كما كان متوقعا؛ بتاريخ الأحد السابع من شهر فيفري/ فبراير، تم تمرير مشروع قانون تعديل الدستور الجزائري لعام 2016 عبر المؤسسة التشريعية (البرلمان بغرفيته)؛ حيث صادق عليه بالأغلبية (499 صوت) نواب البرلمان المجتمع بغرفتيه في جلسة عامة إستثنائية بقصر الأمم بالجزائر العاصمة.

 

ومع مصادقة البرلمان الجزائري على هذا التعديل الدستوري؛ تُطوى صفحة الدستور (التوافقي) لرئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، الذي حظي هو الآخر بدستوره الإصلاحي على غرار الرؤساء أحمد بن بلة وهواري بومدين والشاذلي بن جديد رحمهم الله تعالى جميعا إلى حين نشره في الجريدة الرسمية، لكن صفحة تقييم مضامين الدستور الجديد وتقدير مدى تكريسه لتطلعات الشعب الجزائري تبقى مفتوحة لأهل الإختصاص؛ كلٌ يُدلي بدلوه ويُبدي رأيه. ومن خلال مقالي هذا، أحببت أن نقف سوية على جديد التعديلات التي جاء بها دستور 2016 بخصوص قطاع العدالة، وإن كانت هذه التعديلات تمثل الإضافة في دعم استقلالية القضاء وتحصينه من أشكال التأثير والضغط.

بعبارة تساؤلية استفهامية: ما هو جديد ضمانات استقلالية القضاء الجزائري وحصانته التي جاء بها دستور 2016 ؟

لن أقف طويلا مع جميع التعديلات والإضافات الجديدة التي جاء بها دستور 2016، ولن أناقشها جميعها، وسأكتفي فقط بمناقشة ما يخدم الإشكالية القانونية المطروحة، التي تتمحور حول مسألة استقلالية العدالة وحصانتها في الجزائر؛ أيْ الضمانات الجديدة التي أتى بها دستور 2016، مع التسليم بأن هذا الدستور قد دستر بعض المسائل التي تعتبر ضمانات للمتقاضي: كمبدأ التقاضي على درجتين، وتعليل الأوامر القضائية، وترقية حق المحامي في الحماية من أشكال الضغوط والتأثير التي تعيقه من تأدية مهامه في إرساء العدالة، وأيضا تمكينه من الدفاع عن حقوق المتقاضين وفق مقتضيات القانون.

أولا- سلطة التنفيذ وإشكالية المساس باستقلالية القضاء الجزائري:

طالما عُدّ فصل القضاء عن السلطة التنفيذية وحمايته من تأثيراتها مطلبا ضروريا لتعزيز استقلالية القضاء وتحصينه من أشكال التدخل والضغط، لكن دون أن يُؤثر ذلك في متطلبات الفصل بين السلطات بمعناه المرن؛ بمعنى أن الفصل بين السلطات (سيما بين السلطتين التنفيذية والقضائية) لا يعني الفصل الجامد (مفهومه السلبي) الذي يُلغي أي شكل من أشكال التعاون أو الإرتباط بينهما، وتعزيزا لمبدأ استقلالية القضاء تمّ دسترة مبدأ الفصل بين السلطات في ديباجة الدستور الجديد (2016)؛ حيث جاء فيها ما نصه: “يكفل الدستور الفصل بين السلطات واستقلال العدالة والحماية القانونية، ورقابة عمل رالسلطات العمومية في مجتمع تسوده الشرعية، ويتحقق فيه تفتح الإنسان بكل أبعاده”.

واستنادا إلى هذه المعطيات (مبدأ الفصل بين السلطات بمفهومه المرن وعلاقته الإيجابية باستقلالية القضاء)؛  نصت المادة 138 في فقرتها الثانية الجديدة على أن “رئيس الجمهورية ضامن استقلال السلطة القضائية”؛ أي أن الضامن الحقيقي لاستقلالية القضاء وظيفيا وعضويا هو رئيس الدولة باعتباره القاضي الأول في البلاد، وأيضا باعتباره حامي الدستور، والحريص على تجسيد مفهوم الدولة بسيادتها وسلطاتها ومؤسساتها على الصعيدين الداخلي والخارجي بما فيها السلطة القضائية بهيئاتها طبقا للفقرتين الثانية والثالثة من المادة 70 من دستور 1996 التي تقول: “وهو حامي الدستور. ويجسد الدولة داخل البلاد وخارجها”. هذه المادة التي أقرّها التعديل الدستوري الأخير لعام 2016.
وللفائدة، فإنه مع التسليم بأن رئيس الجمهورية هو القاضي الأول للبلاد؛ غير أنه لم ينص عليه – فيما أعلم – أيّ نص صريح ولم تُصرّح به الدساتير الجزائرية بجميع إصداراتها، في حين أن رئيس الدولة في الإسلام كان في الأصل قاضيا. والسؤال: من حيث الممارسة هل يُمارس رئيس الجمهورية القضاء بمفهومه العضوي والوظيفي (المادي أو الموضوعي) ؟، والجواب قطعا لا يُمارسه، لكن يضمن استقلاليته ويكفل حمايته من أشكال الضغط والتدخل التي قد يُمارسها أعضاء السلطة التنفيذية التي يرأسها رئيس الجمهورية.

