مقال مقانوني حول الإثبات في الدعوى الجزائية

مقال حول: مقال مقانوني حول الإثبات في الدعوى الجزائية

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

لا يوجد في التشريع السوري قانون خاص للإثبات في القضايا الجزائية كما هو الحال في القضايا المدنية التي لها قانون خاص بها يسمى قانون البينات في المواد المدنية والتجارية، وإنما هي نصوص متفرقة وموزعة بين قانون أصول المحاكمات الجزائية وقانون العقوبات. وهي تقوم على مبدأ الاثبات الحر والأساس فيها قناعة القاضي الوجدانية بالأدلة التي يستمدها من وقائع الدعوى وليس من نوع البينات أو عددها؛

فقد نصت المادة /175/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية في الفقرة الأولى أنه: “تقام البينة في الجنايات والجنح بجميع طرق الإثبات، يحكم القاضي حسب قناعته الوجدانية”، وفي حال عدم وجود نص للإثبات في القضايا الجزائية يرجع القاضي إلى قانون البينات في المواد المدنية والتجارية وبالقدر الذي لا يتعارض مع مبدأ الإثبات الجزائي. ولكن حرية القاضي في الاقتناع بالدليل ليست مطلقة وإنما رسم لها القانون حدوداً تستمد من الوقائع المعروضة عليه في جلسة علنية وتمت مناقشتها بمواجهة الخصوم كافة.

ويفترض بالقاضي الجزائي البحث عن الحقيقة ولو على حساب وقته وجهده لأن كشفها متصل بجمال النفس وعلو الشمائل وارتفاع منزلة الأخلاق وصحوة الضمير ودقة التفكير وبراعة التحليل والمفروض أن تلك الصفات متوافرة في شخص القاضي أو جلها.

من هنا فإن معظم الدساتير في العالم ومنها الدستور السوري تعطي القاضي الحصانة التامة؛ فلا رقابة عليه ولا سلطان إلا رقابة الضمير. ولكن، ومهما قيل في ذلك، يبقى القاضي وقبل كل شيء بشر، والبشر كلهم غير معصومين عن الخطأ. ومهما علت مراكز الناس ومهما عرف عنهم من الورع والتدين فهم معرضون للخطأ والنسيان والأهواء، والقاضي منهم قد لا يخلو من حب الشهوات وقد تضعف بصيرته عن اكتشاف الحقيقة أو التمسك بها لضغوط عائلية أو مالية أو غيرها..

ولذلك رسم المشرّع للحرية التي يتمتع بها القاضي ضوابط وقيوداً يجب عليه أن يتقيد بها عندما يمارس هذه الحرية وإلا كان قراره عرضة للنقض؛ فالقانون أمدّ القاضي الجزائي بسلطة واسعة وحرية كاملة في سبيل تقصي ثبوت الجرائم أو عدم ثبوتها والوقوف على حقيقة الواقعة والمتهمين وفتح له باب الإثبات على مصرعيه يختار من كل طرقه ما يراه مناسباً للوصول إلى كشف الحقيقة.

وبالمقابل أعطى لكل طرف من أطراف الدعوى الحق في تقديم ما لديه من وسائل. لكن المشرّع أقر في بعض الأحوال استثناءً من الإثبات الحر. وقد نص عليه في الفقرة الثانية من المادة 175 من أنه: “إذا نص القانون على طريقة معينة للإثبات وجب التقيد بهذه الطريقة”. وبالرجوع إلى قانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية نجد أن هنالك حالات حدد فيها المشرّع طرق الاثبات ومنع اللجوء إلى غيرها من طرق الإثبات، كما استبعد بعض الوسائل من الإثبات:

أولاً: اشتراط أدلة معينة:

أـ إثبات الزنا على شريك الزانية:

بالرجوع إلى المادتين /473/ و/474/ من قانون العقوبات نجد أن المشرّع قيد إثبات جرم الزنا بالنسبة للرجل عندما يكون شريكاً في جرم الزنا, بينما ترك الأمور على اطلاقها بالنسبة للزوجة. ويعتبر الرجل شريكاً في جرم الزنا عندما يرتكب الجرم في غير بيته الزوجي أو اتخذ له خليلة، وفي هذه الأحوال قيّد المشرّع إثبات جرم الزنا في حق الرجل الزاني بالوسائل التالية دون غيرها:

1ـ الإقرار القضائي: وهو اعترافه على نفسه بواقعة الزنا أمام القضاء وأثناء السير في الدعوى المقامة عليه بنفس الموضوع.

2ـ الجنحة المشهودة: ويقصد بها مشاهدة الجاني أثناء ارتكاب الفعل أو في حال وظرف لا يدع مجالاً للشك في أن جريمة الزنا قد ارتكبت فعلاً.

3ـ الرسائل والوسائل الخطية التي كتبها الشريك: ويقصد بها كل ما يصدر عن الشريك من كتابات يعترف فيها باقتراف الجريمة سواء وجهت للمرأة الزانية أو للغير أو كانت على شكل مذكرات كتبها بنفسه، ولا يشترط أن تكون موقعة منه, بل يكفي أن يكون الحصول عليها قد تم بطريقة مشروعة.

ب ـ إثبات جرم فض البكارة بوعد الزواج:

تنص المادة 504 من قانون العقوبات على معاقبة الشخص الذي يفض بكارة فتاة بوعد الزواج بالحبس حتى ستة أشهر إذا كان الفعل لا يستوجب عقاباً أشد، وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين وهي من الجرائم المؤثرة في شرف الفتاة وسمعتها وسمعة عائلتها. لذلك قيّد المشرّع إثباتها بنوعين من الأدلة دون غيرهما وهما الإقرار القضائي والرسائل التي كتبها الفاعل.

ثانياً: إثبات المسائل غير الجزائية:

تنص المادة /177/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية على إنه: “إذا كان وجود الجريمة مرتبطاً بوجود حق شخصي وجب على القاضي إتباع قواعد الإثبات الخاصة به”، وبالتالي يجب العودة إلى قانون البينات. ومثال ذلك استعمال شيء يخص الغير بدون حق ودون قصد السرقة مع وجود ضرر للغير، وكذلك جريمة اختلاس المنقول دخل حيازته غلطاً أو بقوة قاهرة. فإذا دفع خصم بمسائل تخص الحيازة أو الملكية أو غيرها كان للقاضي الجزائي البت في هذه المسائل بالطرق المتبعة في قانون البينات، وكذلك إذا دفع أمام القاضي الجزائي بمسألة تتعلق مثلاً بسن المدعى عليه فيجب عليه البت بهذه المسألة وفق قواعد قانون الأحوال الشخصية.

ثالثاً: القوة الثبوتية لبعض الأدلة:

وهي القرائن التي لا تقبل إثبات العكس، ومنها: نشر القانون قرينة قاطعة على العلم به فلا يجوز التذرع بعد ذلك بالجهل بأحكامه. والضبوط التي يعمل بها حتى ثبوت تزويرها: منها محاضر جلسات التحقيق والمحاكمة والضبوط التي ينظمها موظفو الحراج والجمارك متى استوفت شروطها الشكلية والقانونية، وتعتبر بمثابة أسناد رسمية كالتي ينظمها الكاتب بالعدل من حيث القوة، وبالتالي تتمتع بقوة إثبات كبيرة وكل ما يرد فيها يعتبر صحيحاً وغير قابل لإثبات العكس إلا بالتزوير. ولكن ثمة بعض الضبوط التي يعمل بها حتى ثبوت عكسها وهي الضبوط التي ينظمها أفراد الضابطة العدلية ومساعدو النائب العام في الجنح والمخالفات، ويعتبر كل ما جاء فيها صحيحاً حتى ثبوت العكس بالبينة الكتابية أو بواسطة شهادة الشهود.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المشرع قد استبعد بعض الأدلة من ميدان الإثبات الجزائي ومنها اليمين الحاسمة فلا يجوز توجيهها إلى الخصوم في الدعوى العامة، لأن تحليف المدعى عليه يميناً قبل استنطاقه منافي لروح العدل والإنسانية لأنها تضع المدعى عليه بين شرّين؛ فإما أن يحنث بيمينه وإما أن يكون شاهداً.

ومن بين الأدلة التي يجب استبعادها، الأسرار التي يضعها المدعى عليه عند محاميه. فحسب نص المادة /181/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية، فإن المحامي ملزم بالمحافظة على ما استودع من أسرار. كذلك، يجب على القاضي استبعاد الوقائع التي يعلم بها هو شخصياً، وهذا المبدأ معروف في الإثبات المدني بقاعدة “لا يحكم القاضي بعلمه الشخصي”.

ومن الوسائل المستبعدة في الإثبات أيضاً كل وسيلة مؤثرة في شخصية الإنسان أو إرادته كالتعذيب بمختلف أشكاله أو استخدام أساليب غير أخلاقية كتقليد صوت شخص بالهاتف لحمل المخاطب على الإدلاء باعتراف منتزع بطريق الحيلة أو التلصص من ثقب الباب أو أسلوب يفقد وعي الشخص الممارس عليه أو يفقده إرادته مثل استعمال مواد مخدرة أو عن طريق التنويم المغناطيسي. وخلاف هذه الحالة من أدلة، يستطيع القاضي أن يمارس قناعته فهو حر في الاقتناع بالشاهد أو الاعتراف أو الخبرة أو القرينة، ولكن عليه أن يعلل في قراره لماذا اختار هذا الدليل أو رفضه حتى تتمكن محكمة النقض من بسط رقابتها على حسن تطبيق القانون دون التعرض لقناعة القاضي أو الحد منها.

القانونية أمل عبد الهادي مسعود

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.