مدى مشروعية الاقتطاع من ودائع الموكلين ومن أتعاب المحامين 
* ذ. خالد خالص – رئيس الجمعية المغربية لاستقلال المحاماة محام بهيئة المحامين بالرباط وعضو لجنة استقلال المحاماة باتحاد المحامين العرب حاليا.

أعلنت بعض هيئات المحامين عزمها، إن لم تكن قد شرعت فعلا في ذلك، على اقتطاع نسب من ودائع الموكلين تصل إلى %5 بمعنى اقتطاع نسبة 25% من أتعاب المحامين، على افتراض أن أتعاب المحامي محددة هي الأخرى في نسبة 25% من المبلغ المنفذ، لمحاربة السمسرة من جهة ولتمويل صناديق اجتماعية لفائدة أعضائها من جهة أخرى.

وبقدر ما يمكن للمرء تثمين فكرة محاربة السمسرة التي تنخر الجسم المهني والتعبير عن ابتهاجه لتعزيز التكافل الاجتماعي بين المحامين، بقدر ما يمكنه إبداء تخوفه من سقوط الهيئات في المحظور بخصوص الآليات المزمع اعتمادها، لمحاربة الظاهرة وتمويل الصناديق المتحدث عنها، وبقدر ما يمكن إثارة الانتباه إلى تداخل ما تريد القيام به الهيئات مع ما تقدمه اليوم التعاضدية العامة لهيئات المحامين بالمغرب من خدمات إلى جانب ابتعاد الهيئات على روح وكنه وحقيقة تواجدها.

ولابد من إثارة الانتباه في البداية أنه لا يمكن فرض ضريبة مباشرة أو غير مباشرة على المواطنين، موكلي المحامين، يحظرها الفصل الأول، الفقرة الثالثة، من قانون المالية الذي يمنع فرض واجبات مالية على المواطنين دون موجب مشروع مهما كان الوصف أو الاسم الذي تجبى به.[1]

كما يمكن لفت نظر من يهمه الأمر من جهة أخرى، بأن المحامي حر ومستقل في تقديم خدماته ولو بدون مقابل، كما أنه حر عند انتهاء القضية في الاتفاق على نسبة أكثر أو أقل من 25% التي تريد بعض الهيئات اعتمادها كأساس للاقتطاع، تماشيا مع قانون تحديد الأسعار والمنافسة المؤرخ في 5 يونيو 2000 الذي نص بالفصل الأول والثاني منه على أن أسعار الخدمات تحدد عن طريق المنافسة الحرة، وتماشيا مع المادة 45 من القانون المنظم للمهنة، التي تنص على أنه “لا يجوز للمحامي أن يتفق مسبقا مع موكله على الأتعاب المستحقة عن أي قضية ارتباطا بالنتيجة التي يقع التوصل إليها وكل اتفاق يخل بهذه المقتضيات يكون باطلا بحكم القانون”.

ولابد من التأكيد أيضا بأن اقتطاع نسبة من الأتعاب عمل يتعارض مع القانون ومع أعراف وتقاليد المهنة التي تمنع على المحامي اقتسام أتعابه مع أي كان لأن ذلك يمس باستقلاله اتجاه غيره، ولأن مجلس الهيئة سيصبح شريكا للمحامي عند اقتطاع نسبة منها وسيمس باستقلاله وباستقلال مهنة المحاماة وستصبح للهيئة التي يمثلها النقيب مصلحة مباشرة في ملفات الأتعاب وسينتفي الحياد والتجرد المطلوبين في النقيب الذي يحدد هذه الأخيرة.

ونعتقد بأنه قبل المرور الى إقتراح أي مشروع فإن على الجهة المعنية اللجوء أو المناداة على مؤسسات متخصصة والاستعانة بالمندوبية السامية للتخطيط للقيام بدراسة ميدانية علمية للفئات العمرية للمحاميات والمحامين المسجلين في الجدول وفي لائحة التمرين. وباعتبار أن مجلس الهيئة (ايا كانت الهيئة ) غير مختص في هذا المجال فإن أصحاب الاختصاص هم من سيعمل أيضا على دراسة الوضع الاجتماعي للمحامين للوصول إلى إحصائيات علمية وتقنية تفيد العديد من المعطيات المرتبطة بالجانب المهني أو الصحي أو الاجتماعي أو غيره.

