مقال قانوني عن جرائم ضد الإنسانية

اهتم الفقه الدولي حديثا بتعريف الجرائم ضد الإنسانية باعتبارها من الجرائم الدولية التي تستوجب المسؤولية الدولية ، وفقا له أي الدكتور أبو الخير أحمد عطية بخلاف الدكتور محمد بوسلطان الذي أورد في كتابه مبادئ القانون الدولي العام أن الجرائم ضد الإنسانية تكون من طرف أشخاص طبيعيين ليست لهم الشخصية القانونية في القانون الدولي وبالتالي نكون خارج المسؤولية الدولية .
وعليه فقبل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية قيلت تعريفات عديدة في شأن الجرائم ضد الإنسانية فعرفها الفقيه « Eugène Areneau » بأنها ” جريمة دولية من جرائم القانون العام التي بمقتضاها تعتبر دولة ما مجرمة إذا أضرت بسبب الجنس أو التعصب للوطن أو لأسباب سياسية أو دينية بحياة شخص أو مجموعة من أشخاص أبرياء من أي جريمة من جرائم القانون العام وبحريتهم أو بحقوقهم أو إن تجاوزت أضرارها في حالة ارتكابهم جريمة ،العقوبات المنصوص عليها لهذه الجرائم ، وهذا التعريف يعول على الأفعال التي ترتكب بمعرفة الدولة دون تلك التي يمكن ارتكابها عن طريق عصابة أو مجموعة منظمة وتحقق ذات الأغراض التي ترمي إليها سياسة الدولة في شأن الجرائم ضد الإنسانية حسبما نص نظام المحكمة الجنائية الدولية.

وفي تعريف آخر قاله الأستاذ « Raphaolenkin » بأنها : “خطة منظمة لأعمال كثيرة ترمي لهم الأسس الاجتماعية لحياة جماعات وطنية بقصد القضاء على هذه الجماعات .

والغرض من هذه الخطة هدم النظم السياسية والاجتماعية والثقافية واللغة والمشاعر الوطنية والدين والكيان الاجتماعي والاقتصادي للجماعات الوطنية والقضاء على الأمن الشخصي والحرية الشخصية وصحة الأشخاص وكرامتهم بل القضاء كذلك على حياة الأفراد المنتمين لهذه الجماعات “.

وهذا التعريف يتسم بالاتساع والغموض في بعض الأحيان ، الذي يتعارض والدقة التي يجب مراعاتها عند التعريف بالجرائم والعقوبات.

والحقيقة أن أي تعريف للجرائم ضد الإنسانية، لابد وأن يركز على أن أفعال هذه الجرائم تتسم بقدر من الخطورة النسبية لذلك فانه لا يدخل في مفهومها بعض الأفعال البسيطة مثل الحبس بضعة أيام والوشاية والضرب العادي ، لأن هذه الأعمال يمكن ملاحقتها كجرائم عادية. وهذا المذهب يتفق مع ما جاء في اتفاقية الإبادة الجماعية عام 1948 والتي تشترط أن تكون الأفعال خطيرة كذلك فان اتفاقيات جنيف لعام 1949 لم تذكر سوى الأفعال الخطيرة كذلك ، كما أن المحكمة البريطانية العليا في منطقة الاحتلال الألماني لم تذكر إلا الأفعال الخطيرة. وأما ميثاق محكمة نورمبرغ فانه لم يتحدث صراحة عن اشتراط أن تكون جرائم الحرب خطيرة.

التعريف بالجرائم ضد الإنسانية في المواثيق الدولية:

نص ميثاق الأمم المتحدة عليها في المادة الأولى منه والتي تقرر أن مقاصد الأمم المتحدة هي تحقيق للتعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا والتشجيع على ذلك إطلاقا بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء كما تعهد أعضاء الأمم المتحدة بموجب المادتين 55 ، 56 من الميثاق باتخاذ الإجراءات والتدابير والاحترام العالمي لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا بلا تمييز بسبب اللغة أو الدين أو الجنس ، ولا تفريق بين الرجال والنساء ومراعاة تلك الحقوق والحريات بالفعل.

كما نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 حيث قررت المادة الثانية أن لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون أي تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو أي وضع آخر دون أية تفرقة بين الرجال والنساء”.

كما نصت المادة الرابعة من نفس الإعلان على أنه : ” لا يجوز استرقاق أو استبعاد أي شخص ويحضر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أنواعها “.
ونصت المادة الخامسة على :” أن لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الخاصة بالكرامة.”
ونصت المادة الثالثة على أن :” لكل فرد الحق في الحياة والحرية والسلامة الشخصية ” وهكذا قرر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تجريم هذه الأفعال واعتبارها جرائم ضد الإنسانية .

كما أن المادة السادسة من ميثاق محكمة نورمبرغ عرفت الجرائم ضد الإنسانية بأنها :” القتل أو الإهلاك أو الاسترقاق و الأبعاد وكل عمل آخر غير إنساني ارتكب ضد أي شعب من الشعوب المتمدنة قبل الحرب أو أثنائها أو الاضطهادات لدوافع السياسية أو المتعلقة بالجنس أو الدين سواء كانت هذه الأعمال أو الاضطهادات تعد خرقا للقانون الداخلي للبلاد التي ارتكبت فيها أولا تعد كذلك وكانت قد ارتكبت تنفيذا الجريمة تدخل في اختصاص المحكمة أو كانت لها صلة بهذه الجريمة ” .

وقررت الفقرة –جـ- من هذه المادة صراحة أن :” كل شخص ارتكب أي عمل من تلك الأعمال يتحمل تبعة المسؤولية الجنائية بشرط أن تكون هذه الأعمال قد تم ارتكابها بسبب ارتباطها مع الجرائم الأخرى التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة”.
ويعاب على النص أنه يشترط لقيام الجريمة ضد الإنسانية أن تكون مرتبطة بجريمة حرب أو جريمة ضد السلام في حين يتصور ارتكاب هذه الجريمة في زمن السلم .

وقد اعتبرت محكمة نورمبرغ نفسها ملزمة بتعريف الجرائم ضد الإنسانية كما ورد في النظام لكنها استبعدت تهمة المؤامرة التي تضمنها قرار الاتهام بالنسبة لهذه الجرائم ، كما فعلت بالنسبة لتهمة المؤامرة في جرائم الحرب ، وكذلك استبعدت الجرائم المرتكبة قبل الحرب ومما قالته المحكمة في تعليل هذا المذهب ما يلي :” أما بالنسبة للجرائم ضد الإنسانية فإنه ليس من شك في أن أخصام النازية كانوا قبل إعلان الحرب عرضة لاعتقالات وإهانات وقتل وتعذيب في معسكرات الاعتقال حيث كانوا يخضعون لنظام اعتقال شائن ، فقد كان يسيطر عليهم جو من الإرهاب والقمع والقتل دون وازع من ضمير ، وكان اضطهاد اليهود قد بلغ أوجه آن ذاك.

وحسب ميثاق محكمة نومبرغ -م السادسة الفقرة جـ – يمكن تصنيف الجرائم ضد الإنسانية إلى فئتين:

الفئة الأولى:

وتشمل جرائم القتل العمد والإبادة والاسترقاق والإمضاء وكل الأفعال غير الإنسانية الموجهة ضد السكان المدنيين ، مما يدل بوضوح على أن هذه القائمة غير حصرية ، ويمكن أن تطال أفعالا أخرى لا إنسانية كحرمان مجموعة من المدنيين من وسائل العيش، فهذا النص جاء مطلقا من كل قيد بالنسبة إلى جنسية المجني عليهم فانه يطبق على مرتكبي هذه الجرائم ضد المواطنين كاليهود الألمان في ألمانيا أو ضد الأجانب في البلاد المحتلة.
وقد فسر هذا النص أنه ليس من الضروري أن تكون هذه الجرائم مرتكبة ضد كل الأفراد المدنيين وإنما لابد أن تنال بأذاها عددا كبيرا من المدنيين وليس أفرادا قلائل.
وفي حالة ارتكاب هذه الجرائم في البلاد المحتلة ، فان هذه الجرائم تعاقب بوصفين جرائم ضد الإنسانية وكذلك جرائم حرب ، وهو ما أكدته محكمة نومبرغ في حكمها ، بمعنى أن المحكمة كانت تميل إلى معاقبة الجاني على الفعل كجريمة حرب، ولو كانت جريمة ضد الإنسانية في ذات الوقت ، ولكن إذا لم يكن من الممكن اعتبارها كجريمة حرب ، فان المحكمة كانت ستعاقب عليها بوصفها جريمة ضد الإنسانية.

أما الفئة الثانية:

من الجرائم فهي الاضطهادات لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية.

لكن هذه الجرائم حسب رأي الفقه ليست جرائم سياسية ، لا من حيث المعيار الموضوعي ولا من حيث المعيار الشخصي ، بل إن المحاكم الألمانية ترى أن الركن السياسي ركن لا لزوم في هذه الجرائم ، لأنه لا يدخل فيها كسبب ولا كدافع ، لذلك فقد اكتفت المحكمة بعلاقة ارتباط بينها وبين نظام الحكم النازي فقط. وهذا هو رأي المحاكم البريطانية في المنطقة الألمانية المحتلة التي صرحت بأن هذه الجرائم يمكن أن ترتكب لاعتبارات فردية أيضا.
فالجريمة السياسية من وجهة نظم المعيار الموضوعي هي جريمة ضد تنظيم الدولة وسيرها أو ضد الحقوق السياسية للمواطنين ، كما ورد في قرار كوبنهاجن عام 1935 ، أما الجرائم ضد الإنسانية فإنها ليست موجهة ضد نظام الحكم ، بل إن نظام الحكم هو الذي قام بهذه الجريمة ضد الأفراد ، فأصبحت سياسة دولة ، سهرت على تنفيذها بمختلف أجهزتها كما أنه ليست موجهة ضد القواعد القانونية التي ترعاها الدولة لحماية حقوق الأفراد وإنما هي منسجمة مع هذه القواعد المخالفة لمتطلبات الضمير العالمي.
كذلك فان الجرائم ضد الإنسانية ليست جريمة سياسية كذلك من وجهة نظر المعيار الشخصي لأن عودا إلى المنصوص القانونية الدولية ، رفضت اعتبار الدافع سببا لمنع المساءلة مثل اتفاقية جنيف عام 1929 الخاصة بتزوير النقود الدولية ، واتفاقية عام 1937 الخاصة بمعاقبة الإرهاب الدولي والتي جاء فيها :” أن الهدف السياسي ، والاجتماعي الذي يدفع الفاعل ، لا يلغي الجريمة ، وكل جريمة تكون وسائل ارتكابها فظيعة تعتبر جريمة عادية” .

وقد أثبتت الوقائع أن الجرائم ضد الإنسانية ترتكب بوسائل ولأهداف تجعلها من زمرة الجرائم الإرهابية وليست الجرائم السياسية ، ولهذا فان نظام محكمة نورمبرغ ، والقانون رقم 10 اعتبر الجرائم ضد الإنسانية من الجرائم العادية ، لذلك يجب تسليم الجناة فيها وعدم تذرعهم بحق اللجوء السياسي.

ولذلك جاء في نظام المحكمة الجنائية الدولية الذي نص على عدم إمكانية التذرع بالحصانة السياسية أو الصفة الرسمية كرئيس دولة أو قائد عسكري وذلك كوسيلة لمنع المحكمة عن الجرائم التي تدخل باختصاص هذه المحكمة ومنها الجرائم ضد الإنسانية.
ولذلك فمنذ صدور نظام نورمبرغ حاول المجتمع الدولي تطوير مفهوم الجرائم ضد الإنسانية وكان الموضوع محلا لمناقشات عديدة خاصة في لجنة القانون الدولي والتي كان لها بصماتها في ترسيخ هذا المفهوم وذلك من خلال المادة الثانية من مشروع قانون الاعتداءات ضد السلم وآمن الإنسانية الذي وضع عام 1951 حيث جاء في الفقرتين 9و 10 من هذه المادة تحديد الجرائم ضد الإنسانية.

حيث عرفت بأنها قيام سلطات الدولة أو الأفراد بأعمال يقصد بها القضاء الكلي أو الجزئي على الجماعات الثقافية أو الدينية بالنظر للجنس كالأعمال الآتية:

1-قتل أعضاء هذه الجماعة.

2-الاعتداء الجسيم على أفراد هذه الجماعات جسمانيا أو نفسيا.

3-إخضاع الجماعة عمدا إلى الظروف معيشية من شأنها القضاء عليها كلها أو بعضها.

4-اتخاذ وسائل من شأنها إعاقة التناسل داخل هذه الجماعة.

5-نقل الصغار قهرا من جماعة إلى أخرى.

بل يمكن القول أن الأفعال المكونة لجريمة الإبادة الجماعية هي جرائم ضد الإنسانية وتتمثل هذه الأفعال في الآتي:

*قتل أعضاء الجماعة

*الاعتداء الجسيم على أفراد هذه الجماعة جسمانيا أو نفسيا
*إخضاع الجماعات عمدا إلى ظروف معيشية من شأنها القضاء عليها ماديا كلها أو بعضها.
*اتخاذ وسائل من شأنها إعاقة التناسل داخل هذه لجماعة
*نقل الصغار قهرا من جماعة إلى جماعة أخرى
ولذلك يرى جانب من الفقه أن الجرائم التي تقترف في حق المدنيين تحت سلطات الاحتلال تدخل في عداد الجرائم ضد الإنسانية ومن هذه الجرائم :

1-قتل الأشخاص المدنيين في الأراضي المحتلة

2-تعذيب الأشخاص المدنيين في الأراضي المحتلة

3-إخضاع المدنيين من سكان الأراضي المحتلة لظروف معيشية صعبة ولأعمال العنف والإرهاب والاضطهاد وكبت الحريات وكذلك للظروف النفسية الصعبة.

4-عمليات الإبعاد والترحيل الإجباري للسكان المدنيين من الأراضي المحتلة .

5-أي أعمال أخرى غير إنسانية تمس شرف وكرامة وآدمية السكان المدنيين في الأراضي المحتلة، فهذه الأفعال إن حدثت تنتهك بلا شك القيم الإنسانية للأشخاص المدنيين في الأراضي المحتلة وتتضمن اعتداء غير إنساني على أمنهم وحريتهم من جانب قوات الاحتلال التي يكون هدفها الأساسي من ارتكاب هذه الأفعال هو إبادة شعب الأراضي المحتلة لكونه من الأعداء ، وبدوافع سياسية وعنصرية ودينية وقومية.

وفيما يتعلق باختصاص محكمة نورمبرغ بالجرائم ضد الإنسانية فان هذه المحكمة قد اشترطت أن تكون كافة الجرائم المذكورة قد ارتكبت ” على اثر أي جريمة تدخل في اختصاص المحكمة أو ذات صلة بهذه الجرائم ” لتنظر في مسؤولية مرتكبيها ، معنى ذلك أنها اعتبرت بمثابة جرائم فرعية لجرائم الحرب أو الجرائم ضد السلام .

ولأن محكمة نورمبرغ تبنت مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية عن الجرائم الدولية فإنها أعملت هذا المبدأ على البعض ، وعاقبت البعض بصفته الرسمية وذلك حتى لا يفلت مجرم لديها لينجى من العقاب ، ولذلك فقد عاقبت –قونشيراخ لارتكابه جرائم ضد الإنسانية ، بوصفه حاكما ألمانيا على النمسا وزعيما سياسيا ، كما أن –سترايشر – أدين بالتحريض على قتل اليهود وإبادتهم بوصفه محرر لمطبوعة أسبوعية.

وقد استمرت الجهود الدولية الرامية إلى وضع تعريف محدد للجرائم ضد الإنسانية والى إقرار الوثائق الدولية التي تجرم تلك الجرائم وتكفل توقيع العقوبات المناسبة على كل من يرتكب إحدى هذه الجرائم ، وقد نصت المادة 29 منه (النظام ) على أن الجرائم التي تدخل في اختصاص هذه المحكمة لا تسقط بالتقادم ، حيث جاء في المادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي تم التوقيع عليه في روما في 17 جويلية 1992 م ودخل حيز التنفيذ في 01 جويلية 2002م ما يلي : ” لغرض هذا النظام الأساسي، يشكل أي فعل من الأفعال التالية : جريمة ضد الإنسانية –متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم”.

وقد تصورت هذه الأفعال في أنماط السلوك الآتية :
*جريمة القتل العمد
*جريمة الإبادة
*جريمة الاسترقاق
*إبعاد السكان والنقل القسري
*السجن والحرمان من الحرية البدنية
*التعذيب
*جرائم العنف الجنسي
*جريمة الاضطهاد
*الاختفاء القسري للأشخاص
*جريمة الفصل العنصري
*جريمة الأفعال اللاإنسانية المسببة للأذى البدني أو العقلي الجسيم.
وهكذا يتبين لنا من كل الاستعراض السابق لهذه التعريفات أن الجريمة ضد الإنسانية هي قتل المدنيين أو إبادتهم أو تهجيرهم أو أي أعمال غير إنسانية ترتكب ضدهم قبل الحرب أو خلالها وكذلك أفعال الاضطهاد المبنية على أسس سياسية أو عنصرية أو دينية ترتكب تبعا لجريمة ضد السلام أو جريمة حرب أو كانت ذات صلة بهما .