(الاتهام والتجريم في الفكر القانوني المعاصر )

المتهم محصن بأصل براءته

عندما بدأ مفعول السم يسري في جسد سقراط ،اشار الى تلميذه المخلص كريتون بالاقتراب ليقول له بصوت ضعيف :كريتون، في ذمتنا ديك لايسكولاب . ادفع له ثمنه دون نقاش.
ـ حاضر يا سيدي . هل تريد شيئاً اخر ؟
لم يجب سقراط . لقد مات …

وايسكولاب هو اله الطب عند اليونانيين ، ومناسبة هذه المحادثة ان محكمة غير عادلة مؤلفة من خمسمائة قاض وقاض حكمت على المتهم سقراط بالموت تجرعاً للسم بناءاً على شكوى كيدية قدمها مواطن يدعى مليتوس اتهمه بالكفر وادخال شياطينجديدة الى المدينة وافساد الشباب . وهي تهمة باطلة اودت بحياة واحد من اعظم رجال الفكر الانساني .
ان مثل هذه الاحكام الظالمة ، ولو صدرت من خمسمائة قاض وقاض ، مبنية على الجهل او الفهم غير الصحيح لطبيعة الامور . والجهل اساس كل شر ، واسوأ انواع الجهل ، هو الجهل الذي يقوم على عقيدة او معرفة خاطئة ، ومنها العقائد العنصرية كالنازية او الفاشية ، او الناجمة عن الغلو والتطرف كالتعصب الديني او الطائفي ، فهو جهل يستند الى علم كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ( وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلاً )(1) ، وهو قول يشير الى فكرة فلسفة تجريدية عميقة المعنى ووصف غير مسبوق في غاية الدقة والبراعة .
وقد تكون الاحكام الظالمة مبنية على الجهل المطبق الذي لا يستند اصلاً الى اية معرفة ، كالجهل بالشريعة او القانون او منطق الامور .
والجهل سواء استند الى علم او الى جهل ، لابد ان يقود الى الظلم ، فالجهل وعاء للنفاق والنميمة والعزة بالاثم والانانية المفرطة والقسوة البالغة والاحتيال وانكار حقوق الاخرين وعدم قبول الرأي الاخر بل معاداته بشدة ، وهكذا قال الامام علي عليه السلام بحق ان ( العلم نور والجهل ظلام ) .

وقد تعلمت البشرية خلال رحلتها الطويلة مع الظلم والتعسف ،الكثير من الدروس ، ومن اهم هذه الدروس ان الحرية الشخصية اغلى من الحياة ذاتها ، وان لا حياة حقة مع العبودية وانه لا يمكن ترك امر تقدير حدود الحرية الى هوى وتحكم وتحيز الفرد اومجموعة من الافراد ولو كان عددهم من الكثرة ما يكفي للشعور بالاطمئنان ، وهكذا كانت من اولويات الدساتير الحديثة وضع ضمانات دستورية راسخة للحقوق والحريات في مواجهة السلطات العامة جميعاً بما فيها السلطة التشريعية.
ومن جانب اخر ، غالباً ما تفهم المصطلحات القانونية او تفسر على غير المعنى الذي وضعت له اصلاً ، ومن ذلك مصطلح ( المتهم )(2)،الذي ينظم مركزه القانوني قانون اصول المحاكمات الجزائية او ما يعرف في القوانين المقارنة بقانون الاجراءات الجنائية وقد يختلط في ذهن الناس مع مصطلح المجرم او المدان . والحقيقة ان هناك فرقا واضحا وكبيراً بين المصطلحين .
كما ان وقع الجريمة على الناس يجعلهم يصبون جام غضبهم على من اتهمته السلطات بالجريمة ولو كان الاتهام في حقيقته قد جاء بناءاً على مجرد بلاغ من احد الافراد ، فقد تكون التهمة كيدية اوملفقة او كانت لاسباب سياسية او بسبب تعارض المصالح في اطار المنافسة غير المشروعة وما يتبع ذلك من تشهير اعلامي قد يكون سبباً في تضليل الرأي العام . ومن ثم يتنكرون لاصل براءة المتهم متناسين ان ذلك الانكار يمس ضمانات حريات جميع الناس وقد يكون احدهم محل تهمة كيدية في ذات يوم فيطالب حينها بالعدل والانصاف .

وهكذا قيل ان الاحساس بالعدالة لا يوجد في اعماق عموم الناس التي لا تدرك ضرورة العـدل الا حينما يصيبها ضرر ، وتظل غير حافلة تماماً بالضرر الذي يصيب حق الغير الا بصورة نسبية قد تكون غير فعالة .

ماهية قانون اصول المحاكمات الجزائية

يعرف قانون اصول المحاكمات الجزائية في فقه القانون بانه قانون الحريات العامة ، لما يمثله من ضمانة اساسية للحقوق والحريات الشخصية وضمان التوازن بينها وبين المصلحة العامة . وبصورة عامة ، كما يذهب اغلب فقهاء القانون الوضعي ، الى ان العلاقة بين الحرية والقانون وثيقة جداً ، فالقانون هو ابتدءاً ، قيد على الحرية كما هو حال قواعد الدين والاخلاق ، فهي تتضمن جميعا قيودا ترد على إرادة الفرد وحريته ، ولكنها قيوداً يقصد منها السمو بالسلوك الانساني الى مستوى التحضر وتنظيم الحياة الاجتماعية . ومثلما يمكن ان يستخدم القانون كأداة للطغيان يمكن ايضاً ان يستخدم ، وهذا هو الأصل المفترض بناء على فكرة العقد الاجتماعي ، كأداة لتحقيق الحريات الأساسية التي تعتبر في المجتمع الديمقراطي جزءاً جوهرياً من مضمون فكرة الحياة الحرة الكريمة ، كفكرة حديثة وغاية يجب ان يسعى القانون لإدراكها .

وفي ضوء ما تقدم يرتبط قانون الأصول مع قانون العقوبات برابطة وثيقة اذ يكمل احدهما الاخر ، فاذا كان قانون العقوبات يعنى بقواعد التجريم والعقاب وفقاً لمبدأ قانونية الجريمة والعقاب ( مبدأ الشرعية ) . فان قانون الاصول يبحث في مدى توفر شروط التجريم والعقاب وفق اجراءات قانونية ،بمعنى أخر مدى قانونية التجريم والعقاب اثناء مرحلة التحقيق والمحاكمة وتنفيذ العقوبة ان تحققت الادانة .

فهو يضمن تحقق الغاية والحكمة من التجريم والعقاب وضمان ان الحرية الفردية لن تهدر اثناء التحقيق والمحاكمة حتى لو جاء ذلك الهدر في الحقيقة من القاضي الذي يطبق قانون العقوبات بما يتضمنه قانون الاصول من قيود على ارادة القاضي وسلطته التقديرية .

إلا ان القاضي وضميره الحي المشبع بروح العدالة والانصاف ، يبقى هو في النهاية الحارس الامين للحقوق والحريات العامة .(3)
فما وضع قانون الاصول الا لضمان ان حرية الانسان لن تنتهك وان توقيفه اوحبسه او سجنه لن يكون الا بناءاَ على اسباب محددة ووفق اجراءات قانونية وقضائية نص عليها الدستور في مبادئه العامة ونظمتها القوانين بالتفصيل .
وقد قيل بحق ان قانون العقوبات انما وضع لمواجهة الاشرار وان قانون الاصول الجزائية وضع لحماية الشرفاء .
ان الوصف السائد لقانون الاصول بانه قانون شكلي ينظم سير الدعوى الجزائية بكافة مراحلها وقواعد المرافعة والعقوبة وتنفيذها ، انما هو وصف يقلل من اهميته البالغة ، ذلك ان الوصف الذي يليق بهذا القانون هو انه ذلك القانون الذي ينظم الحماية الدستورية للحقوق والحريات العامة في اطار المباديء الدستورية الي تنظم اجراءات الاتهام والمحاكمة القضائية العادلة والمنصفة على اساس ان الاصل في المتهم البراءة حتى يثبت العكس .
ان الهدف النهائي لقانون الاصول هو الموازنة بين الحرية الشخصية والمصلحة العامة ، بمعنى اخر الموازنة بين حق الدولة في العقاب وحق الفرد في الدفاع عن نفسه عن تهمة قد تكون باطلة.
ومن المبادئ الأصيلة والأصلية في هذا القانون ان ( المتهم بريء حتى تثبت ادانته ) او كما يعبر عنها (الاصل في المتهم البراءة ) او ان ( المتهم محصن باصل براءته ) ويتفرع منه مبدأ ( ان الشك يفسر لمصلحة المتهم ) .

الاصل في المتهم البراءة

الاصل ان المتهم بريء حتى ثتبت ادانته في محاكمة قانونية عادلة ، وبما ان الاصل في المتهم البراءة فان القول قوله وهو مصدق فيه حتى يثبت العكس بادلة قاطعة ولهذا لا يطلب منه اداء اليمين ما دام الاصل انه صادق ، ولأن اليمين لا يكون الا مع من يدعي خلاف الاصل ، وان حصل شك في الادلة فان الشك يفسر لمصلحته لان ذلك يقوي اصل براءته ، ولا يكون كذبه دليلاَ ضده لانه في سبيل الدفاع عن نفسه .

وهذا الاصل حق من حقوق الانسان ، وعنوان من عناوين الحرية انتزعته الشعوب عبر ثورات عنيفة بعد عهود من التحكم والتسلط حُكم فيها على الأبرياء على مجرد الظن والشبهة والنميمة ، نما وتراجع عبر العقود التاريخية ، حتى وقف شامخاً في العصور الحديثة . وهو حق تبنته جميع المواثيق الدولية التي تعنى بحرية الانسان وكرامته ، ومبدأ اصيل ترسخ عبر الزمن لا يخلو منه دستور معاصر وقانون اجرائي ، اما بعد فهو ركن اساس من اركان المحاكمة العادلة المنصفة .

انطلق في الفكر القانوني الحديث كمبدأ دستوري بعد ان نص عليه اعلان حقوق الانسان والمواطن في مقدمة دستور سنة 1789 الفرنسي . واصبح قاعدة دولية لا يمكن نكرانها او تجاهلها بعد ان نص عليها الاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948 بالقول على انه ( كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً حتى تثبت ادانته قانوناً بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات للدفاع عنه ) . ( م 11/1 ) ونصت المادة الثامنة من الإعلان على انه ( لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لأنصافه عن أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها له القانون )

وعلى هذا النحو ذهب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966، حيث جاء في الفقرة (2) من المادة (14) منه على انه ( 2ـ لكل فرد متهم بتهم جنائية الحق في أن يعتبر بريئا ما لم تثبت إدانته طبقا للقانون. ) وكذلك نص المادة (6) من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الانسان وحرياته الاساسية لسنة 1950.

الا ان الشريعة الاسلامية الغراء سبقت الشرائع القديمة والحديثة كلها في اقراره كمبدأ ثابت وكأصل من اصولها لا يقبل التغيير اوالانكار كما كان الحال في الشرائع الوضعية التي سبقتها . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهاً المسلمين وقضاتهم ( ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فان وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله ، فإن الامام لأن يخطيء في العفو خير من يخطيء في العقوبة ) . ولا عجب فالاسلام دين الرحمة والانسانية الحقة.
ونتناول الاساس التاريخي .. الاساس الفلسفي .. الاساس الدستوري وما يتفرع عن المبدأ.

أصل البراءة تاريخياً

كانت العقوبة في المجتمعات البدائية وسيلة للانتقام وكان الفرد هو القاضي والخصم في آن واحد يقتضي حقه او ما يعتقد انه حقه بيديه ، بل ان فكرة الانتقام كانت تمتد لتغطي الانسان والحيوان والاشياء ، وكان الانسان البدائي لا يفرق عند الانتقام بين الانسان والحيوان والجماد ، فان شك بخطر على حياته من انسان ما انقض عليه ليقتله او يجرحه او يسترقه ،وان كان حيواناً قتله ، وان كان جماداً هدمه و اتلفه ، ولم يكن في ظل هذه الاجواء مجال للجدل حول افتراض براءة المتهم من عدمها ، فمصدر الخطر المتوقع او المبني على الشك لا بد ان يزاح من الطريق باية وسيلة كانت ،وقد تطور الأمر لاحقاً الى إنشاء محاكم خاصة بالكائنات غير الإنسانية ومن ذلك المحكمة التي أنشأها قدماء اليونان والتي عرفت باسم محكمة البريتانيون وكانت تقام الدعوى أمامها على الصخرة او قطعة الحديد او الخشب التي سقطت على شخص فقتلته ، وكان يحكم على الجماد بالتحطيم وعلى الحيوان بالإعدام .

ومثل هذا الاحساس والرغبة البدائية بالانتقام هي نفسها ما تتوفر في نفس كل طاغية ولو كان مواليد العصر الحديث ، وعلى هذا فان هذا المبدأ لا وجود له في المحاكمات المخابراتية والامنية في اطار المحاكم الخاصة ، فالاصل فيها ان المتهم مذنب ابتداءاً حتى يثبت العكس ان اتيح له ذلك فعلاً.

ومع تطور الفكر الانساني اصبحت هناك فرصة للمتهم للدفاع عن نفسه ، ولكنها فرصة مبنية على افتراض الادانة مقدماً ويقع على عاتق المتهم عبأ اثبات العكس بأن يقدم الدليل على انه بريء ، فعليه يقع عبأ الاثبات وغالباً ما يرتبط ذلك بطقوس دينية ومنها اليمين والتعذيب والقتال بين الخصمين .

اما في القانون الروماني ، فقد افترضت براءة المتهم في ظل اجراءات المرافعة الشفوية وكان على الخصم ان يقدم الدليل على ما يخالف هذا الافتراض، وقد امر الامبراطور انطونيوس ، وهو ثمرة من ثمار المدرسة الرواقية ، ان يفسر الشك لمصلحة المتهم وان يظل الانسان بريئاً حتى تثبت ادانته .

إلا إن هذا المبدأ واجه ردة بعد اتباع قضاة روما نظام المرافعات المكتوبة، حيث كان القاضي يفترض في المتهم الجرم ابتداءاً ويطلب منه تقديم ايضاحات عن الجرم المنسوب اليه ، فاضحى عبأ اثبات براءته يقع على عاتقه .
وفي أوروبا القرن الثالث عشر والرابع عشر ظهر ما يعرف بمحاكم التفتيش البابوية لمحاكمة من اتهموا بممارسة السحر والهرطقة واعتمدت هذه المحاكم الدينية قواعد إجرائية مجافية لأبسط قواعد العدالة فالأصل فيها إن المتهم مذنب حتى تثبت براءته . ومورس التعذيب بأبشع صوره لانتزاع الاعتراف وتكتفي المحكمة لتكوين قناعتها بالاستماع إلى شاهد أو شاهدين ، واسوا ما في الأمر انه لم يكن بالإمكان مناقشة الشاهد أو مشاهدته لأنهم في الغالب من المخبرين السريين مما لا يتيح للمتهم إبداء سببا انتقامياً للشهادة ، وكانت تبعات الحكم تمتد إلى أبناء المحكوم عليه حيث تصادر أملاكهم ويحرموا من تولي بعض الوظائفالمهمة.
إلا انه بظهور نظام الاتهام في بعض الانظمة القانونية المرتبط بتقدير الحريات العامة وصيانتها ، اضحى امر افتراض براءة المتهم امراً طبيعياً ومنطقياً ، بل ان مجرد الاتهام في ظل هذا النظام يعد اعتداءاَ على الحرية الشخصية ومن ثم يلزم الخصم او ممثل الاتهام بتقديم الدليل على صحة دعواه تجاه الشخص المشتبه به .

اما في ظل نظام التحري الذي ظهر للوجود في القرن السادس عشر ، فان اصل البراءة فقد بعض شموليته ، فقد حلت قرينة الجرم او الذنب محل اصل البراءة فيما يتعلق بالاجراءات الماسة بالحرية الشخصية فاجيز القاء القبض والتوقيف والتعذيب في بعض الحالات للحصول على الاعتراف كاجراءات معتادة في التحقيق الابتدائي ، اما فيما يتعلق بجمع الادلة فقد افترضت براءة المتهم ومن ثم يقع على عاتق القاضي او النياية العامة عبأ جمع الادلة والاثبات .
الا ان هذا النظام لم يلق قبولاً مع تطور الافكار الاجتماعية وبروز عصر الثورات الكبرى وتنامي فكرة الحرية الفردية وخاصة في القرن الثامن عشر، فقد ذهب الفقيه الايطالي بيكاريا في كتابه ( الجرائم والعقوبات ) (1764) الى عدم جواز وصف الشخص بالمذنب قبل صدور حكم قضائي بادانته وانه ينبغي ان تبقى الحماية الاجتماعية للفرد وحريته الشخصية قائمة في فترة التحقيق والمحاكمة