نظرة قانونية حول مفهوم العقد الدولي في إطار الاتفاقيات الدولية

كتبهامحمد بلمعلم ، في 7 أغسطس 2008

محمد بلمعلم

أصبح يوجد اليوم نظام قانوني خاص بالمعاملات الدولية يفترق عن ذلك الذي يحكم المعاملات الداخلية، فمقتضيات مثل حق الأطراف في اختيار قانون العقد، أو شرط التحكيم أو شرط الذهب هي أمور باطلة إن وردت في عقد داخلي، تنقلب صحيحة إن وردت في عقد دولي، من هنا جاءت ضرورة البدء بتكييف العقد لتحديد ما إذا كان دوليا من عدمه باعتبار النتائج القانونية الهامة التي تترتب عليه، جوهرها أن دولية العقد شرط أولي ولازم لأعمال قواعد القانون الدولي الخاص، سواء ما كان من هذه القواعد ذو صبغة مادية أو ما كان منها معتبرا من قواعد تنازع القوانين.

وفي سبيل الكشف متى يكون العقد دوليا، اقترح الفقه معياران، معيار قانوني يعتد بعناصر الرابطة العقدية ومدى تطرق الصفة الأجنبية لهذا العناصر كلها أو بعضها، ومعيار اقتصادي يعبر عن مدى اتصال الرابطة العقد بمصالح التجارة الدولية.

وإذا كانت دراسة مفهوم العقد الدولي تقتضي منا تعميق البحث في ذلك فقها وقانونا وقضاءً، فإننا نبدأ كخطورة أولى في هذا العرض بالتنقيب في الاتفاقيات الدولية عن مفهوم العقد الدولي، باعتبار أن هذه الأخيرة تشكل في مجال عقود التجارة الدولية مادة معرفية غنية تسمح ببلورة رؤية قانونية دقيقة، حيث باستقراء مقتضياتها يمكن استنباط تعريف متميز للعقد الدولي يجنبنا الوقوع في هفوات تعاريف الفقه التقليدي منه والحديث.

لقد طرحت الاتفاقيات الدولية على الساحة الفقهية مفهوم جديد للعقد الدولي فلا هي تبنت التعريف القانوني التقليدي الجامد الذي يسوي بين العناصر القانونية للرابطة العقدية، بحيث يترتب على تطرق الصفة الأجنبية إلى أي منها اكتساب العقد للطابع الدولي، الذي يبرر إخضاعه لأحكام القانون الدولي الخاص، ولا هي انتصرت للتعريف الاقتصادي الذي يعتبر العقد دوليا ذلك العقد الذي يربط بين مصالح اقتصاد أكثر من دولة، لقد اختارت تعريفا يعتبر بمقتضاه دوليا العقد الذي تطرقت الصفة الأجنبية لعنصر من عناصره القانونية -وليس أي عنصر- بل فقط العنصر الذي يسمح بربط العقد باقتصاد أكثر من دولة، وبالتالي بالنظام القانوني لأكثر من دولة حقيقة وفعلا، إنه تعريف قانوني يجعل مما يسمى المعيار الاقتصادي مجرد أداة تابعة، يسخرها -هذا التعريف القانوني- في تحديد ما يعتبره عقدا دوليا ممن لا يعتبر كذلك .

وسنحاول في هذا المقال بيان ما قدمناه بشكل أكثر تفصيلا، وذلك من خلال المبحثين الآتيين:

المبحث الأول: موقف الاتفاقيات الدولية من تعاريف الفقه المقترحة للعقد الدولي

المبحث الثاني: تعريف الاتفاقيات الدولية للعقد الدولي.

المبحث الأول: موقف الاتفاقيات من تعاريف الفقه المقترحة للعقد الدولي

يمكن حصر المعايير التي اقترحها الفقه للتفرقة بين العقود الداخلية والعقود الدولية في معياران أساسيان: معيار قانوني ومعيار اقتصادي حديث، ولبيان موقف الاتفاقيات الدولية من هذه المعايير المقترحة نأخذ كل معيار على حدة.

المطلب الأول: موقف الاتفاقيات الدولية من التعريف القانوني التقليدي:

يقوم التعريف القانوني التقليدي على فكرة أساسية مفادها إن العقد يعد دوليا فيما لو اتصلت عناصره القانونية بأكثر من نظام قانوني واحد، وعلى ذلك فانه يتعين الكشف عن مدى تطرق الصفة الأجنبية إلى العناصر القانونية المختلفة للعقد وهو في هذا يميل إلى التسوية بين العناصر القانونية للرابطة العقدية، بحيث يترتب على تطرق الصفة الأجنبية إلى أي منها اكتساب العقد للطابع الدولي، فهو لا يميز بخصوص العناصر القانونية للعقد، والتي قد تتطرق إليها الصفة الأجنبية، بين العناصر الفاعلة أو المؤثرة والعناصر غير الفاعلة أو المحايدة.