فالأمر ليس بالهين كما يتصور البعض ولا يمكن أن يوصف الدواء قبل معرفة الداء كما يعتقد البعض الآخر، لانه من السهل الاقتطاع وتكديس النقود، بحق أو بدونه، من أموال المواطنين ومن أموال المحامين، ولكن بهدف صرف هذه الاموال الطائلة في أي اتجاه وعلى ماذا ؟.

فبالرجوع الى ما هو مقترح من قبل البعض من إحداث “لوحدات الإنصات والمصاحبة” ومن إحداث “للتقاعد وللتقاعد التكميلي” أو من “وحدات للتضامن المهني والاجتماعي” فإن الأمر لا يعدو أن يتداخل في العديد من جوانبه مع ما تقدمه اليوم التعاضدية العامة لهيئات المحامين المحدثة سنة 2008 طبقا لمقتضيات ظهير 12 نونبر 1963 بسن نظام أساسي للتعاون المتبادل ، كما أن من شأنه أن يشكل خطرا على الهيئة وعلى المحامين في جوانبه الاخرى.

وهكذا فإن المحامين منخرطين في التعاضدية المذكورة بخصوص تغطية المصاريف الطبية والصيدلية والجراحية وغيرها، وكذلك بخصوص الإسعاف الصحي في حالة المرض أو الحوادث أو الوفاة، وبخصوص التعويض عن الوفاة وغيرها من الامتيازات الاجتماعية.

فلماذا خلق “وحدة للإنصات والمصاحبة” داخل الهيئة، وتشغيل أطباء متخصصين إما مباشرة أو بمقتضى اتفاقيات، وفرضهم بعينهم على المحامين، وما سينتج عن ذلك من تحملات إضافية للهيئة و من خطر إفشاء الإسرار المهنية الطبية، في حين أن الامكانية التي تتيحها التعاضدية، تسمح للمحامي بالتوجه عند طبيب مختص من اختياره، أو حتى بزيارة هذا الطبيب للمحامي وتطبيبه بمنزله، وترجع له نسبة 80 في المائة حسب الملحق رقم 1 من جدول الخدمات المضمن بالضابط الداخلي لنظام التعاضدية.

ومن جهة أخرى فإن ما يبرر الاقتطاع، حسب البعض، هو خلق نظام للتقاعد وللتقاعد التكميلي، وهو ما يتقاطع مع النظام الحالي المبرم بين بعض الهيئات وبين صندوق الايداع والتدبير ومع البنك المغربي للتجارة الخارجية وصندوق تقاعد المحامين، وبين ما هو مبرم بين بعض الهيئات الاخرى مع شركات التأمين وبين ما هو قائم بين المحامين كأفراد مع بعض الابناك أو مع بعض شركات التأمين.

كما أن النطام المقترح من قبل بعض الهيئات يتقاطع أيضا مع ما هو منصوص عليه بالمادة الاولى الفقرة السابعة من النظام الاساسي للتعاضدية العامة لهيئات المحامين بالمغرب التي تنص على إحداث نظام للتقاعد الاساسي أو التكميلي لفائدة الاعضاء المساهمين في إطار صندوق مستقل وفقا للمادة 35 من ظهير 12 نوزنبر 1963بسن نظام أساسي للتعاون.

وبغض النظر عن التقاطع المشار اليه سابقا فإن النظام المقترح من قبل بعض الهيئات ينص على إلزامية الانخراط في نظام التقاعد التكميلي بينما تبقى أنظمة التقاعد التكميلية اختيارية بالنسبة للمنخرط وليست إجبارية.

فإذا كان الهدف هو تقاعد المحامي الاساسي أو التكميلي، فإنه من المنطقي العمل داخل الاطار القانوني القائم والموجود حاليا وهو التعاضدية العامة لهيئات المحامين بالمغرب، ويمكن للهيئات أن تجمع إمكانياتها داخل التعاضدية وأن تعمل بتنسيق مع صندوق الايداع والتدبير والابناك وشركات التأمين لتحويل جميع الاموال الموجودة الى التعاضدية العامة أو الانطلاق بنظام جديد مع فئات عمرية معينة لم تصل بعد الى سن التقاعد وبعيدة شيئا ما عن هذا السن في إطار التعاضدية العامة لهيئات المحامين بالمغرب دائما بدل تشتيت الامكانات المادية والبشرية والجهود في خلق صناديق متعددة خارج الاطارات المتفق عليها على المستوى الوطني منذ عقد من الزمن تقريبا.

ومن جهة أخرى، فإن ما اقترحه البعض كذلك في المشروع التكافلي، لتبرير الاقتطاع من أموال المواطنين ومن أموال المحامين، هو تقديم “مساعدات” و”سلفات مهنية” للمحامين وهو أمر سيجر للهيئات مشاكل هي في غنى عنها باعتبارها ليست مؤسسات خيرية أو أبناك تجارية أو إسلامية لتخوض في مثل هذه العمليات، ناهيك عن ما ستسفر عليه هذه المبادرة من ريع بالنسبة للبعض على حساب الكل ومن أحقاد بالنسبة للبعض اللآخر. فكل ما يمكن للهيئة القيام به، هو إبرام اتفاقيات مع أبناك، بشروط تفضيلية، يلجأ اليها المحامون الذين يرغبون في ذلك، بضماناتهم الشخصية أو العينية.

ومن بين ما يقترحه البعض أيضا كمبرر للاقتطاع “إعداد برامج اجتماعية وتربوية لأسر المحامين وأبنائهم” وهو أمر غير مسوغ باعتبار أن هنالك الكثير ممن سيرفضون المشاركة في مثل هذه البرامج لعدة اعتبارات كعدم تخصص الهيئات في هذا المجال مثلا أو كعدم وجود أطفال أصلا أو ككبرهم أو كانخراطهم في برامج أخرى ومع مؤسسات أخرى أو غير ذلك من المبررات التي سيطول شرحها. ومن ثم فإنه يبقى على المحامي الذي يريد مشاركة أسرته أو أطفاله في أنشطة من تنظيم الهيئة، رغم عدم تخصصها، أن يؤدي على ذلك حسب الخدمات التي ستقدم له من ماله الخاص لا من مال زملائه مع العلم بأن الابتعاد عن هوية الهيئة للانكباب على أمور بعيدة عن المهنة سيطرح الكثير من التساؤلات قبل طرحه للعديد من المشاكل.

فالاقتطاع من ودائع المواطنين أو من أتعاب المحامين “لإعداد برامج تربوية لأسر المحامين ولأبنائهم” أو لتقديم “صدقات” أو “سلفات” للمحامين هو أمر يخالف رسالة المحاماة ويخالف القانون ويتعين ربما إعادة التفكير فيه لما سيسفر عنه من تطاحنات بين المحامين وما سينتج عنه من ريع بالنسبة لبعض “المحضوضين” ناهيك عن إمكانية استغلال هذه الأموال لتوظيفها لأغراض أخرى.
ومن جهة أخرى فإن البعض يبرر الإقدام المرتقب على الاقتطاع، من ودائع الموكلين أو من أتعاب المحامين، بالنسبة لملفات بعينها دون غيرها هو وسيلة لمحاربة السمسرة التي تستنشق من مثل هذه الملفات لا من غيرها. فإذا كان هذا هو مبرر الاقتطاع فعلا فمن حق الباحث أن يتساءل هل فشلت الهيئات في محاربة السمسرة؟ ولماذا فشلت ؟ ، وهل يحارب (بفتح الراء) مخالف القانون بمخالفة أخرى للقانون وبمخالفة أخرى للأعراف والتقاليد المهنية ؟.

وأخطر من هذا وذاك، فإن ما يمكن أن يفهمه البعض من مقترح اقتطاع نسبة مأوية من ودائع الملفات أو من أتعاب الملفات التي فتحت بواسطة السمسرة، بأن ذلك يتم مقابل غض طرف الأجهزة، – التي ستصبح شريكة في العملية-، عن متابعة أصحابها وتطبيق القانون عليهم، وسيجد المحامون أنفسهم أمام ما سيمكن أن يصطلح عليه مستقبلا من قبل البعض الأخر ب “ضريبة الفساد” باعتبار أن الهيئة ستجني نسبة من محصول “الملفات الفاسدة” وهو ما سيشكل ضربة إلى ما تبقى من المصداقية التي تتميز بها مهنة المحاماة. فمحاربة الفساد لا يمكن أن تتم بما يمكن أن يفهم من قبل السماسرة بأنه “تطبيع مع الفساد” بالاقتصار على أخذ نسبة من الملفات التي تفوح منها رائحة السمسرة مهما كانت النية الحسنة لأصحاب المبادرة لان من له سمسار واحد سيصير له خمسة أو عشرة ما دام الأمر سيقتصر على أداء نسبة %25 من الأتعاب.

