلب منافعهم ودفع المضار عنهم، وأن صلاحهم في تحصيل مقاصدهم، فلا يكون بعضهم على بعض عِتِياً، ولا تكون أفعالهم ضراوة فيما بينهم؛ وكان حقاً قوله عليه السلام “ما نهيتكم عنه فاجنتبوه، وما أمرتكم به فآتوا منه ما استطعتم” وكانت الحنيفية السمحة هي مدار الدعوة التي قام بتبليغها إلى الناس جميعهم “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”؛ وكان اقتضاء الصغار مسكناً من أبيهم – مع إمكان إيوائهم في مسكن لحاضنتهم تسكنه فعلاً – مؤجراً كان أم غير مؤجر – ليكون لهم مهاداً، ليس تعلقا بما يكون واجباً على أبيهم، ولا اجتناباً من جهتهم لشر يتناهون عنه، بل إعراضاً عما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون من المسامحة واللين، فقد تعين ألا يكون دينهم إرهاقاً لعلاقاتهم ببعض، ولا مقيماً عوائق تتعقد دوربها وتنغلق مسالكهم إليها، ليكون لهم مخرجاً من حرجهم، فلا يقترن – ظلماً أو هضماً – بمايأتون أو يدعون مصداقاً لقوله تعإلى “ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج” “وما جعل الله عليكم في الدين من حرج” “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” “يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا”.
متى كان ذلك، وكان القرآن فصلاً لا هزلاً، وكان اختصاص صغار المطلق من مطلقته – مع حاضنتهم – بمسكن الزوجية مع وجود مسكن لها تقيم فيه، وهو ما يقع بوجه خاص إذا لم تكن حاضنتهم هى المطلقة نفسها، بل أمها أوأختها أوخالتها- يعنى أن حاضنتهم هذه – وقد تهيأ مسكن لها مع زوجها وأولادها أما أن تنقل هؤلاء معها إلى مسكن المحضونين نابذة مسكنها لأمر ان عقد عليه عزمها، وإما أن تتردد بين مسكنها ومسكنهم، فلا تمنحهم كل اهتمامها، ولا توفر لحضانتهم متطلباتها من التعهد والصون والتقويم، وإما أن تقيم مع محضونيها -من دون أسرتها – ليتصدع بنيانها. ولا يعدو ذلك كله أن يكون عبثاً توخى – دون مقتض – وعلى ما جاء بمضبطة مجلس الشعب – فرض قيود واقعية على الطلاق لا يجوز شرعاً.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، فقد تعين أن يكون النص المطعون فيه مقيداً، فلا يكون مسكن الزوجية مقراً للمحضونين، إذا كان لحاضنتهم مسكن يأويهم، تقيم هي فيه. وليس لازماً أن يكون مملوكاً لها، ذلك أن حق الصغار في السكنى ينتقل من مسكن أبيهم إلى مسكن حاضنتهم، أياً كان شكل العلاقة القانونية التي ترتبط بها في شأن هذه العين، ودون إخلال بحقها في أن تقتضى لها وللصغار أجر مسكن مناسب، باعتباره من مؤنتهم.
وحيث إن النص المطعون فيه – محدداً نطاقاً في الحدود التي خلص إليها قضاء المحكمة الدستورية العليا على النحو المتقدم – لا يعطل الحق في الطلاق، ذلك أنه كفل لصغار المطلق – وحاضنتهم – حقوقاً تقتضيها الضرورة ، وبقدرها، لتكون نفقتهم كافلة لمقوماتها؛ لا تنتقص من مشتملاتها، ولا يكون جريان آثارها وإنفاذ الحقوق المتعلقة بها متراخياً. ووقوعها في الحدود التي يقتضيها الشرع، ينفى تعويقها الطلاق، أو إهدارها الحق فيه، لأمرين، أولهما: أن الأصل في الحقوق التي يأذن المشرع بممارستها، أو يبين أسسها؛ أنها تتكامل فيما بينها ولا تتآكل، بل تعمل جميعها في إطار وحدة عضوية تتلاقى توجهاتها، وتتوافق مصالحها. ثانيهما: أن الطلاق كان دائماً ملاذاً نهائياً للرجل، ولايلجأ إليه إلا باعتباره باباً للرحمة في مجال علاقة زوجية غدا صدعها غائراً عميقاً.
