أساس تقادم الدعوى الجنائية

المؤلف : فاضل عواد محميد الدليمي
الكتاب أو المصدر : ذاتية القانون الجنائي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

على الرغم من الانتقادات التي وجهت لمبدأ التقادم فإنه أصبح مبدءاً عاماً في أغلب التشريعات الجنائية الحديثة، وإن كان الفقه قد اختلف في الأساس القانوني الذي يقوم عليه، فقد تنازعت أساس تقادم الدعوى الجنائية عدة نظريات:

نظرية العقوبة المعنوية
هذه النظرية تقوم على اعتبار نفسي لا يمكن تجاهله وهو الاضطراب والقلق النفسي وربما تأنيب الضمير الذي يتعرض له المتهم خلال مدة التقادم، فهذا الخوف والاضطراب والتأنيب ليس إلا عقاباً معنوياً عن خطأ المجرم وكأنه قد حوكم وانتهى الأمر بتوقيع العقاب عليه(1). ولكن هذا التأسيس لا يمكن الأخذ به، لكون الكثير من المجرمين الذي يخالفون القانون ويعتدون على امن المجتمع واستقراره لا تختلج أنفسهم بأدنى اضطراب أو خوف ولا يشعرون بتأنيب الضمير، كما أن الخوف من المحاكمة أو العقاب وتأنيب الضمير لا يعادل العقاب ذاته، فحتى السجناء يشعرون بالخوف والقلق وتأنيب الضمير، وإذا كان العقاب المعنوي وحده يكفي للتكفير عن الجريمة المرتكبة، فلماذا يعاقب من هو وراء القضبان بعقوبتين مادية وهي السجن ومعنوية، وهي الاضطراب وتأنيب الضمير، كما أن هناك نوع من الجرائم لا تتعارض مع مبادئ الأخلاق ولا يشعر مرتكبها بتأنيب الضمير كما في المخالفات(2).

نظرية النسيان
وتعني هذه النظرية أنه بعد مضي مدة طويلة على تاريخ وقوع الجريمة أو آخر إجراء في الدعوى الجنائية يكون من الأفضل لمصلحة الأمن الاجتماعي نسيان الجريمة، ويدللون على ذلك بأن المجتمع لا يحاكم المجرم إلا لإقامة النظام والمحافظة على الأمن العام، لا بقصد عقاب المجرم من أجل العقاب ذاته، فعند أنصار هذه النظرية إن حصول النسيان قرينة قانونية قاطعة لا تقبل إثبات عكسها(3). وقد تعرضت هذه النظرية للنقد على أساس أنها تفترض نسيان الناس للجريمة بمجرد مرور زمن على ارتكابها، في حين أن هناك جرائم قد لا ينساها الناس كما لو كانت جريمة جسيمة فتبقى محتفظة بسخط الناس وغضبهم مهما طالت المدة على ارتكابها، ولكن مع ذلك فقد أخذ بهذه النظرية القضاء المصري(4).

نظرية ضياع الأدلة
ويرى أنصار هذه النظرية بأن مرور وقت معين على وقوع الجريمة يؤدي إلى اختفاء الأدلة أو على الأقل فقدان قيمتها، فيكون من العسير إن لم يكن من المستحيل اكتشاف معالمها والتوصل إلى الشهود فيها، وإذا تم التوصل إلى الشهود فإن وجودهم لا يوفر إلا شهادة محتملة، وفي معظم الأحيان تكون مبهمة وغامضة بفعل تأثير الوقت على الذاكرة مما يجعل من نظر الدعوى في هذه الأحوال اقرب إلى الوقوع في الأخطاء القضائية، وبالتالي الابتعاد عن الحقيقة الموضوعية، وهذا ما يجعل مدة تقادم العقوبة أطول من مدة تقادم الدعوى الجنائية(5)، وبهذا يكون من الأفضل وتحقيقاً للعدالة الجنائية ذاتها ومصلحة المجتمع عدم مباشرة الدعوى الجنائية.

ولقد رد على أنصار هذه النظرية، بأنه إذا كان ضياع الأدلة أساساً سليماً لمبدأ التقادم فكيف يكون للمشرع أن يميز بصدد مواعيد التقادم بين المخالفات والجنح والجنايات؟، لأن الوصف القانوني للواقعة لا دخل له في مدى الدليل الذي يجب أن يتوافر لاثباتها(6).

