“الرياض” تناقش نظام مكافحة التزوير وأثره في الحد من الشهادات العلمية المزورة
إهمال أو تقصير لجان التعاقد يوجب تطبيق نظام تأديب الموظفين وإيقاع العقوبة التي تصل إلى الفصل من الوظيفة

تحقيق: محمد بن عبد العزيز المحمود
لم تعد ظاهرة التزوير أمراً مقتصراً على العمالة الوافدة التي تزّور إقامة أو جوازَ سفر أو ختماً لأحد الجهات الحكومية يستخدمه أولئك العمالة في أمورهم الخاصة، ويتحايلون به على أنظمة الدولة.. إذ برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة تزوير الشهادات الدراسية العليا والتي بموجبها يتم التعاقد مع أساتذةٍ وأستاذات جامعيين ليتولوا زمام التعليم الجامعي في بلادنا ويكوّنوا ثقافة أبنائنا وبناتنا في مراحل التعليم العليا. فقد تم اكتشاف العديد من تلك الحالات، والتي أسهمت بشكل مباشر في إضعاف مخرجات التعليم في بلادنا..

وباتت هذه الظاهرة حديث المجالس اليوم.. وخصوصاً بعد أن نشرت الصحف المحلية ذلك الحكم الصادر من الدائرة الجزائية بديوان المظالم بمنطقة عسير ضد إحدى المحاضرات والذي تمت إدانتها بتزوير شهادتي الليسانس والماجستير في تخصص اللغة الانجليزية المنسوبة لإحدى الجامعات العربية وتم التعاقد معها بموجبه كمعلمة للغة الانجليزية، وبعد أن اعترفت – تلك المحاضرة المزوِرة – أمام هيئة الرقابة والتحقيق بتزوير الشهادتين من خلال مبالغ مالية دفعتها لأشخاص ساعدوها في عملية التزوير ؛ أقامت هيئة الرقابة والتحقيق دعواها أمام الدائرة الجزائية بديوان المظالم الذي جاء حكمها بتغريمها مبلغ وقدره ألف ريال سعودي! وسجنها سنة كاملة مع وقف عقوبة السجن تقديراً لظروفها العائلية ورعاية أطفالها إضافة إلى ما قدمتّه أمام الدائرة من ندم وأسف!!.

ولم تقف المشكلة عند هذا الحد ؛ بل السكوت عن لجان التعاقد التي قامت بالتعاقد مع هؤلاء المزورين والمزورات واستقدامهم ليتولوا زمام التعليم العالي في بلادنا هو الجريمة بذاتها!!

@ الرياض عرضت القضية على الشيخ وليد بن محمد الصمعاني. القاضي بديوان المظالم في الرياض ليسلط الضوء على هذا الموضوع بالذات، ويتحدث عن نظام مكافحة التزوير بشكل عام وقد استهل حديثه قائلاً:

يحسن في البدء بيان طبيعة النظام الجنائي الذي ينتمي إليه نظام مكافحة التزوير، وكذلك الطبيعة الخاصة لجريمة التزوير، على اعتبار أن ذلك يعطي تصوراً مهماً لما يجب أن يكون عليه النظام الذي يجرّم التزوير، ويعاقب عليه.

إذ أن النظام الجنائي بصفة عامة يفترض فيه التحديد والوضوح والحسم، فلا مجال فيه للعموم أو الإيجاز الذي ينتج عنه غموض في تحديد الفعل المجرَّم وصوره.

كما أن النظام الجنائي الخاص يستلزم مواكبة التغيرات في الظروف والزمان والمكان؛ ولذلك كان من طبيعته التطور الدائم لملاحقة تطور المجتمع والتعقيدات المرتبطة بذلك التطور، بما في ذلك اختلاف طبيعة الجرائم، وهذا ما ينطبق بطبيعة الحال على جريمة التزوير بشكل أساسي، فالتزوير في وقتنا الحالي لا يمكن قياسه بالتزوير قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن، ولاسيما فيما يخص الناحية التقنية والالكترونية، والتي لها ارتباط كبير بمفهوم التزوير.

