العولمة وتأثيرها في تراجع سيادة الدول فى ظل العولمة

تعتبر السيادة داخل الدولة فكرة قانونية معبرة عن الجماعة السياسية القانونية الكبرى ذات الكيان المعنوى فى ما تقوم به من تصرفات سياسية وإدارية لصالح المواطنين، ومقتضى هذه السيادة أن سلطة الدولة وسيادتها سلطة أصلية (originaire) بمعنى أنها تنبع من ذات الدولة ولا تستمد أصلها من سلطة أخرى، فالهيئات والأجهزة الأخرى المختلفة في الداخل تستمد سلطتها من الدولة التي تملك إنشاء مختلف الهيئات ومنح وتحديد اختصاصاتها.

والدولة هي التي تنظم شئون نفسها لأنها تملك السلطة التأسيسية، أي سلطة وضع الدستور. ولسيادة الدولة وجهان، داخلي وخارجي. فالسيادة الداخلية، أي في علاقات الدولة بالأفراد والهيئات في الداخل تعني السلطة العليا التي تفرض نفسها على الجميع ولا تنازعها سلطة أخرى. أما السيادة الخارجية، فإنها تعني أن تكون الدولة مستقلة وأن تتعامل على قدم المساواة مع غيرها من الدول.

أي أن السيادة الخارجية مرادفة للاستقلال.وعلى ذلك فإن السيادة الخارجية لها معنى سلبي، لأنها تعني مجرد عدم خضوع الدولة لغيرها من الدول، أما السيادة الداخلية فيبدو أن لها معنى إيجابياً، لأنها سلطة آمرة عليا تفرض إرادتها على الجميع.

على أن البعض قد ذهب إلى أن للسيادة الداخلية بدورها معنى سلبى لأنها وصف لسلطة عليا دون تحديد لمضمون هذه السلطة. أي أنها لا تبين الاختصاصات التي تملك الدولة مباشرتها في الداخل. وعلى ذلك فإن هذه السيادة في جوهرها إنما تفيد استبعاد أي عقبات يقيمها الأفراد أو الجماعات في سبيل ممارسة الدولة لسلطتها العليا.

ولذلك فإن بعض فقهاء القانون الدولي يرون أن سلطة الدولة بغير سيادة أو بسيادة ناقصة أو معدومة لا يطلق عليها وصف الدولة.

لكن هذا الرأي يخالفه البعض، ويذهبون إلى أن السيادة شيء غير السلطة السياسية، وإنه إذا كانت السلطة السياسية ركناً من أركان الدولة فإن السيادة ليست كذلك، إذ قد توجد الدولة بغير سيادة ذلك على حين لا توجد دولة بغير سلطة.

وهذا الرأي الأخير يلتقي مع مفاهيم العولمة الجديدة التي من أهدافها الانتقاص من سلطة الدول بحكم ما تمثله من توجهات وتدخلات تحت مسميات الحرية الاقتصادية أو الديمقراطية أو تعميم الانفتاح السياسي الليبرالي من خلال إلغاء الحواجز والأبواب المغلقة الذي تنتهجه الدولة القومية أو الدولة الاشتراكية التي كانت تدور آنذاك في فلك المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي.

لذلك فإن سيادة الدول ستتناقص تدريجياً بدرجات متفاوتة في ما يتعلق بممارسة سيادتها في ضبط عمليات تدفق الأفكار والمعلومات والسلع والأموال والبشر عبر حدودها. فالثورة الهائلة في مجالات الاتصال والمعلومات والإعلام حدت من أهمية حواجز الحدود والجغرافيا.

وإذا كان بمقدور بعض الدول أن تحد في الوقت الراهن وبصورة جزئية من التدفق الإعلامي والمعلوماتي القادم إليها من الخارج، فإن هذه القدرة سوف تتراجع إلى حد كبير وقد تنعدم في المستقبل، خاصة في ظل وجود العشرات من الأقمار الصناعية التي تتنافس على الفضاء.

كما أن توظيف التكنولوجيا الحديثة في عمليات التبادل التجاري والمعاملات المالية يحد من قدرة الحكومات على ضبط هذه الأمور، مما سيكون له تأثيره بالطبع على سياساتها المالية والضريبية وقدرتها على محاربة الجرائم المالية والاقتصادية.

وبالإضافة إلى ما سبق، فإن القوة الاقتصادية والمالية التي تمثلها الشركات متعددة الجنسية، خاصة مع اتجاه بعضها نحو الاندماج والتكتل في كيانات أكبر، إنما تسمح لها بممارسة المزيد من الضغط على الحكومات، وبخاصة في العالم الثالث، والتأثير على سياساتها وقراراتها السيادية، وليس بجديد القول إن رأسمال شركة واحدة من الشركات العالمية العملاقة يفوق إجمالي الدخل القومي لعشر أو خمس عشرة دولة أفريقية مجتمعة، وهو ما يجعل هذه الكيانات في وضع أقوى من الدول.