وباستقراء بسيط للاتفاقيات الدولية نجدها أنها لا تقر هذا التعريف القانوني الجامد ولا تنحو منحاه، بل على العكس من ذلك فهي تميز بين العناصر القانونية للعقد التي تطرقت لها الصفة الأجنبية، ولا تختار إلا العنصر الفاعل والمؤثر الذي يملك بذاته القدرة على ربط العقد بالنظام القانوني لأكثر من بلد حقيقة وواقعا، كان يُشاهد مثلا انتقال الأموال والخدمات عبر الحدود، والمساس بالمصالح الاقتصادية للبلدين كلاهما.

هكذا فالاتفاقيات تكاد تتفق جميعها على اعتبار عنصر الجنسية عنصر قانوني محايد في العقود التجارية الدولية، لا يصلح كأساس لإضفاء الطابع الدولي على هذه العقود، ومن الاتفاقيات التي أشارت لذلك صراحة نذكر اتفاقية الأمم المتحدة بشأن عقود البيع الدولي للبضائع[2]، اتفاقية العربية للتحكم التجاري عمان 1978[3]، اتفاقية هامبورغ بشأن عقود النقل البحري[4]، اتفاقية لاهاي 1964 بشان البيع الدولي الأشياء المنقولة المادية[5]، اتفاقية جنيف 1983 بشان التمثيل في البيع الدولي للبضائع[6]، اتفاقية بشان فترة التقادم في البيع الدولي للبضائع[7]، وما قيل عن عنصر الجنسية يقال عن عنصر محل إبرام العقد ضمنيا من خلال إهمال الاتفاقيات الدولية لاعتباره وذكره.

بالمقابل اعتبرت الاتفاقيات الدولية بالإجماع على أن عنصر اختلاف موطن مؤسسات الأطراف هو العنصر القانوني الفاعل، القادر بذاته على إضفاء الطابع الدولي على العقود التجارية، لأن من آثاره نقل محل العقد من دولة لأخرى، وبالتالي ارتباط العقد والمساس باقتصاد أكثر من دولة واحدة.

من هنا يظهر أن الاتفاقيات تتخير عناصرها، ولا تنتصر إلا للعنصر القانوني الذي تطرقت له الصفة الأجنبية والذي بموجبه يرتبط العقد بمجال أكثر من بلد وتتجاوز إطار اقتصاد دولة واحدة.

ونود الإشارة هنا إلى أننا لا نستطيع إصدار حكم قيمي منذ الوهلة الأولى على عنصر من عناصر القانونية للعقد، والقول بكونه محايد أو فاعل، فالذي يحدد طبيعته ومدى فاعليته وتأثيره هو موقعه في كل رابطة عقدية على حدة، فعنصر الجنسية أو محل إبرام العقد قد يكون عنصرا فاعلا يستطيع بذاته على ربط العقد بشكل واقعي وملموس بين قانون دولتين من خلال المساس بمصالح اقتصاد كلاهما، كما انه بالمقابل قد نصادف حالات يكون معها خلال عنصر اختلاف موطن مؤسسات الأطراف عنصر محايد من ذلك مثلا الحالة التي يبرم فيها شخصين لكل منها مؤسسة في بلد مختلف، عقد بيع في بلد ثالث، بموجبه يبيع احدهما للآخر سلعة موجودة بهذا البلد، ويتم تسليمها بذات البلد، وعملة أداء الثمن كانت بعملة هذا البلد.

وإذا كان هذا كل ما يتعلق بموقف الاتفاقيات الدولية من التعريف القانوني التقليدي، فماذا عن موقفها من المعيار الاقتصادي؟.