ولذا كان من المتعين أن يكون النظام الصادر للحد من التزوير متطوراً ليحيط بالوسائل والطرق المتغيرة له، ويحد من آثاره السلبية على المجتمع، ذلك أن انتشار التزوير يؤدي إلى هدر الثقة بوسائل الإثبات والمحررات بوجه عام، مما ينتج عنه عدم استقرار التعاملات في المجتمع.

وعلى ذلك إذا نظرنا إلى التعاملات التي يمكن أن يقع فيها التزوير في وقتنا الحاضر؛ فإننا نجد أنها تعاملات كثيرة جداً، ومعقدة، بل ربما يكون احتمال التزوير في بعض هذه التعاملات أكثر بكثير من احتماله في الوسائل التي قصدها النظام الحالي الصادر قبل أكثر من سبعة وأربعين عاماً، فلا يتصور أصلاً أن يكون هذا النظام قد أحاط بمسائل التغيير في الوسائل الالكترونية بما في ذلك التعاملات التجارية الالكترونية، والتي بلغ حجمها في المملكة هذا العام أكثر من 55مليار ريال، إضافة إلى كل ما يتعلق بالحاسب الآلي والتواقيع الالكترونية والبطاقات الممغنطة وغيرها، والتي أضحى التزوير فيها سمة عالمية، بل إن أعلى نسب التزوير كانت في هذه الوسائل؛ إذ بلغت الخسائر الناتجة عن تزوير بطاقات الائتمان في بريطانيا وحدها أكثر من 900مليون دولار في عام 2005م.

ولذلك فإن الحاجة في الوقت الحاضر إلى إيجاد نظام لمكافحة التزوير يشمل هذه الوسائل والطرق أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى.

@ “الرياض” ما أبرز الملامح الرئيسية لنظام مكافحة التزوير الحالي؟

الصمعاني: إذا نظرنا إلى النظام الحالي الصادر بالمرسوم الملكي رقم (114) وتاريخ 1380/11/26ه، والمعدل بالمرسوم الملكي رقم (53) وتاريخ 1382/11/5ه، الذي احتوى على (11) مادة فقط: يتبين لنا أنه قصد به شمول أحكام تزوير الأختام والتواقيع وتقليدها، وتزوير المحررات الرسمية والعرفية، وطرق التزوير المادي والمعنوي، وصفة المرتكب لجريمة التزوير، وكذلك جريمة استعمال المحررات المزورة، إضافة إلى النص على بعض الجرائم ذات العقوبات المخففة، مع ما تناوله النظام من اختلاف العقوبات من حيث التشديد والتخفيف.

ولعل من الملامح الرئيسية لهذا النظام الإيجاز الشديد في مواده، وعدم استقلال كل نوع من الجرائم فيه بمادة مستقلة، كما أن النظام لم يذكر تعريفاً يبين ماهية التزوير على وجه الدقة، إضافة إلى عدم تضمنه لبعض صور التزوير مما دعا مجلس الوزراء إلى إصدار أكثر من قرار لسد النقص في النظام، وقد كان أولهما بتاريخ 1399/8/14ه، والثاني بتاريخ 1406/1/3ه.

هنا أؤكد إلى ضرورة معاقبة لجان التعاقد مع المزورين أو منعهم – على أقل الأحوال – من التعاقد مرةً أخرى إذ بيّن أن التعاقد مع منء يثبت تزويره لمؤهله دون التحري والوقوف على حقيقة مؤهلاته وقدراته لاشك أنه يعد تقصيراً من الموظف أو اللجنة المكلفة بذلك، وهذا التقصير يستلزم التحقيق والمساءلة، وهذا بخلاف ما لو قامت اللجنة بجميع الإجراءات النظامية اللازمة فإنها حينئذ تكون بمنأى عن المساءلة، على أنه في حال ثبوت التقصير أو الإهمال في عمل اللجنة؛ فإنه يكون من اللازم تطبيق ما نص عليه نظام تأديب الموظفين من إجراءات في التحقيق وإيقاع العقوبة التي تصل إلى حد الفصل من الوظيفة..