نظرية الإهمال
من قال بهذه النظرية استند على أن أساس التقادم في الدعوى الجنائية هو الإهمال من جانب المجتمع في مباشرة سلطته في العقاب في الوقت الملائم، كما هو الحال بالنسبة إلى الدائن الذي يفقد حقه في الدين عندما لا يباشر دعواه في ميعادها المحدد(7). ولكن هذه النظرية لم تستطيع أن تصمد بوجه ما صوب إليها من النقد، لكون فكرة الإهمال فكرة مدنية بحتة، وفي الأخذ بها تشبيه للتقادم الجنائي بالتقادم المدني، في حين أن ذلك يتعارض مع ذاتية التقادم الجنائي الذي يصيب مصلحة المجتمع كله بخلاف التقادم المدني الذي لا يصيب إلا مصلحة الدائن فقط، كما أن هذه الفكرة لم تصلح أساساً للتقادم المدني، يضاف إلى ذلك بأنه يجب استبعاد خطأ عضو الادعاء العام في ترتيب أثر التقادم لأنه يتحقق بصرف النظر عن خطئه، ولا يصلح عذراً لإطالة مدة التقادم أن يدعي عضو الادعاء العام بعدم علمه بالجريمة أو عدم وقوعه في أي خطأ بسبب عدم رفعها في الميعاد القانوني(8).

هـ . نظرية التوفيق بين الواقع والقانون

قال بهذه النظرية فريق من الفقهاء الألمان(9)، حيث ذهبوا إلى أن تقرير مبدأ التقادم قد وضع للتوفيق بين الواقع المتمثل في ابتعاد الجاني عن دائرة العقاب، وبين القانون الذي يوجب عقاب هذا الجاني، حيث تقضي هذه النظرية بأن القانون يجب أن يتغلب على الواقع، ولكن غلبته التي يحققها في هذه الحالة غلبة لا تعدو أن تكون مزيفة وخيالية، فمنطق هذه النظرية يقرر بأن التقادم ليس إلا حيلة قانونية تفيد مشروعية فرار المتهم من العقاب مدة طويلة من الوقت. وهذه النظرية معقدة من أساسها، ففكرة الحيلة القانونية فكرة مدنية أكثر من كونها فكرة جنائية، كما أن هذه الفكرة التي قيل بها كأساس للتقادم الجنائي إنما تعني أن المشرع لجأ إليها لإسباغ الصفة القانونية أو الشرعية على الواقع المتمثل في إفلات المجرم من العقاب، وهو أمر لا يصح عقلاً وقانوناً، لأن المشرع كان من الأجدى به أن يفرض سلطة القانون على كل من يخرج عن أحكامه، وإلا أصبح القانون الجنائي عاملاً من عوامل الإجرام في المجتمع(10).

نظرية التوازن القانوني
ذهب من قال بهذه النظرية إلى أنه بوقوع الجريمة يختل التوازن بين المواطنين وتعد العقوبة هي الوسيلة لتحقيق أو إعادة هذا التوازن، وهذه الوظيفة التي تقوم بها العقوبة قد يؤديها الوقت ذاته عن طريق ما يحدثه من تأثير مستمر في العلاقات القانونية بين الجاني والمواطنين(11).

وقد أدى عدم صلاحية هذه النظرية في تحديد أساس تقادم الدعوى الجنائية إلى البحث عن أساس آخر يرتكز عليه التقادم.

نظرية انفكاك الرابطة بين المجرم والجريمة
أساس التقادم وفقاً لهذه النظرية هو أساس نفسي بحت مؤداه أن توقيع العقوبة بعد مضي مدة طويلة من الوقت على ارتكاب الجريمة لا يؤثر نفسياً على شخص المجرم تأثيراً يتحقق معه الردع الخاص المتوخى من العقوبة، الأمر الذي يؤدي إلى هدم فكرة العقوبة من أساسها ويجعلها جزاءاً قياسياً يعود بها إلى حيث كانت في العصور الأولى(12).

