-مبادئ العقوبة في القانون-

أهم المبادئ التي تقررت في التشريعات الوضعية الحديثة للعقوبة هي :

أولا : مبدأ المشروعية ( القانونية ) :

وهذا المبدأ بديهي في العلوم الجنائية ويسمى عند بعض علماء القانون مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ونجد جميع التشريعات الوضعية الحديثة تنص عليه بصراحة في قوانينها، بلفظ (( لا جريمة ولا عقوبة إلا بالقانون )) وقد نص عليه المشرع الوضعي الجزائري في المادة الأولى من قانون العقوبات (( لا جريمة ولا عقوبة ولا تدابير أمن بغير قانون)).

ويمكن تحديد مفهوم هذا المبدأ في النقاط التالية :

1) إن هذا المبدأ يعنى حماية حقوق الأفراد من تعسف القضاة الذين قد يجرمون أفعال مباحة ويحددون عقوبة أشد من خطر الجريمة، ولهذا رمى هذا المبدأ إلى جعل القاضي مقيدا بنصوص القانون، فلا يحرم الفعل إلا إذا حرمه القانون، ولا يعاقب بعقوبة إلا إذا حددها القانون، وكل مخالفة لهذا المبدأ تعد خرقا للقانون قد تؤدي إلى توبيخ القاضي أو عزله من منصبه عند تعسفه .

2) هذا المبدأ يحدد أيضا طرق القضاء والتقاضي حيث أن السلطة المعاقبة المكلفة بتطبيق العقوبة هي السلطة القضائية، ولذلك يقضي على كل فوضى سواء كانت من السلطات الأخرى، التنفيذية، والتشريعية، أو ممن يريد الحكم لنفسه .

ثانيا : مبدأ التناسب بين العقوبة والجريمة .

وقد ظهر هذا المبدأ جليا في تقسيم الجرائم حسب خطورتها إلى الجنايات والجنح، والمخالفات, ولكل نوع عقوبة، فلا يشدد في العقاب إلا إذا نص عليه التشريع صراحة مهما كانت الظروف والأحوال، ويعني بالتناسب بين العقوبة والجريمة تشديد العقوبة في الأفعال التي تهدد كيان المجتمع وأفراده، وتخفيف العقوبة كل ما كان الأمر أقل، وسنناقش هذا المبدأ عند تعرضنا لأسس التقسيم إن شاء الله .

ثالثا : مبدأ شخصية العقوبة :

وهو ضروري ظهر في جميع القوانين الحديثة, ويتجلى في عدم مؤاخذة الغير بفعل غيرهم، فكل مرتكب الجريمة أو مساهما فيها هو الذي تقوم المسؤولية الجنائية في حقه وأما الغير الذي لا علاقة له بالجريمة فلا يجوز معاقبته إطلاقا .

وقد وضع هذا المبدأ كرد فعل للممارسات الغير الشرعية التي مورست ضد ذوي المجرمين أو أهلهم عند عدم القبض عليهم، بل ومعاقبتهم في بعض الأحيان بدون حجة ولا سبب سوى قرابتهم أو علاقتهم مع المجرم لذلك بعد هذا المبدأ لا يعاقب إلا من إرتكب الفعل المحرم ولا تتعداه العقوبة إلى غيره مطلقا.

رابعا : مبدأ المساواة في العقوبة :

وهذا المبدأ يقضي بأن تكون العقوبة واحدة لكل المجرمين مع بعض الإستثناءات التي يرى علماء القانون أنها لا تتنافى مع مبدأ المساواة مثل الحد الأقصى والحد الأدنى, بل هناك من يرى أنها أساس المساواة ما دامت تراعي ظروف المجرم والحالة التي كان فيها عند إقترافه للجريمة، وهناك مسائل لم تناقش من طرف علماء القانون وهي ما يعرف بالحصانة على بعض الطوائف السياسية أو القضائية أو التشريعية وهل هذا من المساواة، أو ضد هذا المبدأ وهذه المسائل أدرجناها في الفصل الثاني مناقشتها بعد معرفة العموميات التي نحن بصدد التعرف عليها .