كما أنه في حال ارتبطت هذه المخالفة الوظيفية بجريمة؛ فإن الواجب عندئذ تطبيق النظام المتعلق بهذه الجريمة سواء أكان نظام مكافحة الرشوة أو نظام مكافحة التزوير أو المرسوم الملكي رقم (43) لعام 1377ه الذي تضمن النص على عدة جرائم تتعلق بالوظيفة العام كإساءة استخدام السلطة وغيرها من الجرائم، مما يجعل الموظف المرتكب لإحدى هذه الجرائم معرضاً لعقوبات السجن والغرامة مع العقوبة التبعية المتمثلة في الفصل من الخدمة.

ولاشك أن تشديد العقوبة على من يثبت في حقه إحدى هذه الجرائم مطلب شرعي واجتماعي ملح.

@ “الرياض” ما مدى قدرة نظام مكافحة التزوير على تحجيم تلك الظاهرة وخصوصاً تزوير المؤهلات والشهادات العملية؟

الصمعاني: إذا أردنا أن نتكلم عن قدرة نظام على علاج مشكلة ما ؛ فإننا ولابد أن نمعن النظر في الغاية التي أدت إلى إيجاد هذا النظام، ومن ثم مطابقة النظام وتحقيقه لهذه الغاية أو عدم تحقيقه لها، ولما كانت الغاية من نظام مكافحة التزوير تحقيق الثقة بالمحررات ووسائل الإثبات لذلك ينبغي استحضار هذه العلة عند تحديد الوقائع التي يشملها النظام، وكذلك الأمر بالنسبة للعقوبات الواردة فيه، وبالتالي يتعين أن تكون العقوبات متفاوتة تشديداً وتخفيفاً على حسب تأثير هذه الواقعة أو تلك في الثقة الواجب توافرها في وسائل الإثبات والأوراق التقليدية أو الالكترونية.

كما أن استصحاب هذه الغاية لا يكفي لوحده لإيجاد نظام متكامل لمواجهة التزوير والحد منه ؛ إذ لابد أن نلم بعدة أمور من جوانب مختلفة، غير أن ما يقر في الأذهان دائماً هو الحفاظ على القوة الثبوتية للأوراق الرسمية والعرفية على حد سواء، والحفاظ على استمرارية التعامل بها بين الناس دون قلق أو تخوف مبالغ فيه، وهذا الجانب هو الذي يتبادر للذهن عند الحديث عن التزوير بشكل عام.

غير أن ذلك لا يكفي عند دراسة التزوير كظاهرة أو محاولة إيجاد نظام لمكافحة التزوير؛ إذ لابد مع ذلك من الإلمام التام بالطبيعة الذاتية لجريمة التزوير، وكذلك طبيعة الشخص القائم به، والأسلوب الأمثل لإيجاد رادع كاف لمن يقوم بالتزوير من خلال دراسة سبب القيام بهذه الجريمة أصلاً، مع استحضار كافة الوقائع التي يمكن أن يشملها النظام، فالغالب وخاصة عند من يتناول الموضوع من الجانب النظري الأكاديمي أن ينظر للتزوير من جانب واحد وهو الجريمة الأكبر التي يمكن أن يقلل منها النظام، ولذا تنصب الأفكار نحو زيادة العقوبات التي يتضمنها هذا النظام دون مراعاة لباقي الوقائع التي قد تؤثر فيها الغلظة في العقوبة بشكل سلبي.. فالتزوير كما يحصل لغرض إجرامي سيئ ؛ قد يحصل بشكل أقل خطورة، ومع أن تغيير المحرر بأي طريقة يعد خطأ يستوجب العقوبة إلا أن تلك العقوبة تتفاوت بحسب درجة الجريمة، فمن يقوم باصطناع ورقة غير صحيحة لتبرير غيابه عن المدرسة ليوم واحد ليس كمن يصطنع شهادة دراسية أو مؤهلاً علمياً يجعله يقوم بدور المعلم دون استحقاق!! ومن يقوم بتزوير شهادة تفيد بحصوله على دبلوم تخطيط القلب وخبرة عمل في هذا المجال لعدد من السنوات ويستعمل هذا الشهادة في العمل لمدة طويلة، يختلف عمن يقوم بتغيير تاريخ ميلاده مثلاً!!