المطلب الثاني: موقف الاتفاقيات الدولية من المعيار الاقتصادي الحديث

اقترح الفقه تعريفا حديثا للعقد الدولي، كرد فعل عن تطرف المعيار القانوني الجامد الذي استناد على تطرق الصفة الأجنبية لعنصر من عناصر العقد ودون أي تمييز بينها تقول بدولية العقد، ولو أن العملية لا تكاد تبرح المجال الاقتصادي لدولة واحدة، هكذا يعتبر هذا الفقه بان العقد الدولي هو العقد الذي يربط بين مصالح اقتصاد أكثر من دولة، أو هو العقد الذي من آثاره انتقال الأموال والخدمات عبر الحدود، وهو العقد الذي بمقتضاه تتجاوز العملية المجال الاقتصادي لدولة واحدة، أو هو العقد الذي يمس المصالح التجارية الدولية عموما.

باستطلاع الاتفاقيات الدولية نجدها لا تأخذ بهذا التعريف أعلاه، كضابط مستقل وقائم الذات لتحديد دولية العقد كشرط مسبق لتطبيق مقتضياتها، والعلة في ذلك أن الاتفاقيات تعتبر ما يسمى المعيار الاقتصادي ما هو إلا مقتضى من مقتضيات وموجب من موجبات، حيث أن انتقاء الاتفاقيات الدولية للعنصر القانونية الحاسمة مثل عنصر اختلاف مؤسسات الأطراف وجريان تنفيذ العقد في الخارج، واختلاف نقطة الوصول عن دولة القيام، واختلاف مكان الشحن عن مكان التفريغ، فهذه وغيرها تؤدي لا محالة إلى انتقال الأموال والخدمات عبر الحدود، وتجاوز المجال الاقتصادي لدولة واحدة، وبالتالي إدراك الغايات التي يسعى إليها أنصار المعيار الاقتصادي.

ومن الاتفاقيات الدولية النادرة التي خرجت عن القاعدة وذكرت معاني المعيار الاقتصادي، نجد الاتفاقية الدولية حول التحكم التجاري الدولي المؤرخة 21 ابريل 1961 والتي نصت في مادتها الأولى: “إن الاتفاقية تطبق على اتفاقيات التحكيم المبرمة لتنظيم نزاعات تمس عمليات التجارة الدولية بين أشخاص بين أشخاص طبيعة أو معنوية لها في وقت إبرام الاتفاق محل إقامة اعتيادي أو مقر اجتماعي في دول متعاقدة مختلفة.”

نعتقد أنه كان يكفي الاتفاقية المذكورة أن تنص فقط على الضابط الثاني، ودون أن تكلف نفسها عناء إيراد مضمون المعيار الاقتصادي، مادام أن اختلاف محل إقامة مؤسسات الأطراف يقتضي بالضرورة المساس لعمليات التجارة الدولية، ولعل هذا ما جعل الاتفاقيات الدولية تكتفي بتعيين عنصر من العناصر القانونية المؤثرة، وتستعبد بالتالي مضامين التعريف الاقتصادي، خاصة وأن من شأن اعتماد هذا الأخير بشكل مستقل لتحديد دولية العقد قد يؤدي إلى نتائج متطرفة تقابل تطرق المعيار القانوني الجامد، حيث قد نعتبر عقدا دوليا العقد الذي يمس المصالح التجارية الدولية ولو لم تتطرق الصفة الأجنبية لعنصر من العناصر القانونية للعقد، بعبارة أخرى ولو لم تتحقق للرابطة العقدية دوليتها وفقا للمعيار القانوني الجامد، إذن فما هو التعريف الذي تقترحه الاتفاقيات الدولية للعقد الدولي؟.

المبحث الثاني: التعريف المقترح للعقد الدولي من قيل الاتفاقيات الدولية.

لقد وضعت الاتفاقيات الدولية لنفسها منهجا خاصا في تعريف دولية العقد، إنه تعريف قانوني متطور، يختلف عن المعيار القانوني الكلاسيكي في انه يميز بين العناصر القانونية التي تتطرف لها الصفة الأجنبية، فلا يعتبر إلا العنصر القانوني الذي يملك بذاته القدرة على ربط العقد بأكثر من دولة فعلا وواقعا، كما انه يجعل من ما يسمى المعيار الاقتصادي أداة مسخرة من قبله للكشف عن دولية العقد، ويعمل من داخله، فلا يمكن اعتبار المعيار الاقتصادي معيار قائم الذات مستقل عن المعيار القانوني.

ونود الإشارة هنا إلى أن الاتفاقيات الدولية وهي تتبنى هذا التعريف القانوني المتطور قد اتخذت شكلين، شكل صريح وآخر ضمي، الأمر الذي فرض علينا معالجة هذا المبحث من خلال مطلبين، نقف من خلال الأول على الاتفاقيات الدولية التي دلت على التعريف القانوني المتطور بشكل صريح، ونقف من خلال الثاني على الاتفاقيات الدولية التي دلت عليه بشكل ضمني.

المطلب الأول: الاتفاقيات الدولية التي دلت على التعريف القانوني المتطور بشكل صريح

إن الاتفاقيات الدولية التي تتبنى التعريف القانوني المتطور وبشكل صريح، هي تلك الاتفاقيات التي تعتبر دوليا العقد الذي إذا تطرقت الصفة الأجنبية لعنصر من عناصره القانونية. وليس أي عنصر إنه عنصر حاسم يستطيع بذاته الربط بين مصالح دولتين حقيقة وواقعا، وبالتالي فهي تستعبد العناصر الأخرى الغير مؤثرة والحيادية، مثل عنصر الجنسية ومحل إبرام العقد وتكتفي بعنصر واحد، وذلك في سبيل الحد من توسع نطاق تطبيقها أكثر مما يلزم.

وتكاد الاتفاقيات التي تنتمي لهذا الصنف تتفق على كون العنصر الذي يحقق الأهداف المذكورة هو عنصر اختلاف محل إقامة مؤسسات أطراف العقد، والأمثلة عن هذه الاتفاقيات كثيرة نذكر منها: اتفاقية الأمم المتحدة بشان عفو البيع الدولي للبضائع (فبينا 11 ابريل 1980)، الاتفاقية الموحدة بشان البيع الدولي للبضائع ( لاهاي 1964)، والاتفاقية الموحدة لتكوين formation عقد البيع الدولي للأشياء المنقولة المادية، والاتفاقية الموحدة بشان التمثيل representation في البيع الدولي للبضائع (جنيف 1983)، والاتفاقية الموحدة بشان التمويل بالكراء الدولي.

ولابد هنا من الإشارة إلى أن عنصر اختلاف موطن الأطراف قد يكون أحيانا عنصرا محايدا، وبالتالي لا يمكن اعتماده كضابط لإضفاء الطابع الدولي على العقود التجارية، لذلك وجد من الفقه[8] من وجه لاتفاقية فيينا 11 أبريل 1980، انتقادا لكونها ذكرت عنصر اختلاف موطن منشآت الأطراف دون نعت أو تخصيص، بحيث أن اعتماد هذا الضابط بهذا الشكل قد يؤدي بنا إلى نتائج غير منطقية، من ذلك اعتبار العقد دوليا استنادا لعنصر قانوني محايد، في حين أن العقد لا يكاد يبرح المجال الاقتصادي لدولة واحدة، وانه كان على الاتفاقية المذكورة أن تحدو حذو اتفاقية لاهاي 1964 بان تشرط إلى جانب اختلاف المكان الذي يوجد به منشآت أطراف البيع أن يتضمن هذا الأخير عنصر خارجي يقتضي حدوث أمر خارج حدود الدولة الواحدة وضربت لذلك بعض الأمثلة كانتقال البضاعة، أو أن يتم التفاوض على العقد في دولتين مختلفتين، أو أن يتم التسليم في دولة غير دولة مجلس العقد، إلا أنه وللحقيقة نشير إلى أن اتفاقية فيينا قد تنبهت لمثل هذه الثغرة ونصت بمقتضى الفقرة الثانية من المادة الأولى أنه لا يلتفت إلى كون أماكن عمل الأطراف توجد في دول مختلفة إذا لم يتبين ذلك من العقد أو من أي معاملات سابقة بين الأطراف، أو من المعلومات التي أدلى بها الأطراف قبل انعقاد العقد أو في وقت انعقاده.

هذا وقد وجدت مجموعة أخرى من الاتفاقيات التي تعتبر أن العنصر القانوني الفاعل والحاسم والقادر بذاته على جعل العقد يتصل بأكثر من قانون دولة واحدة هو عنصر مكان التنفيذ بدول مختلفة، ومن الاتفاقيات التي تبنت هذا العنصر القانوني نذكر، الاتفاقية المتعلقة بعقود السفر الدولي (بروكسيل 1970) واتفاقية هامبورغ بشأن عقود النقل البحري واتفاقية فارسوفيا 10/02/1929 بشأن النقل الجوي الدولي، واتفاقية جنيف 1956 بشان عقود النقل الدولي للبضائع عبر البر.

