نظرة قانونية على مكانة المرأة في التشريع المغربي

نحن نعايش ظرفا يحاول البعض فيه خلق وإذكاء صراع وهمي بين المرأة والرجل، صراع بين موجودين لا يمكن استغناء احدهما عن الآخر، ولا يمكن لأي منهما إنكار أهمية الآخر، لا يصح اعتماد أو افتعال أسلوب التصارع أو التباهي أو محاولة المفاضلة بينهما لأن لكل منهما ما يختص به ويشكل امتيازا بالنسبة له، ولكل منهما حقوقه وواجباته مهما ضعف أو نقص، ولا يقلل ذلك من أهميته ودوره في الحياة، ذلك أن لكلا الجنسين (الذكوري والأنثوي)، خاصيات وقدرات طبيعية منها ما لا يمكن أن يؤدي دوره إلا بالتفاعل والتكامل مع خاصيات الجنس الآخر، توجب إنصافهما معا في إطار مجتمع إنساني متكامل مراع لهذه الطبيعة الأزلية، التي تفرضها ضرورة استمرارهما معا، وارتباطهما في إطار يحمي لكل منهما حقوقه دون تفاضل أو مفاضلة.

يقول الله عز وجل في آية الافتتاح لسورة النساء “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا”، إنه خطاب “للناس” بصفتهم هذه، لردهم جميعا إلى ربهم الذي خلقهم، والذي “خلقهم من نفس واحدة” و”خلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء”.

إن هذه الحقائق الفطرية البسيطة لهي حقائق كبيرة وعميقة جدا، تجلو للقلب و للعين مجالا فسيحا لتأملات شتى: إنها توحي بأن هذه البشرية التي صدرت من إرادة واحدة، تتصل من رحم واحد، وتلتقي في وشيجة واحدة، وتنبثق من أصل واحد، و تنتسب إلى أصل واحد .

ولو تذكر الناس هذه الحقيقة، لتضاءلت في حسهم كل الفوارق الطارئة، التي نشأت ففرقت بين أبناء النفس الواحدة، ومزقت وشائج الرحم الواحدة، وكلها ملابسات طارئة ما كان يجوز أن تطغى على مودة الرحم وحقها في الرعاية، وصلة النفس وحقها في المودة.

والحقيقة الأخرى التي تتضمنها الإشارة إلى أن النفس الواحدة “خلق منها زوجها” كانت كفيلة أن توفر على البشرية تلك المواضيع التي تردت فيها، وهي تتصور في المرأة شتى التصورات السخيفة، وتراها منبع الرجس، وأصل الشر والبلاء، وهي من النفس الأولى فطرة وطبعا، خلقها الله لتكون لها زوجا، وليبث منهما رجالا كثيرا ونساء.

وفي ختام أية الافتتاح التي توحي بمجموعة من الخواطر، يرد “الناس” إلى تقوى الله، الذي يسأل به بعضهم بعضا، وإلى تقوى الأرحام التي يرجعون إليها جميعا: “واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام” إن أي مجتمع، لا يمكن له أن يتصور بأن نصفه الرجالي بوسعه أن يكون قطب التنمية في بلاده بمفرده، على اعتبار أن أي تنمية لا يمكن أن تتحقق، إلا بفضل نصفي المجتمع الذكوري والأنثوي، وبتكاثف جهودهما تكاثفا متواصلا متوازنا.

وإذا رجعنا إلى تاريخ المغرب، نجد أن المرأة المغربية الفقيهة والعالمة، كان لها دور فعال وأساسي في تنمية الفكر المغربي، وتنويره وإغنائه بالدراسات والمصنفات والمساجلات مع فطاحل العلماء من الرجال، فمصنفات التاريخ المغربي والسير والتراجم والآداب والحديث تزخر بأسماء المعلمات، والعالمات، والمحدثات، والأديبات والشاعرات، والطبيبات، والمتصوفات، والمربيات، والمجاهدات، والمشيدات للمعالم الحضارية، وحتى بالسياسيات.

لقد قامت “الفقيهات” قبل تأسيس مدارس البنات ببلادنا بدور تاريخي في محاربة الأمية في الأوساط النسوية بـ “دار الفقيهة”، خاصة في بعض الحواضر المغربية، وفي تفقيه النساء في شؤون دينهن، وغرس روح الوطنية في نفوسهن، مما هيأ بعضهن لأن يساهمن في معارك المقاومة والتحرير وكثيرا ما أشاد الشعر الأمازيغي بنضال المرأة وتحملها للشدائد إلى جانب الرجل، وهو يخوض معارك التحرير.