ومن جانب آخر، وبقدر ما يخشى عن الأجهزة المهنية الابتعاد عن الأهداف الأساسية والتاريخية المرسومة لها مهنيا وحقوقيا وخرقها للقوانين والأعراف والتقاليد والنهج اللبيرالي الذي اعتمده المغرب والمخاطرة بفهم العملية حتى من قبل بعض المهنيين ب”التستر” على الفساد مقابل أداء مقابل، فانه لن يفوت المهتم والباحث التذكير أيضا بالتوجه الذي سار عليه الاجتهاد القضائي المغربي الذي يمنع توزيع القضايا أو الاقتطاع من الأتعاب سواء تعلق الأمر بمحاكم الاستئناف أو بقضاء محكمة النقض ومنها على سبيل المثال لا الحصر قرار محكمة الاستئناف بمراكش عدد 788، بتاريخ 11 أبريل 2012 في الملف 1966/1124/11 الذي جاء فيه:

“مهنة المحاماة مهنة حرة ومستقلة ومن مظاهر استقلالها التنافس الشريف بين أعضائها والتفنن في التميز. يحق للمتقاضي أن يختار محاميه…
قرار توزيع القضايا يخالف قانون وروح وتقاليد المهنة وأعرافها…
إن اقتطاع جزء من أتعاب المحامي من شأنه أن يتعارض مع قدسية الأتعاب وأحقية المحامي في تحديدها مع موكله…
لا تخصم أتعاب المحامي قهرا…

من شأن التنصيص على خصم الأتعاب أن يصطدم بروح المبادرة والتنافس ويعتمد روح الاتكال على الغير وتوليد الإحباط في النفوس.
إن من شأن من اختصم جزء من أتعابه أن يرى أن أكبر قسط من أتعابه مما يستفيد منه غيره ممن لم يشاركه فيه في وقت لا يستفيد هو من أتعاب هذا الغير في مجالات أخرى”.[2]
أو قرار المجلس الأعلى، (محكمة النقض حاليا) عدد 3584 الصادر بتاريخ 8 دجنبر 2004 في الملف عدد 2785/1/7/ 01 والذي جاء فيه أيضا بأن “توزيع قضايا حوادث السير أو اقتطاع جزء من أتعاب المحامي لتمويل صندوق التقاعد للمحامين يتنافى والطبيعة الحرة للمهنة”.

وباعتبار أن المهام المرسومة أصلا للمجالس هي مهام مهنية بالدرجة الأولى فإن ما يفرض على المحامي من رسوم الانخراط[3] ورسوم التسجيل ورسوم الاشتراك ورسوم المرافعة ورسوم ملفات تحديد الأتعاب ورسوم باقي الخدمات الأخرى كاف لتدبير الشأن المهني كما أن رسوم الدمغة من شأنها أن تغطي واجبات اشتراك الهيئة بالتعاضدية العامة لجمعية هيئات المحامين بالمغرب ويبقى المحامي حر في المساهمة في أي تقاعد تكميلي سواء داخل التعاضدية أو مع غيرها من المؤسسات المتخصصة ( شركات التأمين، أبناك…).

وإذا كان هنالك عجز مالي فبدل اقتطاع نسبة من ودائع الموكلين ومخالفة القوانين والاعراف والتقاليد والطبيعة الحرة للمهنة فإنه بامكان الهيئات التي تعاني من هذا الأخير التفكير في وسائل بديلة غير الاقتطاع من ودائع الموكلين ومن أتعاب المحامين التي لا يبيحها القانون والاجتهاد القضائي المتواتر[4] كالرفع من واجب الدمغة مثلا ( إذا كان العجز ناتج عن جانب الإسعاف ) مع العلم بأن الهيئات تستفيد من الفوائد البنكية الهائلة التي يدرها عليها حساب صندوق الودائع المنصوص عليه بالمادة 57 من القانون المنظم للمهنة الذي قامت عليه الدنيا ولم تقعد قبل سنه.

ومن جهة أخرى، وبخصوص تغطية المصاريف الطبية والجراحية والصيدلية ومصاريف اقتناء أدوات التقويم والتعويض عن الوفاة والإسعاف الصحي والتقاعد وغيره، فإن الجهود يجب أن تظل في إطار التعاضدية العامة لهيئات المحامين بالمغرب التي أنشأتها الهيئات السبعة عشر والتي تجمع الجهود على الصعيد الوطني.

ونعتقد بصدق أنه على أجهزة هيئة المحامين، وأيا كانت هذه الهيئة، القيام بمسح للوضع المالي والعمل على ترشيد نفقاتها والتخلي عن “عقلية المقاولة” وعقلية الربح التي تبعدها عن روح الرسالة التي تحملها المحاماة وأن تولي الاهتمام للجانب المهني والحقوقي بالدرجة الأولى، والجانب الصحي وتقاعد المحامين بالدرجة الثانية وخوض “معركة” مع الدولة لكي تتحمل هذه الأخيرة مسؤوليتها في التكوين، – كما تكون الأطباء-[5]، الذي من شأنه أن يبعد المحامي عن الفاقة حتى يبقى مستقلا وحتى يتدبر أمره بنفسه وهو رافع رأسه محافظا على كرامته وليس مادا يده لغيره أو لهيئته.

وقد سبق لي أن قدمت عرضا بمناسبة المؤتمر السادس والعشرين لجمعية هيئات المحامين المنعقد بطنجة أيام 15، 16 و 17 مايو 2008 حول ” المحامي والكرامة ” خلصت فيه إلى أنه “إذا كنا تشعر اليوم كمحامين حاملين لرسالة مقدسة، بأن كرامتنا تداس يوميا فان ذلك راجع لا محالة وبالأساس إلى حالة العوج الانحراف التي أصابت مسار الفكر لدى الكثير منا، محاميات ومحامين، وقاضيات وقضاة، بتخلينا عن مجمل القيم وبتقمصنا شخصية الإنسان المادي المبتور الذي لا تصله وشائج الروحية، وأنه ربما أصبح من المستعجل أن نستفيق من سباتنا ومن غفلتنا وأن نعيد الصلة بالقيم وبالأخلاق والمثل الإنسانية ومحاولة الخروج من الثقافة المادية المحضة التي أضحت ثقافة العديد منا لاسترجاع كرامتنا وكرامة مهنتنا حتى لا يستقر شأننا شأن أية دابة على الأرض”[6].

فالمحاماة أصلها رسالة إنسانية سامية، شريفة ونبيلة، رسالة مبادئ ومواقف، مرتبطة بنصرة الحق، تساهم في تطوير المجتمع من أجل إرساء الدولة القانونية الديمقراطية الحقوقية ولم تكن في يوم من الأيام مهنة غذائية حتى تصبح أجهزتها أصلا تجاريا يبحث من خلاله عن الربح وتكديس الأموال.

ولا يمكن تحويل الهيئة وأجهزتها إذن إلى مقاولة و جعلها تهتم بالمضاربة المالية أو العقارية أو غيرها، كما وقع للبعض، الذين تقمصوا دور وزارة الإسكان أو دور الشركات التي تهتم بالقطاع،[7] ولا زالوا يعانون ويؤدون الثمن مند أزيد من عقد من الزمن، لان ذلك من شأنه محو هوية الهيئة كمؤسسة مهنية محضة ومؤسسة تدافع عن حقوق الإنسان قبل كل شيء ودفعها وتحويلها إلى جهاز يبحث عن الربح والمخاطرة بها إلى فقدان استقلالها لا محالة.

وأخيرا وإذا كانت أجهزة الهيئة ، من نقيب ومجلس وجمعية عمومية، مسؤولة على إعطاء القدوة في احترام القانون، فكيف يمكن السماح لها بخرق القانون وبخرق الأعراف والتقاليد ؟. بل ولا يمكن للأجهزة حتى المطالبة بإضافة فصل في قانون المالية للسماح لها بالاقتطاع من أموال المتقاضين أو من أتعاب المحامين لما يشكل ذلك من خطر على استقلال هؤلاء سواء كأفراد أو كجماعة.

وسيضاف الخرق للقانون إذا ما تم اقتطاع مبالغ مالية من الودائع أو من أتعاب المحامين إلى الخرق الآخر بالنسبة للهيئات التي تفرض على المتمرنين أداء مبالغ جد مرتفعة تحت تسمية “واجب الانخراط” وهو ما يرهقهم وأسرهم و يسد الباب أمام الكثير من الشباب لولوج المهنة بالرغم من أن القانون لا ينص على ذلك بتاتا ويقتصر على فرض واجب الاشتراك السنوي عليهم دون غيره[8]. كما أن ما يفرض اليوم على الراغبين في التسجيل في الجدول أمر لا يقبله المنطق لأنه يوازي ثمن شراء عقار بكامله في بعض الهيئات.

وإذا كان الجميع يؤمن بأن “المحامي هو الشاهد الأكبر على المساس اليومي بالمبادئ التي تقوم عليها دولة القانون”[9] فإنه يخشى من ابتعاد الهيئات عن الجانب المهني والحقوقي شيئا فشيئا ليصبح الهاجس الأساسي هو المال والمقاولة ولو بتجاهل القانون أو بخرقه وتجاهل الاتجاه الذي سار عليه الاجتهاد القضائي، من قبل البعض ، أن يكون ذلك فرصة للمتربصين بمهنة المحاماة، للمطالبة بإعادة النظر في الاستقلال الذي تتميز به،[10] خلافا لغيرها من المهن، هذا الاستقلال الذي ناضلت من أجله عشرات الأجيال، لقرون من الزمن خارج المغرب ولقرن من الزمن داخله، وأدت ثمن تضحيتها كما يشهد التاريخ المهني عبر العالم على ذلك[11].

وإذ نتحمل جميعا مسؤولية الحفاظ على هوية الهيئة وعلى الحماية والطمأنينة داخلها والدفاع عن استقلال المحامين الذي يعتبر المبدأ الأول للمهنة كما علينا جميعا الابتعاد عن “الانتحار المهني” بالبحث عن المال بأية وسيلة، وعن ما هو “غير مهني” و”غير حقوقي” حتى نبقى نحن المحامين، حماة القانون، متراصين معبئين لصون الرسالة، وتجسيد دولة القانون، ويكون حملنا لمشعل الأسلاف حملا مسؤولا ومستحقا ومشرفا.
[1] “كل ضريبة مباشرة أو غير مباشرة سوى الضرائب المأذون فيها بموجب أحكام النصوص التشريعية والتنظيمية المعمول بها وأحكام قانون المالية هذا تعتبر، مهما كان الوصف أو الاسم الذي تجبى به، محظورة بـتاتا،وتتعرض السلطات التي تفرضها والمستخدمون الذين يضعون جداولها وتعاريفها أو يباشرون جبايتها للمتابعة باعتبارهم مرتكبين لجريمة الغدر، بصرف النظر عن إقامة دعوى الاسترداد خلال ثالث سنوات على الجباة أو المحصلين أو غيرهم من الأشخاص الذين قاموا بأعمال الجباية (…).” انظر كذلك الفصل 243 ق.ج.
[2]محكمة الاستئناف بمراكش ، قرار رقم 738 ، بتاريخ 11 أبريل 2012، منشور بكتاب المحاماة للأستاذ عمر أزوكار، المحاماة من خلال العمل القضائي،
[3] خالد خالص، “واجبات الانخراط والاشتراك في هيئات المحامين بالمغرب”،http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=485320 مع العلم بأن الاجتهاد القضائي يرفض بتاتا المبالغ المهولة التي تفرضها بعض الهيئات على المقبلين على المهنة كواجب الانخراط حتى بالنسبة للتسجيل بالجدول.
لماذا الاقتطاع من الودائع أو من أتعاب الودائع دون غيرها من الأتعاب كـالمرتبطة بالجنيات مثلا.[4]
[5]يعتبر تكوين الأطباء من مسؤوليات الدولية من باءه إلى ياءه بما في ذلك التداريب سواء التحقوا بالقطاع العام أو بالقطاع الخاص. وهو ما أصبح قائم بالنسبة للمحامين بفرنسا مثلا منذ سنة 2004 حيث أصبحت المعاهد الجهوية هي من يسهر على تكوين وتدريب وتخصص المحامين.
[6]خالد خالص، “المحامي والكرامة”، عرض قدم بمناسبة مؤتمر جمعية هيئات المحامين بالمغرب السادس والعشرين المنعقد بمدينة طنجة بتاريخ 15، 16 و 17 مايو 2008، منشور بمجلة المحاماة الصادرة بمناسبة المؤتمر وعلى الشبكة العنكبوتية.
وكنت شخصيا من المشاركين في خطأ الرؤيا بالنسبة للإسكان. [7]
[8] خالد خالص، “واجبات الانخراط والاشتراك في هيئات المحامين بالمغرب”،http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=485320 يشار الى أنه مشروع القانون المقبل سينص على أداء المتمرن لواجب الانخراط.
[9] أحمد سالم ولد بوحبيني نقيب موريتاني سابق خلال حفل توديعه يوم 16 يونيو 2014، http://www.tawary.com/article_ar_impr.php?id_article=20589
[10]بدأ التخطيط لحضور النيابة العامة بالمجالس التأديبية للمحامين : خالد خالص، “حضور النيابة العامة بالمجالس التأديبية للمحامين”، مقالة منشورة على الشبكة العنكبوثية.