نظام التأديب بين العقاب الجنائي والمسؤولية المدنية

من مؤلف / المستشار / طارق البشري

موجز الدراسة

تمهيد

نظام التأديب هو وسيلة من وسائل الرقابة الذاتية ، التي تمارسها السلطة الرئاسية في أي من مجالات العمل علي مرءوسيها والعاملين بها ، وهو محاسبة العامل علي ما جنته يداه في عمله من أخطاء أو إخلال بما يفرضه نظام العمل عليه من واجبات.
وهو نظام يتولد من علاقات العمل ، ولقد ظهر وازدادت أهميته حيثما تظهر علاقات العمل وتزدد أهميتها.
وعلاقات العمل تختلط بأوضاع قانونية متعددة ومتنوعة ، حسب المحال الاجتماعي الذي تلتبس به هذه العلاقات. فهي تلتبس بالقواعد القانونية للأحوال الشخصية في حالات الإنتاج العائلي ، وذلك في المشروعات والوحدات صغيرة الحكم التي يتوحد فيها مجال العمل بملكية المشروع الإنتاجي أو الاقتصادي ، وتكون هذه الوحدات بحجم يكفيه في إعادة الجهد المبذول من العامل صاحب المشروع وأفراد أسرته. وهنا تكون علاقة العمل مستوعبة في علاقات الأسرة ، ويذوب التأديب في السلطة الأبوية التي يملكها كبير العائلة تجاه عائلته.

وعلاقات العمل ترتبط بعلاقات التعاقدات المدنية ، في المشروعات الإنتاجية والاقتصادية التي تعتمد علي العمل المأجور ، وتتخذ شكل العلاقات التعاقدية بين طرفين منفصل كل منهما عن الآخر ، أحدهما رب العمل صاحب المشروع ومالكه ، والأخر العامل الذي يعمل تحت إدارة رب العمل وإشرافه وبأدوات عمل لا يملكها وفي مشروع لا يملكه ، ولكنه يعمل لحساب رب العمل لقاء اجر. وهذه هي علاقة العمل في صورتها النقية ، وهي الصورة التي ينصرف إليها الذهن عادة عندما يشار إلى علاقة العمل. وهي المقصود الأساسي في قوانين العمل ونظمه الفردية والجماعية. وهي حسب التصنيفات القانونية الجارية ألان في علم القانون ، تعتبر من علاقات القانون الخاص ، التي تصل بين تعاملات الإفراد بعضهم مع البعض دون أن تتسم بأي من سمات السلطة العامة ، ولا بأي من أربطة القانون العام.

وعلاقات العمل تتصل ثالثاً بعلاقات القانون العام ، بما يسمي بالوظيفة العامة ، والقانون العام كما هو معروف يتناول الدولة والهيئات العامة بوصفها سلطة عامة ، كما يتناول الروابط القانوني التي تكون أي من هذه الهيئات طرفاً فيها ، فالوظيفة العامة هي علاقة عمل ولكنها تتميز بان أحد طرفي هذه العلاقة واحد من الهيئات العامة بوصفها سلطة عامة ، وان هذه الهيئات العامة تحتل مركز رب العمل في هذه العلاقة.

ووجه الخصوص في هذه العلاقة انها علاقة عمل يتصل أعمالها بإدارة شئون الدولة وبتسيير المرافق العامة التي تقوم عليها وظيفة الهيئات العامة. وبذلك فان خصوص علاقة الوظيفة العامة يتصل بعموم علاقات العمل التي تنشا بين أرباب العمل والعمال ؛ ومن هنا وجه الطرافة في هذه العلاقة ، ذلك انها من العلاقات المحكومة بأربطة القانون العام ، ولكنها تتصل اتصال خصوص بعموم بعلاقة العمل المحكومة بأربطة القانون الخاص.

ومن هنا ترد الطرافة التي يتميز بها نظام التأديب في الوظائف العامة ، طرافة تجعله يتردد بين المجال الجنائي بوصفه نظام عقاب وردع تتولاه سلطة عامة علي أفراد ، والمجال المدني بوصفه مسئولية عن إخلال بعمل.

علي أننا نلحظ انه كما أمكن اختفاء علاقة العمل في علاقة الأسرة فيما يسمي بنظام الإنتاج والاقتصاد العائلي ، واختفي نظام التأديب (الملازم لعلاقة العمل) في السلطة الأبوية ، كذلك فقد أمكن اختفاء علاقة رب العمل بالعامل في الوظيفة العامة والفرد ، أي بين حاكم ومحكوم.

ويطرد الفقه علي أن يصف علاقة الوظيفة العامة بأنها علاقة تنظيمية لائحية ، تتعلق بروابط القانون العام ، وذلك بسبب كون أحد أطرافها هيئة عامة ولأنها لازمة لتسيير مرفق عام. كما يطرد علي بيان أن هذه الصفة تفرق بين علاقة الوظيفة العامة وبين علاقة العمل ، التي تعتبر علاقة عقدية وتتعلق بروابط القانون الخاص.

هذه الفروق تبدو كما لو كانت باهرة الوضوح في الوهلة الأولى ، ولكننا عند إمعان النظر نجد أن المتشابهات عديدة ، ومساحة التداخل واسعة. فان هناك مع روابط القانون الخاص ما حظي من المشرع – لاعتبارات اجتماعية رآها – بقدر واسع جد من الضبط والأحكام في تحديد أساليب التعاقد وأثاره ، بحيث انه لم تبق لطرفي العلاقة العقدية إرادة حقيقية يعملونها وفق مشيئتهما الثنائية لتحديد آثار التعاقد المادي بينهما وإحكامه.

إن عقد أيجار الأماكن المبنية وعقد أيجار الأراضي الزراعية ، قد صدرت لهما في مصر ( مثلاً ) علي مدي نصف قرن تقريبا ، قوانين وتشريعات وتعديلات تشريعية رئيسية وفرعية وقرارات لائحية ، صدرت لهما من تلك ما يجعلهما اقرب للعلاقات اللائحية التنظيمية وليس للعلاقات العقدية الرضائية التي تولي عاقدوها تعيين شروطها وأثارها. وإن عقد العمل الفردي الذي ظل محسوبا من أربطة العلاقات الخاصة ، اطرد تنظيم المشرع لأحكامه وأثاره بحيث لم يعد لطرفيه مكنة واسعة لتعديلها. حتى أن فكرة مثل هذه العقود صارت اقرب إلى مفهوم الفكرة ” الجعلية ” التي تحدث عنها الشافعية في الفقه الإسلامي وخلاصتها أن آثار العقد تترتب بجعل من الشارع ، وان حدود الإرادة تقتصر في الغالب علي مبدأ رضاء الطرفين في اصل الدخول في هذه العلاقة أو عدم الدخول فيها ، فان تراضيا علي الدخول فيها فقد ترتبت الآثار علي ذلك ” بجعل ” من الشارع اكثر مما تترتب ” بشرط ” من المتعاقدين .

إن علاقة التوظيف هي قمة هذا التصور ، من حيث كونها علاقة جعلية تترتب أثارها “بجعل” من القانون وليس بشرط من المتعاقد ، وينحصر ما تتمتع به هذه العلاقة الجعلية من دور للإرادة والرضاء في اصل الدخول فيها ، فلابد للموظف أن يرتضي التوظف بطلب منه أو موافقة ، ولابد لجهة الإدارة ( رب العمل ) أن تقبله بقرار تعيين وتوظيف – ثم بعد ذلك تترتب آثار لا دخل لأي من الطرفين في اشتراطها وتحديدها.

قد يظل الفارق الأساسي بين العقود الجعلية الخاصة ( كإيجار الأرض والمسكن وعقد العمل في مصر ) والعقود الجعلية العامة ، هو أن النوع الخاص منها أحكامه مقررة لحماية الطرف الذي رآه المشرع طرفاً ضعيفاً ، بما يسمح بتعديل تلك الأحكام لصالح هذا الطرف وليس ضده . بينما أحكام العلاقة الوظيفية لا تتيح هذا السماح ، ولكن يبقي وجه للاتفاق حتى في هذا المجال ، مما تتيحه علاقة التوظف من مرونة في الترقي ومنح المزايا بالاختيار ، وما تتيحه للموظف من المطالبة بما يراه حقا له.

علي آية حال فقد قصدت من هذا البيان ، إثارة أن تخصيص علاقات أيجار المساكن والأراضي الزراعية بنمط “جعلي” لائحي تنظيمي من العلاقات ، لم يؤثر في اصل بقائها متضمنة في طلب القوانين المدنية الخاصة التي تعتمد علي العلاقات الشرطية غير اللائحية.

ولكن تخصيص علاقة التوظف بنمط جعلي لائحي ، قد أدى بالفقه إلى أن ينقل هذه العلاقة من روابط القانون الخاص إلى مجال علاقات القانون العام. ويبدو لي أن سبب هذا النقل لم يكن هو “لائحية” الأحكام وجعليتها ، فان علاقات العمل الخاص لا تقل كثيرا من حيث اللائحية والجعلية عن علاقات التوظف ، إنما كان السبب الذي حدا بالفقه إلى هذا الانتقال هو أن إحدى طرفي العلاقة هيئة عامة تستخدم أساليب السلطة العامة ، وأنها علاقة تتصل بتسيير مرفق عام ومن ثم تداخل وصف السلطة بوصف رب العمل فيها.

انعكست هذه الطبيعة المزدوجة للسلطة العامة ولرب العمل اكثر ما انعكست علي نظام التأديب في الوظيفة العامة.