وموازاة مع هذا مازالت صورة المرأة القروية، ابنة الجبال والهضاب والسهول ماثلة أمام أعيننا، فهي تنخرط بكل قواها في النسيج الاقتصادي وتنميته، فتحرث الأرض، وتزرع النبات، وتغزل الصوف، وتنسج الألبسة وتصنع الزرابي، وتقطف الثمار، وتربي الدواجن، وترعى الماشية، وتمخض اللبن، وتذهب للأسواق للمتاجرة في إنتاجها وما حققته بعرق جبينها. كما تهتم في الوقت نفسه بتربية أبنائها، وتدبير شؤون بيتها، والقيام بلوازم مسكنها، وطبخ الأطعمة والرغيف لأهلها وضيوفها.

عندما حل عهد الاستقلال، واهتم الدستور المغربي بتقنين مساواة المرأة المغربية بشقيقها الرجل في التمتع بالحقوق السياسية، وحرية الرأي والاجتماع، وتأسيس الجمعيات، والانخراط في الهيئات السياسية والعلمية والثقافية، والمساهمة في الحملات الانتخابية، وفي تقلد الوظائف والمناصب العمومية العليا، وفي التمتع بحرية التربية والشغل على السواء بدون تمييز أو تفضيل، وفي الانخراط في الميادين العسكرية بجميع أصنافها وفنونها، فتحت الأبواب للمرأة المغربية الحضرية والقروية على مصراعيها، وبرهنت على نضجها وكفاءتها في كل الميادين العلمية والإنتاجية والتقنية والإبداعية، وعلى مقدرتها للنهوض بوطنها سياسيا وأدبيا وعلميا وحضاريا وثقافيا واجتماعيا وفنيا ورياضيا، وتمثيليا في المؤتمرات والندوات الوطنية والدولية، مبرهنة بذلك على مقدرتها وكفاءتها، ومقدمة دليلها الذي لا يقبل الجدل أنها قادرة على المساهمة الفعالة في ميدان التنمية في وطنها على قدم المساواة مع الرجل، الذي لا تقل عنه ذكاء وإدراكا وحنكة ودراية ومردودية وإنتاجا.

وإن الحديث عن مكانة المرأة يحيلنا للتساؤل عن القوانين المنظمة لوضعيتها، ومدى انسجامها في تحقيق حماية فعلية لها، ذلك أن النصوص التشريعية المختلفة بالمغرب تتناول الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية للمرأة وحقوقها، داخل الأسرة وخارجها، عرفت على مر السنوات الأخيرة تطورات عميقة وشاملة، واتسمت بمميزات خاصة تتعلق بالخصوص بتنوع مصادرها واختلاف الظروف والملابسات المرافقة لإصدارها، إذ نجد تشريعات مقتبسة من الفقه الإسلامي وأخرى متأثرة بتيار القانون المقارن والاتفاقيات الدولية المتعلقة بوضعية المرأة .

وتبعا لذلك، فإن تناولنا للموضوع سينصب في شقه الأول على دراسة تطور وضعية المرأة في القانون المغربي المعاصر، من خلال المناخ الذي أحاط به على مستوى الإطار الدولي والسياق الوطني، ويتناول الشق الثاني ما أفرزه ذلك من تحديث على المستوى التشريعي لنستعرض في الشق الثالث بعض التأملات حول الإصلاح المرغوب فيه.

أولا: تطور وضعية المرأة في القانون المغربي المعاصر

ساهم التطور الديمقراطي الذي بدأ منذ أوائل التسعينيات في توجيه اهتمام أكبر لمسألة المساواة بين الرجل والمرأة، وإقرار السلطات العمومية سياسة استباقية للنهوض بالنساء في اتجاه المساواة بين الجنسين، وانطلاقا من وضع استراتيجية وطنية ترمي للإنصاف والمساواة، بدا العمل بعدة برامج وسياسات جديدة، وجرى الإقرار بالطابع المتداخل لقضية العلاقات الاجتماعية بين الجنسين، كما استحدثت قوانين جديدة وجرت صياغة استراتيجيات قطاعية وتطبيقها.

وتجسدت هذه الإرادة السياسية على مستوى الحقوق الأساسية للنساء من خلال إقرار إصلاحات مهمة، واعتماد قوانين وتدابير جديدة منسجمة مع الإطار المرجعي الدولي والسياق الوطني الداخلي، حيث قام المغرب منذ حصوله على الاستقلال بعدة مجهودات لتحديث تشريعاته.

ورغم الأشواط المهمة، التي قطعها في سبيل مسايرة مبادئ وقواعد القانون الدولي، فإنه ظل محافظا على الكثير من قواعد ومعايير الثراث الإسلامي، وكان لهذا التوجه آثار واضحة على النص التشريعي، الذي قبل بسط مظاهر تطبيق هذه المقاربة لابد من تبيان مصدره والخوص في مبرراته.

الإطار المرجعي الدولي:

اقتضى منطق الانتماء إلى المجتمع الدولي انفتاح المغرب على المفاهيم الوضعية الحديثة في القانون الدولي، وقواعد النموذج الأممي بعد أن أصبحت هذه الأخيرة تفرض نفسها تحت مظلة نظام قانوني دولي يقوم على معايير للسلوك، وقيم ترتبط بواقع المجتمع الإنساني.