كما أن هناك تزوير لورقة مصرفية، وهناك تزوير لورقة عرفية عادية... ولذلك فإن التزوير بشكل عام، لابد أن ينظر إليه بنظرة فيها الكثير من التجرد والموضوعية، إضافة إلى ضرورة استحضار الوقائع التي يحكمها بشكل كبير، لكي يكود إعداد النظام محققاً للغايات التي يرجوها المجتمع منه، وهذا لا يعني بحال أن يصار إلى التخفيف بشكل عام أو إلى العكس، ولكن أن يوضع النظام بطريقة تحقق التعامل مع كل جريمة على حدة وعلى حسب ظروفها وما تتطلبه.. ولما تقدم؛ فإني أعتقد أن النظام الحالي لم يراعِ بعض تلك الأمور؛ مما ساهم في عدم معالجته لظاهرة التزوير معالجة صحيحة ؛ إضافة إلى أن النظام قد صدر منذ مدة طويلة في ظل مجتمع متغير مما جعله يثير صعوبات عدة في التطبيق العملي، كما أنه بالنسبة لانتشار ظاهرة المؤهلات والشهادات العلمية المزورة؛ فإن هناك عدداً من الأسباب الأخرى غير الجنائية أدت إلى انتشارها.

@ “الرياض” برأيكم ما الأسباب التي أدت إلى انتشار ظاهرة وجود بعض المتعاقدين، خاصة في المجالين الصحي والتعليمي ممن يحملون مؤهلات وشهادات علمية المزورة؟

الصمعاني: إن محل إعمال نظام مكافحة التزوير هو بعد اكتشاف التزوير، ومن ثَم فلا يمكن القول بأن إصلاح ذلك النظام أو تطويره هو السبيل الوحيد للقضاء على ظاهرة وجود بعض الأشخاص الذي يحملون مؤهلات وشهادات علمية مزورة، لكن مما لاشك فيه أن كون النظام يصدر بالشكل الصحيح مطلب ملح ومهم، بما في ذلك تضمنه لجميع الوقائع التي يقع فيها التزوير، وتضمنه لعقوبات رادعة، خاصة فيما يتعلق بتزوير المؤهلات والشهادات العلمية التي ترتب أضراراً بالغة على المجتمع، فهذا يحقق الزجر المطلوب لجعل الجاني لا يقدم على التزوير أساساً، غير إن الوسيلة المهمة الأخرى لا تتعلق بالناحية العقابية بالدرجة الأولى خاصة وأن ذلك التزوير يقع خارج المملكة – بل تتعلق بالناحية الإدارية والفنية؛ إذ إن إيجاد آلية عملية ودقيقة في اختيار المتعاقدين في المجالات الصحية والتعليمية على وجه الخصوص يشكل حجر الزاوية في الحد من وجود المزورين في هذا المجال، مع إتباع ذلك بالتحقق من صحة مؤهلاتهم وشهاداتهم العلمية بطريقة دقيقة وسريعة، ويمكن ذلك بعدة طرق، لعل من بينها – برأيي – إيجاد هيئة أو مؤسسة ولو كانت من القطاع الخاص تتم الإجراءات التعاقدية من خلالها عن طريق تسليم الشخص المتعاقد لجميع أوراقه ومؤهلاته لتلك المؤسسة التي تقدم نسخة منها إلى الجهة الإدارية الطالبة للتعاقد للسير في إجراءات التعاقد والاختبار بطريقة طبيعية، كما تقوم المؤسسة في الوقت ذاته بالتحقق من صحة تلك الشهادات والمؤهلات عبر طرق نظامية موثوق بها، ومن ثَمّ إرسال التأكيد إلى الجهة الإدارية فيما بعد وخلال فترة محددة، وهذا الاقتراح بظني ينتج عنه الثقة بمؤهلات العاملين في القطاع الصحي والتعليمي من غير السعوديين، إضافة إلى أنه لا يعوق إجراءات التعاقد أو يؤخرها.

كما أن يخصص التعليم العالي أوزارة الصحة لرقم أو بريد لاستقبال الملاحظات على بعض المتعاقدين والمتعاقدات الذين يُشك في صحة شهاداتهم يعد من الأسباب المعينة التي تجعل الإبلاغ عن هؤلاء الأشخاص سهلاً وميسوراً للجميع، على اعتبار أن ضرر أمثالهم يصيب الجميع أيضاً، وهذا ولاشك يساهم في تحجيم هذه المشكلة.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت