الحوكمة القضائية
د. أسامة بن سعيد القحطاني

إعادة نشر بواسطة محاماة  نت

الحوكمة القضائية مفتاح تطوير القضاء

هذا الموضوع من أهم المواضيع التي من خلالها نجد مفتاح تطوير القضاء وتعزيز كفاءته وقدرته المهنية، ولذلك سأكتب باختصار بعض المقالات تحت هذا العنوان، لأجل شرح الفكرة ونشرها، علما أنني سبق أن كتبت مقالا مطولا في عام 2014 عن هذا الموضوع. بداية يجب ذكر أن مبادئ ما يسمى “الحوكمة” بدأت تاريخيا في القرن الـ19 في الشركات الغربية، وأخذت في النمو إلى أن تكون مصطلح ما يسمى الحوكمة، وهو يعني باختصار جعل كل شيء من خلال نظام يضمن حكم القانون وعدالة تطبيقه. وهي تركز في الأساس على تعزيز ضمان الشفافية والعدالة والحقوق والرقابة والاستقلال بين السلطات داخل الجهاز نفسه وعدم تعارضها مع أهدافه أو مصالحه ومحاربة الفساد وهكذا. الحوكمة غالبا ما يتحدثون عنها فيما يتعلق بالشركات، وأحيانا المؤسسات الحكومية، ولكن من يتحدث عن “حوكمة” القضاء قليل، وبنظري أن “حوكمة” القضاء أهم بكثير من أي قطاع آخر.

وبالتأمل في أنظمة القضاء لدينا، نجد أن الحوكمة موجودة في كثير من التشريعات القضائية، إلا أنها متناثرة وتحتاج إلى ترتيب ومزيد من التعزيز.

من خلال الحوكمة، يتم التركيز مثلا على التداخل بين الصلاحيات والاختصاصات، أو حتى مجرد إمكانية التداخل، أو إمكانية سوء استغلال هذا التعارض، ثم تتم معالجتها وإغلاق هذه الفجوات بالحوكمة. الحوكمة يجب أن تحمي استقلال القضاء والقضاة من أي نفوذ أو تدخل غير صاحب السلطة التشريعية في البلد وهو الملك أو من يمثله، كما تحافظ الحوكمة على حقوق القضاة داخل الجهاز بشكل يضمن المساواة والاعتماد على الكفاءة فقط، وتحارب النفوذ والواسطة، كما أنها في المقابل تهتم بضرورة ضمان عدم خروج سلطة القاضي عن مسارها.

فمثلا فيما يتعلق باختيار القضاة، فإن من ضمن معايير الحوكمة، أن تتم “حوكمة” آلية اختيار القضاة وترشيحهم بشكل يضمن سلامة الاختيار من حيث الكفاءة والعدالة والمساواة، وكذلك الأمر أهم أيضا فيما يتعلق بتعيينات القضاة وترقيتهم في المناصب والمحاكم، بشكل يضمن عدالة التعيين وكفاءته وعدم تعارض المصالح في ذلك، وكل هذه العناوين تحتاج إلى نقاش طويل حول كيفية هذه الضمانات، ولا أريد التعمق بطريقة تخصصية تزعج القارئ غير المتخصص. الحوكمة تركز أيضا على الإفصاح كضمان للشفافية أيضا، ولكن في الجهات القضائية يختلف الأمر بعض الشيء، فبعض القرارات لا يتم الإفصاح عنها لأجل مصالح المترافعين وضمان سريتها، إلا أن الإفصاح الأهم هنا هو فيما يتعلق بالمترافعين أنفسهم والإفصاح لهم بالتساوي وبكل ما يتعلق بقضيتهم، وقد يعزز هذا داخليا من خلال وسائل عدة، كما أن الإفصاح قد يكون ضمانا للشفافية في كثير من الأحيان، مثل تسمية اللجان المختصة وأعضائها لأجل الشفافية والرقابة.

نقطة مهمة جدا فيما يتعلق بالحوكمة، وأعتقد أننا نحتاج إلى الكثير في هذا السياق، وهي ضمان حصول المتخاصمين على الوثائق المؤثرة في قضاياهم، إضافة إلى أسماء اللجان التي تدرس قضاياهم وأعضائها، وهذا جزء مهم يضمن شيئا من العدالة والرقابة والشفافية التي تتطلبها معايير الحوكمة، وهي من أهم حقوق المتخاصمين، وأتمنى أن تتم إعادة دراسة هذا الجانب من المختصين لأهميته، ونشر ثقافة الحوكمة داخل الجهاز.

الحوكمة القضائية ــ علاقة القاضي بالمحامين
سأتحدث عن معيار منع تعارض المصالح في الحوكمة القضائية باختصار، وما النقاط المهمة التي يجب أن تكون مُحكمة من خلال الحوكمة لأجل الحفاظ على قضاء فعّال ونزيه وعادل. هذا المعيار من أهم المعايير الخاصة بالحوكمة، وتزداد أهميته في القضاء كونه يعمل في فصل الخصومات التي يؤثر فيها كثيرا عامل المصلحة، حيث تطورت كثيرا مبادئ الحوكمة التي تعالج هذا الموضوع لمنع أي احتمال تعارض مصالح في أي خدمة من خدمات القضاء. من الجوانب المعروفة في هذا السياق؛ علاقة القاضي مع الخصوم سواء بالقرابة أو المودة أو الخصومة وهكذا، وهذا عالجه نظام المرافعات الشرعية المادة 94 بشكل غير مفصل، إلا أن مجرد وجود مصلحة للقاضي في القضية بشكل عام يمنع نظره لها، وركز النظام على العلاقة بين القاضي والخصوم فقط، ولم يتحدث عن العلاقة بين القاضي والمحامين الذين يمثلون الخصوم، الأمر الذي يجب معالجته بشكل عاجل في رأيي لأهميته وحساسيته، ولذا رغبت الحديث عنه بتفصيل.

الحقيقة أن هذا الباب من أكثر الأبواب المقلقة، نظرا لعدم وجود نصوص نظامية أو لوائح تراقب وتضبط هذا الجانب بشكل حديث يمنع أي احتمال وجود مصالح. فمثلا؛ عندما يكون هناك علاقة صداقة ومعرفة بين القاضي وأحد المحامين المترافعين أمامه؛ فإنه يجب الإفصاح عن ذلك بنظري من خلال نموذج لضمان المساواة بين الخصوم والشفافية في ذلك، ونعلم كثيرا أن عددا كبيرا من المحامين كانوا في الأصل قضاة أو درسوا مع قضاة، ولهم زملاء لا زالوا على رأس العمل، الأمر الذي يجب أن يكون مراقبا بشكل يضمن الحفاظ على مبادئ الحوكمة التي تمنع احتمال تعارض المصالح.

أمر آخر مهم في نفس الموضوع؛ وهو عمل القضاة في أعمال استشارية خارج العمل القضائي، وهو بالطبع مضبوط من خلال المادة 51 من نظام القضاء، التي تمنع القاضي من العمل في وظيفة أخرى لا تتفق مع استقلال القضاء وكرامته، كما أعطت المجلس الأعلى للقضاء صلاحية منع القضاء من أي أعمال قد تؤثر في أدائه، الأمر الذي يستدعي سرعة تنظيم هذا الأمر، حيث إنه يجب أن لا يشارك القضاة في تقديم الاستشارات القانونية والقضائية لغير الجهات الحكومية نهائيا، لما قد تؤدي إليه من احتمال تعارض المصالح المستقبلية أو الحالية، والأمر يزداد خطورة عندما يشارك القاضي في تقديم مشورة قضائية لأفراد أو مؤسسات خاصة، حتى لو لم يترافعوا لديه، لما يفتحه من باب خطير قد يؤدي للفساد ــ لا سمح الله ـــ.

نلاحظ أن نظام المرافعات الشرعية المادة 94 فقرة (هـ) يمنع القاضي من نظر أي دعوى كان قد أفتى أو كتب فيها لأحد الخصوم، إلا أن هذا النص يحتاج أيضا إلى تطوير كون المصالح ليست مقتصرة على مجرد العلاقة مع الخصوم فقط. فإن احتمال تعارض المصالح أكبر من ذلك بكثير. الأمر المهم الأخير؛ ممارسة القاضي المتقاعد للمحاماة يجب أن يتم تنظيمها عاجلا لضمان المساواة والعدالة بين الخصوم ومنع احتمال تعارض المصالح، ومعالجة ذلك لا يكفي فيه مجرد منع القاضي من نظر القضايا التي شارك فيها، حيث إن أقل الواجب منع القاضي من الترافع أمام المحكمة التي كان يعمل فيها مدة لا تقل عن ثلاث سنوات كما هو المعمول به في الكثير من دول العالم إضافة إلى بعض اللجان القضائية لدينا. لا شك أن قضاتنا يتمتعون بدرجة عالية من الكفاءة والنزاهة ولله الحمد، ولكن وضع التنظيمات ومراقبتها واجب في كل مجالات الحياة، ولا تشكك في أي أحد بالطبع.

الحوكمة القضائية .. الشفافية والإفصاح
تحدثت عن أهمية تعزيز مبدأ منع تعارض المصالح من خلال الحوكمة القضائية، وذكرت بعض الأمثلة التي أراها مهمة جدا لتعزيز كفاءة وعدالة القضاء، واليوم سأتحدث عن مبدأ آخر مهم جدا وهو المبدأ الحوكمي “الشفافية والإفصاح”، الذي يعتبر رأس الحربة في محاربة الفساد داخل أي منشأة. ولشرح هذا المبدأ ببساطة؛ فإنك عندما تقوم بعمل أمام الناس وتحت أعينهم فمن الطبيعي أن تحاول عمل جميع الأعمال الضرورية للعمل بإخلاص وتفان كون العامل هنا يشعر بمراقبة الناس له، ولا يعلم في أي لحظة سيعترض الناس عليه حال أخطأ، وبالتالي يشعر بالرقابة الذاتية باستمرار.

الأمر الآخر؛ هو أنه بالشفافية والإفصاح يتحول كلا طرفي النزاع أمام المحكمة إلى مراقبين لمصالحهما كونهما يمكنان من الاطلاع على كل ما يخص قضيتهما بشفافية ووضوح. كثيرا ما تحصل ملاحظة لمحاولة أحد الخصوم التدخل في مسار القضية، فقد يحصل على بعض البيانات دون علم الآخر، أو ربما يسهم في حجبها أو تجاهلها من خلال بعض العاملين داخل المكتب القضائي مثلا، أو يتدخل في اختيار المواعيد دون علم الآخر وهكذا، ولكن عندما تعزز الشفافية بتسجيل كل مراجعة لأحد الخصوم، وما الذي طلب أو اطلع عليه دون الآخر وكشفها للخصم الآخر ليكون مطلعا على كل ما قد يؤثر في مسار الدعوى، فهذا بالتأكيد يعزز دور الرقابة والعدالة، ويمكن أن يُهيأ ذلك إلكترونيا لكل الأطراف بسهولة.

الشفافية تمنع الفساد وتحارب المفسدين، فعندما يتم كشف كل إجراء داخل إجراءات المكتب القضائي؛ فإن الشخص الذي أسهم في عملية الفساد يعلم أنه قد ينكشف بسبب وجود رصد دقيق ومكشوف لكل الأطراف بأنه هو من قام بإدخال أو إخفاء أو تغيير أي شيء في القضية.

كذلك ما يتعلق بالعمل القضائي البحت، حيث يجب كشف جميع إجراءات المحكمة أمام الخصوم بدءا من المخاطبات وانتهاء بمخاطبات الاستئناف وضرورة اطلاع وتمكين الخصوم من الحصول على صور المستندات الخاصة بقضيتهم، وما أسهل أن تضيع بعض الأوراق ويتضرر أحد الخصوم بضياعها دون وضع آلية محددة لمعالجة هذا الأمر، بينما بتمكين الخصوم من الحصول على صور من جميع ما يخصهم من أوراق فهو يضمن الحد الأدنى من حفظ حقوقهم. هذا الأمر فيه إشكالات نظامية عديدة تحتاج إلى معالجة تشريعية عاجلة لا أود الإطالة على القراء الكرام في شرحها. إضافة إلى فرض الشفافية والإفصاح من خلال تعزيز الحوكمة؛ يجب تضمين ذلك من خلال لوائح حديثة وإلزام المحكمة بكل طاقمها بها، والمحاسبة على الإخلال بها، بشكل شبيه بعمل هيئة السوق المالية التي تحاسب الشركات المساهمة على كثير من الالتزامات الحوكمية الرائدة، ويمكن الاستفادة من تجربة الهيئة الجميلة في هذا المجال.

لا شك أن هناك تطورا ملحوظا ومستمرا في قضائنا ولله الحمد، وهذه مساهمة لأجل الإصلاح والتطوير أكثر، ودعواتنا للقائمين عليه بكل توفيق وسداد.

الحوكمة القضائية .. مبدأ الوضوح
استمرارا للكتابة عن الحوكمة القضائية؛ أود اليوم الحديث عن مبدأ مهم من مبادئ الحوكمة، وهو الوضوح.
نلاحظ أن جميع مبادئ الحوكمة تدور على منع أي باب يمكن أن يُستغل للفساد لتغلقه وتستمر في مراقبته ومتابعته، وهكذا مبدأ الوضوح هنا، حيث يركز على ضرورة الوضوح في كل شيء لإغلاق الباب على احتمال تفسير الغموض لصالح الفساد. حيث إن جودة الحوكمة تكمن في أنها تفترض أي مجال يمكن أن يساء استغلاله ولو مجرد احتمال، ومن ثم تسعى إلى إغلاق ذلك الباب ومراقبته.

عندما يكون القانون والإجراء واضحين؛ فإن مراقبتهما تكون ممكنة وتقلل احتمال الفساد ودواعيه، والعكس صحيح؛ حيث عندما يكون القانون أو الإجراء غير واضح ويختلف من موقع إلى آخر؛ فإن هذا يفتح المجال للتدخل المقصود والتأثير في مسار العدالة بشكل سلبي، ودور الحوكمة هنا إغلاق هذا الاحتمال قبل وقوعه ومراقبته.

من أهم وأكبر جوانب هذا المبدأ؛ ضرورة كتابة القانون الواجب التطبيق ونشره للناس، حيث إن عدم وجود قانون واضح يتم الرجوع إليه ليفصل في النزاع بوضوح هو أحد أهم أبواب الفساد في أي بلد، ومن هنا تأتي أحد أهم ضرورات التقنين للشريعة التي كتبنا عنها مرارا، حيث إنه دون تقنين الشريعة؛ فإنه لا يمكن مراقبة الأحكام بشكل واضح، ولا يمكن عقلا حتى إغلاق شبهة واحتمال الفساد، حيث إن الفاسد لا يمكن رصده أصلا طالما لا توجد آلية واضحة لمراقبة أحكامه.

نعلم أنه حتى اليوم لا يوجد قانون موضوع مكتوب في كثير من الجوانب لدينا، بدعوى أن التقنين محرم بناء على فتوى قديمة جدا مبنية على أدلة ضعيفة جدا ومتناقضة، وهي في جوهرها بنيت على عدم فهم معنى التقنين ومدى الحاجة إليه. وأحيانا يجد القاضي نفسه أمام آراء فقهية متناقضة، وقد تكون محور النزاع، وبأحد الرأيين قد يحكم لخصم وبالرأي الآخر يحكم للخصم الآخر “والأمثلة على هذا كثيرة جدا كتبت عنها في مقالات متخصصة لا أود الاستطراد هنا”! ومجرد وجود هذه الضبابية وعدم الوضوح، هو بلا شك أحد احتمالات الفساد التي تفرضها الحوكمة وتشترط إغلاقها عاجلا لأجل مراقبتها ومتابعتها. ولأجل اختصار هذه النقطة أود أن أقول؛ إن عدم وجود قانون واضح يلزم به القاضي للحكم في الموضوع يناقض تماما الحوكمة القضائية الحديثة ويتعارض معها كليا، بل ويهدم معه أغلب المبادئ الحوكمية الأخرى.

وأخيرا؛ من ضمن أهداف مبدأ الوضوح الحوكمي؛ أنه يحرص على وضوح الموضوع والإجراء للمستفيدين وأن لا يكون معقدا على من احتاج إلى الخدمة، وألا يكون مضطرا إلى الاستعانة بالآخرين فيما لو قرر القيام به بنفسه “باستثناء بعض الجوانب المتخصصة”، وهذا لأجل توفير حد أعلى من العدالة للناس وتسهيل الوصول إليها.

الحقيقة؛ أن وزارة العدل لها جهود في هذا المضمار ونأمل أن يضاعف الجهد فيه لأجل الدفع به إلى مستوى أعلى – بإذن الله -، وفقهم الله وسددهم.