ومن هذه المنطلقات الجديدة للعولمة أيضاً ستصبح المقدرة السيادية للدول خاصة في العالم الثالث تتغير لصالح هذه التحولات التي يشهدها العالم في الوقت الراهن. فهذه التحولات تفرض قيوداً ومحددات على قرارات الدول وسياساتها من ناحية، كما أن قدرات الدول على التحكم في عمليات التدفق الإعلامي والمعلوماتي والمالي عبر حدودها تتآكل وبصورة متسارعة من ناحية أخرى. وهو ما دفع البعض إلى التساؤل عن مستقبل الدولة القومية في ظل هذه التحولات.

ويعبر الباحث الخليجى تركي الحمد عن ذلك بالقول: إن هذا التوجه الجديد في مسألة انحسار سيادة الدول أو الانتقاص من سلطتها هو نوع من الانقلاب الجذري في العلاقات بين الدول، على اعتبار أن هذا التحول الجديد هو تغيير محتمل في شكل الدولة ونمط الحكم المعتبر شرعياً، بحيث يمكن القول إن مثل هذا الانقلاب لا يقل في أهميته المستقبلية، عن ذلك الانقلاب في التاريخ الأوروبي، الذي أدى في النهاية إلى انتهاء عصر وبداية عصر جديد، مع ما يرافق ذلك من بداية ظهور مفاهيم سياسية جديدة، أو مضامين جديدة لمفاهيم قديمة، تصف هذا الانقلاب والتحوّل،

وتحاول أن تضعه في إطار نظري سياسي جديد، كما فعل منظرو تلك الحقبة، فبعيداً عن مستوى التحليل الآني والجزئي (MICRO) للسياسة، والمواقف السياسية بصفتها فن الممكن، فإن الإفرازات السياسية بعيدة المدى، منظوراً إلى المسألة من زاوية كلية (MACRO) لعصر العولمة وخاصة في أعقاب حرب الخليج الثانية وانهيار آخر الإمبراطوريات “الكوزموبوليتانية” التقليدية (الاتحاد السوفييتي).

يبرر الباحث التدخلات في شؤون الدول بأنها نوع من الشعور بالقدر الإنساني المشترك في عصرنا الراهن، وما يمكن أن يقوم على مثل هذا الوعي من إحساس إنساني مشترك، وذلك كما أدت التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا في بداية العصور الحديثة إلى الشعور بالقدر القومي المشترك، وما قام عليه من شعور قومي مشترك، فمجرد طفل جائع يبكي في أدغال أفريقيا مثلاً،

يستثير العطف وحركات المشاركة الوجدانية وغير الوجدانية لدى البعض على ضفاف نهر الدانوب أو الرور أو المسيسيبي، وعلى ذلك قس، ليست القضية هنا تدخل هذه الدولة في الشأن الداخلي لتلك الدولة، بقدر ما هو ذلك الشعور المتنامي بالمصير المشترك لكل بني الإنسان، نعم إن لمثل هذه العولمة نتائجها السلبية العديدة على الدولة في العالم الثالث خاصة، وما يثيره ذلك من أسئلة وإشكالات الهوية والمصير الوطني أو القومي أو نحو ذلك، وما قد يؤدي إليه ذلك من حركات عنف وتطرف، إلا أن كل ذلك لن يكبح تياراً هو سائر في طريق، كما أن البكاء على دولة المدينة الوادعة لم يقف في طريق انبثاق دولة العالم المقدونية والرومانية.

لكن الكثيرين يختلفون مع الباحث تركي الحمد فيما طرحه في هذه القضية، ويرون أن العولمة يمكن أن تكتسب طابع العمومية والانتشار في كل الأمم والحضارات والدول بحكم إمكانياتها العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية مع احتفاظ هذه الدول والشعوب بسلطتها وتراثها السياسي والاقتصادي مع ضرورة انفتاحها السياسي وإقرارها التعددية وغيرها من المضامين التي لا تختلف حولها الأمم والشعوب الأخرى.

وإذا ضعفت الدول وانتقصت سيادتها مع بروز سلبيات العولمة التي من آثارها تسريح العمالة، وتراجعت الصناعات الوطنية أمام الصناعات العالمية المتقدمة وغيرها من المؤثرات، فإن المشكلات الداخلية ستتفاقم وسيصبح الكلام عن الانفتاح السياسي والديمقراطي والرفاه الاقتصادي مجرد أحلام وردية، وستحل القلاقل بدل الاستقرار والرفاه وغيرها من مقولات أدعياء العولمة.

فالعولمة ليست خالية من الايديولوجيات لأنها تقاد من مجموعات لها استراتيجتها وطموحاتها السياسية والاقتصادية والفكرية، ولذلك فإن التطبيقات ستكون مختلفة، وليست بالصورة الوردية التي يطلقها مؤيدوها.

صحيح أنها ظاهرة إنسانية جديدة بكل إفرازاتها السلبية والإيجابية، فإذا ما أرادت إلغاء الآخر وهويته ونموذجه الخاص، فإن هذا التجاهل له من السلبيات الكبيرة ما يسهم في عدم إرساء نموذج كوني تعددي يؤمن بالديمقراطية والحرية وثقافة التسامح تجاه الآخر المختلف.