تأكيدا على هذا الطرح بالنظر إلى معطيات تاريخ القضاء في الإسلام، وبالرجوع إلى واقعه عبر تاريخه الممتد، خاصة في صدر الإسلام زمن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله تعالى عنهم، وما أعقبها إلى زمن قريب منها؛ ظلّ الخليفة (رئيس الدولة) القاضي الأول في البلاد، له عموم النظر في جميع القضايا، والفصل في الخصومات في عموم أمصار البلاد، ليس لأنه منصب سلطوي تشريفي، بل لأنه استجمع شرائط (شروط) تولي القضاء، وكان يُمارسه حقيقة، مجسّدا مبدأ حماية القضاء وضمان استقلاليته بشكل عملي.

في هذا المقام، هناك أمثلة عديدة من تاريخ القضاء الإسلامي تؤكد أن رئيس الدولة في الفقه السياسي والدستوري الإسلامي ضامن حقيقي وفعليّ لاستقلالية القضاء، كنا قد تطرقنا إلى طرفٍ منها في مقالنا: “حماية رئيس الدولة لمبدأ استقلالية القضاء” المنشور على النت.

ومع أن المقام لا يسمح بسرد هذه النماذج، لكن من المهم التأكيد على أن رئيس الدولة في الإسلام كان بحق القاضي الأول في البلاد وصفا وتوصيفا وممارسة، وأن إشكالية تأثير رئيس السلطة التنفيذية على القضاء لم يكن مطروحا على نحو ما تطرحه اليوم النظم السياسية والدستورية الوضعية الراهنة، وأنه عبر تاريخ دولة الإسلام كان رئيسها راعيا فعليا وضامنا حقيقيا لاستقلالية القضاء، بل كان يرعاها ويحميها حتى من القضاة أنفسهم؛ فكان يُرشدهم ويهديهم إلى مسالك القضاء الشرعي الصحيحة، ويُنعت لهم أخطاءهم ويُكاشفهم في ذلك ويُراقبهم، وربما عاقبهم بالعزل أو النقل عقوبة ونكاية فيكونوا عبرة لغيرهم، وأنّ الفساد السياسي وتأثيره على استقلالية القضاء لم يحصل إلا في أزمنة متأخرة بعد ذلك.

لكن، قد يتبادر في الأذهان سؤال هام يدور حوله الإشكال: هل يكفي أن يكون رئيس الجمهورية ضامنا لاستقلالية القضاء في الجزائر ؟. وبالمناسبة نحن لا نريد التشكيك في نزاهة القضاء الجزائري، لكننا نتعامل مع المعطيات الراهنة التي تطرح هذا التساؤل وتُثير هذا الإشكال حول مصير قضايا الفساد التي سقطت (حتى لا أقول أُسقطت) منها أسماء كنا نعتقد أنها معنية بالمتابعة والمحاسبة أو على الأقلّ هكذا يرى أصحاب الجبة السوداء والمتابعين جيدا لملفات هذه القضايا، ورغبة السلطة السياسية بتعجيل غلقها وطَوْي صفحاتها؛ لهذا أعتقد أن غياب الإرادة السياسية قد تُفشل هذا المكسب (نص المادة 138/ فقرة 2: “أن رئيس الجمهورية هو ضامن استقلال السلطة القضائية”).

ثم إن لي رأيا حول صياغة نص الفقرة الثانية من المادة 138؛ إذ أجدها توحي للوهلة الأولى بأن رئيس الجمهورية هو أهم ضامن لهذه الإستقلالية لا كما يتوهمه البعض – وذكرناه آنفا – بأنه هو الضامن الحقيقي لاستقلالية القضاء، الأمر الذي قد يُقلّل من قيمة الضمانات الأخرى التي نص عليها الدستور السابق لعام 1996 وإن عزّزها دستور 2016 وأكدّها، وعليه كنت أتمنى لو أعيدت صياغتها قبل المصادقة على الدستور على نحو: “إن رئيس الجمهورية يضمن استقلال السلطة القضائية”؛ أي يُسهم في تعزيز مركز استقلالية القضاء وليس هو أهم ضمانة التي تجعل بقية الضمانات من الدرجة الثانية.