ولم يكن مطلقاً بغياً من الرجل على المرأة لقوله تعالى “فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً” فلا يكون الفراق بين الزوجين ظلماً أو حمقاً، بل معروفاً وانتصافاً “لا ينال من الحقوق التي جر إليها” ولا يسقط عن المطلق تبعاتها. وتلك هي الشريعة الإسلامية ، قوامها العدل والرحمة ، وجوهرها دعوة إلى البر والإحسان لا تتناهى . ومما يناقض وسطيتها أن يكون الصغار ضحايا لنزق آبائهم، يمنعونهم ما يستحقون.
وحيث إن ما قرره المدعى من أن المطلق – إذا ما كان مالكاً قانوناً لمسكن الزوجية – فإن اختصاص صغاره من مطلقته بهذا المسكن من دونه، إنما يجرد ملكيته من بعض عناصرها، إخلالاً بالحماية التي كفلها الدستور لها بالمادة (34)، مردود بأن الملكية في إطار النظم الوضعية التي تزاوج بين الفردية وتدخل الدولة ، لم تعد حقاً مطلقاً، ولا هى عصية على التنظيم التشريعي . وليس لها من الحماية ما يجاوز الانتفاع المشروع بعناصرها. ومن ثم ساغ تحميلها بالقيود التي تتطلبها وظيفتها الاجتماعية، وهي وظيفة لا يتحدد نطاقها من فراغ، ولا تفرض نفسها تحكماً، بل تمليها طبيعة الأموال محل الملكية ، والأغراض التي ينبغى رصدها عليها، محددة على ضوء واقع اجتماعى معين، في بيئة بذاتها لها توجهاتها ومقوماتها.
وفى إطار هذه الدائرة ، وتقيداً بتخومها، يفاضل المشرع بين البدائل، ويرجح على ضوء الموازنة التي يجريها، ما يراه من الصالح أجدر بالحماية ، وأولى بالرعاية وفقاً لأحكام الدستور، مستهدياً في ذلك بوجه خاص بالقيم التي تنحاز إليها الجماعة في مرحلة بذاتها من مراحل تطورها، وبمراعاة أن القيود التي يفرضها الدستور على حق الملكية للحد من إطلاقها، لا تعتبر مقصودة بذاتها، بل غايتها خير الفرد والجماعة .
ولا تعارض الشريعة الإسلامية في مبادئها الكلية ما تقدم. ذلك أن الأصل فيها أن الأموال جميعها مردها إلى الله تعالى ، أنشأها وبسطها، وإليه معادها ومرجعها، مستخلفاً فيها عباده الذين عهد إليهم بعمارة الأرض، وجعلهم مسئولين عما في أيديهم من الأموال لا يبددونها أو يستخدمونها إضراراً. يقول تعالى “وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه”. وليس ذلك إلا نهياً عن الولوغ بها في الباطل. وتكليفاً لولى الأمر بأن يعمل على تنظيمها بما يحقق المقاصد الشرعية المتوخاة منها، وهى مقاصد ينافيها أن يكون إنفاق الأموال وإدارتها عبثاً أو إسرافاً أو عدواناً، أو متخداً طرائق تناقض مصالح الجماعة أو تخل بحقوق للغير أولى بالاعتبار. وكان لولى الأمر بالتالي أن يعمل على دفع الضرر قدر الإمكان، وأن يحول دون الإضرار إذا كان ثأراً محضاً يزيد من الضرر ولا يفيد إلا في توسيع الدائرة التي يمتد إليها، وأن يرد كذلك الضرر البين الفاحش.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان اختصاص صغار المطلق بمسكن الزوجية ، مقيداً بتراخيه في أن يوفر لهم مسكناً مناسباً يكون بديلاً عنه، فإن استقلالهم به يغدو متصلاً بنفقتهم، مترتباً على الإخلال بإيفائها، بعد أن غض أبوهم بصره عن إحياء صغاره، ليكون استمرارهم في شغل مسكن الزوجية ، عائداً في مصدره المباشر إلى نص القانون، وعلى ضوء الموازنة التي أجراها المشرع بين مصلحة المطلق في أن يظل مقيماً بهذا المسكن من دون صغاره، ومصلحتهم في البقاء فيه من دونه، مرجحاً- في نطاق سلطته التقديرية في مجال تنظيم الحقوق- ثانيتهما، باعتبار أن تفويتها يلحق بصغاره مضاراً لاحد لها، ولأن الأضرار حين تتزاحم، فإن اختيار أهونها دفعاً لأعظمها خطراً وأفدحها أثراً، يكون لازماً، وواقعاً فيه نطاق الوظيفة الاجتماعية للملكية ، التي يحدد ولى الأمر إطارها وتوجهاتها.