ويعود ظهور هذه النظريات إلى الآراء والأفكار التي جاءت بها المدارس العلمية والتي إهتمت بدراسة مشكلة الجريمة وبشكل أخص سياسة العقاب من حيث أساسه وأغراضه .

ومما ساعد على ظهور هذه المدارس هي فشل السياسات السابقة في مكافحة الجريمة ،وأولى المدارس التي ظهرت هي المدرسة التقليدية ثم تليها المدرسة الموضوعية والتي حاولت التخفيف من تطرفها ثم أعقب ذلك ظهور المدرسة الحديثة التي حاولت التوفيق بين المدرستين .

يقصد بالمدرسة التقليدية آراء الفلاسفة منذ العهد

أولا : المدرسة التقليدیة

اليوناني ، القائلون أن القانون عموما هو تأكيد للعدالة، واعتمد هذه النظرية كثير من العلماء، منهم كانط وهيجل وهربرت وبنتام وغيرهم من المناهضين للإستبداد الموروث عن القرون الوسطى، تأكيدا لمبدأ حقوق الأفراد في الضمانات القانونية لحرياتهم الشخصية، وتقييدا لسلطة الحكام للتقليل من طغيانهم .

و إستندت هذه المدرسة إلى نظرية العدالة المطلقة، وكذلك الإتجاه النفعي للعقوبة غير أنهما معا يؤسسان أفكارهما على القانون الطبيعي، وتأسيس المسؤولية الجنائية على حرية الفرد في التصرف والإختيار .

وخلاصة آراء هذه المدرسة أنها تؤسس قانون العقوبات على مبدأ تأكيد العدالة، وأساس المسؤولية الجنائية هو حرية التصرف وغاية العقوبة هي القصاص المبني على الزجر وأسست هذه المدرسة نظريتها على المبادئ التالية:

1) شرعية العقوبة : ويعني بها تقييد الدولة في العقاب فلا عقوبة إلا على أفعال المجرمين بقانون .

2) عدم المبالغة في العقوبة : لكون التشديد والقسوة قد يؤديان إلى أضرار خطيرة، والتخفيف من العقوبات أنجح من التشديد، حتى طلب البعض إلغاء العقوبات البدنية كالإعدام .

3) تقرير ضمانات الفرد في كل أطوار البحث والمحاكمة وعند تنفيذ العقوبة وقد تبلورت أفكار هذه المدرسة وحددت من طرف كبار المتعاطفين معها، وظهرت هذه الأفكار في إتجاهين رئيسيين هما :

أ) الإتجاه النفعي للعقوبة :

ظهر هذا الإتجاه في ظل التغيرات الإجتماعية في أوربا خاصة وبقيت القوانين على حالها مما أدى إلى ظهور تناقض بين مسيرة المجتمع وقيود القانون، فهناك عقوبات مخزية ومشينة لكثير من الجرائم البسيطة، مما أدى إلى عدم التناسب بين العقوبة وجسامة الجريمة إضافة إلى تسلط الجهاز القضائي وتوسيع سلطته، من حيث التجريم وتحديد العقوبة، والمساواة أمام القانون، ومراعاة حالة المجرم وظروف الجريمة .

في ظل هذه التناقضات ظهر هذا الإتجاه بزعامة جروزبو في سنة 1679 ثم تبعه هوبز وتوماس وغيرهما ونادوا كلهم بوجوب ربط العقوبة بغرض نفعي عام يعود على المجتمع، وحدد الكاتب الإيطالي ( بكاريا ) المنهج العقابي ودور العقوبة بنظرية علمية فوصل إلى نتائج منطقية وطالب بتغيير الأنظمة العقابية القائمة لأنها لا تؤدي إلى النفع العام الذي هو محاربة الجريمة وحدد غرضها بمنع المجرم من العودة للإجرام وردع غيره من الوقوع فيه، ولقد تأثر بهذا الإتجاه كثيرا من التشريعات الأوروبية .

ب ) الإتجاه الأخلاقي:

بعد أن ظهر عجز الإتجاه النفعي في تحقيق مبدأ العدالة المطلقة، لكونه أسس كل نظرياته على الدراسة الشكلية للعقوبة دون الأخذ بمعطيات الظروف العامة والخاصة للمجتمع والفرد وإهمال حالة المجرم عند إقترافه الجريمة، ظهرت نظرية جديدة سميت بالإتجاه الأخلاقي وهذا الإتجاه هو : ( تأسيس العقوبة على الجانب النفسي أو المعنوي للمذنب )

ويعني بذلك جعل العقوبة مقابلة للأذى المحقق من الجريمة والتركيز على الإرادة الخاطئة (القصد) دون غيرها، وجعل حرية الإختيار هي الأساس المعتبر قانونا والذي تقام عليه المسؤولية حتى يشعر المعاقب بأنه عوقب على تعمده، لا عن خطئه وبذلك تحقق العقوبة مبدأ العدالة المطلقة. وأهم عيوب هذه المدرسة هي :

أنها ركزت دراستها على الجريمة، وأهملت دراسة المجرم والعوامل المؤثرة في سلوكه الإجرامي، سواء كانت هذه العوامل إجتماعية أو نفسانية أو غيرهما، واعتمدت في الإتجاه الأول على الردع العام لتحقيق الغاية التي هي في نظرهم العدالة المطلقة .

أما الإتجاه الثاني الذي يؤسس العقوبة على حرية الإختيار، فلجأ أصحابه في تحديد مفهومه لعلم النفس الوصفي والذي لا يعطى للبواعث المختلفة تأثيراتها الفعلية على الإرادة, والإختيار أي يشكك في مبدأ تأثير البواعث على الإرادة.

ولذلك فإن هذا الإتجاه أيضا شكلي إهتم بالجريمة كواقعة قانونية، وأهمل الجانب المادي لها إضافة إلى رفضه لكثير من المبادئ الإنسانية كالإفراج الشرطي وغيره.

بعد فشل المدرسة التقليدية في إثبات الطرق وعية :

ثانيا : المدرسة الموض

الواصلة لغاية العقوبة نظريا، ظهرت هذه المدرسة بنظريات جديدة لغرض علاج ظاهرة الإجرام المتزايدة في المجتمعات البشرية، وخاصة بعد ظهور دراسات الفكر الطبيعي في النصف الأول من القرن التاسع عشر على يدي داروين الذي أسس نظريته المعروفة بإسم نظرية النشوء والتطور، والتي مؤداها أن الإنسان مخلوق متطور مر على مراحل بدائية لا يفرق بين الإجرام والأفعال المباحة غير المضرة، ثم تطور إلى أن وصل إلى هذا الشكل المعروف بسلوكه وإرادته في الأفعال التي يقدم عليها، ونادى هو ومناصروه بتفسير الظواهر الطبيعية الأخرى المؤسسة على السببية أي معرفة الأسباب التي بها توجد الظاهرة وما دام الإجرام ظاهرة طبيعية في الفرد والمجتمع، فلا بد من دراسة أسبابه، ليمكن علاجه بطريقة علمية والقضاء على الأسباب التي تؤدي بالفرد إلى الإقدام على إرتكاب الجريمة وبذلك نقي الفرد والمجتمع منها .

ورغم أن مؤسسي هذه النظرية يزعمون أنهم إختاروها وفق منهاج علمي دون أن تكون لهم رابطة بأي إتجاه سابق, إلا أن علماء الفلسفة من بعدهم أثبتوا إرتباط هذه النظرية بمفهوم الفلسفة المادية والوضعية الرافضة لمفهوم الدين عموما، وعدم الإعتراف بما وراء الطبيعة خصوصا وجعلوا من الإنسان مجرد جزء من القوى الطبيعية وكل أفعاله وتصرفاته ترجع إلى تكويناته العضوية والنفسية وتأثرها بالمحيط العام، وهو بهذه الخصائص لا يختلف عن الكائنات الحية الأخرى من حيوانات ونباتات.

