موقف المحاكم الدولية الجنائية من الحصانة

أن ما شهده العقد الأخير من القرن العشرين من انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، في كل من يوغسلافيا ورواندا له اثر كبير في تطور مبدأ عدم الاعتداد بالحصانة كجزء من التطور الشامل للقانون الدولي الجنائي، حتى لا يفلت من قبضة العدالة أولئك الأشخاص المسؤولون عن ارتكاب فظائع جماعية تجاه حقوق الإنسان سواء أكان ذلك أثناء النزاع المسلح أم وقت السلم(5). لذلك تأكيد مبدأ عدم الاعتداد بالحصانة في الجرائم الخطيرة في النظام الأساسي لكل من محكمة يوغسلافيا عام 1993 وروندا عام 1994. حيث نصت المادة (1/7) من محكمة يوغسلافيا على (لا يعفي المنصب الرسمي للمتهم سواء أكان رئيس دولة أو حكومة أو مسؤولا حكوميا، هذا الشخص من المسؤولية الجنائية أو يخفف من العقوبة) ([119]). وبالفعل شهدت هذه المادة تطبيقاً على المسؤولين عن هذه الانتهاكات، ومن ضمنهم توجيه الاتهام للرئيس اليوغسلافي السابق (سلوبدان ميلوسوفيتش)([120]).

كما تم النص على هذا المبدأ في المادة (6) في النظام الأساسي لمحكمة رواندا، وكذلك أدرجته لجنة القانون الدولي في مشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وأمنها لعام 1996([121]).

وبقيام المحكمة الدولية الجنائية الدائمة ترسخ في القانون الدولي الجنائي هذا المبدأ إذ نصت المادة (27) من النظام الأساسي للمحكمة على (1- يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية، وبوجه خاص فان الصفة الرسمية للشخص، سواء أكان رئيس للدولة أو الحكومة أو عضوا في حكومة أو برلمان أو ممثلا منتخبا أو موظفاً حكومياً، لا تعفيه بأي حال من المسؤولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي، كما أنها لا تشكل في حد ذاتها سببا لتخفيف العقوبة. 2- لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص سواء أكانت في إطار القانون الوطني أو الدولي، دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص).

وبخصوص المواد (7) من النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا و (6) في النظام الأساسي لمحكمة رواندا و (27) من المحكمة الدولية الجنائية،أود القول هنا إن هذه المواد قد تجاوزت الانتقادين الموجهين لصياغة لجنة القانون الدولي لهذا المبدأ. إذا أن هذه المواد قد وسعت من نطاق الحصانة التي لا يجوز الاعتداد بها كسبب للإفلات من العقاب، بحيث لم تعد محصورة بشخص رئيس الدولة أو الحاكم، بل امتد إلى بقية الأشخاص المتمتعين بالحصانة، وخاصة المادة (27) من نظام المحكمة الدولية الجنائية الدائمة التي أوردت بصورة تفصيلية تعدادا للأشخاص المتمتعين بالحصانة ورفض الاعتداد بها، كما أنها لم تعتبر الصفة الرسمية مهما كانت سببا لتخفيف العقوبة، وهذا ما لم تشر أليه لجنة القانون الدولي في صياغتها السابقة لهذا المبدأ، فتولد الاعتقاد بان المحكمة المختصة لها سلطة تقرير العقوبة وتخفيفها عن المتهم لصفته الرسمية.

وفي تعليقه على المادة (27) من نظام المحكمة الدولية الجنائية الدائمة يقول (د.محمود شريف بسيوني) انه لا بد من التفرقة بين نوعين من الحصانة، الحصانة الموضوعية والحصانة الإجرائية، فالنسبة للحصانة الموضوعية فانه يقرر إن مؤدى نص المادة (27) هو عدم جواز التذرع بالصفة الرسمية للإعفاء من المسؤولية الجنائية المنصوص عليها في النظام الأساسي حين مثوله أمامها، أما عن الحصانة الإجرائية فإنها تبقى لصيقة برئيس الدولة ما بقي في منصبه ولا تزول عنه إلا بعد أن يتركه أو وفقا للإجراءات المنصوص عليها في الدستور أو النظم القانونية الداخلية لرفع هذه الحصانة.([122])

ومع أن المادة (27) واضحة في خصوص عدم الاعتداد بالحصانة، إلا انه هناك من ليس متفائلا إلى درجة كبيرة بإنهاء حصانة مرتكبي الجرائم الدولية، ويربط نجاح ذلك بمواقف الدول من هذه المسالة، لذلك قيل بهذا الصدد (انه إذا كان إقرار النظام الأساسي يمثل خطوة عملية أولى نحو رفع الحصانة عن مرتكبي تلك الجرائم وإمكانية مقاضاتهم عن الجرائم التي يرتكبونها أو يتسببون في وقوعها، إلا انه يجب التذكير هنا بضرورة عدم الإفراط في التفاؤل بشان هذه المسالة، إذ لا يمكن التغاضي عن مواقف الدول وتأثيرها على عمل المحكمة الجنائية، وإذا كان قيام السلطات اليوغسلافية بتسليم رئيسها السابق (سلوبدان ميلوفيتش) إلى المحكمة الخاصة بيوغسلافيا، يشكل بكل المقاييس سابقة لا ينبغي التقليل من أهميتها عند الحديث عن مبدأ الحصانة، إلا انه بالنظر إلى الباعث من هذا الإجراء، فانه لا يمكن القول إن هذه السابقة قادرة على إرساء قاعدة يمكن بناء عليها التعامل مع الحالات المشابهة بأسلوب متماثل يتوافق مع ما تتطلبه العدالة ومبدأ عدم الإفلات من العقاب).([123])

وإننا نتفق مع هذا الرأي ، فمواقف الدول مسألة ضرورية جداً فيما يتعلق بإنهاء ورفع الحصانة عن الأشخاص وتسليمهم وفقاً للإجراءات الدستورية إلى المحكمة ، ومواقف الدول ضعيفة في هذا المجال، حيث هناك الكثير من الأشخاص الذين لا زالوا في مراكز قيادية ولكن اتخذت دولهم موقفا متشددا من المحكمة كإسرائيل والولايات المتحدة مع أن هؤلاء الأشخاص متهمين بارتكاب جرائم خطيرة ضد الإنسانية نذكر على سبيل المثال (شارون)، ولذلك نحن لا نعتبر سابقة ميلوسوفيتش وتسليمه تشكل قاعدة عامة لإنهاء الحصانة وستطبق من قبل الدول في الحالات المشابهة لها، وخاصة إذا علمنا الباعث الحقيقي وراء تسليم هذا الرجل([124]).

– قضية بونشيه (Pinochet) مثال على عدم الاعتداد بالحصانة عند ارتكاب الجرائم الدولية :
قبل الدخول في تفاصيل هذه القضية، أود الإشارة إلى أنها تتضمن شطرين، الأول يتعلق بالحصانة وعدم الاعتداد بها عند ارتكاب الجرائم الدولية، والثاني يتعلق بحق المحاكم الوطنية للدول بممارسة الاختصاص القضائي العالمي على الجرائم الدولية الخطيرة، وسوف أتكلم هنا على الشطر الأول في القضية (الحصانة) تاركا الشطر الثاني، للفصل الرابع عند الحديث عن الاختصاص القضائي العالمي .
ألقي القبض على بونشيه في لندن في 16 تشرين الأول 1998، بعد أن كان هناك طلب من القاضي الأسباني (بالتزارغارسون) مقدم إلى السلطات البريطانية بقصد تسليمه إلى السلطات الإسبانية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية ومن ضمنها عمليات تعذيب واخذ رهائن والتآمر لارتكاب هذه الجرائم والتخطيط لها، وجرائم قتل في شيلي للفترة ما بين 1976-1992 عندما كان رئيسا للدولة، وأعقب ذلك تقديم طلبات تسليم بونشيه من قبل فرنسا وبلجيكا وسويسرا.

في مقابل ذلك دفع الجنرال (بونشيه) عن طريق الممثلين القانونيين له (بالحصانة) بزعمه انه باعتباره رئيس دولة سابق، فانه يحق له التمتع بالحصانة في ظل القانون البريطاني عن الأعمال المرتكبة تنفيذا لمهام عمله الرسمي في الوقت الذي كان يشغل فيه منصب رئيس الدولة السابق لشيلي، وأمام هذا الوضع أحالت السلطات البريطانية الأمر إلى هيئة الاستئناف في مجلس اللوردات وذلك لتحديد التفسير الملائم ونطاق الحصانة الخاصة برئيس الدولة السابق، وذلك من إجراءات التوقيف وإلقاء القبض والتسليم في المملكة المتحدة عن الأعمال المرتكبة في الوقت الذي شغل فيه منصب رئيس دولة سابق([125]).
وقد اصدر مجلس اللوردات حكمه في (25 تشرين الثاني) 1998 وقرر بأغلبية ثلثي عدد اللوردات والذين يشكلون الهيئة التي تتألف لدراسة الطلبات الخاصة بالتسليم، بان الجنرال (بونشيه) لا يتمتع بالحصانة، لأنة في الوقت الذي يمكن لرئيس دولة سابق أن يستمر بالتمتع بالحصانة فيما يتعلق بالأعمال المرتكبة أثناء ممارسته لمهام عمله أو أعماله كرئيس دولة، فان الجرائم ضد الإنسانية لا تعتبر من وظائف (رئيس الدولة) ولا تشكل جزءا من تلك المهام.([126])

وفي آذار / 1998 رفضت اللجنة القضائية لمجلس اللوردات مبدأ الحصانة عن المتابعة القانونية عن الجرائم التي ارتكبها حين كان رئيسا، وبالتالي قرر وزير الداخلية في نيسان 1999 تسليمه إلى السلطات الإسبانية، ولكن لأسباب صحية كما قيل تم إعادة (بونشيه) إلى شيلي لمتابعة قضيته أمام القضاء الشيلي، وقد وصل عدد الشكاوى المرفوعة ضده إلى 813 شكوى وفي (حزيران 2000) قررت محكمة الاستئناف نزع الحصانة عنه واصبح الحكم نهائيا بعد موافقة المحكمة العليا في شيلي في (أب/2000) على رفع الحصانة، مما يعني إمكانية استجوابه ومحاكمته([127]).
وهذا يعيد إلى ما قاله د. شريف بسيوني ، حول التفرقة بين الحصانة الموضوعة والإجرائية، فالحصانة الموضوعية بالنسبة لبونشيه لم يعتد بها إذ لم ُيعتبر منصبه الرسمي عذراً للاحتجاج بالحصانة لارتكابه جرائم دولية، أما الحصانة الإجرائية فقد رفعت وفقا للإجراءات والنظم القانونية المعمول بها في شيلي.