وحيث إن إعمال الفقرة الثالثة من النص المطعون فيه – محدد إطاره على ضوء قضاء المحكمة الدستورية العليا – يفترض أن المطلق قد تراخى عن أن يعد مسكناً مناسبا لصغاره من مطلقته،رغم قيام الدليل على أنهم لا يملكون ما لاً حاضراً يدبرون منه سكناهم، وليس لحاضنتهم مسكن تقيم فيه ويأويهم تبعاً لها -فإن اختصاصهم -من دون أبيهم – بمسكن الزوجية ، يكون لازماً.
وحيث إن البين من الأعمال التحضيرية لهذه الفقرة – حسبما تضمنتها مضبطة الجلسة الثامنة والتسعين لمجلس الشعب المعقودة في أول يوليو سنة 1985 – أن حكمها لم يكن وارداً في مشروع القانون المعروض بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية ، وإنما اقترحها أحد أعضاء هذا المجلس تخييراً للحاضنة بين الاستقلال مع الصغار بمسكن الزوجية ، وبين أن يقدر القاضي لها وللمحضونين أجر مسكن مناسب؛ وكان ذلك من المشرع بحسبان أنها قد تؤثر الانتقال مع الصغار إلى ذويها طلباً لملاذهم وعونهم، وقد يكون لها مسكنها ويريحها أن تظل فيه، بافتراض أن انتقالها منه إلى مسكن الزوجية قد يؤذيها أو يرهقها، وقد يروعها – بما يقوض سكينتها وصفاء نفسها- فيما إذا كان أهل المطلق أولو بأس شديد،، فلا تخلص – إزاء اضطرابها- لمحضونيها، ولا تمنحهم من اهتمامها ما يستحقون، ولاتعُينهم على قضاء حوائجهم بما يكفيها؛ فإن اختيارها أحد هذين البديلين – مسكن الزوجية أو أجر مسكن مناسب للمحضونين ولها –لا يكون مناقضاً أحكام الدستور – ومن بينها مادته الثانية – باعتباره مقرراً لمصلحه لها إعتبارها، وإهما لها يلحق الضرر بها وبمحضونيها.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية المادة (18) مكرراً ثالثاً – المضافة بالقانون رقم 100 لسنة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية إلى المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية ، وذلك فيما نصت عليه وتضمنته من:-
أولاً: إلزامها المطلق بتهيئة مسكن مناسب لصغاره من مطلقته وحاضنتهم ولو كان لهم مال حاضر يكفى لسكناهم، أو كان لحاضنتهم مسكن تقيم فيه، مؤجراً كان أم غير مؤجر.
ثانياً: تقييدها حق المطلق – إذا كان مسكن الزوجية مؤجراً – بأن يكون إعداده مسكناً مناسباً لصغاره من مطلقته وحاضنتهم، واقعاً خلال فترة زمنية لا يتعداها، نهايتها عدة مطلقته.
وألزمت الحكومة المصروفات ومائة جنية مقابل أتعاب المحاماة .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .