أهمية دور القاضي في الفصل بين النزاعات

يعتقد الكثيرون أن الكلمات تبقى محافظة على معناها الأصلي الذي وُضِع لها ، إلا أن ذلك الاعتقاد يبقى خاطئا ما دام أن الكثير من المصطلحات كانت لها دلالات لغوية صِرفة و لم تبق على حالها ؛ بل أصبحت لها دلالات أخرى أعطاها الأفراد أنفسهم حتى تساير الأوضاع الاجتماعية التي يعيشون فيها بما يحقق العيش المشترك . و بالتالي فإن لكل مصطلح دلالة ٌ لا تلبثُ تتغير مع مرور الزمن، و هذا التغير هو ما يجب رصده حتى يستقيم لنا استعمال المصطلحات في محلها و تضيقَ شُقَّة الخلاف في الآراء .

و من مصطلحات التي استأثرت بالاهتمام في المخية الجمعية للإفراد نجد كلمة “القاضي”؛ ذلك أن هذه الكلمة – في العرف المتداول – تدل على الوظيفة أو المهمة التي يقوم بها من أوكلت لهم مهمة الفصل في النزاعات بين الأفراد. و بالتالي فإن دلالة كلمة القاضي بقيت محصورة في اشخاص بعينهم إما تتم توليتهم للفصل في الخصومات أو يتولون هم تلك المهمة متى توفرت فيهم شروطها تحققت سبل حملهم لتلك الصفة .

لكن التساؤل يُطرَح حول ما إذا كانت تلك الكلمة محتفظَةً بنفس دلالتها أم أن تغييرا ما طرأ و إن بقِيَ مستترا في الأذهان في انتظار من يكشف عنه ؟ و مرد هذا السؤال هو تعقُّد الحياة و مظاهرها و تشابك المصالح و تعدد المراكز و الجهات التي أصبحت تملك سلطة القرار بشكل أو بآخر . و لعل كل تلك المتغيرات تعتبر أساسا للتساؤل حول معنى القاضي و هل عرف هذا المصطلح تغييرا في الدلالة أم أنه صمد في وجه كل تلك المتغيرات و حافظ على صرمديته و صموده ؟

إن كل كلمة كيفما كانت لا قيمة لها إلا إذا دَلَّت دلالة واضحة و قطعية على المعنى الذي وُضِعت له ؛ دلالة واحدة تفضي بنا إلى تخليص ما يقابلها واقعا من أي شائبة و تميزه عما سواه مما قد يختلط به من المعاني المُلتَبسةِ . و لن يكون لفظ القاضي شاذا عن هذه السنة الكونية التي تعتري الألفاظ في عمومها ، ما دامت الدلالة المعطاة لها دلالات بشرية خالصة يطبعها ما يطبع الكائن البشري أيضا من تغيُّرٍ و تبدُّلٍ . و من ذلك يمكن لنا التساؤل حول لفظ ” القاضي ” في واقعنا الحالي ؛ هل هو الشخص الذي تناطُ به مهمة الفصل في النزاعات الناشبة بين الأفراد وفق المفهوم ” التقليدي ” الضيق ؛ أم أن الأمر يتعدى ذلك ليشمل كل من أوكلت له مهمة تدبير الحقوق و توزيعها و لو لم يتعلق الأمر بذلك الشخص الموجود – عُرْفاً – في المحكمة ؟

و أساس هذا السؤال يكمن في أن وظيفة القاضي تقوم على تدبير ” الأوضاع القانونية ” التي تنشأ بين الأطراف . لذلك فإن هذا التدبير لن يكون وفق المنظومة المتعارف عليها إلا من خلال ترسانة من النصوص القانونية و التشريعية التي تدخلت الدولة لإقرارها حتى يعرِف الأفرادُ واجباتَهم التي يلتزمون بها و حقوقهم التي يتمتعون بها ، و توضَع الحدود التي لا يجب تجاوزها بين هذه الحقوق و تلك الالتزامات من أجل ضمان الحد الأدنى من تبادل المصالح . و لذلك فكل من تولى مهمة تدبير الأوضاع القانونية و يملك بناء على تلك التولية مهمة و سلطة اتخاذ القرار يعتبر قاضيا بالمعنى الذي تدل عليه مهمة ” القاضي ” في العرف التداولي للكلمة .

و على ذلك فإن دلالة كلمة ” القاضي ” أصبحت واسعة لا تقتصر فقط في الشخص الموجود في المحكمة من أجل الفصل في النزاعات ،و إنما أخذت معنىً واسعاً جعلها تنطبق على كل من يقوم بمهمة التدبير اليومي للمصالح الفردية و الجماعية انطلاقا من السلطة التي يتمتع بها وفق الشروط القانونية المعمول بها . و هكذا يمكن لنا القول بأن معنى لفظ ” القاضي ” اصبح له معنيان ؛ معنى ضيق و يقصد به الشخص الذي استقر في الأذهان أنه مختص بالفصل في الخصومات الناشئة بين الأفراد بموجب حكم يحمل في معناه القطع و الفصل في الواقع ، و معنى آخر واسع يدل على من تتوفر في مهمته خصائص ” القاضي ” و لو لم تكن ممارسة مهامه تتطلب وجوده في المحكمة بل في أي مكان آخر .

و لهذا الغرض يمكن أن نضرب لذلك عدة أمثلة ، منها الموظف الذي أُوكلت له مهمة القيام بوظيفة ما في مكان عمله ، فهذا الموظف بعدما توفرت فيه شروط الالتحاق بعمله يكون قد اكتسب الأهلية القانونية للفصل في مصالح الناس و يقتضي ذلك أنه يجب أن يمتع المرتفقين بحقوقهم كما حددها القانون و لو جهِلوها لأن مقتضى وجود المرفق العام هو تقديم الخدمات للمواطنين وفق ما سنَّته التشريعات ، كما انه عل الموظف المسؤول عن الخدمة المرفقية ملزم بتوضيح الموقف للمرتفق ، و بالتالي فجوهر ما يقوم به هذا الموظف هو تدبير الوضعية القانونية بشكل حدده القانون سلفا و يتعين تنزيله على أرض الواقع . فما الفرق بينه و بين ما يقوم به القاضي بمفهومه الضيق ؟

القاضي يتولى أداء مهمته وفق ما حدده القانون سلفا ، و الموظف ملزم بأداء وظيفته بنفس الطريقة و على نفس الأساس.
القاضي ملزم بتمكين المتقاضين من حقوقهم ، و الموظف ملزم بتمكين المرتفقين من حقوقهم .
القاضي يأخذ قرارا بشأن ما يعرض عليه من وضعيات قانونية ، و الموظف يأخذ بدوره قرارا في الوضيات التي يعرضها عليه المرتفق .
للمتقاضي حق مخاصمة القاضي و المنازعة في أهليته للفصل في النزاع و بالتالي رفع دعوى من أجل تحقيق تلك المخاصمة ، و هو نفس الحق الذي يتمتع به المرتفق لإمكانية رفع دعوى ضد الموظف و المرفق من أجل المخاصمة في الطريقة التي تم الفصل بها في شؤونه المرفقية .
القاضي يصدر حكما أو قرارا يكون قابلا للطعن أمام جهة قضائية أخرى ، و هو نفس الأمر بالنسبة للموظف الذي يصدر قرارا يكون قابلا للطعن أمام جهة قضائية .
القاضي ليس حرا في الحكم كما شاء و بما شاء ، و نفس الأمر بالنسبة للموظف ليس حرا في التصرف كيفما شاء و بما شاء .
و القاضي مجبر على الحياد و هو يؤدي عمله ، نفس الأمر بالنسبة للموظف الذي يجب عليه أن يؤدي عمله من غير تحامل على أي مواطن و في نكران تام للذات .

إن أوجه التشابه بين مركز القاضي و مركز الموظف عديدة و مختلفة ، و لذلك فإن وظيفة كل واحد منهما تتشابه مع وظيفة الثاني ، غير أن الاختلاف يكون فقط في مجال اختصاص أو حقل اشتغال كل واحد منهما ، كما هو الأمر بالنسبة لمجال اختصاص كل موظف بالنظر إلى اختصاص موظف آخر .
و ما يقال على الموظف و القاضي يقال على هذا الأخير و أي شخص يشغل أي منصب آخر مع حفظ الاختلاف في مجال الاشتغال .
و ما يترتب على كل ذلك أن فكرة القضاء في مسائل الناس و شواغلهم أصبحت متنوعة التجليات منها ما يدخل في صميم المعنى الضيق و المعروف منذ القدم و منها ما استحدثته الظروف ، الشيء الذي يجعلنا نتساءل حول جواز مطالبة القاضي بالعدل في عمله في الوقت الذي يتم غض الطرف عن مطالبة الموظفين و المستخدمين و غيرهم من القائمين على مصالح المواطنين بأداء واجباتهم على النحو الذي يحفظ العدل من الأساس حتى تُقطَعَ الطريق عن اللجوء للقضاء أو التقليل من اللجوء إليها ؟

إن مطالبة كل موظف أو مستخدم في أي مرفق كان أو مؤسسة كانت ، لهُوَ من صميم السلوك الحضاري الذي يجعل من تدبير الوضعيات القانونية للأفراد الشغل الشاغل بدل الاكتفاء بالاستعمال الانتقائي للمصطلحات . و المقصود من هذا الكلام هو أن تعاد النظرة في مفهوم القضاء لتشمل ما يصطلح عليه ب ” قضاء مصالح المواطنين ” من أية جهة كُلِّفت بذلك و عدم حصر المفهوم المذكور في المعنى الضيق المشار إليه أعلاه ؛ إذ لابد من طرح السؤال حول ما إذا كان موظف المالية مكلف بقضاء مصالح العباد ، و هو موظف مزودي خدمات الاتصالات مكلفين بقضاة مصالح العباد أم لا ؟ و هل الأستاذ مكلف بقضاء مصالح العباد أم لا ؟ و هل أرباب المهن الحرة مكلفين بقضاء مصالح العباد أم لا ؟ كل ذلك مكلف بقضاء مصالح العباد بالمعنى العام للقضاء أي بمعنى تدبير الوضعيات القانونية للأفراد كل في نطاق اختصاصه .

أسئلة ستبقى مطروحة إلى حين لعلنا نرى عودة للرشد بما يضمن سيادة القيم الأخلاقية من جديد ، لأنها تعتبر لوحدها القاطرة الأساسية للمرور بالمجتمع إلى زمن صيانة الحقوق و القيام بالواجبات .