في هذا الإطار، إن ما جاء به نص المادة 138 في تعديلها الجديد (نص الفقرة الثانية) لا يُلغي هذا المعنى إذ أعتقد أن نص المادة 138 قبل تعديلها قرّر صراحة استقلالية السلطة القضائية، ومن ثم كان الأحرى بالمؤسس الدستوري تأكيد هذه الإستقلالية بضمانات حقيقية أكثر فاعلية تكرس مبدأ استقلالية القضاء وتُعزّزه، وتنأى به بعيدا عن أيّ تأثير قد يطالها ويتهدّد استقلاليتها خاصة من جانب ممثلي السلطة التنفيذية وفي مقدمتهم رئيسها (رئيس الدولة).

نحن لا نقول إن رئيس السلطة التنفيذية تحديدا أو أيّ عضو آخر من أعضائها كالوزير الأول أو غيره من وزراء الحكومة (وزير العدل خاصة)، يتدخلون قطعا في صلاحيات القضاء، لكن أعتقد جازما أن الذي يضمن استقلالية القضاء هي الضمانات التي تُعزّز من مركزه السلطوي (كسلطة) وتمكّنه من مواجهة تأثيرات السلطة التنفيذية وغيرها، وهذا ما لا أراه يتماشى مع فلسفة استقلالية القضاء التي يجدر فيها بالسلطة التنفيذية أن لا تتدخل فيها ولو تحت مبرّر أن رئيس الجمهورية هو القاضي الأول في البلاد.

ثانيا- تعليل الأوامر القضائية وعلاقته في تعزيز استقلالية القضاء وحياده:

غالبا ما تصدر الأوامر القضائية عن القاضي المكلف بالتحقيق (قاضي التحقيق) التي تُعدّ أوامر قسرية، وقد تصدر أيضا عن النائب العام (وهو قاضٍ أيضا)، وعلى تنوّع الأوامر القضائية التي تصدر عن قاضي التحقيق مثلا: الأمر بإحضار المتهم، الأمر بإلقاء القبض على المتهم، والأمر بالإيداع في السجن؛ فإن تعليل هذه الأوامر القضائية – على غرار تسبيب (تعليل) الأحكام القضائية – يطرح مبدأ الثقة بين المواطن والقضاء؛ إذ يسمح للمواطن المستهدف بالأمر القضائي بالإطلاع على دواعي وأسباب إصداره، التي تحمله على قبول الإمتثال للأمر طواعية ودون مناقشة أو مجادلة أو معاندة.

إن عدم تعليل الأوامر القضائية قد يُحيلها أوامر معيبة في نظر المواطن المستهدف بها (وهو مُصيب في ذلك)، وقد تحمله في المقابل على التشكيك في نزاهة القضاء وحياده واستقلاليته (وهو مُصيب في ذلك أيضا)، خاصة في ظلّ ما قد يتعرّض له المواطن من تضييق ومساس بحقوقه وحرياته لأسباب هي في نظره أسبابٌ غير معروفة وغير مبرّرة قانونا (وهي ليست كذلك)، وقد تكتسي طابع التغريض بحسبه (وهو مُخطئ قطعا)؛ أيْ يكون أمرا مُغرضا (يتضمن غرضا ونيّة مبيّتة، وربما سيّئة أيضا).

منتهى الكلام بخصوص هذه المسألة: أن المؤسّس الدستوري برأيي حسنٌ فعل بإضافة الفقرة الثانية: “تكون الأوامر القضائية معلّلة” إلى نص المادة 144: “تعلّل الأحكام القضائية، ويُنطق بها في جلسات علانية”؛ ذلك أن تعليل الأمر القضائي، مع تعليل الأحكام القضائية التي يُصدرها القاضي، مع نطقه بهذه الأحكام في جلسات علنية؛ هذه الأخيرة التي تسمح بتعزيز ثقة المواطنين بأحكام القضاء، من خلال اطّلاعهم على سير الجلسات، ما يُكرّس مفهوم الرقابة الشعبية أو الرقابة الجماهيرية بأتمّ معانيها، كل ذلك يدعم حماية القضاء من دعاوى المشككين في حياده واستقلاليته كأن يُقال مثلا: إن القضاء مُوجّه أو مُسيّس أو يخدم أجندات جهات وأشخاص معينة داخل السلطة السياسية تحديدا، وقد تُكال له التهم جزافا، وحريّ أن يُنزّه القضاء عن أشكال التأثير التي تطرحها مثل هذه الشبهات الخطيرة.

 ثالثا- حظر جريمة عرقلة العدالة:

 إن القاضي بموجب القانون الأساسي للقضاء 04 – 11، المؤرخ في 6 سبتمبر 2004 محميّ من أشكال التهديد والإهانة والإعتداء؛ حيث جاء في المادة 29/ فقرة 1 ما نصه: “بقطع النظر عن الحماية المترتبة على تطبيق أحكام قانون العقوبات والقوانين الخاصة، يتعين على الدولة أن تقوم بحماية القاضي من التهديدات أو الإهانات أو السبّ أو القذف أو الإعتداءات أيّا كانت طبيعتها، والتي يمكن أن يتعرض لها أثناء قيامه بوظائفه او بمناسبتها أو بسببها، حتى بعد الإحالة على التقاعد”.

إن نص هذه المادة يُعزّز من مكانة القاضي ومركزه القانوني، ويدعم حقه في الحماية من خلال إقرار مبدأ تدخل الدولة بما تملكه من سلطة الإجبار والإكراه والقهر لتكريس الحماية الكاملة للقاضي من أشكال الضرر المادي والمعنوي، وهو ما كرّسه دستور 1996 وأيّده فيه دستور السابع من فيفري 2016 مع مزيدٍ من الإضافات والتعديلات سنأتي على ذكرها قريبا. جاء في الفقرة الأولى من المادة 138 المعدّلة بدستور 2016 ما نصه: “القاضي محمي من كل أشكال الضغوط والتدخلات والمناورات التي قد تضرّ بأداء مهمته، أو تمسّ نزاهة حكمه”.
قد تتسبّب هذه التهديدات والإهانات والإعتداءات والضغوط والتدخلات والمناورات في عرقلة القاضي عن مباشرة مهامه، وتتسبّب في عرقلة السير الحسن للعدالة وتنفيذ أحكام القضاء، ومن ثَمّ قرّر المشرع الجزائري عقوبات صارمة في حق من يتعرّض لأحكام القاضي بأيّ قول أو فعل أو كتابة علنية بهدف التأثير عليها والتقليل من شأنها.

في هذا الإطار، نصت المادة 147 من قانون العقوبات الصادر بالأمر 66 – 156 بتاريخ 8 يونيو 1966 المعدّل والمتمّم بالقانون 06 – 02 المؤرخ في 20 ديسمبر 2006 على ما يلي:

“الأفعال الآتية تُعرّض مرتكبيها للعقوبات المقرّرة في الفقرتين 1 و 3 من المادة 144:

1- الأفعال والأقوال والكتابات العلنية التي يكون الغرض منا التأثير على أحكام القضاة طالما أن الدعوى لم يُفصل فيا نهائيا.

2- الأفعال والأقوال والكتابات العلنية التي يكون الغرض منا التقليل من شأن الأحكام القضائية والتي يكون من طبيعتها المساس بسلطة القضاء أو استقلاله”.

من الواضح أن واقعة الأفعال والأقوال التي تستهدف عرقلة سير العدالة يُشترط فيها: أن تكون علنية، وأن تُعبّر بوضوح عن القصد الجنائي لمرتكبيها في التأثير على أحكام القضاة والتقليل من قيمتها، مع ما تتضمنه من إهانة للقاضي ومساس صريح بسلطته واستقلاله.

وبمراجعة نص الفقرتين 1 و 2 من المادة 144 المعدّلة ، يُعاقب على الأفعال المذكورة بما يلي:

1- الحبس من شهرين إلى سنتين، وبغرامة من 20 ألف 100 ألف دينار جزائري، أو بإحدى هاتين العقوبتين طبقا للفقرة الأولى.

2- الحبس من سنة إلى سنتين طبقا للفقرة الثانية.

أيضا بالرجوع إلى القانون المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته 06 – 01، المؤرخ في 20 فبراير 2006؛  نجده هو الآخر نصّ على تجريم كل ما يتسبب في عرقلة سير العدالة، فتحت عنوان: “إعاقة السير الحسن للعدالة” نصت المادة 44 على ثلاثة صور تُعيق السير الحسن للعدالة، وقرّرت بشأنها عقوبة بدنية بالحبس من ستة (6) أشهر  إلى خمس (5) سنوات، وعقوبة مالية (غرامة) تتراوح من 50 ألف إلى 500 ألف دينار جزائري.

وطبقا للمادة 44 يُعتبر إعاقة للسير الحسن للعدالة:

1- استخدام القوة البدنية أو التهديد أو الترهيب أو الوعد بمزية غير مستحقة أو عرضها أو منحها للتحريض على الإدلاء بشهادة زور أو منع الإدلاء بالشهادة أو تقديم الأدلة في إجراء يتعلق بارتكاب أفعال مجرمة وفقا لهذا القانون.

2- استخدام القوة البدنية أو التهديد أو الترهيب لعرقلة سير التحريات الجارية بشأن الأفعال المجرمة وفقا لهذا القانون.

3- رفض تزويد الهيئة بالوثائق والمعلومات رفضا ودون تبرير.

ولخطورة جريمة عرقلة سير العدالة وأثرها السلبي على هيبة القضاء واستقلاليته؛ تقرّر حظرها بموجب دستور 2016؛ حيث جاء في الفقرة الثانية الجديدة من المادة 138 المعدلة: “يحظر أيّ تدخل في سير العدالة”. والحظر الدستوري هنا يستوعب جميع أشكال وصور الأفعال والأقوال والكتابات…وغيرها المحظورة والمجرّمة والمعاقب عليها قانونا، التي تُشكل تدخلا صريحا في سير عمل القضاة وتُعرقل السير الحسن للعدالة.

في الإطار نفسه، يتعيّن لزاما على القاضي أن يتلافى جميع الأعمال المحظورة عليه التي من الممكن أن تتسبّب في عرقلة سيرورة العدالة أو وقفها طبقا للمادة 12/ فقرة 1 من القانون الأساسي للقضاء 04 – 11.

في ذات السياق، وتحصينا للقضاء والقضاة من أيّ تصرف من شأنه التقليل من أحكامهم والإنتقاص من قيمتها؛ تدعّم نص المادة 145 من دستور 1996 بالفقرة الثانية: “يعاقب القانون كل من يعرقل تنفيذ حكم قضائي”.

على ضوء هذا النص القانوني: كل من يتسبّب في عرقلة تنفيذ الأحكام القضائية يكون قد ارتكب جريمة تستحق العقوبة، وقد تقدّم ذكر طرفٍ منها (نص المادة 144 من قانون العقوبات). هذا الكلام نسوقه فضلا على أن دستور 2016 في الفقرة الأولى من المادة 145، يُلزم أجهزة الدولة المختصة بتنفيذ أحكام القضاء في كل وقت وفي كل مكان، وفي جميع الظروف، وهو تكريس لنص المادة 171 من دستور 1976 التي أيّدتها المادة 145 من دستور 1989 المعدل عام 1996 (أو ما يَصطلح جانب من الفقه الدستوري على تسميته بدستور 1996).

  منتهى الكلام، أن دسترة حظر التدخل في العدالة والتسبب في عرقلة سيرها الحسن وتنفيذ الأحكام القضائية؛ يجعل منه مبدأ عاما أساسيا يستحيل خرقه أو المساس به، ويُعزّز المركز القانوني (الحقوقي) للقضاء كسلطة وأشخاص (أعني القضاة)، وتحصينه من كل ما من شأنه أن يتسبّب في المساس بهيبته ومركزه، وقد تعزّز هذا المطلب بالجديد الذي أتى به نص المادة 138 المعدلة مؤخرا؛ حيث نصت في فقراتها الثالثة والرابعة على جملة من الضمانات: “- يجب على القاضي أن يتفادى أيّ موقف من شأنه المساس بنزاهته.

   – قاضي الحكم غير قابل للنقل حسب الشروط المحددة في القانون الأساسي للقضاء”.

   ورؤيتنا حول هذه الضمانات نتناولها من خلال العنوانين التاليين (الرابع و الخامس).

   رابعا- تفادي المواقف الماسة بنزاهة القاضي:

   تحصينا للقضاء من أشكال الإهانة والتشكيك في نزاهته واستقلاليته وحياده؛ يلتزم القاضي بواجب تفادي المواقف الماسّة بنزاهته، وهو ما تمت دسترته في الإصدار الأخير للدستور؛ حيث جاء في الفقرة الثانية من المادة 138: “يجب على القاضي أن يتفادى أيّ موقف من شأنه المساس بنزاهته”.

وبالرجوع إلى القانون الأساسي للقضاء 04 – 11 نجده نص على جملة من الواجبات التي يتعيّن على القاضي لزاما الإلتزام بها تكريسا لاستقلاليته وتحييدا له، أذكر منها:

1- الإلتزام في كل الظروف، بواجب التحفظ واتقاء الشبهات والسلوكات الماسة بحياده واستقلاليته (المادة 7).

2- الإلتزام بإصدار أحكامه القضائية، بمبادئ الشرعية والمساواة في إطار ما ينص عليه القانون، مع الحرص على حماية المصلحة العليا للمجتمع (المادة 8).

3- إعطاء القاضي العناية اللازمة لعمله، وأن يتحلى بالإخلاص والعدل، ويسلك سلوك القاضي النزيه الوفي لمبادئ العدالة (المادة 9).

4- المحافظة على سرية المداولات، وكذا المعلومات المتعلقة بالملفات القضائية (المادة 11). ولا شك أن في كشفها في غير الحالات التي ينص عليها القانون؛ يمكن أن يمسّ باستقلالية القضاء وحياده، ويكون مطية للنيل من مصداقية أحكامه.

5- منع القاضي من القيام بأيّ عمل فردي أو جماعي من شأنه أن يُؤدي إلى وقف أو عرقلة سير العمل القضائي (المادة 12)، كالأعمال النيابية الإنتخابية السياسية (المادة 15)، الأعمال الجمعوية (المادة 16)، الأعمال الوظيفية العمومية والخاصة التي تدرّ ربحا، ومعلوم أن عموم هذه الأعمال تتنافى والوظيفة القضائية وما تتطلبه من حياد واستقلالية. باستثناء الأعمال التكوينية والتعليمية والعلمية والأدبية والفنية (المادة 17).

إذا كان زوج القاضي يمارس نشاطا خاصاً يدرّ عليه ربحا، وجب على القاضي التّصريح بذلك لوزير العدل، ليتخذ عند الاقتضاء التّدابير اللازمة للحفاظ على استقلالية القضاء وكرامة المهنة. (المادة 19/ فقرة 2).

6- منعه من أن يملك في أية مؤسسة مصالح، بنفسه أو بواسطة الغير، تحت أية تسمية، من شأنها أن تعيقه من ممارسة وظيفته القضائية أو تخلّ بمبدأ استقلالية القضاء (المادة 18).

7- منعه من العمل في الجهة القضائية التي يوجد بدائرة اختصاصها مكتب زوجه الذي يمارس مهنة المحاماة (المادة 19/ فقرة 2).

8- على القاضي أن يُخطر وزير العدل ليتخذ عند الاقتضاء التّدابير اللاّزمة لضمان حسن سير العدالة؛ في حالة وجود مصالح مادية لأحد أفراد عائلته إلى الدرجة الثانية من القرابة بدائرة اختصاص الجهة القضائية التي يعمل بها (المادة 22).

9- إن القاضي مُلزم قانونا بالتقيّد في كل الظروف، بسلوك يليق بشرف وكانة وظيفة القضاء (المادة 23).

ومن أراد الإستزادة بشأن النقاط السابقة، يُراجع تأصيلها وتفصيلها القانوني مدعما بأحكام الفقه الإسلامي في بحثنا للماجستير: “الضمانات الدستورية لاستقلالية القاضي، دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الجزائري”. وقد تقدم التنبيه إليه.

خامسا- تعزيز مبدأ استقرار القاضي:

يُعتبر هذا المبدأ ضمانة حقيقة لاستقلالية القاضي؛ ولأهميته نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 26 من القانون الأساسي للقضاء الجديد بالقول: “مع مراعاة أحكام المادتين 49 و 50 من هذا القانون العضوي حق الاستقرار مضمون لقاضي الحكم الذي مارس عشر سنوات خدمة فعلية، ولا يجوز نقله أو تعيينه في منصب جديد بالنيابة العامة، أو بسلك محافظي الدولة أو بالإدارة المركزية لوزارة العدل، ومؤسسات التكوين والبحث التابعة لهما، أو المصالح الإدارية للمحكمة العليا أو مجلس الدولة أو أمانة المجلس الأعلى للقضاء، إلا بناء على موافقته”.

  على الرغم من الإنتقاد الموجه لنص هذه المادة؛ لأنه حصر الحق في الإستقرار في قضاة الحكم؛ إلا أن هذا المبدأ يكفل للقاضي حقين اثنين: حقه في عدم قابلية النقل، وحقه في عدم قابلية العزل، فلا يجوز نقله أو عزله إلا إذا قام سبب من الأسباب الموجبة لذلك، وقد بحثناها مؤصّلة وبينّاها مُفصّلة في بحثنا للماجستير المشار إليه آنفا، لمن أراد التفصيل فيها أكثر.

في هذا السياق قرّر المؤسّس الدستوري دسترة حق قضاة الحكم في عدم النقل تعزيزا لاستقرارهم الوظيفي الذي يُتيح لهم العمل بأكثر أريحية؛ فقد نصت على ذلك الفقرة الرابعة من المادة 148 من دستور 2016 بالقول: “قاضي الحكم غير قابل للنقل حسب الشروط المحددة في القانون الأساسي للقضاء”.
إن القاضي وإنْ كان محميا قانونا ودستورا من النقل؛ فهذا لا يعني أنه لا يمكن نقله إذا تحققت في النقل دواعيه وأسبابه القانونية، ومن ثَمَّ يجب أن يُراعى في نقل القضاة عدم الإخلال بحقهم في الاستقرار، وأيضا كفالة استقلالهم، وحمايتهم من التأثير الذي قد يطالهم من جانب السلطة التنفيذية، مع مراعاة معيار المصلحة ومعيار حسن سير العدالة التي نصت عليها الفقرتان الثانية والرابعة من المادة 25 من القانون الأساسي للقضاء 04 – 11.

ويثور الإشكال بخصوص سلطة وزير العدل وحافظ الأختام في نقل قضاة النيابة العامة أو محافظي الدولة القضاة، العاملين بالإدارة المركزية لوزارة العدل ومؤسسات التكوين والبحث التابعة لوزراة العدل والمصالح الإدارية للمحكمة العليا ومجلس الدولة، أو تعيينهم في مناصب أخرى، طبقا للفقرة الأخيرة من المادة 26 من القانون العضوي 04 – 12، كان الأولى أن يضطلع بذلك المجلس الأعلى للقضاء، بصفته الجهاز الدستوري المشرف على الشؤون الوظيفية للقضاة وما يتعلّق بسير سلمهم الوظيفي، وما يتطلبه من مراقبة ومتابعة.

أيضا كان الأولى أن يتم إطْلاع المجلس الأعلى للقضاء بقرار نقل القضاة قبل الإقدام عليه من وزير العدل، فتكون السلطة التقديرية للمصلحة الموجبة للنقل من تقدير المجلس وليس وزير العدل، لا أن يكون إطْلاع المجلس بعد صدور القرار الوزاري بنقلهم، وفي أقرب دورة له.

والسؤال: لماذا لم يُصرّح القانون الأساسي للقضاء 04 – 11 بضرورة أن يجتمع المجلس الأعلى للقضاء في دورة استثنائية لمناقشة ومداولة قرار الوزير بالنقل من عدمه، بدلا من انتظار أقرب دورة للمجلس؛لم يوضّحها إنْ كانت دورة عادية أو دورة استثنائية، ومعلومٌ أن للمجلس الأعلى للقضاء دورتين عاديتين في السنة، كما أنّ له أنْ يعقد دورات استثنائية بناء على استدعاءٍ من رئيسه أو نائبه طبقا لنص المادة 12 من القانون العضوي 04 – 12، الذي يتعلق بتشكيل المجلس الأعلى للقضاء وعمله وصلاحيته ؟

سادسا- إشكالية استقلالية المجلس الأعلى للقضاء:   

إن المجلس الأعلى للقضاء جهاز دستوري، وظيفته الأساسية ضمان استقلالية السلطة القضائية، ويُشرف على تعيين القضاة ونقلهم وسير سلمهم الوظيفي، كما يسهر على احترام أحكام القانون الأساسي للقضاة، وعلى رقابة انضباطهم، طبقا للمادة 155 من دستور 1996 المعدّل مؤخرا، وهي المادة ذاتها من دستور 1996، وأيضا طبقا لنص المادتين 18 و 19 من القانون العضوي 04 – 12، المؤرخ في 6 سبتمبر 2004، يتعلق بتشكيل المجلس الأعلى للقضاء وعمله وصلاحياته.

وحتى يتمكن المجلس من أداء مهامه بعيدا عن أشكال الضغط والتدخل والتأثير سيما من السلطة التنفيذية؛ نص القانون العضوي 04 – 12، المؤرخ في 6 سبتمبر 2004 على استقلالية المجلس ماليا؛ حيث جاء في المادة 17 ما نصه: “يتمتع المجلس الأعلى للقضاء بالإستقلال المالي”.

يمثل وجود المجلس الأعلى للقضاء أحد الضمانات التي تكرس للقاضي استقلاليته الوظيفية؛ ولهذا رأينا أن المؤسس الدستوي قد نص عليه في جميع إصدارات الدستور الجزائري بداية من دستور 1963 وانتهاء بدستور 2016، ومرورا بدساتير 1976 و 1989 و 1996. وعن الجديد الذي أتى به دستور 2016 بخصوص المجلس الأعلى للقضاء: نصُّ الفقرة الثانية من المادة 157: “يتمتع المجلس الأعلى للقضاء بالاستقلالية الإدارية والمالية، ويحدد القانون العضوي كيفيات ذلك”.

صحيح أن دستور 2016 حسنٌ فعل بالنص صريحا على استقلالية المجلس الأعلى للقضاء إداريا من حيث التسيير الإداري لشؤون القضاة، واستقلاليته ماليا من حيث ذمته وشؤونه المالية. لكن السؤال الهام: هل أن الإستقلالية الإدارية والمالية تكفي لتحصين المجلس من أشكال التأثير التي قد تمسّ صراحة ومباشرة باستقلاليته ؟.

قناعتي الشخصية؛ أن هذه الإستقلالية المالية والإدارية على الرغم من أهميتها وقيمتها القانونية إلا أنها لا تكفي، بل لا تعكس الإستقلالية التامة التي يُفترض أن تُلقي بظلالها الإيجابية على سير الوظيفة القضائية، والتي يستحق القضاة التمتع بها في ممارسة وظيفتهم ويتطلبها السير الحسن لسلمهم الوظيفي، مع التسليم بأن دسترة الإستقلالية في شقيها المالي والإداري تبقى خطوة تستحق التثمين.

إن وجود وزير العدل مثلا (وهو من السلطة التنفيذية)، لا زال يطرح إشكالية تأثير السلطة التنفيذية على المجلس الأعلى للقضاء، ومخافة امتداد تأثيره السلبي على استقلالية القضاة والسير الحسن لوظيفتهم، فعلى سبيل المثال: إن تعيين القضاة يتم بموجب مرسوم رئاسي بناء على اقتراح من وزير العدل، وبعد مداولة المجلس الأعلى للقضاء طبقا للمادة الثالثة من القانون الأساسي للقضاء 04 – 11.

صحيح أن تعيين القائمة النهائية للقضاة المعيّنين يفصل فيها المجلس الأعلى للقضاء بمداولة (المادة 19/ الفقرة الأولى من القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء)، وأن هذه المداولة لا يحضرها وزير العدل أو ممثله قطعا؛ لكن اقتراح وزير العدل كان يمكن تجاوزه والإكتفاء بمقترحاتٍ يتقدّم بها القضاة من أعضاء المجلس الأعلى للقضاء أو رئيس المحكمة العليا مثلا.

أيضا سلطة وزير العدل وحافظ الأختام في نقل قضاة النيابة العامة أو محافظي الدولة القضاة العاملين بالإدارة المركزية لوزارة العدل ومؤسسات التكوين والبحث التابعة لوزراة العدل والمصالح الإداريىة للمحكمة العليا ومجلس الدولة، أو تعيينهم في مناصب أخرى، طبقا للمادة 26/ الفقرة الرابعة والأخيرة من القانون العضوي 04 – 12، وقد تقدم التنبيه إلى ذلك.

صحيح أن نقل القضاة مقيّد مُسبقا بضرورة المصلحة، ولاحقا باطّلاع المجلس الأعلى للقضاء في أقرب دورة له، لكن كان الأولى أن يطلّع المجلس الأعلى للقضاء على قرار النقل الصادر عن وزير العدل؛ حماية للقاضي المنقول من أن يكون قرار نقله تعسّفي لا يستند إلى مبرّرات موجودة، وتحصينا له من أيّة تجاوزات محتملة من ممثل السلطة التنفيذية (وزير العدل وحافظ الأختام)،

والتساؤل الذي يمكن طرحه: لو اجتمع المجلس الأعلى للقضاء في أقرب دورة له لدراسة القرار الوزاري بنقل القاضي (القضاة)، ورأى أن هذا القرار تعسّفي، ولا يستند لمصلحة تُشرعنه وتُبرّره؛ فهل للمجلس تعطيل العمل به ؟. سؤال لا يجد له جوابا صريحا في ثنايا القانون.

أيضا نجد أن وزير العدل هو من يُباشر الدعوى التأديبية أمام المجلس الأعلى للقضاء في تشكيلته التأديبية تحت رئاسة الرئيس الأول للمحكمة العليا طبقا للمادة 21 والمادة 22 من القانون العضوي 04 – 12. ومع أن ممثل وزير العدل يحضر مناقشات المتابعات التأديبية ولا يحضر مداولاتها (المادة 23/ فقرة 2 من القانون العضوي 04 – 12)؛ إلا أنني أجد أن إبعاد السلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل عن شؤون القضاة الوظيفية كالتعيين والنقل والتأديب…هو إجراءٌ مهمٌ لتعزيز حصانة القضاء (القضاة) من كلّ ما يُسيء لسمعته وهيبته، ويمسّ باستقلاليته وحياده.