المطلب الثاني: الاتفاقيات الدولية التي دلت على التعريف القانوني المتطور بشكل ضمني:

توجد اتفاقيات لها طريقة خاصة في تحديد العقد الدولي، بحيث أنها لا تكلف نفسها عناء تعيين العنصر القانوني الذي يمكن اعتباره كعنصر قادر بذاته على إضفاء الطابع الدولي على العقد، بل تكتفي فقط بالإحالة على مقتضيات الاتفاقيات التي من جنسها، ومن أمثلة هذا الصنف من الاتفاقيات نجد مثلا الاتفاقية الموحدة بشأن شراء الفاتورات الدولي، والتي تعتبر أن عقد شراء الفواتير يكون دوليا عندما يكون ناشئا عن “عقد بيع دولي للبضائع” وفي نفس الإطار نجد اتفاقية لاهاي 1915 بشان البيوع ذات الطابع الدولي للأشياء الدولي، والتي كذلك نصت بمقتضى الفترة الأولى من مادتها الأولى على أن تطبق الاتفاقية على البيوع “ذات الطابع الدولي للأشياء المنقولة المادية ” فكلا الاتفاقيتين لا يعرف دولية العقد.

وفي نظرنا أنهما لا يخرجان عن التعريف القانوني الذي سطرناه، ودليلنا في ذلك إنها تحيل على اتفاقيات تبنت المعيار القانوني المنظور صراحة، إضافة انه بالتأمل في مقتضيات المواد الأولية نجد أنها تصب في مصب واحد هو التعريف القانوني الانتقائي، فمثلا اتفاقية لاهاي 1955 تشير في المادة الثالثة منها لقاعدة تنازع يكون بمقتضاها العقد منظما بمقتضى قانوني بلد إقامة البائع، الأمر الذي نستنتج أن هذه الاتفاقية كغيرها تجعل من عنصر اختلاف مؤسسات الأطراف ضابط لإضفاء الدولية على العقد.

وإلى جانب هذا الشكل من الاتفاقيات المذكورة، يوجد كذلك شكل آخر من الاتفاقيات التي كذلك تستعمل عبارات مبهمة في تحديد دولية العقد، نذكر من ذلك على سبيل المثال اتفاقية روما 19 يونيو 1980 بشان القانون المطبق على الالتزامات التعاقدية، والتي جاء في مادتها الأولى “تطبق الاتفاقية حين توجد أوضاع تتضمن تنازع قوانين حول الالتزامات التعاقدية”، وهي نفس العبارة التي استعملتها اتفاقية لاهاي 22 دجنبر 1986 بشان البيع الدولي للبضائع بمقتضى فقرتها الثانية من المادة الأولى لتحديد دولية العقد كشرط مسبق لتطبيق مقتضياتها، إلا أن هذا الإبهام والغموض من استعمال عبارة كتنازع القوانين، سرعان ما يتبدد عندما نعلم أن منهج تنازع القوانين لا يجد مجالا له إلا في إطار التعريف القانوني وليس له أي دور في إطار غيره من التعاريف (الاقتصادي مثلا)، بل إن الأمر يزداد جلاءا بتفحص مقتضيات المواد اللاحقة، حيث نجد مثلا إن اتفاقية روما المذكورة تتضمن بعض القواعد التي من خلالها يمكننا أن نستخلص تعريف للعقد الدولي من صلبها، فمثلا نصت المادة الثالثة في فقرتها الثالثة على قاعدة فيها تعريف للعقد الداخلي كما يلي: “اختيار الأطراف لقانون أجنبي لا يقبل عندما تكون جميع عناصر العقد توجد وقت هذا الاختيار داخل بلد واحد”، وبمفهوم المخالفة يمكن استنباط تعريف للعقد الدولي كالتالي يكون دوليا العقد الذي لا تكون جميع عناصره تتموضع ببلد واحد، وتعريف آخر نستنتجه من الفقرة الأولى من مادتها الرابعة التي جاء فيها “العقد يحكمه قانون البلد الذي يتصل به هذا الأخير بمقتضى روابط أكثر وثوقا”، من أن العقد الدولي هو العقد الذي له روابط مع أكثر من بلد واحد.

بناء على كل ما سبق نعتقد أن الاتفاقيات بصنفيها الصريح والضمني لا تعتمد أي من المعايير التي قال بها الفقه الحديث منه والتقليدي، بل لها مقاربة خاصة في التعامل مع مفهوم العقد الدولي، باختصار انه تعريف قانوني متطور يعتبر العقد دوليا العقد الذي تتطرق الصفة الأجنبية لعنصر من عناصره القادرة بذاتها على ربط العقد بأكثر من بلد واحد حقيقة وواقعا لا تجريدا ونظريا.