وفي هذا الإطار، كانت مشاركة المغرب باعتباره عضوا في المجتمع الدولي في المؤتمرات الدولية الكبرى المتعلقة بحقوق المرأة: مكسيكو سنة 1975، وكوبنهاجن سنة 1979، ونيروبي سنة 1985، وبكين سنة 1995. ويشكل المؤتمر الأخير نقطة تحول في تناول مسألة المساواة بين الرجال والنساء، وهي المسألة التي عاودت المجموعة الدولية مناقشتها خلال تقييم بكين + 5، وبكين + 10.

ويمكن القول إجمالا إن المغرب صادق على المواثيق العامة التي كرست مبدأ عدم التمييز بين الجنسين، إذ صادق المغرب على العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) بتاريخ 3 ماي 1979.

وإذا كانت المصادقة تبدو إجراء روتينيا، فإنها تكتسي طابعا جوهريا بالنظر إلى التعديلات، التي تفرضها هذه النصوص على مستوى النظام القانوني الداخلي، حيث تصطدم بشكل خاص بالخصوصية الثقافية، وتثير مسألة تطابق المرجعية الوضعية مع المرجعية الدينية.

ويتجلى هذا الاصطدام خاصة في التحفظات والتصريحات التي رافقت مصادقة المغرب على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، التي ترجع إلى يونيو 1993 أي بعد مرور 14 سنة من اعتمادها من الأمم المتحدة في سنة 1979، ما رافق ذلك من نقاش حول خلفيات الاتفاقية وفلسفتها الكامنة، وما تروم له من اعتماد رؤية معينة للإنسان والكون ومنهجا في الحياة تروج له وتلزم به مختلف الأمم .

فإذا كانت الاتفاقية تعتبر أهم الصكوك الدولية، التي تضم مبادئ أساسية تدعو لتمتع المرأة بكافة حقوقها، وتعتبر أن التمييز ضد المرأة يشكل إجحافا أساسيا وإهانة للكرامة الإنسانية، كما تدعو إلى إلغاء كافة القوانين والأعراف والممارسات، التي تشكل تمييزا ضد المرأة وتعد بمثابة قانون دولي لحماية حقوق المرأة، حيث إنه بموجب هذه الاتفاقية تصبح الدول الأطراف الموقعة عليها ملتزمة باتخاذ كافة التدابير للقضاء على التمييز بين الرجال والنساء، سواء على مستوى الحياة العامة في ما يتعلق بممارسة جميع الحقوق: المدنية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية، وفى التمتع بهذه الحقوق، أو على مستوى الحياة الخاصة، وعلى وجه الخصوص في الإطار الأسرى فإنها أثارت مقاومات شديدة، سواء أكانت على أسس دينية عقائدية، أو أخلاقية فلسفية، أو اجتماعية اقتصادية.

وبالرغم من كل التجاذبات التي رافقت الاتفاقية، أقدمت الحكومة المغربية على توجيه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، تعلمه فيها أنها قد رفعت بعض تحفظات المغرب التي قيد بها مصادقته على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.

ويرى البعض أن رفع بعض التحفظات على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، جاء انسجاما مع اعتماد المغرب تشريعات وطنية جديدة، خاصة مدونة الأسرة وقانون الجنسية، في حين يميل البعض إلى تفسير ذلك بالانصياع للضغوطات التي تتعرض لها الدول، من أجل تثبيت أجندة عالمية لا يعي بتشابك خيوطها سوى واضعيها .

السياق الوطني للتعديلات:

يعتبر المغرب من الدول التي أحدثت غداة حصولها على الاستقلال عدة مؤسسات تتكلف بشؤون المرأة، و لم تكن بنية وزارية واحدة بل كانت توجد مصلحة في العديد من الوزارات تهتم بالنهوض بالمرأة، وأنشأت وزارة حقوق الإنسان، التي استحدثت في سنة 1993 خلية للمرأة، وهو ما يعني وضع المغرب قضية المرأة في صلب إشكالية حقوق الإنسان.

وفي سنة 1998، أسندت حكومة التناوب مسالة النهوض وتنسيق التداخلات، التي تستهدف المرأة لكتابة الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة التابعة لوزارة التنمية الاجتماعية والتشغيل والتضامن والتكوين المهني، وستشكل خطة عمل إدماج المرأة في التنمية، التي أعدتها كتابة الدولة المكلفة بالتعاون الوطني، ثم طورتها ووضعت اللمسات النهائية عليها كتابة الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة، علامة مميزة لهذه الفترة.

وبالموازاة مع ذلك، أنشئت لجنة وزارية خاصة بالمرأة برئاسة الوزير الأول.
وفي سنة 2007، أسندت المسألة النسائية التي أعيد دمجها في الأسرة إلى وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن.