ادراة الدعاوي المدنيه في النظام القضائي

أ/ هديل ابو زيد

ما كانت العدالة البطيئة ظلماً محضاً، ولما كان تأخيرها كالحرمان منها، فقد سعى الفكر القانونيّ في سيره الحثيث نحو إيجاد حل لمعضلة قد تُطيح إذا ما استمرّت بالنظام القضائيّ بأكمله، فالمتقاضون قد يلجأون إلى تسويات مجحفة للخلاص من معاناة التقاضي التي قد تأتي على ما في جيوبهم ثمّ على ما في عقولهم، وخاصةً في عقود مثل عقود الإذعان التي يجد فيها الفرد نفسه في مواجهة قوى لا تعرف إلا لغة السيطرة والتفرّد.

وقد يلجأ البعض إلى ترك حقوقهم لعلمهم أن حالة التقاضي قد تجعل منهم دائمي الإقامة في المحاكم. ولم يكن النظام القضائيّ في بلادنا حِكراً على المحاكم التي تتولّى الدولة تشكيلها والرّقابة عليها، فقد عرف مجتمعنا الأردنيّ قضاءً عشائرياً، وتسويات تنتهي بالإسقاط في غالب الأحيان نظراً لطبيعة العلاقات السائدة في هذا المجتمع. وقد تراجع دور القضاء العشائريّ لصالح القضاء الحكوميّ لِما يحققه الأخير من وضوح في الإجراءات وعدالة في توزيع الأدوار وسُلطة جبرية تُباشرها الدولة في تنفيذ الأحكام.

ولعلّ الطريقة التي وجدها المشرِّع الأردنيّ وهي إدخال نظام إدارة الدعوى المدنيّة على نظام التقاضي في الأردن كانت بمثابة الحل الذي يمكن أن يسهم في الحد من مماطلات التقاضي وما ينجم عنها من أكوام الأوراق وأثقال التكاليف وضياع الوقت.
وتُوفّر هذه الطريقة (إدارة الدعوى) سيطرةً حقيقيةً على ملف الدعوى بشكلٍ مبكِّر، من خلال بسط موضوع الدعوى أمام قاضٍ متخصص يضع يده على الجرح ابتداءً ويقوم بتشخيص حالة الاختلاف وما قد يناسبها من تدابير، ويطلب من الأطراف حصر بيّناتهم التي تُلائم النزاع على ضوء اتساع مساحة الخلاف أو ضيقها، ثمّ يحاول تقريب وجهات نظر المتداعين وصولاً إلى الصلح وتثبيته في الملف، أو الإشارة عليهم بما قد يساعدهم من وسائل غير التقاضي لحل خلافهم خارج أروقة المحاكم.

فنظام إدارة الدعوى لا يخفف العبء القضائيّ فحسب، وإنما العبء المالي عن المتداعين، حيث يأتي مبدأ حصر البيّنة ومبدأ تركيز الخصومة الواردين في المادتين 57و59 من قانون أصول المحاكمات المدنيّة بصيغته المعدلة في القانون رقم 14 لسنة 2001 والقانون رقم 26 لسنة 2002، من أجل ضمان حصر المُدد المتعلقة بالجلسات وتبادل اللوائح، وضمان التزام المحاكم وأطراف النزاع بتطبيق هذه النصوص، وبالتالي ضمان تحقيق الهدف من إدخال التعديلات على القانون القديم، وذلك كلّه تحت طائل تطبيق عقوباتٍ رادعةٍ بحق من يُخلّ بهذه الالتزامات التي ترتّبها هذه المواد.

فقد ألزمت المادة 57 من قانون أصول المحاكمات المدنية الأطراف بإرفاق مستندات الدعوى كاملةً مع لائحة الدعوى عند تقديمها إلى قلم المحكمة. وفي الوقت نفسه ألزمت المادة 59 المدّعى عليه أن يقدم إلى قلم المحكمة المختصة خلال ثلاثين يوماً من اليوم التالي لتاريخ تبلغه لائحة الدعوى جواباً كتابياً على هذه اللائحة من أصل وصور بعدد المدّعين مرفقاً حافظة بالمستندات المؤيدة لجوابه مع قائمة بمفردات هذه الحافظة، وقائمة ببيّناته الخطية الموجودة تحت يد الغير، وقائمة بأسماء شهوده وعناوينهم الكاملة والوقائع التي يرغب في إثباتها بالبيّنة الشخصية لكل شاهد على حدة.

وعلى الرغم مما جاء في المادتين 59،57 من قانون أصول المحاكمات المدنية إلا أن الأزمة لم تُحل، ذلك أن الأردن ولظروفٍ سياسية واقتصادية وجغرافية أصبح مُلتقى لرؤوس الأموال الباحثة عن الأمن الاقتصادي والاجتماعي الهاربة من لهيب الوضع غير المستقر في عدد من الدول .

ولمّا كان القضاء الأردني قد فرض سيطرته شبه المطلقة كطريق عملي وحيد لحلّ النزاعات، فقد تمّ تنظيم مرفق القضاء من جوانبه المتعددة من حيث إقامة الدعوى ورسومها وإجراءاتها وتنفيذ الأحكام الصادرة فيها.

ولكنّ الذي كان، هو أنّ تطور الحياة واتساع مجالاتها قد ألقى بظلاله على هذا المرفق الحيويّ، وراحت رياح التعقيد السكانيّ والاقتصاديّ تنثر الرّماد وتُذكي من تحته جمراً يحرق أصابع وقلوب المتقاضين بل وجيوبهم، وغصت مستودعات المحاكم بأكوام الأوراق المكدسة، والتي صارت هماً فعلياً للقاضي وكاتبه وخازن المستودع حفاظاً على ترتيبها بشكل مكتبي خوفاً من ضياعها.

وانطلقت الألسنة والأقلام تتألم حيناً، وتشكو حيناً آخر، لتأتي بأقدس الأفكار الإنسانية في العدل والمساواة أمام القضاء، ونتيجةً لهذا الوضع المتأزم تصدّى الفكر القانوني بالتعاون مع المؤسستين القضائية والتنفيذية لهذه المشكلة فهي تارةً تطلب برفق شديد من المتقاضين محاولة حلّ المسألة ودّياً، وتارةً تُلزم القاضي بطرح مسألة الصلح على المتقاضين، وغير ذلك من الأساليب التي قد تُجنب أطراف الخصومة الدخول في (ماراثون) السباق فور الحصول على قرار يرضيهم على حساب الآخر.

ولمّا كانت هذه الحالة القضائية المعقدة ليست حِكراً على دولةٍ أو منطقة، بل كانت وباءً لا يعرف الحدود ولا الأنظمة فقد تشاركت دول العالم في التصدّي لهذه الحالة وإيجاد العلاج الملائم لها.

ولعلّ ما يسمى بالحكومة الإلكترونية يأتي إيضاً في سياق تسريع العمليات المكتبيّة أيضاً والقضاء على الروتين والبيروقراطية اللذين يُعدّان السبب الرئيس في القضاء على أي توجه تنمويّ في أي بلد، حيث أدخل الأردن عدة إصلاحات تشريعية وإدارية لتتمكن البلد من استيعاب النشاط الاقتصادي. ونظراً لذلك فقد ازدادت عملية مراجعة المحاكم نمواً على نحو أجبر الدولة على الأخذ بفكرة تسريع العملية القضائيّة.