ولكن هذه النظرية دحضت من أساسها القائم على الافتراض بتغير شخصية المجرم بمضي المدة، مع أن اختلاف شخصية المجرم لا يمكن أن يبنى على أساس تحكمي بحت، وإنما هو مر شخصي يختلف من مجرم إلى آخر(13).

نظرية الإسراع في الإجراءات
يرى جانب من الفقه أن سرعة الفصل في الدعوى الجنائية ضمان هام في المحاكمة الجنائية العادلة، فلا يصح أن يبقى التهديد بالعقاب مسلطاً على متهم الأصل فيه البراءة مدة طويلة دون وضع حد لهذه الحالة، فالتقادم هو تعبير عن ضرورة أنهاء الدعوى الجنائية في وقت معين مهما كان الأمر(14) إذ لو ترك الأمر بغير حدود زمنية لتراخت السلطات في اتخاذ الإجراءات وبالتالي تأخير بالغ وضار بحسن سير العدالة.

نظرية الاستقرار القانوني
ومنطق هذه النظرية هو أن القانون يتدخل لتنظيم المصالح الاجتماعية المتعارضة ووضع حل للتضارب الناشئ بينها باختيار المصلحة التي يجب تغليها على غيرها من المصالح، وإسباغ الصفة الشرعية عليها، فيتدخل قانون العقوبات لحماية المصالح الحيوية (الجوهرية) في الدولة، وبتدخله هذا يوقف ما بين المصالح من تضارب ويرجح إحداها على الأخرى، حرصاً على تحقيق الاستقرار والعدالة بين أفراد المجتمع(15).

وبعد عرض النظريات التي قيلت في أساس تقادم الدعوى الجنائية، يمكن ترجيح إحداها، فنظرية الاستقرار القانوني وحدها غير كافية لتأصيل التقادم وبيان أساسه، يضاف إلى ذلك أن نظرية الإسراع في الإجراءات وحدها أيضاً لا تكفي باعتبارها سبب التقادم وأساس إقراره، ولوجاهة هاتين النظريتين في تقرير أساس التقادم الجنائي وعدم تعرضهما للنقد، فقد مزج بينهما في نظرية واحدة وهي نظرية الإسراع في الإجراءات تحقيقاً للاستقرار القانوني(16)، وهذه هي النظرية الأجدر بالتأييد، لكون المراكز القانونية يجب أن يتوافر لها قدر من الاستقرار ولا تبقى سطوة القانون تهدد المتهم طوال حياته، وإنما يجب وضع حد لذلك، وهذا ما يدفع السلطات المعنية بالتحقيق والاتهام والمحاكمة إلى الإسراع في الإجراءات الجنائية، حتى لا تتعرض الدعوى إلى الانقضاء بالتقادم. وبعد الفراغ من بيان أساس التقادم المدني والتقادم الجنائي، فقد بان لنا الاختلاف الواضح والفرق الشاسع بين تقادم الدعويين الجنائية والمدنية في الأساس الذي تقوم عليه كل منهما، حيث سبق وأن عرضنا بأن شراح القانون المدني قد اختلفوا في بيان الأساس الذي يقوم عليه تقادم الدعوى المدنية، حيث ذهب البعض إلى تأسيسه على قرينة الوفاء، في حين أسسه البعض الآخر على قرينة الإبراء، وأسسه آخرين على فكرة الإهمال،

وأخيراً أسس من قبل البعض على اعتبارات المصلحة العامة، وجميع هذه النظريات لا تصلح كأساس لتقادم الدعوى الجنائية، وذلك لاختلاف الدعويين في الموضوع والسبب والخصوم، فضلاً عن ذلك فإن المصالح التي يحميها القانون الخاص هي مصالح خاصة يجوز التنازل عنها في حين أن القانون الجنائي يهدف إلى إقرار سلطة الدولة في العقاب حيث يحمي مصلحة المجتمع بأسره وليس مصلحة فرد من أفراده، ومن ثم فإن أحكامه آمرة (من النظام العام) لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها أو النزول عنها، وهذا الاختلاف قد أدى إلى اختلاف أساس التقادم في إطاره الجنائي عن إطاره المدني(17)، فأساس التقادم في المجال الجنائي حسب الرأي الراجح هو السرعة في الإجراءات وتحقيق الاستقرار القانوني، واختلاف أساس التقادم في الدعويين يدل على الذاتية الخاصة التي يتمتع بها تقادم الدعوى الجنائية عن تقادم الدعوى المدنية، فذاتية تقادم الدعوى الجنائية تعد نتيجة منطقية لا تقبل الشك لذاتية الدعوى الجنائية وخاصيتها لتي تميزها عن غيرها من الدعاوى ليس في مجال التقادم حصراً، بل في جميع إجراءاتها حيث تستمد الدعوى ذاتيتها من ذاتية القواعد الجنائية الإجرائية بشكل خاص والقانون الجنائي بشقيه الموضوعي والإجرائي بشكل عام.

______________

1- ينظر: Stefain، Cours De Droit Criminel Approfondi، Paris، 1953-1954، p.106

2- ينظر: د. محمد عوض الأحول، انقضاء سلطة الدولة في العقاب، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق/جامعة القاهرة 1964، ص43، أشار إليه د. رضا حمدي الملاح، ذاتية الدعوى الجنائية، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق/جامعة القاهرة، 2003، ص225.

3- ينظر: د. محمد زكي أبو عامر، د. علي عبد القادر القهوجي، القانون الجنائي (القسم الخاص)، الدار الجامعية، الإسكندرية 1988، ص456، د. عمر السعيد رمضان، مبادئ قانون الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة 1967.، ص172.

4- حيث قضت محكمة النقض المصرية بأن”:… ما قامت به المحكمة من تأجيل الدعوى إلى إحدى جلسات المحاكمة بعد أن نبهت المتهم في جلسة سابقة للحضور هو إجراء قضائي من إجراءات المحاكمة التق تقطع المدة، وهو كغيره من الإجراءات التي تباشرها المحكمة وكانت في مباشرتها إياها ترسلها على الزمن الذي لم يبلغ غايته المسقطة للدعوى، وقبل أن يمضي على آخر إجراء قامت به المدة المحددة للتقادم، الأمر الذي يجعل الدعوى ما تزال ماثلة في الأذهان، ولم تندرج في حيز النسيان الذي جعله الشارع علة للسقوط”، نقض جنائي في الطعن رقم 2062 سنة 29ق، جلسة 24/5/1960، مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض في 50 سنة، السنة 11، قاعدة رقم 94.

5- ينظر: Stefain، op. cit، p.106

والدكتور محمد زكي أبو عامر، الإجراءات الجنائية، منشأة المعارف، الإسكندرية 1994.، ص456.

6- ينظر: د. محمد عوض الأحول، انقضاء سلطة الدولة في العقاب، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق/جامعة القاهرة 1964،، ص40.

7- ينظر: د. محمد عوض الأحول، المرجع السابق، ص45.

8- ينظر: د. رضا حمدي الملاح، ذاتية الدعوى الجنائية، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق/جامعة القاهرة، 2003،ص228.

9- ينظر في عرض هذه الآراء: د. رضا حمدي الملاح، المرجع السابق، ص229.

10- ينظر: د. رضا حمدي الملاح، المرجع السابق، ص230.

11- قال بهذه النظرية لويننج (Loening) وعارضها روزنجار (Rosengart)، أشار إليهم د. محمد عوض الأحول، المرجع السابق، ص46.

12- ينظر: د. محمد عوض الأحول، المرجع السابق، ص47.

13- ينظر: د. محمد عوض الأحول، المرجع السابق، ص49.

14- ينظر: د. أحمد فتحي سرور، الشرعية الدستورية وحقوق الانسان في الاجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة 1995، ص146، د. مبادئ الإجراءات الجنائية في القانون المصري، الطبعة الثانية عشر، مطبعة جامعة عين شمس، القاهرة 1978، ص138.

15- ينظر : Delogu. Laloi penale et son application، op، cit، p.178 كما أخذ بهذه النظرية جانب من الفقه المصري، ينظر: د. محمود نجيب حسني، شرح قانون الإجراءات الجنائية، ط3، دار النهضة العربية، القاهرة 1998، ص575.

16- ينظر: د. رضا حمدي الملاح، المرجع السابق، ص232-234.

17- ينظر: د. رضا حمدي الملاح، المرجع السابق، ص235.