ووصلوا إلى نتيجة بعد الدراسات التحليلية والتجريبية هي : (إن الإنسان مسير في أفعاله بأسباب وعوامل يتفاعل بعضها مع البعض).

والجريمة هي نتيجة تلك الأسباب التي إن وجدت تتحقق ولو لم تكن له حرية الإختيار

وقد مرت هذه المدرسة بمراحل عديدة حسب البحوث النظرية التي قام بها لامبروزو وجاروفالوا، وحيرسبنسي وغيرهم .

فقد قام لامبروزو بدراسة المجرم دراسة علمية أنثروبولوجية وبين في كتاباته أنه توصل إلى نتائج مرضية حسب رأيه، حيث برهن على أن الإنسان المجرم يتصف بصفات خلقية في أعضائه الحساسة تجعله يقدم على الإجرام آليا دون أن تكون له إرادة وقدم نماذج من هذا الإنسان واقترح حلولا بعد أن قسم المجرمين إلى طوائف :المجرم بالطبع، وبالمجرم بالصدفة .

حيث أكد على وجوب إقصاء المجرم بالطبع من المجتمع نهائيا وإمكان علاج المجرمين من أنواع أخرى.

ولكن قام فريق من العلماء من بعده بدراسات مدققة أثبتوا خطأ ما توصل إليه لامبروزو فقد درسوا الأشخاص الذين توجد لديهم نفس الصفات المذكورة في المجرم عند لامبروزو لكنهم ليسوا بمجرمين واقترحوا حلولا لهذه المعضلة منها الإعتماد على الدراسات النفسية للمجرم بدلا من دراسة صفاته الخلقية لكون الجريمة نتيجة شذوذ نفسي يستوجب العلاج في نظرهم .

وبعد هذه المرحلة ظهرت طائفة أخرى من العلماء منهم: فلوريان، وفيري وغيرهم نادوا بدراسة الجريمة والظروف الإجتماعية .

التي تحيط بالمجرم والدافعة له عند إرتكاب جريمته .

ورغم الدراسات العلمية الكثيرة التي قام بها كثير من العلماء إلا أنهم لم يصلوا إلى نتائج نظرية يمكن الإعتماد عليها كغاية للعقوبة .

هذه المدرسة أقامت نظريتها على الجمع بين الحدیث :

المدرس ثالثة :

المبادئ، السابقة من المدرستين التقليدية والوضعية، وأخذت ببعض مبادئ كل منهما وحاولت التوفيق بينهما لغرض الوصول إلى نظرية حديثة تحدد غاية العقوبة نظريا بدقة وتقلل من ضرر الجريمة، وقد إعتمدت الأساس المعترف به عند المدرسة التقليدية غير أنها وضعت له مفهوما جديدا مؤداه أن الإنسان حر في إختياره لسلوك معين غير أن ذلك يكون نتيجة البواعث النفسية المختلفة والتي يتأثر بها الفاعل عموما أو لأقوى منها، مما يستوجب الأخذ بمبدأ دراسة المجرم والأسباب الدافعة للإجرام بغرض وقايته ووقاية المجتمع منها .

غير أن هذه المدرسة تعترف بالجبرية النفسية، وبالتالي تناقض النتائج التي وصلت إليها كالتأهيل للمسؤولية وعدم التأهيل, بمعنى قيام المسؤولية على المؤهل دون غيره لكنها نقضت ذلك بإعترافها بمبدء الجبرية النفسية الذي يتنافى معها قيام المسؤولية أصلا .

وقد ظهرت من بعدها نظريات حديثة مبنية على الأسس المذكورة مع بعض الإضافات أو ترجيحات لمبدأ على مبدأ، من هذه النظريات نظرية الدفاع الإجتماعي التي تهتم بالوقاية العامة والخاصة وجعلته غاية العقوبة .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت